الخروج من الاتحاد الأوروبي ليس سهلًا
من دون أن أبالغ في استعارة الغداء المجاني، فإن الوجبة هي أحيانًا اللحظة التي تنهار فيها العلاقة بشكلٍ لا رجعة فيه. قد يقول البعض إن علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي لم تنهَرْ بشكل لا رجعة فيه، وإنه قد تكون هناك فرصة ثانية، وقد حدث الانهيار، ليس بسبب وجبة ولكن بسبب حملة استفتاء سيئة المزاج ومثيرة للانقسام. ولكن الانهيار حدث بالفعل، والجوانب الاقتصادية لهذا الأمر مثيرة للاهتمام إلى حد ما.
مسار عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي
من ١ يناير ١٩٧٣، تاريخ انضمام المملكة المتحدة إلى الجماعة الأوروبية، حتى ٢٣ يونيو ٢٠١٦، تاريخ التصويت في الاستفتاء على الخروج، يمثِّل رحلة امتدَّت لأكثر من ٤٣ عامًا. كان خروج المملكة المتحدة الرسمي من الاتحاد الأوروبي، والذي استغرق مدة امتدَّت حتى ٣١ يناير ٢٠٢٠، يعني أن مدة العضوية كانت ٤٧ عامًا، وهي مدة قصيرة في تاريخ الاتحاد، ولكنها طويلة بما يكفي لاعتبار معظم الناس أن العضوية دائمة. كانت الجماعة الأوروبية، التي انضمت إليها المملكة المتحدة في عام ١٩٧٣، قد تشكَّلت من الجماعة الاقتصادية الأوروبية والجماعة الأوروبية للفحم والصلب والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية، والتي تأسَّست جميعها في الخمسينيات.
على الرغم من انضمام المملكة المتحدة إلى الجماعة الأوروبية في عام ١٩٧٣، في عهد رئيس الوزراء المحافظ السير إدوارد هيث، كانت الرغبة في الانضمام موجودةً منذ سنوات عديدة. كان هارولد ماكميلان، رئيس وزراء ومحافظ آخر، قد قدم أول طلب للانضمام في عام ١٩٦١. وقد رفضه الرئيس الفرنسي شارل ديجول. كما رفض ديجول محاولة ثانية للانضمام، في عام ١٩٦٧ تحت قيادة هارولد ويلسون، رئيس الوزراء من حزب العمال، في عام ١٩٦٩. وقد فتحت استقالته في ذلك العام الطريق أمام هيث، الذي انتُخب في عام ١٩٧٠، لتقديم محاولة ناجحة للانضمام. كانت المملكة المتحدة ترغب في الانضمام إلى الأعضاء الستة الأصليين في الجماعة الأوروبية — ألمانيا الغربية، وفرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورج — على الرغم من كونها عضوًا مؤسسًا في تجمع تجاري آخر؛ وهو رابطة التجارة الحرة الأوروبية، في عام ١٩٦٠. وكانت رابطة التجارة الحرة الأوروبية تضمُّ سبعة أعضاء — المملكة المتحدة، والنمسا، والدنمارك، والنرويج، والبرتغال، والسويد، وسويسرا — وقال البعض إن التجمُّعَين يعنيان أن أوروبا أصبحت في وضع لا تُحسَد عليه. كانت رابطة التجارة الحرة الأوروبية، الأصغر حجمًا اقتصاديًّا وسكانيًّا، يُنظر إليها باعتبارها أدنى شأنًا، وخاصة من قِبَل الشركات البريطانية. وقد أُلقي باللوم جزئيًّا على الفشل في الانضمام إلى الجماعة الأوروبية الأكبر بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف نسبيًّا للمملكة المتحدة.
لم تكن العضوية هي العامل الوحيد الذي أدى إلى تحويل الأداء الاقتصادي النسبي للمملكة المتحدة، ولكن كان هناك تغيير نحو الأفضل. فبالنظر إلى نقطتَين — دخول السوق الأوروبية المشتركة في عام ١٩٧٣، وإطلاق السوق الموحَّدة في عام ١٩٩٣ — نما نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في المملكة المتحدة بنسبة ١١٧ في المائة و٥٣ في المائة على التوالي، بحلول وقت الاستفتاء في منتصف عام ٢٠١٦. وهذا مقارنة بنسبة ٨٤ في المائة و٢٩ في المائة على التوالي بالنسبة إلى فرنسا. إن المقارنة مع ألمانيا تتأثَّر بإعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية في أواخر الثمانينيات، ولكن منذ عام ١٩٩٣ ارتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في ألمانيا الموحدة بنسبة ٣٧ في المائة. وكانت الزيادة منذ عام ١٩٧٣ قد بلغت ١٠٨ في المائة. ولم يكن أداء المملكة المتحدة جيدًا فقط بالنسبة للاقتصادات الأوروبية الكبرى الأخرى؛ بل إنها تفوَّقت أيضًا على أمريكا. فقد ارتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة بنسبة ١٠٩ في المائة، من عام ١٩٧٣ إلى منتصف عام ٢٠١٦، وبنسبة ٤٣ في المائة منذ عام ١٩٩٣.
جيران ولكن ليسوا أصدقاء دائمًا
كانت عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي مفيدة اقتصاديًّا. جنبًا إلى جنب مع التغييرات الأخرى، بما في ذلك إصلاحات تاتشر في الثمانينيات واستقلال بنك إنجلترا، الذي نفَّذه جوردون براون في عام ١٩٩٧، فقدت البلاد عقدة النقص الاقتصادي. ومع ذلك، فإن طبيعة السياسة هي أن تسعى الحكومات إلى نسبة الفضل في التحسينات لأنفسها، وليس نسبتها إلى عوامل أخرى. كان الموقف الافتراضي للسياسيين في المملكة المتحدة هو أن ارتفاع مستويات المعيشة تم تحقيقه على الرغم من الاتحاد الأوروبي، وليس على الأقل جزئيًّا بسببه. وكان من المؤكد أن رؤساء الوزراء الذين خاضوا معارك مع الاتحاد الأوروبي، وهو موقف افتراضي آخر، سيحظون بتغطية صحفية أفضل من أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم يتوددون كثيرًا إلى «بروكسل». وحتى السياسيون الذين شنوا حملة متحمسة من أجل بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦، تبنَّوا هذا التكتيك عند التعامل مع أوروبا، الأمر الذي غذَّى المشاعر المتشككة في أوروبا.
في الثمانينيات، تُذكِّر علاقة مارجريت تاتشر بالاتحاد الأوروبي بشكل أساسي بالوقت الذي حقَّقت فيه نجاحًا في قمة فونتينبلو الأوروبية عام ١٩٨٤، حيث تمكَّنت من التفاوض على خصم على المساهمة السنوية للمملكة المتحدة في ميزانية الاتحاد الأوروبي. إن ميزانية الاتحاد الأوروبي ليست كبيرة، حيث تمثِّل أقلَّ بقليل من ١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، على النقيض من الأرقام المعتادة التي تبلغ ٤٠ في المائة أو أكثر للميزانيات الوطنية، كما هو موضَّح سابقًا في الكتاب. ومع ذلك، كان لمساهمة المملكة المتحدة، حتى بعد الخصم، تأثير سياسي غير متناسب. في عام ٢٠١٩، قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بلغ إجمالي مساهمة المملكة المتحدة في ميزانية الاتحاد الأوروبي ١٤٫٤ مليار جنيه إسترليني، وبلغت المساهمة الصافية، بعد احتساب الأموال المتدفِّقة إلى القطاع العام في المملكة المتحدة، ٩٫٤ مليارات جنيه إسترليني. وكانت المساهمة الصافية، مع الأخذ في الاعتبار تدفقات الأموال من الميزانية إلى القطاع الخاص في المملكة المتحدة، أصغر من ذلك. ولم يكن أيٌّ من هذه الأرقام كبيرًا من حيث المالية العامة. كان صافي المساهمة البالغ ٩٫٤ مليارات جنيه إسترليني ١٪ من الإنفاق الحكومي. ومع ذلك، حظيت مساهمة الميزانية، التي ظهرت في حملة الاستفتاء على أنها ٣٥٠ مليون جنيه إسترليني متضخمة بشكل غير دقيق في الأسبوع، بجاذبية بين الناخبين، لأنه كان يُرى أنه من غير العدل أن يكون بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي مساهمين صافين، بينما كان آخرون متلقين صافين. في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى المملكة المتحدة، كانت ألمانيا (أكبر مساهم صافٍ) وفرنسا وإيطاليا وهولندا والسويد والنمسا والدنمارك وفنلندا وأيرلندا مساهمين صافين، بينما كانت ١٨ دولة مستفيدة صافية.
عزَّزت معارك تاتشر مع زملائها من قادة الاتحاد الأوروبي، بشأن مساهمة المملكة المتحدة في الميزانية، سمعتها بين الناخبين في المملكة المتحدة كمقاتلة شجاعة. وكان تأثيرها الأكثر أهمية على الاتحاد الأوروبي هو دورها كقوة دافعة وراء إنشاء السوق الموحدة. وكان هدفها هو إنشاء اتحاد أوروبي خالٍ من الحواجز التجارية الداخلية، لتوفير سوق أكبر للأعمال التجارية البريطانية. ولقد لعبت هي والمفوض الذي أرسلته إلى بروكسل، اللورد كوكفيلد، دورًا أساسيًّا في إنشاء السوق الموحدة، والتغلب على الحمائية التقليدية التي تنتهجها بعض الدول الأعضاء. وكان قانون الاتحاد الأوروبي الموحَّد لعام ١٩٨٦ بمثابة تغيير هائل ومهم. وكما قالت في خطاب ألقته في عام ١٩٨٨:
تولَّت بريطانيا زمام المبادرة. وكان هناك ميلٌ في أوروبا إلى التحدُّث بنبرة عالية عن الاتحاد الأوروبي. وقد يكون هذا مفيدًا للروح. ولكن الجسد — الشركات والمؤسسات الأوروبية والأشخاص الذين يعملون فيها — يحتاج إلى شيء أكثر تغذية. لقد أدركنا أنه إذا أردنا لأوروبا أن تكون أكثر من مجرد شعار، فلا بد أن نصحح الأساسيات. وهذا يعني العمل من أجل التخلُّص من الحواجز. كما يعني العمل على تمكين شركات التأمين من ممارسة الأعمال التجارية في جميع أنحاء المجتمع. كما يعني أيضًا العمل على السماح للناس بممارسة تجاراتهم ومهنهم بحرية في جميع أنحاء المجتمع. وكذلك العمل على إزالة الحواجز الجمركية والإجراءات الشكلية، حتى تتمكَّن السلع من التداول بحرية ودون تأخيرات تستغرق وقتًا طويلًا. وأيضًا العمل على التأكد من أن أي شركة يمكنها بيع سلعها وخدماتها دون عوائق. وكذلك العمل على تأمين حرية حركة رأس المال في جميع أنحاء المجتمع. كل هذا هو ما تلتزم به أوروبا الآن.
كان إرث تاتشر للسوق الموحدة محرجًا لبعض المحافظين الذين كانوا يضغطون من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦. وزعم كثيرون أن المملكة المتحدة يمكنها مغادرة الاتحاد الأوروبي ولكنها تظل في السوق الموحدة. وكان هذا صحيحًا من الناحية النظرية. وكان من الممكن أن تسمح عضوية المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ربما من خلال إعادة الانضمام إلى رابطة التجارة الحرة الأوروبية، للمملكة المتحدة بالبقاء في السوق الموحدة. وكان ذلك سيتطلب قبول حرية تنقل الأشخاص، وهو شرط من شروط عضوية السوق الموحدة، وهو ما كان غير مقبول بالنسبة للعديد من مؤيِّدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما سأوضِّح أدناه. وحتى مؤيدو المحافظين كانوا على استعداد للتخلِّي عن إرث بطلتهم.
ومن المهم أن نميز بين السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي واتحاده الجمركي. والسوق الموحدة هي كما هو موصوف أعلاه. ويعتبر الاتحاد الأوروبي الاتحاد الجمركي ضروريًّا لعمل السوق الموحدة ويكملها. وهو ينطوي على تعريفة خارجية مشتركة على جميع السلع التي تدخل الاتحاد الأوروبي من الخارج، وتعريفات صفرية على التجارة داخله. وكانت هناك تحسينات على مر السنين. وبموجب اتفاقية كل شيء ما عدا الأسلحة، فإن الواردات إلى الاتحاد الأوروبي من العديد من البلدان النامية معفاة من الرسوم الجمركية، وقد تفاوض الاتحاد الأوروبي على منح البلدان الأخرى التي لديها اتفاقيات تجارية إمكانيةَ الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، معفاة من الرسوم الجمركية أو برسوم جمركية مخفضة. ولكن الإطار الأساسي لا يزال ساريًا.
ماستريخت والأربعاء الأسود
لقد ساعد حدثان وقعا خلال فترة قصيرة من الزمن في أوائل تسعينيات القرن العشرين في تغيير المواقف تجاه عضوية الاتحاد الأوروبي. كان الحدث الأول هو معاهدة ماستريخت، معاهدة الاتحاد الأوروبي، والتي كما يوحي اسمها نصت على التطور من الجماعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي. وكان الحدث الثاني هو التجربة المؤسفة التي خاضتها المملكة المتحدة في آلية سعر الصرف للنظام النقدي الأوروبي.
وقد شهدت قمة ماستريخت الأوروبية في ديسمبر ١٩٩١ التوصُّل إلى اتفاق حول تطوُّر أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي. وكان لما أصبح معاهدة ماستريخت، التي تم التوقيع عليها رسميًّا في المدينة الهولندية في ٧ فبراير ١٩٩٢، عدد من العناصر الرئيسية. وقد أسست المعاهدة، التي دخلت حيز التنفيذ في نوفمبر ١٩٩٣، المواطنة الأوروبية، والحق في العيش والتنقُّل بحُرية بين الدول الأعضاء. كما أسست سياسة خارجية وأمنية مشتركة وتعاونًا وثيقًا في مجال العدالة والشئون الداخلية. ولقد كان هذا الاتفاق بمثابة بداية للعملية التي نشأت من خلالها عملة اليورو في عام ١٩٩٩، والتي أدَّت إلى تأسيس البنك المركزي الأوروبي ووضع الشروط التي يمكن للدول بموجبها الانضمام إلى العملة الموحدة. وبالنسبة لحكومة المملكة المتحدة المحافظة بقيادة جون ميجور، لم يكن الانضمام إلى العملة الموحدة يشكِّل أي جاذبية. ونتيجة لهذا، فقد تفاوض على خيارَين مهمَّين للخروج من معاهدة ماستريخت. ولن يكون هناك أي شرطٍ يَفرض على المملكة المتحدة الانضمامَ إلى العملة الموحدة. كما قال إنه لن يكون هناك شرط يفرض على المملكة المتحدة تبنِّي تشريعات «اجتماعية»، بما في ذلك العلاقات بين أصحاب العمل والموظفين. وقال ميجور في نهاية قمَّة ديسمبر ١٩٩١: «لا أستطيع أن أقبل نصًّا يسمح للمجتمع بتبني تدابير من شأنها أن تدفع عجلة الإصلاحات النقابية التي حققناها على مدى العقد الماضي.» وقال سكرتيره الصحفي إن النتيجة كانت مفيدةً للغاية لبريطانيا؛ فقد كانت «مباريات سهلة».
ولكن هذا لم يكن ما رآه كثيرون في حزب المحافظين. واجه ميجور انقسامات عميقة بين نوابه، مع «متمردي» ماستريخت الذين قادوا الهجوم ضد المعاهدة. ساعدت معارضتهم، وتصوُّر الحزب بأنه منقسم بشدة، في تمهيد الطريق لانتخاب توني بلير رئيسًا للوزراء من حزب العمال في عام ١٩٩٧. كما شكَّلت ماستريخت نقطة تحوُّل لحزب المحافظين من حزب مؤيد لأوروبا على نطاق واسع، ومؤيد للسوق الأوروبية المشتركة إلى شيء أكثر عدائية. وبدون هذا التحول، لما كان هناك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة للحدث الكبير الثاني، كما وصفت في الفصل الحادي عشر، فقد كان الجنيه الإسترليني مصدر قلق لصناع السياسات في المملكة المتحدة لأجيال. إن حكومة حزب العمال الأولى بقيادة ويلسون في الفترة ١٩٦٤–١٩٧٠ تُذكَر بسبب خفض قيمة الجنيه الإسترليني في نوفمبر ١٩٦٧، بقدر ما تُذكَر بسبب أحداث وإنجازات أخرى. وكان تاريخ دور الجنيه الإسترليني في الترتيبات النقدية الأوروبية متقلبًا. ففي الأول من مايو ١٩٧٢، انضمَّت عملات البلدان الثلاثة التي انضمَّت إلى عضوية الجماعة الأوروبية، المملكة المتحدة وأيرلندا والدنمارك، إلى ما عُرف ﺑ «الثعبان داخل النفق». وكان الهدف من الترتيب توفير الاستقرار للعملات الأوروبية في أعقاب انهيار نظام بريتون وودز. وبموجب اتفاق سميثسونيان في ديسمبر ١٩٧١، الذي شهد انخفاضًا كبيرًا في قيمة الدولار وكسر الارتباط بين الدولار والذهب، سُمح للعملات الأوروبية بالتقلب بنسبة ٢٫٢٥٪ على جانبَي سعر صرف مركزي مقابل الدولار. لقد اتفق محافظو البنوك المركزية الأوروبية على تحسين إضافي، وهو أنهم سوف يدعمون أو يقيدون العملات الأوروبية، ما دامت ضمن تلك الحدود مقابل الدولار. كان هذا هو الثعبان، لكنه لم ينجح بشكل جيد بالنسبة للجنيه الإسترليني، الذي أُرغم على الخروج تحت ضغط من أسواق العملات في غضون أسابيع من الانضمام.
ربما كان هذا سيخبرنا بشيء ما. لكن السياسة الاقتصادية تعمل في دورات، ويبدو أن أولئك الذين دافعوا عن عضوية آلية سعر الصرف الأوروبية في النصف الثاني من الثمانينيات، لم يكن لديهم سوى القليل من الذاكرة أو لا شيء على الإطلاق لما حدث في عام ١٩٧٢. كان الانضمام إلى آلية سعر الصرف الأوروبية في أواخر الثمانينيات، على الرغم من تردد مارجريت تاتشر، فكرة شائعة. وقد فضلتها معظم مجموعات الأعمال. لقد تم إدخال الجنيه الإسترليني في آلية سعر الصرف الأوروبية في أكتوبر ١٩٩٠، جنبًا إلى جنب مع الإعلان عن خفض أسعار الفائدة، ولكن كما هو موضَّح في الفصل الحادي عشر، سرعان ما أصبحت عضوية النظام عائقًا أمام تخفيضات أسعار الفائدة التي كان اقتصاد المملكة المتحدة المتضرِّر من الركود في حاجة إليها. بحلول الوقت الذي أُرغم فيه الجنيه الإسترليني على الخروج من آلية سعر الصرف الأوروبية في السادس عشر من سبتمبر ١٩٩٢، وهو الأربعاء الأسود، وبعد أن استنفد بنك إنجلترا احتياطيات المملكة المتحدة من العملات الأجنبية، وأُجبِرت أسعار الفائدة على الارتفاع مؤقتًا إلى معدل معلن بنسبة ١٥٪، في محاولة عبثية للدفاع عنه، كان الناس قد سئموا من أوروبا. ولم يكن هذا الحدث مفيدًا للاتحاد الأوروبي أو حكومة المملكة المتحدة. بل كان بمثابة ضربة لطموحات ميجور لوضع بريطانيا «في قلب أوروبا».
التوسع والهجرة
كان توسع الاتحاد الأوروبي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بضم الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية، بنفس أهمية هذه التغييرات في أوائل التسعينيات. لقد شهد الاتحاد الأوروبي عدة توسعات، بدءًا بانضمام المملكة المتحدة وأيرلندا والدنمارك في عام ١٩٧٣، ثم اليونان في عام ١٩٨١، وإسبانيا والبرتغال في عام ١٩٨٦. وانضمَّت النمسا وفنلندا والسويد في عام ١٩٩٥، مما أدَّى إلى توسيع نطاق تغطية الاتحاد الأوروبي ليشمل أوروبا الغربية بأكملها تقريبًا. ومع ذلك، جاء أكبر توسع في عام ٢٠٠٤، عندما أصبحت جمهورية التشيك وإستونيا وقبرص ولاتفيا وليتوانيا والمجر ومالطا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا أعضاء. وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي يغطي الآن جزءًا كبيرًا من أوروبا الشرقية أيضًا، وهو ما تعزز عندما انضمَّت رومانيا وبلغاريا في عام ٢٠٠٧، ثم كرواتيا في عام ٢٠١٣. وحتى وقت كتابتي هذه الكلمات، فإن ألبانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا وتركيا مرشحة للعضوية، وإن كان الأمر سيستغرق وقتًا أطول بالنسبة لبعضها من غيرها. وكانت المملكة المتحدة، بخروجها من الاتحاد الأوروبي، تتحدى هذا الاتجاه.
كان أكبر توسع للاتحاد الأوروبي، في عام ٢٠٠٤، هو الذي أثر تأثيرًا أكبر على المملكة المتحدة وخروجها من الاتحاد الأوروبي. تضمنت معاهدة روما لعام ١٩٥٧، التي أسست الجماعة الأوروبية، الحريات الأربع: حرية حركة السلع والخدمات ورأس المال والعمال. كما عززت معاهدة ماستريخت، كما هو مذكور، هذا الأمر بالنسبة للمواطنة الأوروبية. وبالنسبة لمعظم فترة وجود الاتحاد الأوروبي، وعضوية المملكة المتحدة، كانت حرية الحركة تعني التنقُّل بين اقتصادات أوروبا الغربية المتشابهة على نطاقٍ واسع. وعلى الرغم من وجود فروق في مستويات المعيشة بين الدول الأعضاء، ولا سيما عندما انضمت اليونان وإسبانيا والبرتغال في ثمانينيات القرن العشرين، فإنها كانت صغيرة مقارنة بالاختلافات عندما تم توسيع الاتحاد الأوروبي، ليشمل أوروبا الشرقية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان لدى العمال من الدول الأعضاء الجديدة حافزٌ للسفر إلى حيث كانت الأجور والرواتب أعلى. ولم تسمح لهم جميع الدول الأعضاء القائمين بذلك، مستفيدين من فترة انتقالية تصل إلى سبع سنوات. ولكن المملكة المتحدة، إلى جانب عدد قليل من الدول الأخرى، سمحت لهم بالوصول الفوري. وتبنَّت حكومة حزب العمال في عهد توني بلير نهجًا ليبراليًّا في التعامل مع الهجرة من الدول الأعضاء الجديدة، حرصًا منها على تجنب نقص العمالة الذي كان من شأنه أن يعوق التعافي الاقتصادي. ولكن حكومة بلير قلَّلت أيضًا بشكل كبير من تقدير عدد المهاجرين الذين سيأتون. وقد اعتمدت الدراسة على تقديرات من جامعة لندن، والتي أشارت إلى أن ما بين ٥٠٠٠ و١٣٠٠٠ مهاجر سيصلون سنويًّا مما يسمى بدول الانضمام، والتي انضمَّت إلى الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠٠٤.
خلال الفترة ١٩٧٥–٢٠٠٣، بلغ متوسط الهجرة الصافية إلى المملكة المتحدة من بقية دول الاتحاد الأوروبي (التوازن بين المهاجرين والوافدين) ٨٠٠٠ فقط سنويًّا. وبلغ متوسط الهجرة الصافية الإجمالية، مع الأخذ في الاعتبار المواطنين البريطانيين (متوسط التدفق الصافي للخارج ٥٠٠٠٠ سنويًّا) والمهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك أولئك القادمون من الكومنولث، ٤١٠٠٠ سنويًّا. وكان للتوسع في عام ٢٠٠٤ تأثير كبير على هذه الأرقام، حيث بلغ متوسط التدفُّق الصافي للمهاجرين من الاتحاد الأوروبي أكثر من ١٠٠٠٠٠ سنويًّا خلال الفترة ٢٠٠٤–٢٠١٥.
لقد أصبحت الهجرة، وخاصة هجرة الاتحاد الأوروبي، قضية سياسية ساخنة. وكانت معظم التصوُّرات حول هجرة الاتحاد الأوروبي خاطئة. فقد أظهرت الدراسات أنهم مساهمون صافون في المالية العامَّة، وليسوا عبئًا عليها. ولم «يأخذوا وظائفنا»، وهي الشكوى الشائعة. وتزامنت هجرة الاتحاد الأوروبي مع ارتفاع معدل تشغيل المواطنين البريطانيين، وليس انخفاضه. لقد وقع الناس في فخ ما يسميه خبراء الاقتصاد «مغالطة كتلة العمل»، وهي أن هناك عددًا معينًا فقط من الوظائف للجميع. فالعمال المهاجرون، من خلال الكسب والإنفاق، يخلقون المزيد من الوظائف. كما كان العمال المهاجرون من الاتحاد الأوروبي يميلون إلى أن يتمتعوا بأخلاقيات عمل أفضل، وإنتاجية أعلى من العديد من نظرائهم المحليين؛ ولهذا السبب كانوا موضع تقدير من قِبَل أصحاب العمل. ومع ذلك، لم يكن أيٌّ من هذا مهمًّا بالنسبة لأولئك الذين كانت الهجرة تشكِّل لهم قضية. وأشاروا إلى الضغوط المتزايدة على الخدمات العامة، والحاجة إلى أن تسيطر المملكة المتحدة على حدودها. كانت اللحظة الحاسمة في استفتاء يونيو ٢٠١٦ هي إصدار الأرقام الرسمية في مايو، التي أظهرت أن صافي الهجرة إلى المملكة المتحدة قد بلغ رقمًا قياسيًّا هو ٣٣٢ ألفًا في عام ٢٠١٥.
توقيت غريب لإجراء استفتاء
في يناير ٢٠١٣، وفي خطاب ألقاه في المقر الرئيسي لشركة المعلومات المالية لومبرج، دعا ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء، إلى إصلاح جذري للاتحاد الأوروبي، وتعهَّد بأن تعقد حكومة محافظة مستقبلية استفتاءً على عضوية الاتحاد الأوروبي. كانت لحظة عظيمة، ولكن في ذلك الوقت لم يدرك سوى قِلة من الناس مدى عظمتها. كان كاميرون حريصًا على درء خطر الانشقاقات من حزبه إلى حزب استقلال المملكة المتحدة، ومن هنا جاء تعهد الاستفتاء، ولكن الوفاء بهذا التعهد بدا مستبعدًا. كان المحافظون في ائتلاف مع حزب الديمقراطيين الليبراليين المؤيد بشدة للاتحاد الأوروبي، بعد فشلهم في الفوز بأغلبية مطلقة في الانتخابات العامة لعام ٢٠١٠، وكانت النتيجة الأكثر ترجيحًا للانتخابات التالية في عام ٢٠١٥ هي ائتلافًا آخر. لم يوافق الديمقراطيون الليبراليون على إجراء استفتاء.
لكن حدث ما هو غير مرجَّح. فاز المحافظون في انتخابات ٢٠١٥ بأغلبية ضئيلة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى حصولهم على الكثير من المقاعد من شركائهم الديمقراطيين الليبراليين، وبعد أن وعدوا بإجراء استفتاء في بيانهم الانتخابي، اضطروا إلى تقديمه. كان بوسع كاميرون أن يطيل الأمر، ولكن حرصًا منه على مواصلة ما تبقَّى من فترة رئاسته، وعلى افتراض أن المملكة المتحدة ستصوِّت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، قرَّر أن يطرق الحديد وهو ساخن. وكان حريصًا أيضًا، بشكل غريب نظرًا للاضطراب الذي أحدثه التصويت لصالح الخروج البريطاني، على إنهاء الاستفتاء قبل مجموعة مهمة من الانتخابات في أوروبا في عام ٢٠١٧.
كان وقتًا غريبًا لإجراء الاستفتاء. كانت الحكومة الائتلافية تضغط على الخدمات العامة في إطار برنامج التقشف بعد عام ٢٠١٠، وانتُخِبت على أساس الاستمرار في استراتيجية خفض العجز. وكان تجميد النقد لمدة أربع سنوات على معظم إعانات سن العمل جزءًا من برنامج الحكومة المحافظة المنتخبة حديثًا. ولعل من غير المستغرب أن يعارض جورج أوزبورن، وزير الخزانة، الاستفتاء. كان التوقيت مؤسفًا؛ لأنه تزامن مع ذروة الهجرة، كما أشرنا أعلاه. ويعتقد بعض خبراء الاقتصاد أيضًا أن التقشف دفع الناخبين نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي ورقة بحثية بعنوان «هل تسبب التقشُّف في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟» بقلم ثيمو فيتزر من جامعة وارويك، استشهد الخبير الاقتصادي بخفض بنسبة ٢٣ في المائة في الإنفاق العام للفرد خلال الفترة ٢٠١٠–٢٠١٥، مع تركيز التخفيضات على السكان في سن العمل وفي المناطق المحرومة «المتروكة». وكتب فيتزر: «من الواضح أن التقشف أدى إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية القائمة في جميع أنحاء المملكة المتحدة. لقد شعر بالانخفاضات البالغون في سن العمل الذين يعتمدون على دولة الرفاهية والذين يعيشون في المناطق المحرومة. وكرد فعل على التقشف، شهد عام ٢٠١٠ تغييرًا في تفضيل الناخبين نحو دعم الأحزاب المناهضة للمؤسسة التي وعدت بالانفصال عن الوضع السياسي الراهن. وشهد حزب استقلال المملكة المتحدة على وجه الخصوص ارتفاعًا ملحوظًا في الشعبية. وخلص إلى أن التقشف كان كافيًا لترجيح كفة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في استفتاء شهد منافسة شديدة.
الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ سريع وبطيء
في ٢٣ يونيو ٢٠١٦، صوَّتت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بنسبة ٥١٫٩ في المائة مقابل ٤٨٫١ في المائة، في استفتاء بلغت نسبة المشاركة فيه ٧٢٫٢ في المائة. وعلى الرغم من أن التصويت كان متقاربًا من حيث النسبة المئوية، فإن التصويت لصالح الخروج، ١٧٫٤ مليونًا، كان أكبر مما حققه أيُّ حزب في انتخابات عامة، وتجاوز التصويت لصالح البقاء، الذي بلغ أكثر من ١٦٫١ مليونًا، بنحو ١٫٣ مليون. من بين المناطق والبلدان الاثني عشر في المملكة المتحدة، صوَّتت ثلاث مناطق للبقاء — لندن الكبرى واسكتلندا وأيرلندا الشمالية — بينما صوَّتت بقية المناطق للخروج. وكانت أقوى الأصوات للبقاء في اسكتلندا، بنسبة ٦٢ في المائة مقابل ٣٨ في المائة، تليها لندن الكبرى، بنسبة ٥٩٫٩ في المائة مقابل ٤٠٫١ في المائة. وعلى النقيض من ذلك، كانت أقوى الأصوات للخروج في المناطق الصناعية القديمة في البلاد. صوَّتت منطقة ويست ميدلاندز بنسبة ٥٩٫٣ في المائة مقابل ٤٠٫٧ في المائة للخروج، تليها منطقة إيست ميدلاندز (٥٨٫٨–٤١٫٢) وشمال شرق البلاد (٤٢–٥٨).
أسس تصويت خروج بريطانيا نمطًا كان من المفترض تكراره في الانتخابات اللاحقة. وتبع العديدُ من المدن الكبرى في المملكة المتحدة لندن في تفضيل البقاء في الاتحاد الأوروبي. صوتت أكبر ثلاثين مدينة في المملكة المتحدة بنسبة ٥٥٫٢٪ مقابل ٤٤٫٨٪ لصالح البقاء، في حين صوَّتت مناطق أخرى، أكبر من حيث إجمالي عدد الناخبين، بنسبة ٥٤٫٤٪ مقابل ٤٥٫٦٪ لصالح الخروج. وبالإضافة إلى لندن، كانت إدنبرة وجلاسكو ومانشستر وليدز وليستر وأبردين ويورك ونيوكاسل وبرايتون وبلفاست وكارديف وليفربول وبريستول، من بين المدن التي صوَّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وصوَّت العديدُ من المدن والبلدات والقرى الصغرى، وخاصة تلك التي أصبحت تُعرف باسم المناطق «المتروكة»، لصالح الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وكان بعضها حاسمًا للغاية.
وقد هزَّ التصويت على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي السياسة البريطانية. ففي صباح الرابع والعشرين من يونيو، أعلن ديفيد كاميرون أنه سيتنحَّى عن منصبه كزعيم لحزب المحافظين ورئيس للوزراء. وواجهت خليفته، وزيرة الداخلية السابقة تيريزا ماي، وقتًا عصيبًا. ورغم إصرارها على أن «الخروج البريطاني يعني الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بكل ما تحمله العبارة من معنًى»، فقد كانت تلاحقها حقيقة مفادها أنها وأعضاءً كبارًا آخرين في حكومتها، كانوا معروفين بأنهم يفضِّلون البقاء في الاتحاد الأوروبي. على الرغم من أنها استبعدت البقاء في السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الجمركي، فإن محاولتها لتأمين صفقة تجارية مع أوروبا، من شأنها أن تحافظ على علاقة وثيقة للغاية مع الاتحاد الأوروبي، أدَّت إلى بعض أكبر هزائم مجلس العموم في تاريخ البرلمان، حيث صوت العديد من نوابها ضد زعيمهم. أصبح موقفها مستحيلًا نتيجة لمقامرة سياسية فشلت: قرارها بالدعوة إلى انتخابات عامة في عام ٢٠١٧ في محاولة لزيادة الأغلبية الضئيلة للمحافظين. فشلت المقامرة، مما تركها بدون أغلبية إجمالية — «برلمان معلق» — وتعتمد على دعم حزب الاتحاد الديمقراطي المتشدِّد في أيرلندا الشمالية. وبعد عامَين، خلفها بوريس جونسون، الصوت الرائد في حملة عام ٢٠١٦ لمغادرة الاتحاد الأوروبي. وقد واجه صعوبة أقل بكثير في تأمين الدعم لاتفاقية الانسحاب واتفاقية التجارة المختصرة مع الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنها خلقت ما أصر على أنه لن يحدث أبدًا؛ حدود في البحر الأيرلندي، تعيق التجارة بين البر الرئيسي البريطاني وأيرلندا الشمالية. لو كان حزب العمال والأحزاب السياسية الأخرى المؤيدة للاتحاد الأوروبي قد دعمت العلاقة الوثيقة التي تفاوضت عليها ماي، لكان من الممكن تجنُّب مثل هذه الحدود، ولكان الضرر الذي لحق بالاقتصاد من خروج بريطانيا أقل. ومع ذلك، فرضت الظروف السياسية عدم استطاعتها دعم رئيس وزراء محافظ محاصر.
في عهد جونسون، غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي رسميًّا في ٣١ يناير ٢٠٢٠. انتهت فترة انتقالية، تم خلالها التفاوض على اتفاقية التجارة وتغيير القليل جدًّا، في ٣١ ديسمبر ٢٠٢٠. بعد ٤٨ عامًا في الداخل، خرجت المملكة المتحدة.
العواقب الاقتصادية المترتبة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
ما هو التأثير الاقتصادي الذي قد يترتب على مغادرة الاتحاد الأوروبي؟ بالنسبة للاقتصاديين فإن هذه العواقب تندرج تحت ثلاث فئات رئيسية. الأولى هي التأثير السلبي على التجارة من مغادرة السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ومن إدخال الحواجز أمام التجارة. والثانية هي التأثير على الاستثمار، وخاصة الاستثمار الأجنبي المباشر. وإذا لم تعُد المملكة المتحدة عضوًا في الاتحاد الأوروبي والسوق الموحدة، فإن الحافز للشركات لاستخدامها كقاعدة لخدمة بقية أوروبا سوف ينخفض بشكل كبير. كان هذا هو المغناطيس الذي جذب العديد من الشركات الأجنبية إلى المملكة المتحدة، بما في ذلك شركات تصنيع السيارات اليابانية. والثالثة: من شأن انخفاض أعداد المهاجرين القادمين من بقية دول الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة، نتيجة للتخلي عن حرية التنقل، أن يقلص من مرونة سوق العمل ويحدَّ من النمو الاقتصادي.
ولم تكن كل التقييمات لتأثير الخروج من الاتحاد الأوروبي دقيقة. فنتيجة لضغوط من وزير الخزانة آنذاك جورج أوزبورن، الذي كان يؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي، أصدرت وزارة الخزانة وثيقتَين في الفترة التي سبقت الاستفتاء. الوثيقة الأولى، التي تناولت التأثير الفوري للخروج من الاتحاد الأوروبي، اعتبرها خبراء الاقتصاد من كلا الجانبَين مثيرة للذعر بلا داعٍ. فقد رسمت الوثيقة «سيناريو الصدمة» حيث يعاني الاقتصاد من ركود فوري ولكن معتدل، وترتفع البطالة بنحو ٥٠٠ ألف شخص. وفي ظل «سيناريو الصدمة الشديدة»، ستكون التأثيرات أكبر بكثير، مما يجعل الاقتصاد أصغر بنسبة ٦٪ مما كان عليه في الظروف العادية بعد عامَين، مع ارتفاع البطالة بأكثر من ٨٠٠ ألف شخص. وكان من بين العناصر الأساسية لهذه التقييمات تأثيرات عدم اليقين، حيث يتسبب ارتفاع عدم اليقين في حدوث تغييرات في سلوك الشركات والمستهلكين والأسواق المالية. والأمر الحاسم هنا هو أن التقييم لم يسمح بأي استجابة سياسية، والتي تضمنت في النهاية خفض أسعار الفائدة من قِبَل بنك إنجلترا والإعلان عن المزيد من التيسير الكمي.
ورغم أن هذا التقييم الذي كان مدفوعًا بدوافع سياسية أثار الاستهزاء، فإن وزارة الخزانة كانت على أرض أكثر صلابةً في تقييمها الآخر، الذي نظر في التأثير الطويل الأجل لمغادرة الاتحاد الأوروبي. إن الخروج باتفاقية تجارية متفاوض عليها من شأنه أن يجعل إجمالي الناتج المحلي للمملكة المتحدة أصغر بنسبة تتراوح بين ٤٫٦ و٧٫٨ في المائة بعد ١٥ عامًا من البقاء، حسب الحسابات، مع انخفاض نصيب الفرد في إجمالي الناتج المحلي بمقدار ١٨٠٠ جنيه إسترليني بعد تلك الفترة، وتضرُّر المالية العامة بسبب انخفاض عائدات الضرائب. لم يكن لدى الخزانة وقت لشعار «صوِّت للمغادرة» بأن الخروج من شأنه أن يوفر للمملكة المتحدة ٣٥٠ مليون جنيه إسترليني أسبوعيًّا، والتي يمكن إنفاقها على الخدمة الصحية الوطنية. لم يكن الرقم ٣٥٠ مليون جنيه إسترليني مبالغًا فيه فحسب، بل إن التأثير الصافي على المالية العامة سيكون ضارًّا بسبب تباطؤ النمو. وعلى النقيض من التقييم الفوري، فإن التقييم الطويل الأجل لوزارة الخزانة، في وقت كتابة هذا التقرير، يصمد أمام اختبار الزمن. فقد أشارت التقييمات التي أجراها بنك إنجلترا، ومركز الإصلاح الأوروبي، وغيرهما، إلى أن الاقتصاد في نهاية عام ٢٠١٩ سيكون أصغر بنسبة ٢ إلى ٣ في المائة، مما كان سيصبح عليه نتيجة التصويت على الاستفتاء، ويرجع ذلك أساسًا إلى التأثير المخيف للتصويت على الاستثمار التجاري، وانخفاض الهجرة من الاتحاد الأوروبي.
وفي مارس ٢٠٢١، قدَّر مركز أبحاث «المملكة المتحدة في أوروبا المتغيرة» أن الصفقة التي تفاوضت عليها حكومة جونسون، ستؤدي إلى انخفاض بنسبة ٦ في المائة في نصيب الفرد في الدخل (مقارنة بالبقاء في الاتحاد الأوروبي)، وانخفاض بنسبة ٣٦ في المائة في الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي، وانخفاض بنسبة ٣٠ في المائة في الواردات من الاتحاد الأوروبي، وانخفاض بنسبة ١٣ في المائة في التجارة الإجمالية. وعلى الرغم من ذلك، كانت الصفقة تحظى بشعبية سياسية.
درس اقتصادي مستفاد من الخروج البريطاني
صوَّت الناخبون في المملكة المتحدة بفارق ضئيل لصالح الخروج البريطاني، على الرغم من أن الغالبية العظمى من الاقتصاديين قالوا إن الخروج البريطاني من شأنه أن يلحق الضرر بالاقتصاد، كما هو موضَّح أعلاه. فماذا يخبرنا هذا عن وضع الاقتصاد والاقتصاديين؟
- النقطة الأولى: التي يجب توضيحُها هي أن الأمر بالنسبة للعديد من مؤيِّدي الخروج البريطاني لم يكن يتعلَّق بالاقتصاد مطلقًا، بل كان العديد منهم على استعداد لقبول قدرٍ من الضرر الاقتصادي في مقابل تقرير المصير. وأشار الاقتصاديون وغيرهم إلى أن السيادة في العالم الحديث مشتركة دائمًا، وأنه في عالم ما بعد الخروج البريطاني قد يُطلب من المملكة المتحدة تقاسم المزيد من السيادة مع الآخرين أكثر من ذي قبل. كما أشاروا إلى أن المملكة المتحدة كانت تسيطر على حدودها أثناء عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ولم تكن قطُّ جزءًا من منطقة شنجن الأوروبية للسفر غير المقيد وسياسة التأشيرات المشتركة. ولكن بالنسبة للعديد من الذين أرادوا مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإن «استعادة السيطرة» — شعار التصويت للمغادرة — تجسد رغبتهم في الابتعاد عن شرط حرية الحركة لعضوية الاتحاد الأوروبي. بالنسبة لهم أيضًا، ستتعزَّز السيادة من خلال خروج بريطانيا.
- النقطة الثانية: أثبت خروج بريطانيا قيود الاقتصاد كأداة تفسيرية. عندما شرح خبراء الاقتصاد التأثير المحتمل لمغادرة الاتحاد الأوروبي، من حيث تأثيره على إجمالي الناتج المحلي، كانوا يواجهون بالفعل مهمة شاقة. لا يعرف معظم الناس ما هو إجمالي الناتج المحلي. بالنسبة لأولئك الذين يعرفون، بدا الأمر وكأنه شيء بعيد وغير ذي صلة. خلال حملة الاستفتاء، سافر البروفيسور أناند مينون من كينجز كوليدج في لندن، مدير المملكة المتحدة في مؤسسة بحثية في أوروبا المتغيرة، إلى نيوكاسل لحضور اجتماع عام. وبينما كان يتحدث عن التأثير المحتمل لمغادرة الاتحاد الأوروبي على إجمالي الناتج المحلي، قالت سيدة من الحضور: «هذا إجمالي ناتجكم المحلي، وليس إجمالي ناتجنا المحلي.»
كانت طبيعة التقييمات التي أجراها خبراء الاقتصاد أيضًا مشكلة. قارن معظمهم بين موقفَين في تاريخ مستقبلي، لنقُل بعد ١٠ سنوات، أو في عام ٢٠٣٠. سعى هذا إلى مقارنة حالة مستقرَّة (مع عضوية الاتحاد الأوروبي) بحالة أخرى (بدونها). هذا جزء مباشر من التحليل الاقتصادي، باستثناء غير المطَّلعين، أو أولئك الذين يعرفون ما يجري ولكنهم اختاروا السخرية منه. وعلى هذا، تم رفض العديد من هذه المقارنات على أساس أنها كانت تنبؤات، والتنبؤات غالبًا ما تكون خاطئة. لم تكن كذلك، لكن هذا لم يساعد.
أخيرًا، في حين كانت الغالبية العظمى من خبراء الاقتصاد ورجال الأعمال يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي، لا يبدو الأمر كذلك بالنسبة للناخبين. فقد طُلب من المذيعين توفير «التوازن»، من خلال أخذ وجهات نظر كلا الجانبَين، وكان من الممكن أن يبدو أن هناك حججًا متساوية — وعددًا متساويًا من الأشخاص الذين يطرحونها — على جانبَي المناقشة. وفي الوقت نفسه، أبرزَت الصحف المؤيِّدة للخروج البريطاني بشكل كبير آراءً لخبراء الاقتصاد المؤيدين للخروج البريطاني. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما تم رفض الحجج المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي باعتبارها «مشروع خوف».
•••
لقد حدث الخروج البريطاني في عام ٢٠٢٠، ومن غير المرجَّح أن يتم التراجع عنه. إن أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام، هو إذا أبدت المملكة المتحدة رغبتها في العودة إلى الاتحاد الأوروبي، فهل سترغب دول الاتحاد الأوروبي جميعها في ذلك. والسؤال الآخر هو ما إذا كانت شروط العضوية المواتية التي تم التفاوض عليها في ماستريخت، أو خيارات الانسحاب، ستكون متاحة. ربما لا. لقد كان خروج بريطانيا حدثًا كبيرًا. اسمحوا لي الآن بالتركيز على شيء كان في الأمد القريب، وإن لم يكن في الأمد البعيد على الأرجح، أكبر، بل طغى على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالفعل.