نقاش أثناء تناول القهوة
إن كل الوجبات الجيدة، وكل الكتب، لا بد أن تنتهي. ولكن من الخطأ أن نتوارى في الليل دون أن نتبادل أطراف الحديث، أو حتى نتناقش قليلًا. فالاقتصاديون يتجادلون طوال الوقت. ويتقدم الموضوع، أو يعود إلى الوراء أحيانًا، من خلال المشاركة البناءة. ويرى البعض أن الاقتصاديين يختلفون فيما بينهم كثيرًا. فقد قال تشرشل ذات يوم إن وجود اثنَين من الاقتصاديين في غرفة واحدة يعني ضمان وجود وجهتَي نظر مختلفتَين، «وثلاث إذا كان أحدهما هو السيد كينز». وربما يكون هذا القول قاسيًا بعض الشيء. فأين كنا سنصل لولا الجدل؟ الأمر المريح في الاقتصاد هو أنه من الممكن في كثير من الأحيان أن يكون كلا الجانبَين على حق. ولنلقِ نظرة على بعض الخلافات القديمة.
لماذا بعض البلدان أغنى من غيرها؟
في النهاية، ربما لا يوجد سوى مسألتَين اقتصاديتَين مهمتَين؛ مقدار الثروة التي يتم خلقها وكيف يتم توزيعها بين الناس والبلدان. فمنذ أيام آدم سميث، خلق العالم ثروات غير عادية. ولكن توزيعها أصبح أكثر تفاوتًا مع مرور الوقت. والفوارق في الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء مذهلة. فقد أظهرت تقديرات — أجراها برانكو ميلانوفيتش من البنك الدولي في عام ٢٠٠٩ — أن أغنى ١٠٪ من سكان العالم، أي ما يقل قليلًا عن ٧٠٠ مليون شخص في ذلك الوقت، حصلوا على ٥٧٪ من دخل العالم. وفي وقت لاحق، وجد ميلانوفيتش، في ورقة بحثية عام ٢٠٢٠ تدرس توزيع الدخل العالمي خلال الفترة من ٢٠٠٨ إلى ٢٠١٣، أن الأزمة المالية العالمية قلَّلت جزئيًّا من التفاوت؛ بسبب تباطؤ النمو في دخول أعلى ١٠٪ وصعود الصين، على الرغم من أن التفاوت ظل مرتفعًا، وكذلك الاختلافات في مستويات المعيشة بين أغنى البلدان وأفقرها. وقدر ديفيد لانديس، المؤرخ الاقتصادي، أن فجوة الدخل بين واحد من أغنى البلدان، سويسرا، وواحد من أفقرها، موزمبيق، كانت ٤٠٠: ١. وأوضح أنه قبل الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، كانت أكبر فجوة من هذا القبيل حوالي ٥: ١.
لماذا هذه التفاوتات؟ هناك ثلاثة تفسيرات واسعة النطاق. الأول هو أطروحة «التطور المتأخر». فنحن نطلق على البلدان الفقيرة «البلدان النامية» حتى عندما لا يكون بعضها ناميًا على الإطلاق. من هذا المنظور، يأتي الرخاء والنجاح في النهاية للجميع، ولكن بالنسبة للبعض يستغرق الأمر وقتًا أطول من غيره. على سبيل المثال، يتمتع العديد من الدول الأفريقية بمستوى دخل للفرد مماثل تقريبًا لمستوى أوروبا قبل قرنَين من الزمان. وعلى الرغم من تحسُّن مستويات المعيشة في معظم أنحاء أفريقيا، فإن اللحاق بالركب سيستغرق وقتًا. ربما بعد قرنَين من الزمان قد تكون متأخرة عن أوروبا بمائة عام فقط؛ ومن ثَم أعلى من مستويات المعيشة الأوروبية الحالية. هذه احتمالية كبيرة. صحيح أن تغييرات حدثت في التصنيفات الاقتصادية العالمية. كانت بريطانيا تتمتع بميزة التحرك الأول — من خلال البدء أولًا، تمكنت من البقاء في المقدمة — كمهد للثورة الصناعية، وحكمت لمدة ١٠٠ عام أو نحو ذلك فيما بعد. ولكن الكتابة كانت على الحائط منذ المعرض الكبير لعام ١٨٥١، عندما لاحظ الناس تفوق المنتجات التي تعرضها الشركات الألمانية. لقد أمكن اللحاق ببريطانيا والتفوق عليها، ليس فقط من جانب الاقتصادات الأوروبية الأخرى، بل أيضًا بشكل أكثر تحديدًا من جانب الولايات المتحدة. وكانت اليابان، الاقتصاد المنغلق على العالم الخارجي حتى أواخر القرن التاسع عشر، دولة أخرى استطاعت أن تتقدم بسرعة، سواء قبل أو بعد دمار الحرب العالمية الثانية (وحتى بشكل أكثر إثارة للإعجاب)، حتى استسلمت هي أيضًا للمشاكل في أواخر القرن العشرين. وكان بوسع الصين أن تشهد ثورة صناعية في وقت النهضة الأوروبية، ولكنها اختارت مسارًا مختلفًا. والآن تسير الصين على الطريق لتصبح أقوى اقتصاد في القرن الحادي والعشرين، رغم أنه لا يوجد شيء مقدر مسبقًا.
والتفسير الثاني يتعلق بالموقع. لقد لاحظ الخبير الاقتصادي البارز الكندي المولد (الذي تبنَّته أمريكا) جيه كيه جالبرايث قبل سنوات عديدة، أنه إذا ما رسمت خطًّا حول الكرة الأرضية على مسافة ١٠٠٠ ميل على جانبَي خط الاستواء، فلن تجد هناك أي دول متقدمة، أو بعبارة أخرى دولًا «غنية». فالدول الفقيرة تميل إلى التواجد في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية. وهناك تنتشر الأمراض على نطاق واسع، بما في ذلك الأمراض التقليدية مثل الملاريا والأمراض الحديثة مثل الإيدز؛ ومن ثَم فإن متوسط العمر المتوقع منخفض. والزراعة أكثر صعوبة وأقل إنتاجية؛ ومن ثَم فإن إنتاج كمية صغيرة نسبيًّا من الغذاء يستهلك قدرًا كبيرًا من العمل. الواقع أن العديد من البلدان الفقيرة، وخاصة تلك الموجودة في أفريقيا، لا يتمتَّع بموقع جغرافي جيد للاستفادة من التجارة. وتكافح البلدان غير الساحلية، وخاصة إذا كانت في نزاع مع جيرانها الذين يتعين عليها عبورهم للوصول إلى البحر. وقد عزت دراسة أجراها جيفري ساكس وآخرون فشل أفريقيا الاقتصادي إلى المناخ والمرض والجغرافيا والسياسات الرديئة. فجنوب أفريقيا غير الاستوائية أكثر ثراءً بنحو خمسة أضعاف، من حيث نصيب الفرد، من أفريقيا الاستوائية، وليس فقط بسبب الذهب والألماس.
التفسير الثالث الذي طرحه ديفيد لانديس في كتابه الرائع ثروة الأمم وفقرها، هو أن الأمر كله يتلخص في الثقافة. ويعكس عنوان لانديس عمدًا كتاب آدم سميث «ثروة الأمم». إن سميث، كما تتذكرون، شرح الطريق إلى الرخاء من خلال تقسيم العمل. وكان التنظيم هو المفتاح لتسخير القوى المؤثرة للتصنيع وتعزيزها. وكانت بريطانيا، باعتبارها أول دولة صناعية حديثة، في وضع مثالي للاستفادة من ذلك. فقد كانت هناك رغبة قوية في التقدم الاقتصادي، واستعداد لاحتضان التكنولوجيا الجديدة، وسوق رأس مال متطورة بالفعل (مدينة لندن)، وسيادة القانون، واحترام حقوق الملكية. وكانت بلدان أخرى، غالبًا ذات مجتمعات مماثلة — ألمانيا وأمريكا وأستراليا وغيرها — إما تمتلك أو كانت قادرة على تقليد أخلاقيات العمل هذه.
ويمكن مناقشة ما إذا كانت أخلاقيات العمل هذه بروتستانتية في الأصل، ولكن هذا لا يفسر بالتأكيد نجاح اليابان. غير أنه في أجزاء أخرى من العالم، يبدو أن الدين، سواء كان الكاثوليكية الرومانية أو الإسلام، كان سببًا في إعاقة التنمية الاقتصادية. وكتب لاندس: «إذا تعلمنا أي شيء من تاريخ التنمية الاقتصادية فهو أن الثقافة هي التي تصنع كل الفارق.» وتابع:
إننا نشهد على مشاريع الجاليات المغتربة؛ الصينيون في شرق وجنوب شرق آسيا، والهنود في شرق أفريقيا، واللبنانيون في غرب أفريقيا، واليهود والكالفينيون في أنحاء كثيرة من أوروبا، وما إلى ذلك. إن الثقافة، بمعنى القيم والمواقف الداخلية التي توجه السكان، تخيف العلماء. فتفوح منها رائحة الكبريت التي تنبعث من العرق والميراث، وهي تتمتَّع بأجواء من الثبات.
إن رسالته لا بد أن تكون متفائلة. فالثقافات قادرة على التغيير والتكيف. فالعديد من البلدان لديها تقاليد في المبادرة، حتى وإن كان أكثر الناس تمتعًا بروح المبادرة يميلون إلى التعبير عن أنفسهم في أماكن أخرى. وبمنظور ما، فإن أغلب برامج التنمية تتبع خط تفكيره. فأدوات التنمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بترسيخ سيادة القانون، وحقوق الملكية، والحكومة الفعَّالة بقدر ما ترتبط بمنح المساعدات الأجنبية. لقد درس المؤرخ الاقتصادي الأمريكي الراحل دوجلاس نورث، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام ١٩٩٣، دور المؤسسات في التنمية الاقتصادية. ووفقًا له: «توفر المؤسسات البنية التحتية التي استخدمها البشر طوال التاريخ لخلق النظام، ومحاولة الحد من عدم اليقين في المقابل.» إن عدم القدرة على الدخول في عقود ملزمة وانتشار الرشوة والفساد يعيق التنمية. وتحقيق الموثوقية والشفافية في المؤسسات الصحيحة هو ما يفتح لك الآفاق.
لقد لاحظ بول كولير، الخبير الاقتصادي في جامعة أكسفورد، في كتابه «المليار الأدنى»، أنه في حين أن أغلب فقراء العالم يعيشون في بلدان يمكن اعتبارها نامية، فإن الكثيرين غيرهم — «المليار الأدنى» حسب كولير — ليسوا كذلك. وقد حدد كولير مجموعةً من التفسيرات. وتضمَّنت «فخ الصراع»: الحروب الأهلية يمكن أن تكون عدوًّا للتنمية الاقتصادية. «ولعنة الموارد»: الموارد الطبيعية قد تؤدي إلى الصراعات والافتقار إلى القدرة التنافسية (بسبب ارتفاع سعر الصرف أو ارتفاع مستويات الأجور) للصناعات الأخرى. ويعاني الناس الذين يعيشون في بلدان غير ساحلية مع جيران فقراء، وفقًا لكولير، كما يعاني أولئك الذين يعيشون في بلدان صغيرة ذات حكومات فاسدة. والمشكلة ليست فقط أن الناس في هذه البلدان عالقون في الفقر. بل إن وضعهم وآفاقهم يتباعدان بشكل كبير عن بقية العالم.
هل العولمة جيدة أم سيئة، وهل هي في تراجع؟
الدور الذي تلعبه العولمة وثيق الصلة بوجود تفاوتات هائلة بين البلدان. إنه مصطلح يتم تداوله كثيرًا، ولكن ماذا يعني؟ وفقًا لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي ومقره واشنطن:
العولمة هي الكلمة المستخدمة لوصف الترابط المتزايد بين اقتصادات العالم وثقافاته وسكانه، والذي نتج عن التجارة عبر الحدود في السلع والخدمات والتكنولوجيا، وتدفقات الاستثمار والأشخاص والمعلومات. وقد بنت البلدان شراكات اقتصادية لتسهيل هذه الحركات على مدى قرون عديدة. لكن المصطلح اكتسب شعبية بعد الحرب الباردة في أوائل التسعينيات، حيث شكلت هذه الترتيبات التعاونية الحياة اليومية الحديثة.
بعبارة أخرى، الأمر لا يتعلق باستعمار الكوكا — هيمنة عدد قليل من الشركات والعلامات التجارية الكبرى على العالم — على الرغم من أن الشركات العالمية تشكِّل بوضوح جانبًا من جوانب هذه الهيمنة. بل يتعلق الأمر بتحريك كميات هائلة من المال في مختلف أنحاء النظام المالي الدولي، وحقيقة مفادها أن اللعبة التي يحصل عليها طفلك في عيد الميلاد ربما تكون مصنوعة في الصين، أو أن مركز الاتصال الذي يتعين عليك الاتصال به (أو الذي يتصل بك عبر الهاتف) يقع في الهند. الأمر يتعلق بانهيار الحواجز. وهو يتعلق بحقيقة مفادها أن أي بلد، أكثر من أي وقت مضى، لا يشكل جزيرة في حد ذاته من الناحية الاقتصادية. والواقع أن نظرية الفوضى القديمة، التي تقول إن رفرفة جناحَي فراشة في غابة الأمازون قد تتسبب في إعصار على بعد آلاف الأميال، لها ما يماثلها في عالمنا العولمي. وكانت العولمة مثيرة للجدال، حتى قبل الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام ٢٠٠٧، والتي وُصِفَت على نطاق واسع بأنها أول أزمة في عصر العولمة.
لقد بدأ المتظاهرون المناهضون للعولمة في الظهور بقوة منذ الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في سياتل في نوفمبر ١٩٩٩، وفي العديد من التجمعات التي ضمت زعماء سياسيين ورجال أعمال منذ ذلك الحين. وباعتبارها حملة، سواء وافقت عليها وعلى أساليبها أم لا، فقد حققت نجاحًا كبيرًا في جعل السياسيين ورجال الأعمال والاقتصاديين يفكرون. كما أن لها مؤيدين بارزين. كتب جوزيف ستيجليتز، كبير الاقتصاديين السابقين في البنك الدولي، في كتابه «العولمة وسخطها»: «بالنسبة لملايين البشر، لم تنجح العولمة. لقد أصبح الكثيرون في الواقع أسوأ حالًا، حيث رأوا وظائفهم تُدمر وحياتهم أقل أمانًا. شعروا بالعجز بشكل متزايد ضد القوى الخارجة عن سيطرتهم. وشهدوا تقويض ديمقراطياتهم، وتآكل ثقافاتهم.» وأطلق على جولة التجارة العالمية الجديدة التي انطلقت في قطر في نوفمبر ٢٠٠١ اسم «أجندة الدوحة للتنمية»، وهو اعتراف صريح بأن الانفتاح المستقبلي للتجارة العالمية لا بد أن يوجه صراحة نحو تلبية احتياجات البلدان الفقيرة. ولكن التقدم كان بطيئًا بشكل مؤلم، ولم تكتمل الجولة بعد مرور ٢٠ عامًا.
ولا يجد خبراء الاقتصاد، كقاعدة عامة، صعوبة كبيرة في الاتفاق على أن التجارة الحرة مفيدة للغاية. وكان تحرير التجارة — إزالة الحواجز أمام التجارة، الرسمية وغير الرسمية — من بين العناصر الحاسمة في الرخاء العالمي بعد عام ١٩٤٥، من بين أنقاض الحمائية التي سادت في فترة ما بين الحربَين العالميتَين، تحت رعاية الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) أولًا، ثم منظمة التجارة العالمية. وأدَّت جولات التجارة المتعاقبة، في أماكن متنوِّعة مثل طوكيو وأوروجواي وتوركواي، إلى تحرير الاقتصاد العالمي. ولقد كان للتجارة الحرة تأثير قوي. فأصبحت البلدان أكثر انفتاحًا، واستفادَت منها بشكل كبير. وبلغ متوسط نمو التجارة العالمية مع مرور الوقت ضعف معدل نمو الناتج الوطني أو ثلاثة أمثال المعدل. وطبقًا لإحدى الدراسات، شهدت البلدان النامية التي تبنَّت قواعد التجارة الحرة معدلات نموٍّ بلغت في المتوسط ٤٫٥٪ سنويًّا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، مقارنة بنحو ٠٫٧٪ بالنسبة لعدد محدود من الاقتصادات المغلقة.
فأين الجدال إذن؟ أحد الانتقادات القوية هو أن التجارة الحرة، بعيدًا عن كونها ذات منفعة متبادلة، كانت وسيلة لاستغلال فقراء العالم. وقد قدر تقرير لمنظمة أوكسفام بعنوان «القواعد المزورة والمعايير المزدوجة» أن كل ١٠٠ دولار أمريكي تولدها الصادرات العالمية لا يذهب منها إلى البلدان الفقيرة سوى ثلاثة دولارات؛ وكل دولار واحد يُمنح للبلدان النامية في هيئة مساعدات، يضيع أمامه دولاران بسبب قواعد التجارة غير العادلة. لا يشير أيٌّ من هذا إلى أن العالم يجب أن يتخلى عن السعي إلى التجارة الحرة، أو أن البلدان الفقيرة ستكون أفضل حالًا باختيارها الخروج من النظام العالمي. ما يشير إليه هو أن حملةً ذات مغزًى تعزيزًا للتجارة الحرة ستستهدف الصفقات التي تمكِّن البلدان الغنية من حماية صناعاتها ومزارعيها المحليين.
هناك انتقاد أكثر جوهرية للعولمة، وهو أنه سُمح لها بالذهاب إلى أبعد مما ينبغي، وبالتأكيد إلى ما هو أبعد من قدرة الديمقراطيات على السيطرة عليها. حتى قبل حدوث أسوأ ما في الأزمة المالية العالمية، سلَّط داني رودريك من جامعة هارفارد، مؤلف كتاب «مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي»، الضوء على المخاطر في عالم تجاوز «التعددية السطحية» في العقود الثلاثة التي تلت عام ١٩٤٥، واستعاض عنها بشيء أكثر شمولًا. والآن أصبح هذا النموذج الجديد للعولمة، الذي فقدت بموجبه البلدان الكبيرة والصغيرة استقلالها الاقتصادي، مهددًا في حد ذاته. وفي منتصف عام ٢٠٠٨ كتب:
شهد الاقتصاد العالمي انهيار العولمة مرة واحدة بالفعل. فقد انتهى عصر معيار الذهب — بما اتسم به من حرية حركة رأس المال والتجارة المفتوحة — بشكل مفاجئ في عام ١٩١٤، ولم يعُد من الممكن إحياؤه بعد الحرب العالمية الأولى. فهل نحن على وشك أن نشهد انهيارًا اقتصاديًّا عالميًّا مماثلًا؟ إن هذا السؤال ليس خياليًّا. فرغم أن العولمة الاقتصادية مكنت من تحقيق مستويات غير مسبوقة من الرخاء في البلدان المتقدمة، وكانت نعمة لمئات الملايين من العمال الفقراء في الصين وأماكن أخرى في آسيا، فإنها ترتكز على ركائز هشَّة. وعلى النقيض من الأسواق الوطنية، التي تميل إلى أن تحظى بدعم المؤسسات التنظيمية والسياسية المحلية، فإن الأسواق العالمية «ضعيفة الرسوخ». فلا توجد سلطة عالمية لمكافحة الاحتكار، ولا جهة إقراض عالمية كملاذ أخير، ولا جهة تنظيمية عالمية، ولا شبكات أمان عالمية، وبطبيعة الحال، لا توجد ديمقراطية عالمية. وبعبارة أخرى، تعاني الأسواق العالمية من ضعف الحوكمة؛ ومن ثَم من ضعف الشرعية الشعبية.
كان محقًّا في التحذير من المخاطر. التجارة العالمية ليست المقياس الوحيد للعولمة، ولكن في العقد الذي أعقب الأزمة المالية لم تنمُ إلا ببطء، بالكاد تجاوزت ارتفاع إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهو تغيير صارخ مقارنة بفترة ما قبل الأزمة. لم تعُد التجارة العالمية تقود النمو العالمي. قبل انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة في عام ٢٠١٦، وجَّه دونالد ترامب وجهه ضد العولمة، قائلًا: "لقد سعى ساستنا بقوَّة إلى سياسة العولمة؛ نقل وظائفنا وثرواتنا ومصانعنا إلى المكسيك والخارج. جعلت العولمة النخبة المالية التي تتبرَّع للسياسيين أثرياء للغاية.» يمكن اعتبار رئاسته بمثابة هجوم على العولمة. كان سعيدًا بتسمية نفسه «رجل التعريفات الجمركية»، وشنَّ حروبًا تجاريةً ليس فقط على الصين، بل أيضًا على الاتحاد الأوروبي وحلفاء آخرين. لم يقتل ترامب العولمة، التي لا تزال قائمة، لكنه كان جزءًا من تراجعها عن أعلى مستوياتها قبل الأزمة المالية العالمية.
هل الضرائب المرتفعة جيدة أم سيئة بالنسبة لك؟
في عام ٢٠١١، حدث شيء غير عادي. اشتكى وارن بافيت، أحد أغنى الرجال في أمريكا، من أنه يدفع ضرائب أقلَّ مما ينبغي. وكتب في صحيفة «نيويورك تايمز»: «لقد حظيت أنا وأصدقائي بتدليل كافٍ من قِبَل الكونجرس الصديق للمليارديرات. لقد حان الوقت لكي تتعامل حكومتنا بجدية مع التضحية المشتركة.» اشتكى المستثمر الملياردير من أنه بينما كان يدفع معدل ضريبة يبلغ ١٧٫٤٪، فإن الأشخاص الأقل رتبة في مكتبه يدفعون معدلات ضريبة تتراوح بين ٣٣ و٤١٪. بدا الأمر وكأنه عدوى. انضمت ليليان بيتنكورت، التي كانت ذات يوم أغنى امرأة في فرنسا، إلى مجموعة من كبار رجال الأعمال والأثرياء في المطالبة بفرض المزيد من الضرائب عليهم. لقد كتبوا يقولون: «نحن، رؤساء الشركات وقادة الأعمال، ونساء ورجال الأعمال، والمهنيين الماليين أو المواطنين الأثرياء، نطالب بفرض ضريبة استثنائية تستهدف أغنى دافعي الضرائب في فرنسا.» في بريطانيا، كان النقاش مختلفًا إلى حدٍّ ما. فبعد ٢٢ عامًا كان فيها أعلى معدَّل لضريبة الدخل ٤٠ في المائة، تم رفعه إلى ٥٠ في المائة على الأرباح التي تزيد عن ١٥٠ ألف جنيه إسترليني في أبريل ٢٠١٠. كانت هذه الخطوة سياسية جزئيًّا، كوسيلة لمعاقبة المصرفيين الذين تسبَّبوا في وقوع الاقتصاد في الكثير من المتاعب، واقتصادية جزئيًّا لإغلاق العجز القياسي في الميزانية. وقال المنتقدون إن الضريبة لن تزيد من صافي الإيرادات، بل ستؤدي بدلًا من ذلك إلى هجرة أصحاب الدخول المرتفعة. ولم يكن هناك مثيلٌ في بريطانيا لمقال بافيت ورسالة بيتنكورت. وقد أُعلن عن خفض المعدل إلى ٤٥ في المائة في ميزانية مارس ٢٠١٢. ومع ذلك، في عام ٢٠٢٠، اقترحت لجنة ضريبة الثروة، تحت رعاية كلية لندن للاقتصاد وجامعة وارويك، ضريبة ثروة لمدة خمس سنوات لدفع التكلفة المالية للجائحة، وزعمت أنها تحظى بدعم بعض الأثرياء لأفكارها.
ومن أكثر المناقشات ديمومة في الاقتصاد تلك التي تدور حول مستوى الضرائب والإنفاق الحكومي، وما إذا كانت الضرائب المرتفعة تؤدِّي إلى تثبيط النمو الاقتصادي. وقد واجهنا أنصار نظرية العرض الأمريكيين، والرأي القائل بأن الضرائب المرتفعة، بعد نقطة معينة، لم تلحق الضرر الاقتصادي فحسب، بل كانت أيضًا غير منتجة من حيث غرضها الرئيسي؛ زيادة الإيرادات. كان من المعتقدات الراسخة عندما كان المحافظون في السلطة في ثمانينيات القرن العشرين، أن خفض الضرائب على الدخل من شأنه أن يعزز الحوافز (خاصة للأثرياء)، ويؤدي إلى نمو مستدام أقوى، لأسباب تتعلق بجانب العرض. وفي التاريخ الحديث نسبيًّا في بريطانيا، لم تدفع الغالبية العظمى من العاملين أي ضريبة دخل. والآن تفعل الأغلبية ذلك. ففي عام ٢٠٢١، عُطلت سياسة محافظة تهدف إلى رفع النقطة التي يبدأ عندها الناس في دفع الضرائب (أو ما يُعرف بالمخصص الشخصي لضريبة الدخل)، الذي استمر من عام ٢٠١٠ إلى عام ٢٠٢٠، وقد حدث التعطيل عندما تم تجميد المخصَّص النقدي من عام ٢٠٢٢ إلى عام ٢٠٢٦؛ ومن ثَم تخفيضه بالقيمة الحقيقية، الأمر الذي أدَّى إلى خضوع المزيد من الناس للضرائب.
ومع ذلك، فإن الارتفاع المستمرَّ في الإنفاق الحكومي ومن ثَم الضرائب، ارتبط بمزيد من الرخاء وليس بتراجع في مستوياته. أين وقع الضرر، عندما ارتفع بوجه عام الدخل الحقيقي المتاح للتصرف (بعد الأخذ في الاعتبار التضخم والضرائب)، على الرغم من ارتفاع حصة الحكومة في إجمالي الناتج المحلي؟ يصبح اللغز الأفضل عندما ننظر إلى المقارنات بين الدول. تبلغ مستويات الضرائب في أستراليا واليابان وأمريكا حوالي ثلث إجمالي الناتج المحلي. ولكن في وقت كتابة هذه السطور، كانت اليابان قد عانت من صراع دام ثلاثة عقود منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، وهو أداء أسوأ كثيرًا من أداء أمريكا أو أستراليا.
والإجابة الشائعة في العديد من المناقشات في مجال الاقتصاد هي أن عدة أشياء تحدث في وقت واحد. نعم، لقد ارتفع الرخاء بقوة خلال فترة زاد فيها حجم تدخل الحكومة. ولكن ربما كان من الممكن أن يرتفع الرخاء إلى حد أكبر كثيرًا لو ظلَّت الضرائب والإنفاق العام منخفضَين، كما أظهرت بعض الدراسات. والنقطة الثانية هي الاعتراف بأن حجم تدخل الحكومة ليس العامل الوحيد الذي يؤثر في أي وقت. فإذا ما أخذنا المقارنة بين اليابان وأمريكا وأستراليا، على سبيل المثال، فإن إحدى الحجج التي قد تُساق إلى القول إن الميزة الضريبية المنخفضة التي تتمتَّع بها اليابان، قد غطَّت عليها عوامل أخرى، وأبرزها التأثيرات المطولة المترتبة على النهاية المفاجئة لطفرة المضاربة الضخمة (اقتصاد «الفقاعة») وشيخوخة السكان. وليس هذا فحسب، بل إن استجابة الحكومة اليابانية للصعوبات التي واجهتها في تسعينيَّات القرن العشرين كانت زيادة الإنفاق العام بشكلٍ حاد، وهو ما كان يزيد من تفاقم المشكلة. لقد ارتفعت الديون الحكومية في اليابان إلى أكثر من ٢٥٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، بعد ٣٠ عامًا من النمو البطيء. ويزعم المفسِّرون المعاصرون لديفيد ريكاردو، أحد ثلاثي خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين الذين أوردناهم هنا، أن الديون بهذا الحجم تشير بوضوح إلى الحاجة إلى فرض ضرائب أعلى في المستقبل. وفيما يُعرف ﺑ «التكافؤ الريكاردي»، فإن احتمالات زيادة الضرائب في المستقبل من شأنها أن تحدَّ من النمو والاستهلاك الآن.
إن جذور مسألة الضرائب والإنفاق تكمن في شعار هذا الكتاب، وهو أنه لا يوجد شيء اسمه غداء مجاني. فهناك تكلفة لرفع الضرائب؛ لأن هذا يعني، في حالة الأفراد، أنهم سوف يميلون إلى أن يكون لديهم حافزٌ أقل للعمل ومال أقل للإنفاق. وفي مقابل هذا، يتعيَّن علينا أن نضع فوائد الإنفاق الحكومي. فالحكومة التي تُنفق بحكمة وكفاءة على الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخرى، بدعم كامل من دافعي الضرائب، قد تفعل ذلك بطريقة لا تعوض التكاليف الاقتصادية المتكبدة في الضرائب فحسب، بل تتجاوزها أحيانًا أيضًا. وبعبارة أخرى، هناك فائدة صافية من رفع الضرائب لزيادة الإنفاق الحكومي. وبعبارة أخرى، يمكن للدول التي تنفق أموال دافعي الضرائب بكفاءة أن تزدهر بضرائب أعلى من غيرها. إن المجتمعات المستقرة في الدول الاسكندنافية، حيث يعادل الإنفاق الحكومي نحو ٥٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، تبدو أمثلة على ذلك. ومن المناسب أن يكون عالم الاقتصاد السويدي كنوت ويكسل هو الذي قدم لنا مفهوم «توازن ويكسل»، وهو مستوى الضرائب والإنفاق الحكومي الذي يعكس بشكل وثيق تفضيلات المجتمع.
لا توجد إجابات سهلة. ففي عام ٢٠٠٩، نجد أن كتابًا من تأليف ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت بعنوان «مستوى الروح: لماذا تكاد المجتمعات الأكثر مساواة تؤدي دائمًا بشكل أفضل» زعم أنه أثبت أن المجتمعات الأكثر مساواة تؤدي بشكل أفضل، بشكل ملحوظ في مجموعة من المقاييس الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك الصحة البدنية، والصحة العقلية، وإدمان المخدرات، والتعليم، والسجون، والسمنة، والحراك الاجتماعي، والثقة، والحياة المجتمعية، والعنف، والحمل بين المراهقين، ورعاية الطفل. ومع ذلك، تعرض عملهما لانتقادات واسعة النطاق بسبب أساليبه الإحصائية، وتناقضه مع دراسات أخرى. إن الأمر قد يكون مسألة اختيار ومفاضلة بحسب الظروف. فهناك بعض المجتمعات التي تتمتَّع بطبيعة الحال بقدر أعظم من المساواة والنجاح الطبيعي. وليس من الصعب أن نتصوَّر العديد من الظروف التي قد تؤدِّي فيها المحاولات الرامية إلى فرض المساواة من خلال الضرائب، إلى خسارة إجمالية للرفاهية في المجتمع.
وكل هذا لا يزال يثير قلق بعض خبراء الاقتصاد. ولا شك أن هناك قاعدة ما يمكن وضعها بشأن الحجم الأمثل للحكومة، ومستوى الضرائب، حتى ولو كانت هناك دائمًا استثناءات لهذه القاعدة. وبشكل عام، تشير الدراسات إلى أن الإنفاق الحكومي يكون فعالًا للغاية، عندما يبدأ من مستوًى منخفض، وعلى سبيل المثال، عندما يقدم التعليم الشامل والرعاية الصحية وشبكة أمان التقاعد. وهذه الأمور، وخاصة التعليم والصحة الأفضل، تساهم في النمو الاقتصادي. وقد خلصت دراسة مهمة أجراها فيتو تانزي ولودجر شوكنخت، بعنوان «الإنفاق العام في القرن العشرين: منظور عالمي»، فضلًا عن عمل روبرت بارو، إلى أن المكاسب بين عام ١٨٧٠، عندما بلغ متوسط الإنفاق العام في البلدان الصناعية ١١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وعام ١٩٦٠، عندما اقترب في ذلك الوقت من ٣٠ في المائة، كانت تستحق أن نحقِّقها لهذه الأسباب. ولكن بعد ذلك، فإن أي مكاسب موضع تساؤل. كتب تانزي وشوكنخت: «لقد زعمنا أن معظم المكاسب الاجتماعية والاقتصادية المهمة يمكن تحقيقها بمستوًى أقل بشكل كبير من الإنفاق العام، مما هو سائد اليوم. ربما لا يلزم أن يكون مستوى الإنفاق العام أعلى كثيرًا من ٣٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، لتحقيق أغلب الأهداف الاجتماعية والاقتصادية المهمة التي تبرر التدخلات الحكومية. ولكن هذا يتطلَّب إصلاحات جذرية، وسوقًا خاصة تعمل بشكل جيد، ودورًا تنظيميًّا فعالًا للحكومة.» وفي الواقع، فإن قِلة من الاقتصادات المتقدمة لديها إنفاق وضرائب منخفضة تصل إلى ٣٠٪ من إجمالي الناتج المحلي.
هل كان اليورو فكرة جيدة؟
مرَّت فترة كانت فيها الإجابة عن هذا السؤال متوازنة للغاية، حتى في بريطانيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يتوقع أن تصوِّت المملكة المتحدة، فضلًا عن قرارها بعدم الانضمام إلى اليورو، لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعندما نُشر هذا الكتاب لأول مرة، كانت قضية عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي قضية ساخنة. لقد وضعت حكومة حزب العمال برئاسة توني بلير خمسة اختبارات اقتصادية للانضمام؛ ما إذا كان الانضمام مفيدًا للوظائف والاستثمار، وما إذا كانت بريطانيا قد تقاربت مع أوروبا بالقدر الكافي، فضلًا عن كونها مرنة بما يكفي، لإنجاح العضوية. وخلص التقييم الأولي، في خريف عام ١٩٩٧، إلى أن الوقت لم يكن مناسبًا لبريطانيا كي تكون ضمن الموجة الأولى من أعضاء الاتحاد الأوروبي. وخلص التقييم الثاني، في عام ٢٠٠٣، إلى أن بريطانيا ما زالت غير مستعدة للانضمام، ولكن التقدم كان جاريًا. إن الدخول سيكون جيدًا لمجال الخدمات المالية البريطانية، كما أشار التقييم، ولكن الاختبارات الأخرى لم يتم استيفاؤها. ومع ذلك، فقد أبقى على أمل الدخول في وقت لاحق. وفيما بعد، ادَّعى جوردون براون، وزير الخزانة في ذلك الوقت، أنه كان له الفضل في إبقاء بريطانيا خارج العملة الموحدة.
لماذا الفضل؟ لأنه في أعقاب الأزمة المالية العالمية، أصبحت منطقة اليورو، لفترة من الوقت على الأقل، منطقة من عدم الاستقرار المالي الشديد. في مايو ٢٠١٠، كان على الحكومات الأوروبية الأخرى، بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي، أن تضع حزمة إنقاذ لليونان. ولقد تلت ذلك عمليات إنقاذ أخرى في الأشهر اللاحقة، لأيرلندا والبرتغال واليونان مرة أخرى، وللنظام المصرفي في إسبانيا في يونيو ٢٠١٢، حيث شككت الأسواق المالية في قدرة اليورو (الذي ظهر إلى الوجود في بداية عام ١٩٩٩) على البقاء. وكانت المشكلة جوهرية بالنسبة للعملة الموحدة. فقد تباعدت البلدان الأعضاء — التي تعمل بموجب سعر الفائدة الذي يناسب الجميع للاتحاد النقدي — في أدائها الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص في إبقاء ماليتها العامة تحت السيطرة. ولكن لم تكن هناك آلية رسمية داخل اليورو للتعامل مع المشكلة.
كانت تلك فترة إشكالية بالنسبة للعملة الموحدة، ولكن ماذا كانت الحال بالنسبة لليورو؟ دعونا ننظر إلى الحجج المؤيدة والمعارضة، وتحليل التكاليف والفوائد، بدءًا بالفوائد:
-
تعني عضوية اليورو اليقين والاستقرار للشركات، وخاصة المصدِّرين. كان من الممكن للشركات أن تخطِّط لاستراتيجيات طويلة الأجل لأسواق التصدير على أساس اليقين النقدي، وأن تستثمر وفقًا لذلك.
-
كان من المفترض أن يؤدي ذلك إلى زيادة التجارة. بدأت السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، وحرية حركة السلع والخدمات ورأس المال والأشخاص، رسميًّا في نهاية عام ١٩٩٢، على الرغم من أنها لم تكتمل بعدُ في بعض هذه المجالات. إحدى الحجج مفادها أن وجود عملات مختلفة يشكِّل في حد ذاته حاجزًا كبيرًا أمام التجارة، وحتى تتبنَّاه جميع الدول الأعضاء السبع والعشرين (في وقت كتابة هذا التقرير) في الاتحاد الأوروبي، لن تتمكَّن أوروبا أبدًا من أن تكون سوقًا واحدة حقيقية، على نطاق أمريكا على سبيل المثال. بعبارة أخرى، هناك حاجة إلى عملة واحدة لسوق واحدة.
-
إنها تخفض، وفي كثيرٍ من الحالات تزيل، تكاليف المعاملات. الجميع يعرفون القصة، وربما تكون ملفقة، عن شخص يبدأ في دوفر بمبلغ ١٠٠ جنيه إسترليني، ويحوِّلها إلى العملة المحلية في كل مرة يزور فيها دولة مختلفة من دول الاتحاد الأوروبي (هذه قصة ما قبل اليورو). وبحلول الوقت الذي يعود فيه، يكون المبلغ قد نفد منه، ليس لأنه أنفق، بل لأنه كان يتعين عليه في كل مرة دفع عمولة مقابل تحويل النقود. وكما قلت، هذه قصة ما قبل اليورو. وهذه التكاليف ليست مرتفعة — فقد حسبت المفوضية الأوروبية أن إزالتها تساوي ٠٫٣ إلى ٠٫٤ في المائة، من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي سنويًّا — ولكنها ليست ضئيلة أيضًا.
-
كما يحقق اليورو شفافية الأسعار. فعندما يتم تسعير كل شيء باليورو، يصبح من الأسهل مقارنة الأسعار، ليس فقط بين الشركات المختلفة، بل بين البلدان المختلفة. وقد تبنَّت بعض الشركات المتعدِّدة الجنسيات الكبرى، وليس كلها، تسعيرًا متطابقًا في مختلف أنحاء منطقة اليورو.
ولكن هناك بعض المزايا التي قد يفرضها اليورو على الدول الأخرى. صحيح أن اليورو من شأنه أن يزيل عدم استقرار العملة، ولكن داخل أوروبا فقط. غير أنه لن يفعل أي شيء بشأن عدم الاستقرار مقارنة بالدولار على سبيل المثال. والسوق الموحدة، كما أشرنا، تحتاج إلى أكثر من مجرد عملة واحدة لإكمالها. وتكاليف المعاملات ضئيلة، ويمكن القول إنها تتضاءل في عصر النقود الإلكترونية. أما فيما يتصل بشفافية الأسعار، فما دامت هناك فروق ضريبية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وما دامت فروق المنتجات قائمة (وهو أمر يحرص المصنِّعون على الحفاظ عليه)، فقد لا يحدث ذلك.
ولكن هناك حجَّة أكبر ضد اليورو، وهي تتعلَّق بمشكلة «المقاس الواحد يناسب الجميع». إن الدول الأعضاء في منطقة اليورو لا بد أن تتبنَّى سعر الصرف نفسه. والعملة الواحدة تعني ذلك بالضبط. ولم يعد بوسع فرنسا أن تغير سعر صرف عملتها في مقابل ألمانيا، أو أي من الدول الأعضاء الأخرى في منطقة اليورو. فاليورو هو اليورو، العملة التي يتشاركها الناس من برلين إلى برشلونة، ومن لشبونة إلى لايبزيج. ولكنها لا بد أن تتعايش أيضًا مع سعر الفائدة نفسه الذي يحدِّده البنك المركزي الأوروبي. ومن المسلَّم به أن كل دولة لديها ممثل مصوت في مجلس تحديد أسعار الفائدة في البنك المركزي الأوروبي، ولكن كل دولة تقبل ضمنًا أيضًا أنها تستطيع أن تتعايش مع سعر الفائدة الذي تحدِّده دول أخرى. إن أسهل أنواع الاتحاد النقدي هو الاتحاد بين بلدَين متماثلَين، ولكلٍّ منهما صناعات متماثلة وقابلية مماثلة للتعرُّض للصدمات الاقتصادية. فإذا ارتفعت أسعار النفط، أو انخفضت أسعار الصلب، فإنهما يتأثران بنفس الطريقة. ولا يشكل تقاسم العملة وسعر الفائدة أي مخاطر، ما داما قد بدآ بنفس الأداء الاقتصادي تقريبًا. ومن الواضح أن هناك مشكلة إذا كان معدل التضخم في إحدى الدولتَين صفرًا، بينما بلغ معدَّل التضخُّم في الأخرى ١٠٠ بالمائة. ولهذا السبب، عندما اتُّخذ القرار بالمضي قدمًا في اليورو في ماستريخت في عام ١٩٩١، تم وضع شروط أو معايير، تتطلب من البلدان الراغبة في المشاركة أن يكون لديها معدلات تضخم وأسعار فائدة طويلة الأجل، وعجز في الميزانية وديون متماثلة إلى حد كبير. وينبغي أن يقال إن المعايير لم يتم مراعاتها حرفيًّا، وخاصة في حالة عجز الميزانية والديون، مما أدى إلى بعض المشكلات اللاحقة. ولكن لنفترض أن المشاركين في منطقة اليورو مختلفون للغاية، على عكس بلدَينا المتشابهَين، وهو ما يقترب من الصورة الواقعية. فأعضاء الاتحاد الأوروبي يختلفون في الحجم، وفي البنية الصناعية، وفي الاعتماد على النفط، وفي نسبة إجمالي الناتج المحلي التي يصدرونها إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي، وما إلى ذلك. وباعتبارها دولًا فردية، ولديها بنوكها المركزية الخاصة، فإنها قد تعوض ذلك عندما تبدأ مثل هذه الاختلافات في الظهور من خلال تعديل أسعار الفائدة. ولكن في «أرض اليورو»، هذا غير ممكن. ومن ثَم، فإن جزءًا قياسيًّا من علم الاقتصاد يتمثَّل في نظرية مناطق العملة المثلى، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصادي روبرت مونديل، الحائز على جائزة نوبل وهو من أصل كندي. لقد كان هذا هو الأساس لكتابي الصادر عام ١٩٩٩ تحت عنوان «هل ستنجح أوروبا؟» والذي أثار شكوكًا جدية حول مدى فعالية اليورو.
إن منطقة العملة المثالية تتطلَّب أن يكون جميع المشاركين فيها مترابطين بشكل وثيق من خلال التجارة، وأن يكونوا متشابهين في البنية. ومن غير المرجح أن تنجح منطقة العملة الواحدة التي تتألف من اقتصادَين، أحدهما منتجه الوحيد القمح، والآخر السيارات. ذلك أن هبوط أسعار القمح العالمية من شأنه أن يضر بأحدهما بشدة بينما لا يتأثر الآخر. وإذا نظرنا إلى الأمر من منظور مختلف، فإن البلدان لا بد أن تتمتع بالقدرة على الاستجابة للصدمات الاقتصادية، ومن الأمثلة على ذلك الارتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية. وهناك ثلاثة شروط لمنطقة العملة المثالية. الأول هو «التنقل الجغرافي» للعمالة. فإذا كان الناس عاطلين عن العمل في جزءٍ من منطقة اليورو، فلا بد أن يكونوا على استعداد للانتقال إلى حيث توجد الوظائف. والمتطلب الثاني، إما بالتزامن مع التنقل الجغرافي أو بدلًا منه، هو مرونة الأجور. ولنفترض أن هناك صدمةً تهدِّد بخسارة وظائف كبيرة في منطقة واحدة. فلا بد أن تكون هذه المنطقة مستعدةً لقبول خفض الأجور لإقناع صاحب العمل بعدم الانسحاب. ويتلخص الشرط الثالث في وجود ميزانية مركزية كبيرة بما يكفي، بحيث يمكن استخدام السياسة المالية لتقديم المساعدة، حيث لا تستطيع السياسة النقدية — التي تم تحديدها للمنطقة بأكملها — أن تفعل ذلك. وفي منطقة العملة الموحَّدة (الدولار) في أمريكا، تعمل الميزانية الفيدرالية على وجه التحديد بهذه الطريقة. فعندما يحدث تباطؤ في كاليفورنيا، تستطيع واشنطن أن تقدم المساعدة المباشرة، لا سيما من خلال مدفوعات المساعدات الأكبر. وفي الوقت نفسه، تؤدِّي ظاهرة يطلق عليها خبراء الاقتصاد اسم «المثبتات التلقائية» دورها. فخلال تباطُئِها، تدفع كاليفورنيا ضرائب أقل إلى الميزانية الفيدرالية، الأمر الذي يساعد الولاية على تجاوز صعوباتها.
فهل كانت أوروبا منطقة عملة مثالية؟ قبل إطلاق اليورو، كان بعض خبراء الاقتصاد يعتقدون أن مجموعة صغيرة من البلدان في قلب أوروبا — فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا — تناسب هذا الوصف. لم يصدق سوى قِلة من الناس أن هذا صحيح بالنسبة للدول الإحدى عشرة التي نجحت في الوصول إلى بوابة البداية (انضمت النمسا وفنلندا وأيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا أيضًا)، أو الدول السبع عشرة التي تتألف منها «منطقة اليورو» في وقت كتابة هذا المقال. وحتى أصغر هذه المجموعات، التي تفتقر إلى القدر الكافي من التنقل الجغرافي للعمالة ومرونة الأجور، لم تستوفِ متطلَّبات منطقة العملة المثلى. والاتحاد الأوروبي ككل، بميزانية مركزية ضئيلة تزيد قليلًا عن ١٪ من إجمالي الناتج المحلي، أقل بكثير من مستوى ٢٥٪ من إجمالي الناتج المحلي، الذي يُعتَقَد عمومًا أنه مطلوب لتوفير التعويض المناسب للسياسة النقدية.
لقد أصبح مونديل، الذي تُوفِّي في عام ٢٠٢١، من دعاة اليورو، حتى إنه وُصِف بأنه «رائد فكرة اليورو»، وذلك لأنه قرر، على نحو مثير للدهشة، أنه لم تكن هناك قط مناطق عملة مثالية في الحياة الواقعية، ولكن الأمر يستحق المضي قدمًا في إنشاء اتحادات نقدية على أية حال. ولعل وجهة نظره كانت صائبة. ولكن على الرغم من عيوبه وصعوباته، وخاصة في أعقاب الأزمة المالية العالمية، فقد نجا اليورو. وكان خروج بعض البلدان، أو حتى تفككها الكامل، متوقعًا على نطاق واسع، ولكن هذا لم يحدث قط. وقد أثبت أنه أكثر ديمومة مما توقَّع منتقدوه.
هل يستطيع علم الاقتصاد أن يخبرنا بما يجعلنا سعداء؟
قد يبدو علم الاقتصاد والسعادة وكأنهما ثنائي غريب، وخاصة عندما كان هذا العلم معروفًا على فترات متقطعة منذ القرن التاسع عشر، باعتباره علمًا كئيبًا، وعندما لا يتعين عليك أن تبحث كثيرًا لتجد اقتصاديين كئيبين. ولكن علم اقتصاد السعادة يشكل أحد جوانب نمو هذا الموضوع. فقد كتب برونو فراي وألويس ستوتزر في كتابهما «السعادة والاقتصاد»: «إن مدى سعادة الناس أو تعاستهم يشكل صفة أساسية للاقتصاد والمجتمع. وحالة الاقتصاد تؤثر بقوة في سعادة الناس.» لقد تأثر اللورد (ريتشارد) لايارد، الخبير الاقتصادي في كلية لندن للاقتصاد وحزب العمال، بأبحاثه الخاصة حول السعادة إلى الحد الذي دفعه إلى تأسيس حركة «العمل من أجل السعادة». وقد زعم قائلًا: «على مدى ٥٠ عامًا، كنا نهدف بلا هوادة إلى زيادة الدخل. ولكن على الرغم من أننا أصبحنا أكثر ثراءً، فإننا لسنا أكثر سعادة مما كنا عليه قبل خمسة عقود. وفي الوقت نفسه، شهدنا زيادة في القضايا الاجتماعية الأوسع نطاقًا، بما في ذلك الارتفاع المقلق في القلق والاكتئاب بين الشباب. لقد حان الوقت لتغيير إيجابي فيما نعنيه بالتقدم.»
كيف تقيس شيئًا ذاتيًّا مثل السعادة؟ بشكل أساسي من خلال الاستطلاعات التي تسأل الناس عن مدى رضاهم عن الحياة أو عن وظائفهم. إن إحدى الصعوبات التي تواجهنا بالطبع هي أن توقعات الناس تتغير. فالمستهلكون يتوقعون تحسين المنتجات، والموظفون يتوقعون ظروف عمل أفضل. ومن الصعب مقارنة موقفَين مختلفَين للغاية. فالعامل في مصنع في العصر الفيكتوري الذي انتقل إلى محطة إنتاجية صناعية حديثة، قد يعتقد أنه بلغ أقصى درجات السعادة. وهذا ينطبق أيضًا على سائق سيارة موديل تي الذي تسلم مفاتيح سيارة حديثة. ولكن أغلب التحسينات تدريجية. وتعتمد مسألة ما إذا كان الناس سعداء أم لا، على ما إذا كانت هذه التحسينات تتجاوز أو تواكب أو تتخلَّف عن ارتفاع التوقعات. وهذا ينطبق أيضًا على مجالات تقديم الخدمات العامة، مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية، كما اكتشفت الحكومات البريطانية المتعاقبة. وهذا يدعم ويتحدى في الوقت نفسه حجة العمل من أجل السعادة. فهو يدعمها بالاعتراف بأن التحسينات المادية لا تجعلنا أكثر سعادة دائمًا، ويتحداها بالقول إنه لولا هذه التحسينات المادية لكان من الممكن أن نصبح أقل سعادة كثيرًا. وبعبارة أخرى، ما لم تتغير التوقعات بشكل كبير، فسوف تكون هناك حاجةٌ إلى مستويات معيشية أعلى للحفاظ على مستوًى ثابت من السعادة.
إذن، ما الذي نعرفه عن السعادة؟ لقد بحث أندرو أوزوالد من جامعة وارويك، مع عدد من الباحثين المشاركين، بلا كلل في هذه القضية على مدى سنوات عديدة. ومن المثير للاهتمام أنه وجد أن أسعد العمال في بريطانيا هم أولئك الذين لا يحملون مؤهلات تعليمية (ولديهم آمال وظيفية أقل)، في حين أن أقلهم رضًا هم أولئك الذين يحملون شهادة جامعية. وقد يشير هذا إلى أن العديد من الأشخاص مؤهلون أكثر من اللازم لوظائفهم، وخاصة أولئك الذين يحملون شهادات جامعية. ومن المثير للاهتمام أن الأشخاص الحاصلين على درجات جامعية عُليا أكثر سعادة في العمل من الخريجين. والأشخاص العاملون في المنظمات غير الربحية يتمتعون بأكبر قدر من الرضا الوظيفي، ربما لأنهم يشعرون بأنهم يقومون بأكبر قدر من الخير للمجتمع. ومع تقدم العمر، فإن أسعد العمال هم أولئك الذين في الستينيات من العمر، مع اقتراب التقاعد؛ والأقل سعادة هم أولئك الذين في العشرينيات من العمر. كما قام أوزوالد، بالاشتراك مع ديفيد بلانشفلاور من كلية دارتموث في أمريكا، بمقارنة الرضا الوظيفي عبر الدول. ووجدا في دراسة استقصائية أُجرِيَت على ٢٧ دولة مختلفة، أن بريطانيا جاءت في المرتبة السابعة عشرة من حيث رضا العمال عن وضعهم في العمل. وتصدَّرت الدنمارك الترتيب، في حين كانت مستويات الرضا الوظيفي في قبرص وإسرائيل وهولندا والفلبين وإسبانيا وسويسرا والولايات المتحدة وحتى روسيا أعلى من بريطانيا.
هل المال يشتري لك السعادة؟ اختبر أوزوالد وزميله الباحث جوناثان جاردنر هذا الأمر من خلال النظر في الصحة النفسية والسعادة لعينة تم اختيارها عشوائيًّا من ٩٠٠٠ شخص. وكان بعض أفراد العينة محظوظين بما يكفي للحصول على مكاسب مالية غير متوقَّعة، مثل الفوز باليانصيب أو رهانات كرة القدم، أو ميراث غير متوقع. وعلى أساس هذه المعلومات، استطاعا حساب تأثير المال على السعادة. كانت هبة مفاجئة قدرها ٥٠ ألف جنيه إسترليني، أو نحو ٧٠ ألف دولار، كافية لمنح الناس دفعة كبيرة من السعادة. ولكن كم من المال كان مطلوبًا لإسعاد شخص بائس حقًّا؟ وفقًا للدراسة، كان المطلوب هبة مفاجئة قدرها مليون جنيه إسترليني (نحو ١٫٤ مليون دولار) للقيام بذلك، «لنقل شخص ما من أسفل سلم التوزيع التكراري للسعادة إلى مقربة من القمة.» كما درس أوزوالد وبلانشفلاور آثار الزواج. وبصرف النظر عن الأشخاص المتزوجين الذين يميلون إلى أن يكونوا أكثر ثراءً ويعيشون لفترة أطول، فقد حسبا أن الزواج السعيد يساوي ٦٥٠٠٠ جنيه إسترليني (أكثر بقليل من ٩٠٠٠٠ دولار) سنويًّا.
هل تدوم السعادة التي يتم شراؤها بالمال الإضافي؟ الأرجح لا. هناك حاجة إلى مزيد من الدراسة، ولكن يبدو بديهيًّا أن تأثيرات المكاسب غير المتوقعة تتلاشى بمرور الوقت. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون تأثير المال نسبيًّا. يمكن لنفس القدر من الثروة أن يجعلك تشعر بأنك غني مثل كرويسوس في معظم أنحاء العالم، ولكنك فقير نسبيًّا في مونت كارلو أو جزر الباهاما. لقد وجد ثلاثة من خبراء الاقتصاد السويديين، وهم أولوف يوهانسون ستينمان، وفريدريك كارلسون، ودينكي داروفالا، أن سعادة الناس لا تعتمد فقط على الدخل المطلق، بل تعتمد أيضًا على وضعهم النسبي على سلم الدخل. وليس هذا فحسب، بل عندما تم استطلاع آراء عينة من الناس، باستخدام سلسلة من الأسئلة القائمة على السيناريوهات — طُلِب منهم الاختيار بين مجتمعَين خياليَّين في المستقبل — أعرب معظمهم عن تفضيلهم لتوزيع أكثر عدالة للدخل، ويرجع هذا إلى حدٍّ كبير إلى الخوف من أن ينتهي بهم الأمر في قاع السلم في مجتمع غير متكافئ. وهناك العديد من العوامل المتضاربة التي تدخل في المعادلة. فالناس تنافسيون، مدفوعون برغبة في «مواكبة جيرانهم»، وأذواقهم ورغباتهم مشروطة بما يفعله الآخرون. وكما قال كارل ماركس: «قد يكون المنزل كبيرًا أو صغيرًا؛ ما دامت المنازل المجاورة صغيرة أيضًا، فإنه يلبي جميع المتطلَّبات الاجتماعية للسكن. ولكن دع القصر ينشأ بجوار البيت الصغير، وسيتقلَّص البيت الصغير إلى كوخ.»
هل نحن في وضع أفضل؟
اقتصاد السعادة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسؤال آخر، وهو التقدم الاقتصادي. عندما كان جون ميجور رئيسًا لوزراء بريطانيا في تسعينيات القرن العشرين، قدَّم ما بدا للكثيرين وكأنه وعد متهور؛ وهو مضاعفة مستويات المعيشة على مدى ٢٥ عامًا. في الواقع، كان ينبغي أن يكون تعهدًا آمنًا إلى حد ما. وبحلول الوقت الذي يتمكن فيه أي شخص من التحقق، سيكون ميجور قد رحل عن السياسة منذ فترة طويلة (سرعان ما رحل عنها، على أي حال). وعلاوة على ذلك، فإن قوة الأرقام المركبة شيء رائع. إن النمو في نصيب الفرد من الدخل الحقيقي بنحو يزيد قليلًا عن ٢٫٥ في المائة سنويًّا، من الوارد أن ينتج عنه مضاعفة مستويات المعيشة كل ٢٥ عامًا، تمامًا كما أن النمو بنسبة ٤ في المائة سنويًّا من شأنه أن ينتج ذلك في غضون ١٥ عامًا. الواقع أن ما قاله ميجور كان يردد صدى تعهد سابق بارز من جانب عضو بارز في حزب المحافظين، وهو آر إيه «راب» باتلر، الذي قدم تعهدًا مماثلًا في عام ١٩٥٤. ويبدو أن كلًّا منهما كان يبالغ إلى حدٍّ ما. ففي القرن العشرين ككل، ارتفع الدخل الحقيقي للفرد في بريطانيا بنحو ٣٠٠٪؛ ومن ثَم، في نهاية القرن، كان أربعة أمثال المستوى الذي بدأ عنده؛ حيث تضاعف كل ٥٠ عامًا بدلًا من كل ٢٥ عامًا. ولكن الجانب الأعظم من هذا الارتفاع حدث في النصف الثاني من القرن. وحتى في ذلك الوقت، تضاعف الدخل الحقيقي للفرد ثلاث مرات على مدى ٥٠ عامًا بدلًا من أربعة أمثاله، كما كان التعهد «بالتضاعف على مدى ٢٥ عامًا». وكان النقاش الكبير بعد الأزمة المالية العالمية، يدور حول ما إذا كانت بريطانيا وغيرها من الاقتصادات المتقدمة تدخل فترة أشبه بالنصف الأول من القرن العشرين، مع زيادات خافتة للغاية في الدخل الحقيقي؛ ومن ثَم مستويات المعيشة. بالنسبة للأشخاص الذين نشئوا في عصر الرخاء المتزايد بقوة، فإن هذا سيكون بمثابة تكيُّف صعب.
يبدو أن الإجابة كانت نعم. فقد أدَّت الأزمة المالية إلى فترة من ركود الإنتاجية — التي تقاس بالإنتاج لكل ساعة عمل — وانخفاض ملموس في مستويات المعيشة. وارتفعت مستويات الدخل الحقيقية المتاحة للأسر بمعدل ١٫٧ في المائة سنويًّا في الفترة ٢٠١٠–٢٠١٩، مقارنة بنحو ٣٫١ في المائة خلال الفترة التي سبقت الأزمة المالية، من عام ٢٠٠٠ إلى عام ٢٠٠٧، و٢٫٨ في المائة في التسعينيات، و٣ في المائة في الثمانينيات، و٣٫٢ في المائة حتى خلال فترة السبعينيات المضطربة. وبمعدل زيادة قدره ١٫٧ في المائة، فإن الدخول الحقيقية للأسر سوف تستغرق أكثر من ٤٠ عامًا لتتضاعف. ولكن حتى النمو بنسبة ١٫٧٪ لم يكن ليرقى إلى مستوى تجربة أغلب الناس، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ وذلك لأنه كان مدعومًا بارتفاع عدد السكان. وارتفعت الدخول الحقيقية للفرد بوتيرة أكثر هدوءًا.
وقد يتساءل البعض عن تحديد هدف لمستويات المعيشة، من حيث مضاعفة إجمالي الناتج المحلي أو الدخل الحقيقي. فهل هذا يعادل مضاعفة مستويات المعيشة؟ قد يزعم كثيرون أنه في حين أنهم في حال أفضل ماديًّا، فإن الجانب السلبي للحياة الحديثة — الجريمة، والازدحام، والإجهاد، وحتى تراجع المعايير الأخلاقية — يعني أن إجمالي الناتج المحلي أو الدخل الحقيقي يمثِّل مقاييس ضعيفة للتقدم. ويفضِّل بعض خبراء الاقتصاد مقاييس أخرى تحاول النظر في عوامل أخرى. فمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، الذي يعد مفيدًا جدًّا في قياس التقدم في البلدان الأكثر فقرًا، يأخذ في الاعتبار عوامل مثل متوسط العمر المتوقع وتوفير التعليم. ويفضل بعض الناس مقياسًا يُعرف بمؤشر الرفاه الاقتصادي المستدام، ويزعمون أنه يُظهِر انخفاضًا في مستويات المعيشة في بريطانيا منذ سبعينيات القرن العشرين. ولكن البروفيسور نيك كرافتس من جامعة وارويك، وهو خبير بارز في النمو الطويل الأجل واتجاهات الدخل، تحدَّى ذلك بقوة. فقد أشارت أبحاثه إلى أن إضافة عوامل أخرى، وأبرزها ارتفاع متوسط العمر المتوقع، تثبت بوضوح أن مستويات المعيشة كانت ترتفع، وبمعدلات أكبر مما تشير إليه بيانات الدخل الحقيقي الخام.
والحقيقة هي أنه في ظل غياب الركود، الذي يميل إلى أن يكون قصير الأجل، نصبح أفضل حالًا كل عام. وارتبط اسم هارولد ماكميلان، أحد أسلاف ميجور من المحافظين، بعبارة «لم تكن حياتكم بهذه الروعة من قبل»، عندما قال في عام ١٩٥٧: «دعونا نكُن صريحين بشأن هذا الأمر: لم تكن حياة أغلب شعبنا بهذه الروعة من قبل.» والواقع أن قِلة من رؤساء الوزراء كانوا سيعجزون عن التباهي بذلك. وعلى هذا فإن مستويات المعيشة تميل إلى التحسن، ولكن بأي معدل؟ والإجابة عن هذا السؤال، بكل وضوح، هي أن الأمر يتوقف على الظروف.
ما الذي يسبب النمو الاقتصادي؟
تنمو الاقتصادات، وكذلك مستويات المعيشة عمومًا، ولكن لماذا؟ لقد أعطانا آدم سميث طريقًا مهمًّا واحدًا؛ فالمكاسب من التجارة وتقسيم العمل يعنيان أن الإنتاجية، الناتج لكل عامل، تزداد من عام إلى آخر. أعطانا كارل ماركس دليلًا آخر، في ملاحظته أن ما يهتمُّ به جميع الرأسماليين هو الاستثمار، وتجميع رأس المال. كما أن ارتفاع كمية معدَّات رأس المال لكل عامل يميل أيضًا إلى الارتباط بارتفاع الإنتاج لكل عامل. نظرية النمو هي فرع كامل من الاقتصاد في حد ذاتها. أحد التمارين المثيرة للاهتمام، ولكن الصعبة، هو محاولة تفسير النمو الاقتصادي من خلال تقسيمه إلى أجزائه المكونة. ولقد توصَّل أنجوس ماديسون، الذي كان متخصصًا فيما يسمى «محاسبة النمو»، إلى نتائج تشير إلى أن الاستثمار بخلاف الإسكان هو المصدر الأكثر أهمية للنمو، مع مساهمات كبيرة أيضًا، من خلال ارتفاع مستويات التعليم، والتجارة، وبالنسبة لمعظم البلدان، تأثير «اللحاق» مع تبني التكنولوجيا أو الأساليب المستخدمة من قِبَل البلدان ذات مستويات الإنتاجية الأعلى.
إن الاستثمار الإضافي، المصدر الرئيسي للنمو، لا يتدفَّق دائمًا بسلاسة. فهو يخضع — بل إنه أحد الأسباب الرئيسية — لدورة الأعمال. وهو أيضًا عرضة لتقلُّبات أكثر وضوحًا، مع توفُّر تكنولوجيات جديدة. وعندما تحدَّث الناس عن «الاقتصاد الجديد» المتمثِّل في ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تسعينيات القرن العشرين، فإنهم كانوا يتبعون تقليدًا طويل الأجل. لقد نشأ العديد من الاقتصادات «الجديدة» على مرِّ العصور، بدءًا من تحوُّل صناعة القطن بواسطة آلة غزل جيني التي ابتكرها جيمس هارجريفز، وآلة الغزل الهيدروليكية التي ابتكرها ريتشارد أركرايت، وآلة الغزل الدوارة التي ابتكرها صمويل كرومبتون. كما وفَّرت الطاقة البخارية، والقنوات، والسكك الحديدية، والكهرباء، والراديو في عشرينيات القرن العشرين، والتليفزيون في خمسينيات القرن العشرين؛ دفعاتٍ من النشاط الاستثماري الواسع النطاق وانتقالًا واضحًا إلى مستوًى جديد وأعلى من النمو الاقتصادي.
ولكن لماذا لم يتحقَّق نمو في الإنتاجية بشكل أسرع بمرور الوقت، رغم أننا شهدنا كلَّ هذه الاقتصادات «الجديدة» على مدى العقود؟ بل لماذا تباطأت بشكلٍ كبيرٍ بعد الأزمة الماليَّة؟ وإلى حد ما، لم تكن قصة القرن العشرين، وخاصة النصف الثاني منه، تدور حول اختراع التكنولوجيا الجديدة فحسب، بل أيضًا تحقيق إمكاناتها. ولكنَّ هناك أيضًا شعورًا بأن الحفاظ على النمو الاقتصادي يتطلَّب هذه النوبات مما أسماه الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر «التدمير الإبداعي». فقد رأى شومبيتر أن الاقتصادات الرأسمالية تؤدي إلى حلقات «تعمل على إحداث ثورة مستمرَّة في البنية الاقتصادية من الداخل، وتدمير القديم باستمرار، وخلق جديد باستمرار». وبعبارة أخرى، عندما تتلاشى آثار الثورة التكنولوجية، فهذا يعني أن الوقت قد حان لثورة أخرى، وإلا فإن النمو سوف يتباطأ. ومن حسن الحظ أن الرأسمالية كانت جيدة إلى حدٍّ معقول في التوصل إلى اختراقات دورية. وهناك درس آخر مستفاد من الاقتصادات «الجديدة»، القديمة والحديثة. إن السبب وراء كل ذلك هو أن سوق الأوراق المالية عادة ما تشهد طفرةً في كل حالة، تسبق التطبيق الجماعي للتكنولوجيا الجديدة. وكان هوس السكك الحديدية في بريطانيا في أربعينيات القرن التاسع عشر، حين ارتفعت أسهم شركات السكك الحديدية إلى مستويات عالية قبل أن تنهار مرة أخرى، شبيهًا إلى حدٍّ كبيرٍ بطفرة ناسداك في تسعينيات القرن العشرين. والدرس المستفاد في كل الأحوال هو أنه في حين يحقِّق بعض المستثمرين المحظوظين نتائج طيبة، فإن العديد منهم يخسر، سواء بسبب ارتفاع وانخفاض أسعار الأسهم ولو حتى أسهم الشركات المبتكرة الناجحة، أو لأن عملية غربلة الشركات لا مفرَّ منها مع سقوط أغلبها على جانب الطريق. ففي مقابل كل شركة مايكروسوفت تنجح، هناك آلاف الشركات الأخرى التي لا تنجح. وعادة ما تساعد التكنولوجيا الجديدة الاقتصاد أكثر مما تساعد أرصدة المستثمرين في البنوك.
لقد تحدى الخبير الاقتصادي الأمريكي روبرت جوردون، في البداية في ورقة بحثية عام ٢٠١٣ ثم في عمل لاحق، الرأي المرتبط بالخبير الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل روبرت سولو، بأن النمو الاقتصادي عملية مستمرة ستستمر إلى الأبد. وأشار إلى أنه لم يكن هناك الكثيرُ من النمو الاقتصادي قبل عام ١٧٥٠، وأن السنوات اﻟ ٢٥٠ التالية يمكن اعتبارها فترة فريدة، وليست القاعدة. وزعم أن النمو الاقتصادي الأمريكي بلغ ذروته في منتصف الخمسينيات. وكانت النقطة الأكثر لفتًا للانتباه هي أنه في حين نعتقد أننا نعيش في عصر مبتكر وتكنولوجي للغاية، فإن الأدلة كانت مختلفة إلى حد ما. فقد جاءت معظم المكاسب في الإنتاجية فيما وصفه ﺑ «الثورة الصناعية الثانية» منذ بعض الوقت. ولقد كان هذا صحيحًا، كما زعم، حتى بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر، التي تحقَّقت لها فوائد توفير العمالة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وكتب يقول: «لقد ركز الاختراع منذ عام ٢٠٠٠ على أجهزة الترفيه والاتصالات التي هي أصغر حجمًا وأكثر ذكاءً وقدرة، ولكنها لا تغير بشكل أساسي إنتاجية العمل أو مستوى المعيشة بالطريقة التي غيرتها بها الأضواء الكهربائية، أو السيارات، أو السباكة الداخلية.» ولا بد أن نقول إن هناك الكثير من المقاومة ضد تشاؤم جوردون التكنولوجي، ولكنه قدم بديلًا مثيرًا للاهتمام للرأي القائل بأن النمو قد تباطأ؛ بسبب آثار الأزمة المالية بعد عام ٢٠٠٩. وكان التباطؤ، وفقًا لجوردون، أكثر جوهرية.
وهناك سؤال كبير آخر يتعلق باستدامة النمو الاقتصادي. وأعني بذلك ليس فقط ما إذا كان النمو يلحق الضرر بالبيئة؛ ومن ثَم يجعل التوسُّع غير مستدام في نهاية المطاف، بل الاستدامة الاقتصادية نفسها. قبل تعيينه محافظًا للبنك المركزي الأيرلندي في سبتمبر ٢٠٠٩، كتب الخبير الاقتصادي باتريك هونوهان عن مرحلتَين من فترة «النمر السلتي» في أيرلندا. كانت المرحلة الجيدة، حتى عام ٢٠٠٠ تقريبًا، تستند إلى النمو القائم على التصدير والقدرة التنافسية المدعومة بضبط الأجور. ثم أصبحت غير مستدامة. وكتب هونوهان: «منذ عام ٢٠٠٠ تقريبًا، تغيرت طبيعة النمو: نشأت فقاعة أسعار العقارات والبناء. وقد حافظ هذا الازدهار على نمو العمالة والإنتاج حتى عام ٢٠٠٧ على الرغم من فقدان القدرة التنافسية للأجور. لقد غذت البنوك الطفرة، وخاصةً منذ عام ٢٠٠٣؛ ومن ثَم عرضت نفسها لضغوط التمويل والملاءة المالية. وقد قدم جورج أوزبورن، وزير الخزانة في الحكومة الائتلافية المنتخبة في مايو ٢٠١٠، تشخيصًا مماثلًا للمملكة المتحدة بالنسبة لبريطانيا، حيث انتقد نموذج النمو «المكسور» في البلاد، والذي بني على الديون. ولم يكن من الواضح، خلال السنوات الست التي قضاها في منصب الوزير، أن النموذج قد تغير.
لذا فهناك نمو اقتصادي قائم على أساسيات الإنتاجية والاستثمار — ارتفاع الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد — وهناك نمو أسرع بكثير، والذي لا يمكن أن يستمر بطبيعته. في الأمد البعيد، بطبيعة الحال، لا يمكن أن يستمر غير المستدام. لذا، فإن تقييم أداء الاقتصاد حقًّا يجب أن يتم بشكل صحيح على مدى فترة طويلة جدًّا، وليس عامًا أو عامَين. تعافت الاقتصادات بشكل حادٍّ بعد الجائحة، في أعقاب انحدارات عميقة، لكن لم يعتقد أحدٌ أن معدلات النمو التي تم تحقيقها خلال ذلك الصعود من جديد كانت مستدامة.
لماذا نحتاج إلى تضخم منخفض؟
هذا هو النوع من الأسئلة التي لا تطرحها في صحبة محافظي البنوك المركزية، الذين تتمثل مهمتهم الرئيسية في إبقاء التضخم تحت السيطرة. كما يتم طرح هذه الأسئلة بشكل أقل شيوعًا مما كانت عليه الحال في المحادثات العامة. تعود الحجة القائلة بأن القليل من التضخم، في الظروف العادية، من شأنه أن يمنحنا المزيد من النمو الاقتصادي إلى حقبة المقايضة البسيطة لمنحنى فيليبس. بموجب هذا، بدا أن هناك بالفعل خيارًا بين البطالة والتضخم. وكما نعلم الآن، وكما اكتشفت حكومة حزب العمال منذ فترة طويلة في السبعينيات، فإن الأمور لا تسير بهذه الطريقة. إن البلدان التي تحاول شراء النمو من خلال السماح بمزيد من التضخم، عادة ما ينتهي بها الحال إلى المزيد من التضخم، دون أن تحقِّق سوى القليل من النتائج في نموها السريع. وقد توفر السياسات التي تسمح بارتفاع التضخم دفعة مؤقتة — شبه فريدمان التأثيرات بتأثيرات المخدرات — ولكنها في نهاية المطاف تجعل الأمور أسوأ. وعندما تدخل التوقعات المعادلة — لا يمكن خداع الناس مرارًا وتكرارًا — فإن السياسات التضخمية محكوم عليها بالفشل. وبلغة المجال، لا توجد مقايضة طويلة الأجل بين التضخم والنمو. والاستقرار الاقتصادي منخفض التضخم هو أفضل بيئة للنمو. ولكن ما هو معدل التضخم الصحيح الذي ينبغي أن نسعى إليه؟ عرَّف آلان جرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق، الذي تعرَّض لانتقادات لاحقة لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة للغاية، المستوى الصحيح للتضخم على أنه المستوى الذي لا يتداخل مع القرارات الاقتصادية. ولكن مع معدل التضخُّم الذي يبلغ ١٠٪، يبدأ الناس والشركات في التصرف بطريقة تجعل بعض تصرفاتهم على الأقل مشروطة بالحاجة إلى حماية أنفسهم ضد التضخم، ربما من خلال شراء السندات المرتبطة بالمؤشِّر أو الاستثمار في العقارات. ولكن مع معدل ٢٪ (الهدف في المملكة المتحدة)، ربما لا يكون هذا هو الحال. وهناك أيضًا بعض الأدلة المقنعة، بسبب دور التوقعات، على أن معدلات التضخم الأعلى غير مستقرة. ووفقًا لبعض الأبحاث، فإن أي دولة تحاول تحقيق هدف تضخم قدره ١٠٪ سوف تجد نفسها عاجزة عن الإبقاء عليه عند هذا الحد، وسوف تواجه خطر كارثة التضخم المفرط.
ويبدو كل هذا وكأنه تفويض مطلق لنادي البنوك المركزية، والواقع أن الأبحاث التي أجراها ألبرتو أليسينا ولاري سامرز وآخرون تشير إلى أنه كلما كان البنك المركزي أكثر استقلالًا، كان التوازن بين البطالة والتضخم أفضل. ولكنَّ هناك دائمًا خطرًا يتمثَّل في أن يحاول المصرفيون المركزيون بَذْل المزيد من الجهد. لقد ساعدت الأخطاء التي ارتكبها بنك اليابان، والتي نجمت عن المخاوف المفرطة بشأن التضخم، في إصابة البلاد بالانكماش الذي شهدته في تسعينيات القرن العشرين، مع عواقب وخيمة. والانكماش، عندما ترتفع القيمة الحقيقية للديون وتصبح السياسة النقدية غير فعَّالة، يشكل حالة أكثر خطورة من التضخم. ولكن لماذا يحدث هذا؟ لنفترض أنك حصلت على قرض عقاري بقيمة ١٠٠ ألف جنيه إسترليني يتعيَّن عليك سداده بالكامل بعد ٢٥ عامًا. وإذا لم يكن هناك تضخم، فإن ١٠٠ ألف جنيه إسترليني هو المبلغ الذي يتعين عليك سداده بالقيمة الحقيقية. ولكن عند معدل تضخم يبلغ ٢٫٥٪، فإن القيمة الحقيقية لهذا الدين سوف تنخفض إلى النصف؛ ومن ثَم فإن ما يعادل نحو ٥٠ ألف جنيه إسترليني سوف يتعين عليك سداده. إن معرفة أن التضخم يؤدي في الغالب إلى تآكل القيمة الحقيقية للديون هي أحد الأسباب التي تجعل الناس والشركات على استعداد للاقتراض. لكن لنفترض أننا شهدنا انكماشًا؛ حيث انخفضت الأسعار بنسبة ٢٫٥ في المائة سنويًّا. سترتفع القيمة الحقيقية للدين، إلى ما يعادل حوالي ٢٠٠ ألف جنيه إسترليني، حتى مع انخفاض قيمة العقار الذي تم أخذ الرهن العقاري عليه. في فترة الانكماش، لن يرغب سوى قِلة في تحمل ديون جديدة، وستكون حالات التخلُّف عن السداد شائعة. سيبدأ الاقتصاد في التعطُّل. ولهذا السبب يجب تجنُّب الانكماش. في الواقع، عندما حصل بنك إنجلترا على الاستقلال في عام ١٩٩٧، أعرب أحد أعضاء البرلمان عن مخاوفه من أن «مهووسي التضخم» قد استولوا على السلطة، وأن البنك المستقل سوف يستهدف دائمًا معدلات تضخم منخفضة للغاية. لكن هذه المخاوف لم تتحقَّق. ففي السنوات الأربع والعشرين الأولى من الاستقلال، بلغ متوسط التضخم في المملكة المتحدة ١٫٩٪، وهو ما يقترب قليلًا من الهدف البالغ ٢٪. وكانت البنوك المركزية دائمًا على دراية بتهديد الانكماش. ولكن في الوقت نفسه، لا يزال الاقتصاد البريطاني يعاني من تباطؤ النمو. فعندما ضربت الأزمة المالية، استجابوا استجابة قوية بخفض أسعار الفائدة والتيسير الكمي لتجنب الخطر، وفعلوا ذلك مرة أخرى أثناء جائحة كورونا.
هل التصنيع مهم؟
أخيرًا، دعني أنتقل إلى سؤال دائم. في وقت يتم فيه استيراد ثلاثة أرباع السيارات الجديدة المبيعة في بريطانيا، وتكون مصانع البلاد قد توقفت منذ فترة طويلة عن تصنيع العديد من الأشياء التي تباع في متاجرنا، هل يهم ذلك؟ هل كنا سنصبح أسوأ حالًا إذا لم تكن هناك صناعة سيارات في المملكة المتحدة؟ برغم كل شيء، لا يبدو أنه من المهم ألَّا تكون شركات تصنيع السيارات الكبرى مملوكة لبريطانيا. بعبارة أخرى، هل التصنيع مهم؟ الإجابة الاقتصادية التقليدية على هذا هي «لا». كان الانخفاض في حصة التصنيع في اقتصاد المملكة المتحدة إلى ما يزيد قليلًا عن ١٠ في المائة، مصحوبًا بازدهار متزايد وليس متراجعًا. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أشار ريتشارد سكيس إلى أن عدد الأشخاص الذين يعملون في المطاعم الهندية في بريطانيا، أكبر من عدد العاملين في بناء السفن وصناعة الصلب وتعدين الفحم مجتمعين، وأن عدد مستشاري العلاقات العامة أكبر من عدد العاملين في التعدين. ومن بين أكثر من ٣٤٫٥ مليون وظيفة في القوى العاملة في عام ٢٠٢١، كان هناك ما يزيد قليلًا عن ٢٫٥ مليون وظيفة في قطاع التصنيع. وإذا كانت الميزة النسبية لبريطانيا تكمن في جانب آخر غير التصنيع، على سبيل المثال في السياحة أو الخدمات المالية، فإن النظرية تقول إن الوضع الأمثل قد يكون عدم وجود قطاع تصنيع على الإطلاق. في الواقع، هناك نقاش طويل الأمد بين أولئك الذين يقولون إن المدينة لم تستفد قطُّ من الصناعة البريطانية، وأولئك في سكوير مايل الذين يقولون إنه إذا كان التصنيع في المملكة المتحدة تنافسيًّا على الصعيد الدولي مثل الخدمات المالية، فإن الاقتصاد سيكون ناجحًا للغاية. تصبح الحجج لصالح الاحتفاظ بالتصنيع استراتيجية وليست اقتصادية. هل نريد حقًّا ألا يكون لدينا مصنِّعون محليون للمعدات الدفاعية؟ أو، بالعودة إلى الحرب العالمية الثانية، هل نريد حقًّا، في ظروف مختلفة تمامًا، أن نكون في وضع لا توجد فيه قدرة تصنيع محلية للتحول إلى إنتاج ما يعادل طائرات سبيتفاير الحديثة؟ برزت مثل هذه الحجج إلى الواجهة خلال جائحة كورونا، التي دخلتها المملكة المتحدة بنقص في القدرة على تصنيع اللقاحات، ومعدات الحماية الشخصية، والمعدات الطبية الأساسية مثل أجهزة التنفس الصناعي.
الحياة الواقعية، بالطبع، أكثر تعقيدًا من ذلك. ففي حين أن التصنيع في بريطانيا أقلُّ من ربع حجم قطاع الخدمات الخاص، وأكثر بقليل من عُشر الاقتصاد، فإنه يحقِّق نتائج تفوق المتوقَّع. على سبيل المثال، يساهم المصنِّعون بأكثر من نصيبهم العادل من عائدات التصدير؛ تمثل السلع المصنَّعة ما يقرب من نصف صادرات المملكة المتحدة من السلع والخدمات. لا يمكن للاقتصاد أن يدير أموره بدونها. قبل التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نجحت في جذب الاستثمار الداخلي من خارج الاتحاد الأوروبي، وخاصة اليابان وأمريكا، والكثير من هذه الاستثمارات كان في مجال التصنيع. ليس هذا فحسب، كما يقول أنصار التصنيع، بل إن الدول الأوروبية الأخرى التي لديها قطاعات تصنيع أكبر من بريطانيا تميل أيضًا إلى تحقيق مستويات معيشة أعلى، ونصيب أعلى للفرد من إجمالي الناتج المحلي، وأبرزها ألمانيا. تنافسَت ألمانيا مع الصين كأكبر مصدِّر في العالم. وبعبارة أخرى، فإن المملكة المتحدة سوف تحقق نتائج أفضل إذا ما توسع قطاع التصنيع. ومن المعروف أيضًا في بريطانيا وأماكن أخرى أن شركات التصنيع تميل إلى أن تكون أكثر ابتكارًا، حيث تقدم منتجات وعمليات تعتمد على التكنولوجيا أكثر من نظيراتها في قطاع الخدمات. والابتكار، كما رأينا، هو أحد محرِّكات النمو الاقتصادي. بل ربما تكون الأرقام المجردة أقلَّ من أهمية التصنيع. فقد أشار اتحاد أصحاب العمل في مجال الهندسة وغيره إلى الروابط الجوهرية بين الصناعة وأجزاء أخرى من الاقتصاد، وخاصة مجال الخدمات. وبدون التصنيع كمحرك للطلب، فإن أجزاءً أخرى من الاقتصاد سوف تعاني قريبًا. والصورة العامة هي أنه رغم إمكانية أن نناقش بشكل مجرد فكرة بريطانيا بدون قطاع تصنيع، فإن الواقع مختلف إلى حدٍّ ما.
ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية، شرعت الحكومة الائتلافية المنتخبة في مايو ٢٠١٠ في تنفيذ استراتيجية «إعادة التوازن» إلى الاقتصاد، مع التركيز على إحياء دور التصنيع. في ميزانيته التي قدمها في مارس ٢٠١١، دعا جورج أوزبورن، وزير المالية، إلى «بريطانيا تحملها مسيرة صناع المستقبل». وقال:
على مدى العقد الماضي، زادت حصة الخدمات المالية في الاقتصاد بأكثر من الثلثَين؛ في حين انخفضت حصة التصنيع بنحو النصف … نعم، نريد أن تظلَّ مدينة لندن المركز الرائد في العالم للخدمات المالية، ولكن يتعين علينا أن نتعهد بأن تصبح بقية البلاد رائدة عالمية في التصنيع المتقدم، وعلوم الحياة، والصناعات الإبداعية، والخدمات التجارية، والطاقة الخضراء، وغير ذلك الكثير.
ولكن لم يكن هذا نجاحًا ملحوظًا. ففي الفترة ما بين بداية عام ٢٠١١ ونهاية عام ٢٠١٩، نما الناتج الصناعي في المملكة المتحدة بنسبة ٠٫٥٪، إجمالًا، في اقتصادٍ نما بنحو ١٧٪. ولم يحدث ذلك. وهذا يقودنا إلى نقاش آخر: إذا كنا في حاجة إلى قطاع تصنيع نابض بالحياة وناجح، فكيف نبدأ في خلقه؟ في واقع الأمر، تتوصَّل كل حكومة تقريبًا إلى مرحلة ما من مراحل إطلاق استراتيجية تصنيع. ولم يكن أيٌّ منها ناجحًا حتى الآن. وتشكل البيئة الاقتصادية المستقرة أحد المكونات الأساسية، وكذلك العرض الجاهز من العمال المهرة، والتغيير في المواقف التي وضعت الصناعة في قاع ترتيب الأولويات عندما يتعلق الأمر، على سبيل المثال، باختيارات المهن التي يتولاها الخريجون. ولكن الإجابة الكاملة على هذا السؤال تتطلَّب كتابًا آخر.
•••
وهناك العديد من الحجج الأخرى التي يمكننا أن نطرحها حول الاقتصاد، وأتمنى أن تكون قد تشجعت على طرح بعضها. لقد كانت هذه وجبة دسمة إلى حد ما عن الاقتصاد. آمل أن يكون هذا قد دحض الاعتقاد السائد بأن الاقتصاد علم غامض ومخيف. ففي الاقتصاد، كما هي الحال في العديد من الأمور الأخرى، لا يوجد عادة ما يدعو للخوف إلا الخوف نفسه.