المقبِّلات
يبدأ العدد الأكبر من كتب الاقتصاد بالآتي: «علم الاقتصاد هو توزيع الموارد النادرة بين المنافسين.» أو كما جاء في أحد الكتب المنهجية الجيدة والمستعملة بكثرة: «إن علم الاقتصاد هو دراسة كيفية تحديد المجتمع لما سينتجه، وكيفية إنتاجه، والمستفيد من هذا الإنتاج.» تعتبر هذه التعريفات رائعةً وهي بدون شكٍّ صحيحة بقدر ما يمكن الجزم به، مع أن بها عيبَين مهمَّين. الأول هو أنك لن تستطيع فَهْم معنى هاتَين العبارتَين إلا عندما تدرس الكثير عن علم الاقتصاد. والعيب الثاني هو كونهما، من وجهة نظري، محدودتَين للغاية. يشكل علم الاقتصاد حياتنا اليومية ويتحكم فيها، حتى لو لم نكن على وعي بذلك. فهذا العلم يشمل كل شيء. لكن هذا لا يعني أننا، رجالًا ونساءً، نعيش كخبراء في الاقتصاد أو أن هواجس المال تستحوذ علينا. ولكن يعني أنه يجب التعرف على علم الاقتصاد ولا مفر من ذلك. على أية حال فنحن نشير إلى الدول على أنها «نظم اقتصادية». إلى جانب أن من أكثر تعريفات علم الاقتصاد التي أفضِّلها هو التعريف الذي استخدمه خبير الاقتصاد الإنجليزي العظيم ألفريد مارشال (١٨٤٢–١٩٢٤) الذي وصف فيه علم الاقتصاد بأنه دراسة الناس ﻟ «الأعمال العادية في الحياة».
إن الطعام يبدو مرجعًا لمعظم أبواب علم الاقتصاد، وهذا سبب إعجابي بهذا العنوان للكتاب. لقد قامت آن سيبرت — رئيسة قسم الاقتصاد والإحصاء في جامعة بيركبيك في لندن — باستخدام تشبيه المطاعم لوصف تأثير تزايد جنون المضاربة — الفقاعة المالية — في البورصة. هناك مطعمان في إحدى المدن: الريتز، والسافوي. وألبرت لا يفرق بينهما، ولكنه اختار الريتز. ولكن بن الذي يليه يميل قليلًا نحو اختيار السافوي، إلا أنه بعد اختيار ألبرت للريتز قرر أنه لا بد من كونه أفضل. واقتنعت كاثرين بناءً على اختيار بن وألبرت أن مطعم الريتز هو المكان المناسب، وكذلك ديفيد. من هنا نجد أن الغالبية قامت باختيار الريتز ولم يختَر أحدٌ السافوي. ولكن نيفيل التالي في القائمة كان يفضِّل السافوي، وكان السبب الجزئي في اختياره هذا ازدحام مطعم الريتز. وعند علمت أوليفيا باختيار نيفيل تبعته وكذلك فعل بيتر والآخرون حتى زاك. ومن ثَم حدث شيء غريب. فقد سمع من كانوا يتناولون الطعام في مطعم الريتز أن بقية الأشخاص ذهبوا لمطعم السافوي. فقاموا بسرعة وذهبوا إليه تاركين الريتز لحسرته. من هنا يشبه جميع من اختار الريتز في بادئ الأمر بمن قاموا بالاستثمار في أسهم شركة دوت كوم للإنترنت، خلال أواخر فترة التسعينيات من القرن العشرين، أو تدافع البنوك والمؤسسات الأخرى نحو الأوراق المالية المدعومة بالرهون، ثم تأمل السرعة التي انسحبوا بها من ذلك الاستثمار عندما أدركوا أنهم استثمروا في شركات عديمة القيمة، وهنا تدرك معنى التشبيه بالفقاقيع التي تتفاقم حتى تنفجر فجأة.
وعلى أية حال فالموضوع الذي نحن بصدده يدعم ما حدث. لا تنسَ أن النادل لا يزال يحوم حول المكان، والوجبة على وشك البدء. فما الموضوع الذي سنتحدث فيه؟ وفقًا للفولكلور الصحفي، فإن الشيء الوحيد الذي تتحدَّث فيه الطبقة الوسطى عند اجتماعهم على حفلات العشاء هو موضوع أسعار العقارات. كان ذلك قبل أن تضع أزمة فيروس كورونا حدًّا لحفلات العشاء لفترة من الوقت. كما تدخل الفقاعات في أي مناقشة لأسعار المساكن. ففي المملكة المتحدة في أواخر الثمانينيات، وبمساعدة غير مقصودةٍ من سياسة الحكومة، ارتفعت أسعار المساكن بسرعةٍ كبيرة. وأدَّى الركود اللاحق في المملكة المتحدة في أوائل التسعينيات إلى انهيار أسعار المساكن الذي استغرق سنواتٍ حتى انفرج. وكانت الأزمة المالية العالمية التي بدأَت في صيف عام ٢٠٠٧ متجذِّرة في سوق الإسكان في أمريكا، وأدَّت إلى انخفاض حادٍّ ولكن مؤقت في أسعار المساكن في بريطانيا. وكانت إحدى المفاجآت في عام ٢٠٢٠ هي أن فترات الركود الكبيرة التي سببتها عمليات الإغلاق بسبب كوفيد-١٩ لم تؤدِّ إلى انخفاض في أسعار المساكن. إذن فلنجعل سوق العقارات هو نقطة البداية لنا.
العقارات مقابل البطاطس
تدور معظم المحادثات التي تجري عن سوق العقارات حول عدة عناصر. حيث سيؤكد أحد الأشخاص أن أسعار العقارات قد ارتفعت جدًّا؛ ومن ثَم فهي في طريقها للانخفاض، وسيقوم آخر بادِّعاء أنها سترتفع بدرجةٍ أكثر. لكن لا بد من النقاش فيما إذا كان من الأفضل أن تستثمر أموالك في سوق العقارات، أو في سوق الأسهم والسندات. وبالطبع، فإن الجميع سوف يحمدون حظهم السعيد لكونهم صعدوا بعض الدرجات في سوق العقارات، ولم يعودوا مشترين جددًا يحاولون جمع مبلغ العربون لشراء مسكن. وقد تغيَّرت هذه المحادثات. فربما يعلِّق الناس على مدى السهولة التي كان بمقدورهم الحصول بها على رهن عقاري قبل الأزمة المالية، مع طرح القليل من الأسئلة، وكيف أصبح الأمر أكثر صعوبةً فيما بعد. ويعتبر امتلاك مسكن واحد من أعظم التطورات الاقتصادية في القرن العشرين في بريطانيا. فمن أقلية ضئيلة من المساكن المملوكة قبل مائة عام، بلغت حصَّة العقارات المملوكة في إنجلترا — الناس الذين يمتلكون منازلهم بشكل مباشر أو يشترونها بمساعدة الرهن العقاري — ذروتها عند ٧١ في المائة في عام ٢٠٠٣، قبل أن تتراجع، جزئيًّا نتيجةً للأزمة المالية. وكانت ٦٤ في المائة في عام ٢٠١٩. ولدى كندا والولايات المتحدة وأستراليا نسب مماثلة، عند ٦٥ أو ٦٦ في المائة. وفي النرويج، تبلغ النسبة ٨١ في المائة، وهناك بعض المعدلات المرتفعة للغاية — ربما مرتفعة بشكل مريب — في الدول الشيوعية والشيوعية السابقة مثل الصين وروسيا ورومانيا. وفي سويسرا وألمانيا، تكون النسبة أقلَّ كثيرًا — ٤٣ و٥١ في المائة على التوالي — مع حدوث شراء المساكن عادة في سنٍّ متأخرة، إن حدث على الإطلاق. كان من بين القضايا التي برزت خلال الأزمة المالية العالمية قضية ما إذا كانت بعض الحكومات، ولا سيما حكومة الولايات المتحدة، قد دفعت بملكية المساكن إلى أبعد مما ينبغي، وخاصة بين الفئات ذات الدخل المنخفض.
سوف يظلُّ الإسكان هاجسًا دائمًا، وخاصة في البلدان التي ترتفع فيها معدلات ملكية المساكن. ولسوء الحظ فإن حال سوق العقارات مثلها مثل أي سوقٍ أخرى مليئة بالتعقيدات. وتخيَّل للحظةٍ أن الطبقة المتوسطة مهووسةٌ بأسعار البطاطس، التي ارتفعت لمستوًى عالٍ جدًّا. وهنا يستطيع خبراء الاقتصاد وغير الخبراء تحليل هذه المشكلة، فيقوم الخبراء بذلك كنتيجة لدراسة استمرَّت عدة سنوات، وسيتمكَّن غير الخبراء من القيام بذات التحليل غريزيًّا. فإذا كانت أسعار البطاطس مرتفعةً جدًّا، فسيدرك الكثيرون أنهم ينفقون جزءًا كبيرًا من دخلهم على البطاطس؛ ومن ثَم سيتجهون لبدائل مثل الأرز والمعجنات، مما سيقلِّل الطلب على البطاطس. حيث إن ارتفاع الأسعار يثني الناس عن الشراء، وسينعكس أثر ذلك على مورِّدي البطاطس. تعدُّ الأسعار العالية دافعًا لزيادة التوريد ويشكِّل خفض الأسعار عائقًا. وبدون شكٍّ سيكون من غير الممكن توفيرُ المزيد من السلع في الحال، أمَّا في وقتنا هذا فتطبِّق سلاسل الأسواق التجارية الكبرى نظام تخزين لأوقات طويلة لما يطلقون عليه الأطعمة الطازجة. ويكمن أحد أسباب اختلاف أسعار كميات المخزون من السلع الطازجة من موسم لآخر إلى أن ما هو معروضٌ قد تغيَّر ما بين الإغراق، أو ترك حالة السوق على ما هي عليه، وفقًا لحالة الجو ومدى استجابة المزارعين لمؤشرات الأسعار (فمثلًا، زراعة مساحات أكبر كرد فعل لارتفاع الأسعار في العام الحالي).
لنَعُد مرة أخرى للحوار الذي كنا بصدده على مائدة الغداء عن البطاطس، فالمهم في هذا الموضوع أنه إذا زادت أسعار البطاطس مقارنةً بالسلع المنافسة، فمن المستبعد أن يدوم ذلك الارتفاع. حيث سيقل الطلب؛ نظرًا لقلَّة أسعار الأطعمة الأخرى إذا ما قورنت بها. وسيزداد العرض بسبب توقُّع زيادة الربح من البطاطس. ومن هنا فإن النتيجة الحتمية هي تخفيض الأسعار. هناك كثير من علم الاقتصاد فيما سبق، ولكن ما يجب تذكره هو: أنه حين يكون السعر أعلى يكون الطلب أقل والعكس ينطبق على التوريد. وثانيًا: تُحَدَّد الأسعار عن طريق التفاعل ما بين العرض والطلب. ففي المثال الذي نحن بصدده ستنخفض أسعار البطاطس بدرجة كافية، مما سيساعد في قيام الناس بشراء كمياتٍ أكبر منها، ولكن ليس بالقدر الذي يثني المورِّدين عن زيادة إنتاجهم. إن آلية الأسعار مثيرةٌ للدهشة، فهي تضمن أن يكون العرض والطلب متوافقَين؛ ومن ثَم تستطيع السوق تحقيق التوازن. وتميل الأسواق للموازنة بين العرض والطلب، رغم أنها قد تستغرق وقتًا للوصول إلى هذه الموازنة. تذكَّر ذلك وسوف تجد أنك في طريقك نحو استيعاب مفهوم اقتصاديات السوق.
الإسكان و«الليمون»
لن يكون الأمر لطيفًا وطبيعيًّا إذا استمرَّ الناس في الحديث عن البطاطس طوال العشاء؛ لذلك دعنا نَعُد للحديث عن أسعار العقارات. يعتقد الكثير من الناس أن الحدَّ الذي ارتفعت به الأسعار بمرور الوقت هو من الأمور الغريبة في العقارات. ففي الثلاثينيات من القرن العشرين عندما كان جزء كبير من بريطانيا يعاني ركودًا اقتصاديًّا عظيمًا، وكانت كل الأسعار تنخفض بما في ذلك أسعار المساكن، حدث ازدهار في بناء المساكن حول لندن مما نتج عنه ظهور الضواحي. قامت شركة نيو أيديال هومستيدز ببيع مساكن مكونة من ثلاث حجرات في مقاطعتَي سيدكاب وكنت وذلك بسعر ٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا، وهي مساكن كانت ستكلفك نحو ٢٠٠٠ ضعف أي قريبًا من ٥٠٠ ألف جنيه إسترليني. وباعت شركة مودرن هومز عقارات فخمة في بينر، ميدلسيكس، بأسعار تتراوح بين ٨٥٠ و١٥٠٠ جنيه إسترليني. ولشراء أحد هذه المساكن بعد مرور تسعين عامًا أو ما شابه، قد تتكلَّف مبلغًا يزيد على مليون جنيه إسترليني. تعتبر هذه التغيرات مثيرة، إلا أنه من المعروف أن كثيرًا من الأسعار زادَت ازديادًا ملحوظًا بمرور الوقت. ففي الماضي كنا نتناول نصف لتر من الجعة (في سنٍّ مبكرة) مقابل ما يوازي ١٠ بنسات فقط. ولكن قفز السعر في الوقت الحالي أربعين مرة أو أكثر من ذي قبل. إن التضخُّم يعني زيادة المستوى العام للأسعار، بمعنى أن ننظر للماضي بأسًى واشتياقٍ للأسعار التي كنا ندفعها. وكل ما حدث لأسعار المساكن هو أنها ارتفعت بسرعة أكبر من أسعار السلع الأخرى عامة؛ فقد تخطَّت مستوى التضخُّم، ولكن يوجد تفسيرٌ لذلك وسوف أتناوله فيما بعد.
والأمر الغريب فيما يخصُّ المسكن — الذي يشترك فيه مع أشياء أخرى مثل التحف والفنون الجميلة والخمور المعتقة — هو أن أسعاره ترتفع حتى وأنت تمتلكه. ومن هنا، فإن خبراء الاقتصاد لا ينظرون إلى المساكن على أنها لا تستهلك، ولكن على أنها شيء يشعرك بالدفء والأمان والراحة وتوفر لك مكانًا للنوم، وتعتبر أيضًا أصلًا من الأصول. يمكنك مقارنة ما حدث لأسعار العقارات مع ما حدث لأسعار السلع الأخرى التي تبدو غير متغيرة. فمعظمها تنخفض أسعارها، إما بسبب تلفها من كثرة الاستهلاك أو أنها أصبحت ذات طراز قديم. حاول مثلًا بيع كمبيوتر عمره عشر سنوات. ومن المتعارف عليه أنك إذا قمت بشراء سيارة جديدة، فستنخفض قيمتها نحو ٢٠٪ بعد خروجها مباشرة من معرض السيارات. لقد كتب خبير الاقتصاد جورج أكيرلوف مقالًا عام ١٩٧٠ بعنوان سوق الليمون شرح فيه هذه الحالة، والليمون المشار إليه هنا هو التعريف العاميُّ للسلع عديمة القيمة. إن أي مشترٍ تُعرَض عليه سيارةٌ شبه جديدة من قِبَل مالكها سوف يفترض على الفور أن هناك خطأً ما في هذه السيارة، وأنها معيبة؛ ومن ثَم لن يكون مستعدًّا لدفع أي شيء مثل السعر الكامل لها. وينطبق هذا حتى لو كانت السيارة مثالية. فالبائعون وحدهم يعرفون حقًّا ما إذا كانت السيارة مثاليةً أم لا؛ ولا يمكن للمشترين أن يكونوا على يقين من ذلك حقًّا. ويطلق خبراء الاقتصاد على هذا «عدم التماثل في المعلومات» (حيث يتمتَّع أحد الجانبَين بالمعرفة الكاملة، بينما لا يتمتَّع الجانب الآخر بها) ولكن المصطلحات المتخصِّصة ليسَت أساسية. والنتيجة، كما أوضح أكيرلوف، كانت خفض الأسعار في جميع أنحاء السوق. وسوف يميل المشترون إلى افتراض، ربما بشكل غير عادل، أن جميع السيارات المستعملة «معيبة». وما دام هذا هو الحال، فلن يكون لدى البائعين حافزٌ كبير لبيع سيارات مستعملة عالية الجودة. وفي عام ٢٠٠١ مُنح الاقتصادي الكبير أكيرلوف جائزة نوبل في الاقتصاد (بصفة أكثر تحديدًا، جائزة سفيريجيس ريكسبانك في علوم الاقتصاد ذكرى جائزة ألفريد التي تأسَّست عام ١٩٦٩) مناصفة مع آخر، ومن المستغرب أن المصنِّعين الكبار للسيارات قد بذلوا جهدًا جهيدًا لتصحيح تأثير السلع التي يصفونها بسلع الليمون في الأسواق. ذلك عن طريق توفير ضمانات ممتدة على السيارات الجديدة، وضمانات خاصة للسيارات المستعملة التي يبيعها الموزِّعون المعتمدون لديهم.
عندما نتحدث عن سوق العقارات، فإننا بصدد الحديث مجملًا عن سوق الأشياء المستعملة. وهناك مبانٍ جديدة تقام كل عام، ولكن عدد هذه البنايات يعدُّ بسيطًا جدًّا، وتمثِّل هذه الزيادة نسبة ١٪ فقط من المعروض مقارنةً بكمية البنايات الموجودة بالفعل. وتعتبر الإضافة السنوية لهذه الممتلكات منخفضةً جدًّا، بجانب ذلك، فإن البنايات التي سحبت من السوق كانت إما بسبب الهدم أو التحويل إلى مكاتب. فلماذا لا تعتبر العقارات — وغالبيتها من السلع المستعملة — من سلع الليمون (السلع الرديئة)؟ بدون شكٍّ تتأثَّر بعض أجزاء من بريطانيا بالفيضانات المدمرة. وكانت النتيجة الفورية التي أقرَّها الخبراء أن العقارات الموجودة في المناطق المنكوبة سيصعب بيعها، وبالفعل بيعَت بأسعار بسيطة، حيث إن الذين أقدموا على الشراء توقَّعوا الحصول على ما يعوِّض مخاطر الفيضان. وفي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين واستجابةً لزيادة الطلب، قام عددٌ كبيرٌ من شركات المقاولات ببناء آلافٍ من الصناديق الصغيرة التي أطلقوا عليها «بيوت البداية». وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ذهب البنَّاءون إلى حد المبالغة في بناء الشقق الحضرية في العديد من المدن الإقليمية في بريطانيا، مثل برمنجهام وليدز ومانشستر. ومثل المنازل المعرضة للفيضانات، أصبحت هذه المنازل لاحقًا من الصعب بيعها. أصبحت غير صالحة للاستخدام. وخلال جائحة فيروس كورونا، التي بدأت في عام ٢٠٢٠، عندما رأى المزيد من الناس أن العمل من المنزل سيصبح دائمًا، كان هناك انخفاضٌ في الطلب على الشقق، وخاصة في لندن، لا سيما تلك التي لا تحتوي على مساحةٍ خارجية، وزيادة في الطلب على المنازل في الضواحي الخارجية والريف.
في غالب الأمر لا تتعرَّض المباني القديمة لهذه المشكلات. فالمشترون لا يمتنعون عن شراء هذه المباني، حتى لو كانت هذه العقارات تحتاج إلى بعض المصاريف، كما هو الحال دائمًا، وحتى لو تكلَّف ذلك أيضًا أكثر مما ظهر لأول وهلة بعد عمل دراسة إنشائية، ويرجع ذلك لسببَين. السبب الأول هو أن تكلفة التصليحات والتحسينات، فيما عدا الحالات القصوى، تمثِّل نسبة ضئيلة من التكلفة الأصلية للعقار (ومن ثَم يمثِّل ذلك للمشتري إضافة لقيمة العقار). والسبب الثاني هو أن الناس مستعدُّون لإنفاق الأموال على منازلهم؛ لأنهم يعلمون أن عمل هذه التحسينات والترميمات سيساعد في زيادة قيمة العقار. وعلى هامش هذا الموضوع هناك جدلٌ قائمٌ في أخبار العقارات حول إمكانية استرداد — عند البيع — ما تكلَّفَته حين أضافت زجاجًا سميكًا للصوبة الزراعية وللمطبخ. بمعنًى آخر هل منزلك يباع بسعر أكبر بعد الإصلاحات عن مثيله الذي لم يحظَ بأية إصلاحات؟ ومن وجهة نظر خبيرٍ في الاقتصاد، يعتبر هذا السؤال مهمًّا للعاملين في تطوير العقارات، ولكنه قد لا يكون كذلك للمالك العادي للعقار. والسبب في ذلك أن المكاسب الناتجة عن أي تحسين تنقسم إلى قسمَين: الاستمتاع بهذه التحسينات عن طريق الشعور بالمزيد من الدفء أو الراحة أو الاتساع، والثاني تأثير ذلك على قيمة العقار. في حقيقة الأمر فإن تقسيم هذَين العنصرَين غاية في الصعوبة بل شبه مستحيل؛ وذلك لأسبابٍ ليس أقلها استناد هذا التقسيم على التفضيلات الشخصية والفردية.
وحيث إننا لا نزال في صلب الموضوع دعنا نتفحص جريدة (بها موضوع محبَّب) في حفلات العشاء. هل في استطاعتك المقارنة بين ارتفاع سعر مسكنك والاستثمارات في بورصة الأوراق المالية؟ والإجابة ستكون بالطبع لا، إلا إذا كان لديك طريقة لتقييم الفوائد غير المادية — كالدفء والمأوى وما إلى ذلك — التي حصلت عليها في المنزل بمرور الوقت، والتي لا تتضمَّنها شهادات الأسهم. لا يقتصر الأمر على ذلك فقط، وعلى الجانب الآخر فإن غالبية الناس لا يقتطعون من قيمة الرهن العقاري لكي يشتروا أسهمًا (مع أنهم قد يمتنعون عن الحصول على الفوائد التي قد يربحونها عن طريق إيداع ودائعهم في حساب بنكي). ومع أنني لا أودُّ ذكر المزيد من المنتجات الطازجة في هذه المناقشة، فهذه الحالة تشبه مقارنة التفاح بالكمثرى. وحتى للمتخصصين في تطوير المساكن، فإن هذا الأمر يصعب حسابه. تفترض غالبية الإجراءات الخاصَّة بأداء البورصة على المدى الطويل أن أرباح الأسهم لا تعدُّ دخلًا وإنما إعادة استثمار. وما يقابل ذلك فيما يتعلَّق بصاحب العقار هو أن إيجار العقار يُستثمر فورًا في ممتلكات إضافية؛ ومن ثَم فإن المقارنة ستكون بين زيادة قيمة سندات الملكية العقارية ككلٍّ، وبين كل ما هو موجود في البورصة.
لقد استغرقنا في الحديث عن هذا الموضوع بدون التعرُّض لسؤالٍ مهمٍّ جدًّا. إن الأفراد على استعداد لإنفاق الكثير من الأموال على مساكنهم، ليس فقط بسبب رغبتهم في العيش في مكان أكثر راحةً واتساعًا، ولكن لاعتقادهم أيضًا أنهم يستثمرون في شيء نافع وثمين. حيث يحدِّثنا التاريخ عن حقِّهم في طريقة تفكيرهم هذه، ولكنه لا يفسِّر لنا السبب. دعني أحاول.
سبب ارتفاع أسعار المساكن
إن إحدى العلاقات الاقتصادية الثابتة هي التي تُعنى بالنسب بين أسعار المساكن ومستويات دخل الفرد. ترتفع أسعار المساكن بسبب ارتفاع مستوى الدخل. فالنسبة بين متوسِّط أسعار المساكن / الدخل — أي متوسط سعر المساكن مقابل المتوسط القومي لدخل العاملين لوقت كامل — كانت مرتفعةً جدًّا خلال القرن العشرين، وهي فترة شهدت انخفاضًا في تملك المنازل. وفي عام ١٩٠٠، كانت تزيد على ٨٪. ثم في القرن العشرين، أصبح الإسكان أيسر ثمنًا وبلغت نسبة أسعار المسكن / الدخل نحو ٣٫٥٪ على المدى الطويل. قد شهد القرن الحادي والعشرين ارتفاعًا قويًّا في النسبة، بحيث عادت بحلول عام ٢٠٢٠ إلى ما يزيد عن ٨٪ مرة أخرى، لتدور دورةً كاملة. ومن السهل أن نرى لماذا تعدُّ النسبة مهمة. إذا لم ترتفع أسعار المساكن بما يتماشى مع الدخول، وظلَّت، على سبيل المثال، عند مستويات الثلاثينيات، فإن الشخص الذي يبلغ متوسط دخله حوالي ٣٠ ألف جنيه إسترليني يمكنه تحمل تكاليف شراء العديد من تلك المنازل. المكونة من ثلاث غرف نوم في سيدكوب — كل عام — بدلًا من شراء واحدة ودفع ثمنها على مدى خمسة وعشرين عامًا أو أكثر من الرهن العقاري. لقد عدنا إلى العرض والطلب. في هذه الحالة، لا يعني الطلب المتزايد أن الجميع يريدون امتلاك سلسلة من المنازل. هذا يعني أن المبلغ الذي يمكنهم تحمله لدفع ثمن منزلهم قد زاد بشكلٍ كبير، والأهمُّ من ذلك، أن المبلغ الذي يستطيع الآخرون تحمُّله قد زاد أيضًا. تؤدِّي المنافسة بين المشترين، الذين تمكَّنوا جميعًا من دفع المزيد بمرور الوقت، إلى ارتفاع أسعار المساكن.
عندما ارتفعت نسبة أسعار المساكن إلى الأرباح بشكلٍ كبيرٍ فوق متوسطها الطويل الأجل في الماضي، كان ذلك بمثابة إشارة أكيدة إلى أن الأسعار ارتفعت كثيرًا، وكانت على وشك أن تشهد هبوطًا أو انهيارًا أو (كما يحلو للخبراء الاقتصاديين أحيانًا أن يقولوا) «تصحيحًا». والسؤال هو ما الذي حدث في القرن الحادي والعشرين حتى ارتفعت أسعار المساكن إلى هذا الحد فوق متوسط الدخول، وما إذا كان هذا إشارة إلى انهيار هائل قادم، أو أن عوامل أخرى قد تغيَّرت.
والإجابة بشكل أساسي هي أن أشياء أخرى قد تغيرت.
اقتصاد الإسكان في القرن الحادي والعشرين
إن أحد العوامل التي أدَّت إلى ارتفاع معدلات البطالة في القرن الحادي والعشرين هو تزايد نسبة النساء العاملات، وإن كان هذا هو الحال أيضًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين. فبدلًا من منح الرهن العقاري بِناءً على تدابير القدرة على تحمُّل التكاليف القائمة على وجود عائل واحد، أصبح الأزواج الذين يعملون معًا هي القاعدة.
كان العامل الثاني والأكثر أهمية هو انخفاض مستوى أسعار الفائدة. فقد كان القرن الحادي والعشرون حتى الآن زمنًا اتسم بانخفاض أسعار الفائدة؛ ومن ثَم أسعار الرهن العقاري. وكان هذا هو الحال بشكل خاص منذ الأزمة المالية العالمية. فحتى عام ٢٠٠٩، لم تكن أسعار الفائدة الرسمية في المملكة المتحدة — سعر الفائدة المصرفية — أدنى من ٢٪ قط. ومنذ ذلك الحين، إلى لحظة كتابتي الآن، لم يتجاوز المعدل ١٪. وسوف يأتي وقت يرتفع فيه بالفعل، ولكن هذا لا يزال بعيدًا كل البعد عن متوسط ٥٪ من أوائل تسعينيات القرن العشرين إلى عام ٢٠٠٨، أو متوسط ١٢٪ في ثمانينيات القرن العشرين. وتعني أسعار الفائدة المنخفضة أن مشتري المساكن قادرون على تحمُّل أقساط الرهن العقاري الشهرية، حتى ولو كان سعر شراء المسكن أعلى نسبيًّا من الدخل.
هناك تفسير ثالث، وهو أكثر تعقيدًا بعض الشيء. عندما كنت أذهب للبحث عن منزل، كنت دائمًا أشعر بالدهشة عندما يبدو أن بائعي المنازل (التي غالبًا ما تكون باهظة الثمن) هم من ذوي الدخول المتواضعة والذين لديهم سيارة قديمة في الطريق. والسبب، في العادة، هو أنهم يمتلكون قدرًا كبيرًا من «حقوق الملكية» في ممتلكاتهم، وربما كانوا يمتلكونها بالكامل. كانوا أغنياء بالأصول، ولكنهم فقراء في الدخل، وخاصة إذا كانوا متقاعدين. وقد تراكمت هذه الحقوق على مدى عدد من السنوات، وربما على مدى عدد لا بأس به من الانتقالات المنزلية. ربما اشتروا منزلهم الأول برهن عقاري بنسبة ٩٠٪، ولكن بحلول الوقت الذي انتقلوا فيه، بفضل ارتفاع أسعار المساكن، ربما ارتفعت حقوق الملكية الخاصة بهم من تلك النسبة الأولية البالغة ١٠٪ إلى ٣٠٪. ومع كل انتقال، كانوا يأخذون معهم قدرًا أكبر من حقوق الملكية. وكان منزلهم الكبير الأخير هو المنزل الذي لم يكن بوسعهم تحمُّله كمشترين لأول مرة، حتى مع الدخل الذي تمتَّعوا به في وقت لاحق من حياتهم. تحدث هذه العملية طوال الوقت، وفي جميع أنحاء الاقتصاد هناك تراكم لرأس المال. في عام ٢٠٢٠، بلغت ثروة الأسر من الممتلكات، صافي الرهن العقاري، أكثر من ٥ تريليونات جنيه إسترليني. وهذا يعني ٥٠٠٠ مليار جنيه إسترليني أو، إذا كنت تفضِّل، ٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني.
إن تأثير كل حقوق الملكية هذه هو دفع نسبة سعر المسكن إلى الأرباح إلى أعلى بمرور الوقت، وهذا هو السبب في أن العديد من محلِّلي سوق الإسكان يفضِّلون التركيز على تدابير القدرة على تحمُّل التكاليف للمشترين لأول مرة. لقد حسبت جمعية البناء الوطنية، باستخدام مقياس يعتمد على مدفوعات الرهن العقاري كنسبة مئوية من الدخل، أنه في نهاية عام ٢٠٢٠ كان السكن أكثر تكلفةً للمشترين لأول مرة أكثر من أي وقتٍ مضى منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. قد لا يكون هذا راحةً محدودة، ربما، للمشترين لأول مرة الذين أجبروا على التوفير والادِّخار من أجل وديعة، أو الاقتراض من الوالدين، بسبب ارتفاع أسعار المساكن، ولكن هذا كان الواقع.
ارتفاع الدخل كذلك
كما أن لدى نيشنوايد بعض الأرقام المفيدة حول مدى ارتفاع أسعار المساكن. ففي نهاية عام ٢٠٢٠، بلغ متوسط سعر المسكن في المملكة المتحدة، وفقًا لقياسه، ٢٢٩٨١٩ جنيهًا إسترلينيًّا. وذلك مقارنة ﺑ ١٨٩١ جنيهًا إسترلينيًّا في عام ١٩٥٢، قبل ولادتي. وبعد ما يقرب من سبعين عامًا، كانت أسعار المساكن أعلى بنحو ١٢٢ مرة من نقطة بدايتها في أوائل الخمسينيات. لا يتعيَّن عليك أن تكون خبيرًا اقتصاديًّا لتعرف أن هذه مقارنة لا معنى لها. إذ يتعيَّن تعديل أسعار المساكن وفقًا للتضخُّم (تحويلها إلى مصطلحات «حقيقية») كما هو الحال مع المقادير الاقتصادية الأخرى، لإعطاء صورة أكثر دقَّة. لدى نيشنوايد مؤشر «حقيقي» لأسعار المساكن، والذي يعود تاريخه إلى عام ١٩٧٥. وقد أظهر أن أسعار المساكن «الحقيقية» في عام ٢٠٢٠ كانت أكثر من ضعف مستواها في عام ١٩٧٥؛ فقد ارتفعت بنسبة ١٢٣ في المائة. إن هذا يقارن بارتفاع بنسبة تزيد على ٢٠٠٠٪ في الأسعار الفعلية. ويطلق خبراء الاقتصاد على الأسعار الفعلية المدفوعة «أسعارًا حالية»، أو «قيمًا اسمية». وغالبًا ما يطلق على القيم «الحقيقية»، وعلى نحوٍ مربكٍ بعض الشيء، «مقاييس الأسعار الثابتة». ولكن من المؤسف أن أسعار المساكن قد تتضاعف أكثر من الضعف، حتى على مدى أكثر من نصف قرن.
ومن حسن الحظ أن الدخول ترتفع أيضًا بمرور الوقت، وتتفوق على التضخم. وفي الغالب تتجاوز الأجور ومصادر الدخل الأخرى التضخم. ويحقِّق البعض أداءً أفضل من غيره. وأنا كبير السن بما يكفي لأتذكَّر أول لاعب كرة قدم محترف يتقاضى ١٠٠ جنيه إسترليني في الأسبوع. والآن يحصل اللاعبون الأعلى أجرًا على مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية في الأسبوع، في هيئة رواتب وصفقات رعاية. وهم بطبيعة الحال ليسوا نموذجًا للعامل العادي. وسوف أعود لاحقًا إلى الأسباب التي تجعل الأرباح ترتفع عادةً بسرعة أكبر من الأسعار، ولماذا لم ترتفع حقًّا في العقد الثاني من القرن العشرين. كان ذلك بسبب ركود الإنتاجية — الكمية المنتجة لكل عاملٍ أو لكل ساعة عمل — وهو مفهوم مهم للغاية، وأحد أهم المفاهيم في علم الاقتصاد.
يحتفظ بنك إنجلترا ببيانات عن الأجور والأسعار في بريطانيا تعود إلى أوائل القرن الثالث عشر — ١٢٠٩. وبحلول عام ٢٠١٦، حيث تنتهي مجموعة البيانات الخاصة به، كانت الأسعار ١٢٦٠ ضعف مستواها الأولي. ومع ذلك، كان متوسط الأرباح أعلى بنحو ١٧٠٠٠ مرة. أو، إذا أخذنا فترة زمنية أقصر، من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٤٥، نجد الأسعار ارتفعت بنسبة تقلُّ قليلًا عن ٣٠٠٠ في المائة ومتوسط الأرباح بأكثر من ١٣٠٠٠ في المائة، من أقل من ٤ جنيهات إسترلينية إلى أكثر من ٥٠٠ جنيه إسترليني في الأسبوع. هكذا نصبح أفضل حالًا؛ هكذا ترتفع مستويات المعيشة. وهناك طريقة أخرى لإثبات أنهم يفعلون ذلك من خلال الإشارة إلى طول الوقت الذي يتعيَّن على الشخص العادي أن يعمل فيه لكسب ما يكفي، لشراء منتجات معينة. وهكذا، في عام ١٩٠٠، كان على العامل العادي أن يعمل لبضع ساعاتٍ لكسب ما يكفي لشراء رغيف خبز. واليوم، يستغرق الأمر حوالي خمس دقائق.
ليس كالبطاطس
لقد قلت: إن سوق العقارات مختلفة. فلماذا لا يستجيب مقاولو البناء لارتفاع الأسعار عن طريق إغراق السوق بعقارات جديدة؟ ولماذا لا يؤدي ذلك لخفض الأسعار، كما هو الحال مع باقي السلع؟ والإجابة على ذلك هي أن العقارات الجديدة تشكِّل سنويًّا نسبة ضئيلة جدًّا من نسبة العقارات الموجودة بالفعل. فعندما نرجع لأحد التعريفات التي تعرَّضنا لها في بداية هذا الفصل نجد أن الأرض مصدر محدود. ويضمن المخطِّطون بقاءها هكذا، طالما نحن بصدد بناء العقارات. أما إذا لم توجد أي موانع تخطيطية، ورغب أيُّ مزارع في بيع بضعة حقول من أجل بناء العقارات، فإن سوق العقارات ستتحوَّل إلى ما يشبه سوق بيع البطاطس. فعندما تحدث زيادة في العرض، من وقت لآخر، سيتبعها انخفاض ملحوظ في الأسعار. من هنا فعندما يمنع المخطِّطون حدوث ذلك، فهم يضمنون بهذه الوسيلة ارتفاع أسعار العقارات. تحاول الحكومات أحيانًا تحرير نظام التخطيط، لكنها تفشل في الغالب. كما أنها تضع أهدافًا طموحةً لتوفير المساكن الجديدة والتي نادرًا ما تلبِّيها. في الخمسينيات والستينيات في المملكة المتحدة، كان هناك برنامج ضخم لبناء مساكن مملوكة للقطاع العام (أو المجلس)، مما دفع عدد المساكن الجديدة التي يتم بناؤها إلى ما يقرب من ٤٠٠٠٠٠ مسكن سنويًّا بحلول نهاية الستينيات. في ظل برنامج «الحق في الشراء» لحكومة مارجريت تاتشر في الثمانينيات، تغيَّر ذلك، وبِيعَ العديد من هذه المساكن لمستأجريها وانخفض المعروض من المساكن الاجتماعية الجديدة بشكلٍ حاد. وكانت النتيجة انخفاضًا في المعروض من المساكن الجديدة، والتي تعتمد الآن على القطاع الخاص، والتي ناضلَت لبلوغ ٢٠٠٠٠٠ مسكن سنويًّا في التسعينيات، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
كان من الممكن زيادة المساحة التي نسكن عليها قليلًا وذلك عن طريق تحويل المنازل لشقق أو لمكاتب، أو تحويل المصانع القديمة لأماكن سكنية عصرية. ولكن هناك نقطة محل مناقشة. فالمعروض الجديد من العقارات قليل جدًّا مقارنة بحجم السوق. وفيما يخصُّ خبراء الاقتصاد فإن العرض ليس به مرونة؛ فهو يستجيب ببطء لارتفاع الأسعار، وإذا استطاع المقاولون إغراق السوق بالعقارات الجديدة — كاستجابة لارتفاع الأسعار — فسيكون العرض مرنًا.
نوعان من الأسعار للعقارات
لقد بلغنا هذه النقطة دون الخوض في تفاصيل تتعلَّق بأمر على درجة كبيرة من الأهمية فيما يتعلَّق بالإسكان. عندما يتحدَّث الناس عن مسكنهم، فإنهم عادةً يعرفون مقدار ما دفعوه للحصول عليه. ولذلك يكون لديهم فكرة تقريبية (وفي بعض الأحيان مؤكدة) عن قيمة هذا العقار. ولكن، كما يعلم كل مالك عقار، فإن سداد قيمة الرهن العقاري بانتظامٍ شهريًّا يمثِّل أهمية بالنسبة للسعر؛ حيث يعتمد ذلك على مستوى سعر الفائدة. ثم طريقة سهلة لتوضيح ذلك. نفترض مثلًا أن أحد العقارات ثمنه ١٠٠ ألف جنيه إسترليني مع سداد قيمة الرهن العقاري كاملًا، والتعهُّد بسداده في خمسة وعشرين عامًا، بمتوسط سعر فائدة ١٠٪. من هنا نرى أن التكلفة الكلية بعد دفع الأقساط الشهرية في هذه المدة هي ٥٥٠٨٣٩ جنيهًا إسترلينيًّا. ومن ناحيةٍ أخرى إذا كان متوسط سعر الفائدة هو ٢٫٥٪ في وقت كتابة هذه السطور، فستكون قيمة المدفوعات في الخمسة والعشرين عامًا هي ٢٦٩١٧٠ جنيهًا إسترلينيًّا. وفقًا لذلك نجد أن الفرق يساوي نفس الثمن الأصلي للعقار.
إن معدَّل الفائدة مهمٌّ، والعديد من الناس لديهم نقطة عمياء حول هذا الأمر. وكما أشرنا أعلاه، فإن أحد أسباب ارتفاع أسعار المساكن ونسبة سعر المسكن إلى الدخل في القرن الحادي والعشرين، كان المستوى المنخفض لأسعار الفائدة، ومستواها المنخفض بشكل استثنائي في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية ٢٠٠٨-٢٠٠٩. بالنسبة لمشتري المساكن، يمكن أن يكون هذا سيفًا ذا حدَّين. تجعل أسعار الفائدة المنخفضة سعر المسكن المرتفع في متناولك والآخرين الذين تتنافس معهم. لكنها تدفع أيضًا سعر المسكن إلى الارتفاع؛ ومن ثَم تزيد من المبلغ الذي يتعيَّن عليك اقتراضه. هذه هي التقلُّبات والمنعطفات التي تحدث في الاقتصاد، في «الحياة العادية».
انخفضت أسعار المساكن في المملكة المتحدة بشكلٍ حادٍّ للغاية أثناء وبعد الركود في أوائل التسعينيات، على الرغم من أن هذا الركود كان طفيفًا جدًّا مقارنة بما حدث خلال الأزمة المالية ٢٠٠٨-٢٠٠٩. أسفرت تلك الأزمة الكبرى عن انخفاض قصير الأمد وصغير نسبيًّا في أسعار المساكن. كان الفارق الكبير بين الحالتَين هو أسعار الفائدة. فلم تنخفض أسعار الفائدة الرسميَّة إلى أقل من ١٠٪ أثناء الركود الذي حدث في الفترة ١٩٩٠–١٩٩٢، ولكنها، كما وصفت، انخفضت إلى ٠٫٥٪ في عام ٢٠٠٩. وقد دعمت أسعار الفائدة المنخفضة السوق. وعلى النقيض من أوائل التسعينيات أيضًا — التي اتَّسمت بموجةٍ من عمليات استعادة الرهن العقاري — قرَّر المقرضون أنه من الأفضل إبقاء الناس في منازلهم، بدلًا من استعادة منازل المقترضين الذين لم يتمكَّنوا من مواكبة أقساط الرهن العقاري. وقد أسفر هذا، بعد الأزمة، عما وصفته بتوازن النشاط المنخفض. ويحدث التوازن عندما يكون الطلب والعرض في حالة توازن. وفي هذه الحالة، كان كلٌّ من الطلب والعرض ضعيفًا، الأمر الذي ترك أسعار المساكن في حالةٍ من التوتر والقلق بين الاثنَين.
تغيَّرت الظروف والسلوك. عندما ضربت جائحة كوفيد-١٩ في عامَي ٢٠٢٠-٢٠٢١ الاقتصاد، متسبِّبة في أعمق ركود في قرن من الزمان على الأقل، ربما كان من المتوقَّع أن تنخفض أسعار المساكن بشكلٍ حادٍّ. ولكن خفض سعر الفائدة المصرفية إلى ٠٫١ في المائة، وخفض ضريبة الدمغة — الضريبة المدفوعة عند شراء منزل — أديا إلى انتهاء عام ٢٠٢٠ بأقوى ارتفاعٍ في أسعار المساكن منذ سنوات، ولم ينتهِ بانهيار.
تحدث أشياء غير عادية. ويحقِّق خبراء الاقتصاد نتائج جيدة إذا تمكَّنوا من تفسيرها.
ملحوظات ذكية
هذا كافٍ عن الإسكان، الذي كان يجعل الناس في المعتاد متحمِّسين للغاية، قبل أن تتصدَّر مسائل مثل البريكست والاستقلال الاسكتلندي الواجهة. وهذا يدل على أنك عندما تبدأ في الحوار عن مثل هذه الأشياء فمن الصعب التوقُّف. ويتضح من ذلك أيضًا أن قليلًا من المعرفة عن علم الاقتصاد قد يفتح لك مجالات واسعة. فليس من الضروري أن تقلق بعد ذلك حيال مصداقية ما يقوله المضاربون عن توقُّعاتهم بانخفاض أسعار العقارات في الأعوام الثلاثين القادمة. كل ما عليك عمله فقط هو أن تسأل عمَّا إذا كان مستوى الدخل سينخفض في هذه الفترة وما السبب في ذلك. ولن يكون هناك داعٍ بعد ذلك لأن تبتسم بأدب، عندما يقول أحدهم إنه بصرف النظر عن مستوى أسعار الفائدة فإن أسعار العقارات مرتفعة جدًّا. فأنت تعلم ما هو أفضل من ذلك. وعندما تقرأ أحد تلك المقالات الصحفية وتجدها تتساءل عن أيهما أفضل: الاستثمار في العقارات أم في الأسهم، يمكنك هنا الاختيار بين إما قراءة المقال وأنت تضحك، أو أن تقلب الصفحة فحسب. هذا ما يتناوله علم الاقتصاد، حيث يُستبدل النقاش بالتأكيدات والتحليل بالحكاية. وأحيانًا عندما تحدث أشياء غير مألوفة، يتعلَّق الأمر أيضًا بالبحث جيدًا عن تفسيراتٍ مقنعة. وكما سنرى لاحقًا فسوف يُطبق ذلك على كثيرٍ من الأمور «في الأعمال العادية في الحياة».
يعتبر مستوى الدخل وسعر الفائدة من الأمور الأساسية في سوق العقارات، ولكننا لم نناقش ما يحدِّد ذلك السعر. وسوف نتناول ذلك فيما بعد. تُعرف دراسة الأسواق الفردية في علم الاقتصاد — وكما يعلم الكثيرون — باسم «الاقتصاد الجزئي»، ويعتبر كلٌّ من أسعار الفائدة وارتفاع مستوى الدخل من متغيرات «الاقتصاد الكلي»، ومن شأنها الاهتمام بالاقتصاد بوجهٍ عام. وتدلُّ كلمة جزئي على صغر الحجم، وتدل كلمة كلي على الشمول والاتساع. وتختلف العقارات في هذا الصدد أيضًا. ويعتبر الكثير من خبراء الاقتصاد أن سوق البطاطس أو سوق العقارات في مدينة ميلتون كينز أساس الاقتصاد الجزئي، إلا أن سوق العقارات عمومًا له أهمية كبيرة، ومن هنا أصبح يدخل في نطاق الاقتصاد الكلي. وسيصبح كلُّ شيءٍ أوضح عندما ننظر لكيفية عمل السياسة الاقتصادية. لننتقل إلى الطبق الرئيسي.