الفصل الثالث

الطبق الرئيسي (١)

أعتذر لأنني لم أقدِّم لك بعدُ الضيفين الآخرين اللذين يجلسان معك على المائدة. ألا وهما السيد «س» وزوجته، وهما من أصحاب المنطق الاقتصادي السديد. ومع إمكانية التنبُّؤ بما سوف يعملان، فهما ليسا بالزوجَين المتعبَين. وسوف نتحدَّث عنهما في وقتٍ لاحق، ولكن دعنا نذكر الهدف من هذا الطبق الرئيسي. من السهل التوصُّل لفكرة أن علم الاقتصاد يُعنى بمليارات الدولارات المتداولة في أسواق المال العالمية، أو يُعنى بمقدار الزيادة التي أقرَّها وزير المالية في النفقات العامة أو في الضرائب بمليار جنيه أو مليارَين، إلا أن السلوك البشري هو المحرِّك الرئيسي وراء كل ذلك. ومن ثَم فإن الهدف هو البدء بالسلوك الاقتصادي للرجل والمرأة، ومحاولة وضع صورة عامَّة لكيفية عمل الاقتصاد ككل. لكن لا بد أن تتأكَّد من أنه مع أن ذلك قد يبدو إلى حدٍّ ما مثبِّطًا للهمَّة، فإنه في الواقع ليس كذلك. لذا، سنبدأ من القاعدة ونبني عليها حتى نصل بك إلى القمَّة. لقد حان الوقت لنبدأ في تناول الطعام.

التصرُّف وَفْق معايير اقتصادية

يتأثَّر الكثير من الناس من فكرة كون السلوك الإنساني قابلًا للتنبُّؤ به. بالتأكيد سيزعم الغالبية أن الواقع هو عدم القدرة على توقُّعه. فمن الممكن تقبُّل وجود الرجل والمرأة من ذوي المنطق الاقتصادي السديد في الكتب المنهجية، ولكن هل من الممكن أن يكونا موجودَين في الواقع؟ وإذا كنت تتفق معي في الرأي، فمن الممكن أن تكون في كثيرٍ من الأحيان قد اشتريت سلعةً لا تستحق ما دفعته فيها (أحد سلع الليمون كما ورد في الفصل السابق)، أو قد قمت باتخاذ أحد القرارات الاقتصادية غير المفهومة على نحوٍ واضح. ولنكن أكثر واقعية؛ كيف يمكن لعلم الاقتصاد تفسير السبب وراء اختياري لشراء قميصٍ جديدٍ لمجرد أنني رغبت فيه، أو تفسير تفضيلي للذهاب لعملي ماشيًا على قدمي بدلًا من ركوب الحافلة؟ فإذا نظرت من أعلى على شارع أكسفورد فستجد الناس يركضون إلى أعمالهم بعشوائية مثل مستعمرات النمل.

وبصرف النظر عن حقيقة عدم وجود شيءٍ ما عشوائي في أسلوب معيشة النمل، فإن جوهر علم الاقتصاد هو اتباع السلوك الإنساني لأنماطٍ معينةٍ متوقعة. فعندما ينخفض سعر منتجٍ من المنتجات — على سبيل المثال — يميل الناس لشراء المزيد منه. ولا يدلُّ ذلك على أي شيءٍ مدهش أو يصعب فَهْمه. ومع ذلك فقد يرى الكثير أن ذلك ليس سوى هراءٍ علمي. وقد وجد السيد دينيس هيلي الكثير لينتقده فيما قُدم له من نصائح اقتصادية، حينما كان يشغل منصب وزير المالية لبريطانيا من ١٩٧٤ وحتى ١٩٧٩، وهي من أكثر الفترات اتِّقادًا في الأوقات المعاصرة. أعلن دينيس هيلي عن رغبته في أن يفعل بمن يتكَّهنون بمستقبل الاقتصاد، مثلما فعل سفاح بوسطن الشهير بكل مندوبي المبيعات؛ فقد أفقد الناس الثقة بهم للأبد. وأما علم الاقتصاد ككل فلم يكن دينيس هيلي مقتنعًا بفوائده. وقد كتب في سيرته الذاتية «مسيرة حياتي»: «لقد قرَّرت أنه في حين تعطيك النظرية الاقتصادية رؤًى قيمة لما يحدث، فإنها نادرًا ما تعكس قواعد واضحة لأداء الحكومة؛ لأن السلوك الاقتصاديَّ قد يتغيَّر من عامٍ لآخر، ويختلف من دولة لأخرى.»

لم يكن هيلي مزعجًا بقدر ما أظن. فقد كانت الفكرة الأساسية التي يعتمد عليها أن السلوك الاقتصادي يتغيَّر من عام لآخر، ويختلف بين الدول، وهو الأمر الذي لا يصعب فَهْمه على خبراء الاقتصاد. وفي الفترة التي تولَّى فيها المسئولية، زادَت نسبة التضخُّم الذي وصل لذروته ليزيد عن ٢٦٪. وانخفضَت نسبة المضاربة في البورصة بثلثَي القيمة، وكان من الضروري أن يحاول الاقتصاد العالمي مجابهة أسعار النفط التي تضاعفت أربع مرات، أما بريطانيا التي كانت تشرف على الإفلاس (مع أن الدول لا تشهر إفلاسها فعليًّا)، فكان من الضروري أن تطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، وهو ما اضطرَّت إلى أن تفعله اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وقبرص بعد انقضاء ثلاثة عقودٍ لاحقة في أزمة منطقة اليورو. إن ما كان يخضع للتغيير ليس فقط السلوك الاقتصادي الأساسي، بل القُوى التي تؤثر على هذا السلوك والتي تخرج من نطاق الخبرات السابقة. وهناك نقطة أخرى تستحقُّ الرجوع لتناولها، وهي أن السلوك العقلاني قد يعني اختلاف السلوك في المواقف المختلفة كرد فعلٍ لظروف مشابهة. فإذا كنت قد قمت بشراء مكانٍ لقضاء الإجازة، وكان قليل الفائدة، فمن المرجَّح ألَّا تكرِّر ما فعلت مرة أخرى، حتى إذا واجهتك نفس المغريات. فإنْ تضاعف سعر النفط أربع مرات، فقد ترغب في سحب أموالك من البورصة. من هنا تعتبر طريقة التفكير العقلانية هذه جزءًا من السلوك الاقتصادي السديد.

توقَّع ما لا يمكن توقُّعه

لكن ماذا عن عدم القدرة على التوقُّع؟ إن علم الاقتصاد السلوكي، وهو فرع مفيد وشائع عن هذا الموضوع، يدور حول الاستثناءات للقاعدة العقلانية. فعلى سبيل المثال، يمكن لهذا العلم أن يفسِّر لنا كيف يتأثَّر الناس إلى حدٍّ كبير بسلوك الآخرين. وحتى إذا كنا نعلم أن قرارًا ما ليس قرارًا معقولًا، فقد نتخذه إذا كان الآخرون يتخذونه، ربما خوفًا من أن نستبعد. وقد نفعل أشياء أيضًا لأننا اعتدنا على فعلها بهذه الطريقة، والعادات القديمة لا تموت بسهولة. وقد يكون دافعنا غير اقتصادي؛ فقد نفعل أشياء غير عقلانية اقتصاديًّا لأننا نعتقد أنها مفيدة للمجتمع الأوسع. ومن الصعب اتخاذ بعض القرارات العقلانية، وكثيرًا ما يفتقر الناس إلى المهارات اللازمة للقيام بذلك. ولعل هذا هو السبب وراء قيام العديد من الناس بشراء منتجات الادِّخار الرديئة، والاستثمار في الأسهم المشبوهة. والنقطة الأوسع نطاقًا هي أن أغلبنا يعتقد أن ما نفعله ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من النزوة. وسوف أعود إلى علم الاقتصاد السلوكي.

كيف يمكن للفرد أن يفسِّر أو يتوقَّع السبب وراء قراراته في يوم معين، وربما — ومع وَضْع هذه الوجبة في مخيلتي — لن تصبح خزانتي كاملةً إلا بشراء قميصٍ مقلمٍ أرجواني وآخرَ أخضر؟ وماذا سيحدث إذا قرَّر الجميع شراء هذه الأنواع في يومٍ بعينه، ولم يقرِّر أحدٌ بعد ذلك القيام بشراء أيِّ قميصٍ لمدة أسبوع؟ الإجابة على ذلك هي أنه ما دام هناك عددٌ كافٍ منا فإن السلوك غير المتوقَّع من البعض لن يُؤخَذ في الاعتبار. ومع ذلك، وحتى على المستوى الفردي، فإن سلوكنا ليس غير متوقَّعٍ للدرجة التي تعتقدها. فقد لا يستطيع الخبير الاقتصادي توقُّع اليوم المحدَّد الذي ستشتري فيه هذا القميص، ولن يستطيع تفسير سبب ذوقك في الألوان. لكنه يدرك، بعد معرفة مقدار دخلك الشهري، قدرتك على شراء عدد محدد من الملابس في فترة زمنية محددة. وهذا هو السبب الذي يدعو كثيرًا من الشركات أن تنفق مبالغ كبيرة، حتى تحصل على معلومات عن أنماط الإنفاق للناس (وهو أمر أصبح أيسر كثيرًا في العصر الرقمي)، وتمطرنا بوابل من كتيبات التسويق التي تركز على هذه الأنماط. فإذا تصرف كل فرد بعشوائية فلن يكون هناك ضرورة لذلك.

العصا والجزرة

كتب ستيفن لاندسبيرج في كتابه الرائع «فيلسوف الاقتصاد»: «من الممكن تلخيص معظم علم الاقتصاد في كلمات مختصرة: «الناس تستجيب للحوافز.» أما المتبقِّي فما هو إلا تعليق على ذلك». وقد تناولنا ذلك من قبلُ عندما كنا نناقش في الفصل السابق البطاطس والسبب في اختلافها عن العقارات. عندما تنخفض أسعار البطاطس فإنه من المرجح أن يزيد شراء الناس منها والعكس صحيح. ولإضافة المزيد من الإرباك تعرف الحوافز بالجزر والعوائق بالعِصيِّ. فلماذا يستمرُّ معظمنا في العمل مع وجود كثيرٍ من الأمور أكثر لطفًا يمكن القيام بها. ذلك بسبب أن الجزرة في حالة دخل يزيد تدريجيًّا تبدأ في التأرجح بلطف أمام أعيننا، والعصا، التي تمثِّل حياة بديلة من الفقر المدقع، ترجع بنا إلى الوراء.

من أكثر الأمثلة وضوحًا فيما يخصُّ الحوافز ما جاء وصفه فيما سبق. فعندما ينخفض سعر سلعة ما نميل إلى شراء المزيد منها. وبالطبع هناك استثناءات لهذه القاعدة لكنها ليست بالكثيرة. ففي فترة التسعينيات، عندما نشبت حرب الأسعار بين الصحف في بريطانيا، ظن الكثير من خبراء الاقتصاد أن ملَّاك الصحف قد نجحوا في إهدار الأموال؛ فإن مشتري الصحف لم يدفعوا سعرها الحقيقي. كان ذلك بسبب أن ثمن الصحيفة كان يمثِّل نسبةً ضئيلةً من الدخل، تمامًا كالمثال الذي تذكره الكثير من الكتب المنهجيَّة «علبة أعواد الثقاب». كان من المتوقع ألَّا يستجيب الطلب للتغيُّرات في السعر «غير المرن». ولكن في الواقع تحوَّل الأمر ليصبح مرنًا وذلك بزيادة الطلب على صحيفة «تايمز» كاستجابة لتخفيض الأسعار، حيث توسَّع سوق الصحف عندما انتهجت بقية الصحف المنظومة نفسها. كانت تلك الأيام التي لم يكن فيها أيُّ بديل قابل للتطبيق على الإنترنت. ولكن لم تكن هذه الاستراتيجية هي التي التزمت بها الصحف، بل قررت في نهاية المطاف أن الأمر يستحق التضحية ببعض التوزيع لصالح العائدات من سعر الغلاف (المعلن) الأعلى.

يبحث خبراء الاقتصاد دائمًا عن استثناءات للقاعدة. وقد لاحظ روبرت جيفن في القرن التاسع عشر زيادة الطلب على بعض السلع الأساسية، مثل الخبز والبطاطس، عندما ترتفع الأسعار. ففي ظروف معينة خاصة جدًّا، نجح هذا الأمر. ولنتخيَّل وجود عائلة محدودة الدخل تعتمد في نظامها الغذائي على البطاطس واللحوم. فعندما يرتفع سعر البطاطس ولكن يبقى أقلَّ من سعر اللحوم، فإن رد فعل العائلة سيكون تقليل كمية اللحوم والاستعاضة عنها بكمية أكبر من البطاطس. من هنا فإن ارتفاع الأسعار يعني زيادة الطلب وليس قلَّته. وقد حدث ذلك بالفعل أثناء مجاعة البطاطس في أيرلندا.

وقد حظيَ جيفن بسبب هذه الملاحظة بمكانةٍ بين نخبة المشهورين في عالم الاقتصاد، ومن هنا سُمِّيت بعض البضائع باسمه؛ سلع جيفن. ومع ذلك فقد وجد خبراء الاقتصاد أنه من الصعب تحديد أمثلة ثابتة لذلك. فهذا مجرد شيء نادر الحدوث وليس بقاعدة.

من الممكن أن تكسر هذه القاعدة ما يعرف بالبضائع الرديئة. فمثلًا تعتبر الأمعاء — أمعاء البقرة — جزءًا من الغذاء الحيواني يتناولها العديد من الناس، خاصةً أصحاب الدخول القليلة في الميدلاند والشمال. وبعد ارتفاع الدخول وتناسب سعر كل أنواع اللحوم الأخرى لرخصها، تمكن هؤلاء الناس من تناول المِفْصَل وقطع اللحم الكبيرة وشرائح اللحم. ولم يهتموا بسعر الأمعاء الذي استمرَّ في الانخفاض بسبب قلة الطلب عليها. ومن الضروري أن نذكر أن كل ذلك يمثل دائرة متكاملة. وبعد ذلك عند انتشار المطبخ الفرنسي في بريطانيا على نطاق واسع، أصبحت الأمعاء من الأصناف الشهية التي يكثر الطلب عليها في أكبر المطاعم. ونكرر أنه من الضروري ألَّا نركز على ذلك فقط. مع أنه من الممكن أن يكون ذلك صحيحًا، أي إن الطلب على الأمعاء قَلَّ مع انخفاض سعرها، وليس بسبب أن أحد الجزارين رغب في تخفيض السعر ظانًّا أن ذلك قد يؤدي إلى أن يبيع كمية أكثر. فمن المهم جدًّا أن تستطيع التفريق بين النتائج قصيرة المدى والنتائج طويلة المدى.

الأسماك وشرائح البطاطس المقلية

من الأمثلة الرائعة على نتائج تغيُّر الأذواق ومستوى الدخل ما ذكره الخبير الاقتصادي الأمريكي بول كروجمان، وهو جدير بأن تقرأ له في الموقع الخاص به. فقد كانت مقالته القصيرة «العرض والطلب والطعام الإنجليزي» تحاول الإجابة على السؤال المطروح عن السبب وراء تحسُّن مستوى المطاعم في بريطانيا، التي كانت مشهورةً عن جدارة ببشاعتها؛ فقد كان عندهم مثلًا الأسماك والبطاطس المقلية التي تمتلئ بالزيت، وفطائر لحم الخنزير الهلامية، والقهوة التي تشبه ماء غسيل الأطباق، وقد تحسَّن كل ذلك فجأة. وكانت النتيجة التي توصَّل إليها هي أن التصنيع وانتقال عدد كبير من الأشخاص من الريف إلى المدن قد أديا إلى نسيان الناس في بريطانيا الطعام الصحي، وأن يتقبَّلوا الغذاء الأقل جودةً من البدائل المصنَّعة — كالخضراوات المعلَّبة واللحوم المحفوظة — التي يسهل شحنها وتخزينها. لقد عمَّ الرخاء ولكن لم تتغيَّر الأذواق، وذلك لأن الناس لم يعرفوا ما هو أفضل. وقد صرَّح كروجمان ساخرًا: «لأن الإنجليزي التقليدي الذي عاش — على سبيل المثال — في عام ١٩٧٥ لم يهنأ بوجبة واحدة جيدة؛ لذا فإنه لم يطلب الحصول عليها.» ولكن عندما أخذ الناس في السفر على نطاق واسع، وبدءُوا في تذوُّق مأكولات من بلاد أخرى، عندئذٍ بدءُوا في طلب المزيد من الجودة. ومن هنا يتساءل كروجمان: «ما علاقة كل ذلك بعلم الاقتصاد؟»

بالطبع إن المحور الأساسي في أي نظام للسوق هو أن يكون خادمًا للمستهلك، ويمده بما يحتاجه؛ مما يعني زيادة رفاهية المجتمع. لكن تاريخ الأغذية في إنجلترا يؤكِّد أنه من الممكن، حتى على مستوًى بسيط كتناول الطعام، عرقلة سير اقتصاد السوق الحرة لفترة طويلة في ظل عدم التوازن، حيث لا يكون هناك طلب على الأشياء الجيدة لأنه لم يسبق وجودها؛ ومن ثَم يجهلها الناس، ولم تتوافر بسبب قلة الإقبال عليها من قِبَل المستهلك.

إنه لمن الطريف أن نقول ذلك، ولكنه بدون شكٍّ واقعي.

التسعير من أجل البيع

وبعد الانحراف قليلًا عن لب الموضوع نعود إليه مرة أخرى. لماذا نشتري الكثير من شيء ما عندما ينخفض سعره؟ يتقيَّد غالبية الناس بمستوى دخولهم وما يستطيعون إنفاقه، باستثناء بيل جيتس وعدد محدود للغاية من الأغنياء؛ فنحن مقيَّدون بميزانية. وبسبب هذا التقيُّد نحدد ما ننفقه على أساس الضرورة والرغبة، فنخصص جزءًا للطعام والشراب والسفر والكتب والمتعة وما إلى ذلك. والمثال على ذلك قيامي بشراء عدد معين من الأسطوانات كل عام. فمن الممكن أن أشتري المزيد منها إذا اخترت أن أُقلِّل من مقدار الطعام الذي أتناوله، ولكنني راضٍ عن الأمور كما هي. فلقد قمت بتحديد اختياراتي. فمن منظور خبراء الاقتصاد يمكن اعتباري «وسطًا» في عدد الكتب التي أشتريها، وفي عدد الوجبات التي أتناولها. ومع أن هذه الكلمة غريبة، فإن كل ما تعنيه بالنسبة لمستوًى معينٍ من الدخل والأسعار، هو أن هذه الطريقة من الإنفاق مناسبةٌ لي.

والآن ماذا سيحدث إذا انخفض سعر الكتب إلى النصف؟ من الممكن أن تظنَّ أنني على الأقل سوف أشتري ضعف العدد الذي تعوَّدت عليه، حيث إنني أستطيع القيام بذلك بنفس المبلغ المخصَّص لشرائها. وأستطيع شراء نفس العدد مع استخدام القدر المتبقِّي من المال في شراء وجبات أفضل، أو السفر لمناطق أخرى، أو الإكثار من الذهاب للسينما. ويمكنني توفير المزيد من النقود. فإذا قمت بذلك، فإن هذا الانخفاض في الأسعار لن يكون له أيُّ تأثير، وستنكسر القاعدة التي نحن بصددها. لذلك فماذا يتوقَّع الفرد؟ لقد أصبحت الكتب فجأة رخيصة مقارنة بكل شيء آخر، وفقًا لنمط الإنفاق الخاص بي. لذلك فإن أسعار كل الأشياء قد ارتفعت مقارنةً بأسعار الكتب. من هنا فإن نمط الإنفاق المقترح في المستقبل سيكون للحصول على كمية أكبر من الكتب مقابل الأشياء الأخرى. يسمِّي خبراء الاقتصاد ذلك تأثير «الإحلال»؛ تغيير نمط الإنفاق لصالح أشياء قد انخفضت أسعارها أو العكس عند ارتفاع أسعارها، بصرف النظر عن السلع التي زادت قيمتها. لذلك فنحن نوضِّح تأثير الإحلال في كل مرة نشتري فيها أكثر من منتج مزين بعروض شراء خاصة في الأسواق التجارية. وعلى نحوٍ تصادُفي، أصبحت هذه الأشياء من الماضي في المملكة المتحدة؛ لأنها يُعتقد أنها تزيد السمنة.

وهناك تأثير آخر. فبالطبع عندما انخفضت أسعار الكتب للنصف قد تحسَّنت حالتي المادية تحسنًا ملحوظًا. لماذا؟ قبل تخفيض السعر كان الدخل يوفِّر لي المأكل والمسكن والملبس والسفر وما إلى ذلك، بالإضافة إلى شراء عشرين كتابًا في السنة. أما الآن فنفس الدخل يوفِّر لي شراء أربعين كتابًا بالإضافة إلى كل الأشياء الأخرى. لذلك فإن هذا الانخفاض في الأسعار يساوي الزيادة في الدخل. ومن هذا المنطلق فهي تعتبر مثلها مثل أية زيادة في الدخل. لذلك لن أقوم بشراء المزيد من الكتب عندما يزيد الدخل؛ ومن ثَم فلن أقوم بذلك في هذه الحالة أيضًا. ومما لا يدعو للدهشة أن يُعرف ما سبق «بتأثير الدخل». ومعنى ذلك، من وجهة نظري على الأقل، أن النتيجة المحتملة لتخفيض أسعار الكتب إلى النصف ستكون زيادةً معقولةً في المشتريات من الكتب، ولكنها لن تصل للضعف، مع حدوث زيادات صغيرة في استهلاك السلع الأخرى. وفي المقابل إذا زادت أسعار الكتب بدون أية زيادة في الدخل فستكون النتيجة عكس كلِّ ما سبق.

لقد ذكرنا أحد الأمثلة الواقعية في الفصل السابق. عندما تنخفض أسعار الفائدة فسوف تنخفض أسعار (وتكاليف) العقارات، وهو السعر الذي يؤثِّر على ميزانية الأسرة. وتأثير الإحلال هنا هو تفكيرك في شراء منزل أكبر، وبالفعل يقوم الكثيرون بذلك. أما تأثير الدخل فيحدث عند شعورك بالتحسُّن، أي عند انخفاض أسعار الفائدة لتساوي مقدار الارتفاع في دخل المقترض. وبسبب تحسُّن حالتك المادية؛ فإنك تستطيع إنفاق المزيد على شراء السلع وليس العقارات. وكما سنرى فيما بعد، فهذه هي الطريقة التي تعمل بها السياسة المالية.

الإشباع

قبل المضي قدمًا، فقد حان الوقت لمناقشة لغز بسيط. ما الذي يحدِّد كيفية إنفاق نقودنا؟ لماذا نفضِّل بعض الأشياء عن غيرها؟ قد تكون إجابة بعض الأفراد على هذه الأسئلة: «الحاجة». وجد مكتب الإحصاء الوطني البريطاني، الذي يصدر تقرير الإنفاق الأسري السنوي، أن الأسرة المتوسطة في عام ٢٠١٨-٢٠١٩ كانت تنفق ٥٨٥٫٦٠ جنيهًا إسترلينيًّا في الأسبوع. وكانت نسبة كبيرة من هذا المبلغ على ما قد يعتبره معظم الناس ضروريات، حيث أنفق ٨٠٫٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا على النقل، بنسبة ١٣٫٧ في المائة من الإجمالي؛ و٧٩٫٦٠ جنيهًا إسترلينيًّا على السكن والوقود والطاقة، بنسبة ١٣٫٦ في المائة؛ و٦١٫٩٠ جنيهًا إسترلينيًّا على الطعام والمشروبات غير الكحولية، بنسبة ١٠٫٦ في المائة. أنفقت الأسرة المتوسطة مبالغ أقلَّ على الملابس والأحذية، والعطلات الشاملة، والأثاث والسلع المعمرة الأخرى، والمشروبات الكحولية. ومع ذلك، أنفقت أيضًا ٧٦٫٩٠ جنيهًا إسترلينيًّا في الأسبوع على الترفيه والثقافة، بنسبة ١٣٫١ في المائة من الإنفاق، وهو أكثر من الإنفاق على الطعام والعديد من الضروريات الأساسية الأخرى.

لقد تغيَّر تكوين الإنفاق بوضوحٍ بمرور الوقت. كما يمكن أن يتغيَّر بسرعة. فخلال جائحة فيروس كورونا، تغيَّرت أنماط الإنفاق بشكلٍ كبير. ولم ينعكس هذا فقط في ارتفاع نسبة الإنفاق عبر الإنترنت من أقل من ٢٠ في المائة إلى ٣٠ في المائة أو أكثر، بل أيضًا في التحوُّل إلى الطعام المعدِّ والمستهلك في المنزل، بدلًا من المقاهي والمطاعم. وقد أدَّت عمليات الإغلاق بسبب الجائحة إلى خَفْض الإنفاق على الترفيه والعطلات بشكلٍ حادٍّ، وكان أحد الأسئلة هو ما إذا كان هذا الإنفاق سيعود إلى المستويات السابقة عندما ينتهي الخطر. كما أدَّت الجائحة إلى زيادة ذات صلة في الادخار «غير الطوعي»؛ حيث ادخر الناس لأن بعض الأشياء التي كانوا ينفقون عليها عادةً لم تكن متاحة لهم.

في الماضي، كان معظم دخل الناس يستخدم في الأساسيات. لم تكن الأجيال السابقة لتتمتَّع برفاهية تخصيص ثُمن إنفاقها الأسبوعي للترفيه والتسلية. وكان إطعام الأسرة وإسكانها سيشغل معظم دخلها، إن لم يكن كله. وقد أثارت مؤسسة جوزيف رونتري، التي تتمثَّل مهمتها في «حل مشكلة الفقر في المملكة المتحدة»، اهتمامًا وبعض الجدل بتقديرها السنوي لما تصفه ﺑ «معيار الدخل الأدنى» للأسر في المملكة المتحدة. في عام ٢٠٢٠، حددت أن الشخص الواحد يحتاج إلى ١٩٢٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا لتحقيق مستوًى معيشي أدنى مقبول اجتماعيًّا، بينما يحتاج الزوجان اللذان لديهما طفلان إلى كسب ١٨٧٠٠ جنيه إسترليني (٣٧٤٠٠ جنيه إسترليني مجتمعة). وقد نشأ الجدل في بعض الأوساط بسبب ما يعتبر ضروريًّا، بما في ذلك الهواتف المحمولة والسيارة المستعملة للأسر التي لديها أطفال خارج لندن. ما يعتبر ضروريًّا يتغيَّر بمرور الوقت. وشمل تقدير عام ٢٠٢٠ ما يلي:

لم يعد مشغل أقراص دي في دي ضروريًّا، ولكن تم تضمين اشتراك أساسي في خدمة نتفلكس أو خدمة بث مماثلة، وكذلك اشتراك للوصول إلى الألعاب عبر الإنترنت، واشتراك في حبر الطابعة، وللأسر الأكبر حجمًا اشتراك في حزمة برامج كمبيوتر. تعكس هذه التغييرات ليس فقط الخدمات التي تحتاجها الأسر ولكن أيضًا كيفية بيعها، حيث غالبًا ما تكون عروض الاشتراك المنخفضة التكلفة هي الطريقة الأكثر اقتصادًا لتوفيرها.

لقد جلب الرخاء معه زيادة في خيارات المستهلك وفيما يعتبر مقبولًا. فبوسعنا أن نذهب إلى دار الأوبرا (على الرغم من أن تكلفة تذكرة دخول دار الأوبرا الملكية تزيد عن الإنفاق الأسبوعي الترفيهي الذي تنفقه الأسرة المتوسطة)، أو نجلس على الأريكة ونشاهد مسلسلات تليفزيونية.

المنفعة

بعد قراءتنا لما سبق، فإننا ما زلنا نحتاج إلى الإجابة على السؤال: لماذا ننفق أموالنا بهذه الطريقة؟ قد يبدو ذلك تافهًا، ولكن شَغَل هذا الأمر بال العديد من خبراء الاقتصاد العظماء في الماضي، بالتحديد في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لقد اهتموا بقدر الإشباع أو المنفعة الذي يحصل عليه الأفراد من استهلاك الأشياء. وقد اعتقد البعض أنه من الممكن قياس ذلك. على وجه العموم، عندما نستهلك الكثير من شيءٍ ما، على سبيل المثال، يقل مقدار الإشباع أو المنفعة الذي نحصل عليه من كل قطعة إضافية. فمثلًا تناول قطعة شوكولاتة واحدة يوميًّا من الأشياء الرائعة، ولكن عندما تكون هناك قطعة أخرى فمن الممكن أن أتناولها، ومن الممكن أن أتركها. وبعد القطعة الثالثة قد أبدأ في الشعور بالغثيان، أما بعد القطعة الرابعة فمن الممكن أن أُصبح مريضًا. من هنا تقلُّ المنفعة أو «المنفعة الحدية» التي نحصل عليها من كل قطعة إضافية. يُعرف ذلك بما يسمَّى ﺑ «تناقص المنفعة الحدية». فكلما زادَت كمية المنتج الذي تحصل عليه، قلَّ مقدار ما تحتاجه إضافيًّا منه. وقد يتحوَّل أيضًا إلى أمرٍ سلبي. فبعد ستة أكوابٍ من القهوة في الصباح، من الممكن أن أدفع لشخص آخر لكي يتناول الكوب السابع الذي سيقدَّم لي. لا ينطبق تناقص المنفعة الحدية على كل شيء. فمن الممكن أن يحصل هُواة جمع الأشياء على المزيد من الإشباع عند الحصول على العنصر النهائي في مجموعة معينة، أكثر مما حصلوا عليه من إشباع في بداية الجمع. فمن الأمور الممتعة التي يكشفها علم الاقتصاد، التفكير في استثناءات لكل قاعدة. فعلى سبيل المثال: هل المدمنون يخضعون لمبدأ تناقص المنفعة الحدية؟

تسمح لنا المنفعة بالإجابة على بعض الألغاز الكبيرة الموجودة في وقتنا الحالي. فلماذا عندما يوجد العديد من البدائل حولنا يشتري الناس الشعرية المعلبة ويتناولونها، وهي من المأكولات المناسبة المعروفة، مع تعدُّد البدائل؟ لماذا لا يُنفق الطلاب كل نقودهم مرة واحدة في الحفلات المجنونة في أول أسبوع في الفصل الدراسي؟ لماذا يرتدي كبار السنِّ قبعات أثناء القيادة في وسط الطريق؟ حقيقة لا أستطيع تفسير السؤال الثالث (وإن استطاع أحدكم ذلك فليبلِّغني فورًا) ولكنني أستطيع تفسير السؤالَين السابقَين. فهما يرتبطان بمبدأ المنفعة؛ فكلنا يحاول بدون وعي — ومع معرفتي ببعض خبراء الاقتصاد الذين يستطيعون القيام بذلك بكامل وعيهم — الحصول على زيادة المنفعة التي نحصل عليها. بعبارةٍ أخرى، نحن نحاول الحصول على أقصى منفعةٍ مما ننفقه. ولكنني لن أحصل على أقصى منفعة، إذا أنفقت كلَّ دخلي على شراء شوكولاتة مارس، حيث سيظهر تناقص المنفعة الحدية بسرعة. من الممكن أن أستطيع القيام بذلك عند تناول شرائح اللحم مع الشعرية المعلبة. مع ذلك فنحن نظن أن المعجبين بهذه الشعرية قد يزيدون من منفعتهم منها، عن طريق تناولها مع كميات وفيرة من البيرة في مقهى الطلاب. أما هؤلاء الطلاب الذين لا ينفقون كل أموال المنحة الدراسية في أول أسبوع في الفصل الدراسي، فالسبب في ذلك هو عدم تزايد مقدار المنفعة التي يحصلون عليها من حفلة صاخبة يسهل نسيانها، والعيش على الكفاف باقي العام.

الحوافز تنجح في كل مجال

إن الفكرة الأساسية هي أن الحوافز في العمل تشكِّل جزءًا أساسيًّا من علم الاقتصاد. فهي معتقدٌ أساسيٌّ في هذا العلم، يمكن توصيلها لمجالات أخرى في الحياة. حصل جاري بيكر خبير الاقتصاد الأمريكي على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٩٢ عن قيامه بتوسيع نطاق تحليل الاقتصاد الجزئي لمجموعة كبيرة من السلوكيات والتفاعلات البشرية، بما في ذلك السلوك غير الخاضع لاقتصاديات السوق. وبعض الطرق التي يعمل بها الحافز واضحة جدًّا، إذا لم تكن مثيرةً للجدل. كيف نقلِّل من معدلات القتل؟ البعض يقولون عن طريق فرض عقوبة الإعدام على كل القَتَلة المدانين، رغم أن ذلك بدوره قد يعطي هيئة المحلَّفين حافزًا لعدم إدانة أحدٍ بسهولة. فالجريمة والعقاب من الأمور التي يمكن أن نستخدم مثال الحافز فيها على نطاق واسع. فما هي الطريقة الأمثل لمنع الناس من زيادة سرعة السيارات في الطريق؟ هل هي محاولة إقناعهم بمخاطر القيادة بسرعة، أم زرع كاميرات لمراقبة السرعة في كل مكان من الطريق وفرض غرامات كبيرة على المنتهكين؟ لقد حاولَت السياسة الحالية للحكومة البريطانية توعية الناس لعدَّة سنوات، ولكنها الآن تشجِّع تطبيق الطريقة الثانية قبل أن يبدأ الساسة في القلق بشأن وضعهم موضع اتهام بشنِّ حربٍ على سائقي السيارات. من هنا نجد أن أمان الطريق من المجالات التي يمكن تطبيق مثال الحافز بتوسُّع عليها. حيث سيستفيد السائقون الآمنون الذين لم يدانوا من قبل من تخفيض أقساط التأمين عمَّن يقودون بأقصى سرعة. لماذا لا تطبق الحكومة مبدأ الحافز عن طريق تعدُّد معدَّلات الرسوم التي تفرض على الطرق، وفقًا لخلو سجل الأمان الخاص بالسائق من المخالفات؟ من الممكن أن يعمل الحافز في مجال أمان الطرق كوسيلة للحماية. هل تساعد أحزمة الأمان سائقي السيارات على القيادة بحرص أكثر، أم أن معرفة أنهم سيكونون في أمان عند وقوع أية حادثة تشكِّل خطورةً أكبر من ذلك؟ هل أفضل طريقةٍ للتأكُّد من سلامة القيادة هي ضرورة تثبيت مسمارٍ كبيرٍ في منتصف عجلة القيادة، كما اقتُرح ذلك، حتى لا يعرض أيُّ شخص نفسه للمخاطرة؟

هناك أمثلة إضافية طريفة عن الحوافز: ما السبب في منع تعدُّد الزوجات في الكثير من المجتمعات الغربية؟ في الظاهر يبدو ذلك مشكلة للرجل، ضد مصلحته الشخصية؛ ومن ثَم يكون هذا التشريع في مصلحة المرأة، لتتأكَّد من عدم إجبارها على أن تشاركها أخرى في زوجها. يُفترض مما سبق أن تعدُّد الزوجات هي حالة يرغب فيها غالبية الرجال، ولكن بالطبع هذا محل جدل. لكن تغفل فلسفة تعدد الزوجات الحقيقة التي تقول: إنه في مجتمعٍ ما عندما يتساوى عدد الرجال والنساء تقريبًا، فإن تعدُّد الزوجات سيعني أن لكل رجلٍ لديه خمس أو ست زوجات سيكون هناك أربعة أو خمسة رجال وحيدين بلا زوجات. ستؤدي الحوافز دورها؛ ومن ثَم سيستطيع الرجال العيش بدون هذا النوع من المنافسة. من الواضح أن كل هذه الملاحظات يمكن عكسها بسهولة إذا كان الأمر يتعلَّق بالمرأة التي لديها أكثر من زوجٍ في نفس الوقت. فالتعدد الزوجي، كما هو معروف، موجود بالفعل في بعض المجتمعات، كما هو الحال مع التعدد الزوجي بين الإخوة، حيث يتزوَّج شقيقان أو أكثر من نفس الزوجة، في الأجزاء التبتية من نيبال والصين.

فلدى الرجال الحافز لتحريم تعدد الزوجات، فمن الممكن مد ذلك ليشمل العديد من المجالات الأخرى. فهل من الممكن أن تكون الأساليب الأكثر تحرُّرًا تجاه وضع المرأة في العمل بدافع العدالة، أم بدافع رغبة الكثير من الرجال في الاستمتاع بقضاء فترة بعد الظهر مستلقين على الأريكة يشاهدون السباق على شاشة التلفاز بدون أي إزعاج؟

لقد قام ستيفن لاندسبيرج في أحد المقالات التي نشرَتها مجلَّة «سليت»، على الإنترنت، بعرض زاوية أخرى شائقة عن دور الحافز في المجتمع. فهو يسأل عن سبب زيادة نسبة مَن يعانون مرض السمنة؛ خاصة في الولايات المتحدة؟ تدور التفسيرات المعتادة حول التأثيرات الضارَّة للتليفزيون والسيارات والأطعمة السريعة (بما في ذلك عندما تأتي اللحظة الحاسمة، وتصبح الوحدة القياسية للاستهلاك للمراهقين ليست أربع أونصات من الهامبرجر وإنما شطيرة هامبرجر من الحجم الكبير). يعتبر كل ما سبق من الأسباب المقنعة. فقلَّة التمرينات في مرحلة الطفولة وقلَّة عدد التلاميذ الذين يذهبون إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، سيؤدي كل منهما في النهاية إلى مراهقين يعانون مرض السمنة. لكن لماذا يظلُّ الناس يعانون السمنة؟ لماذا لا يحاولون إنقاص أوزانهم عندما يدركون مدى خطورة كمية الدهون الموجودة في أجسامهم؟ وفقًا لستيفن لاندسبيرج، فإن السبب في ذلك يرجع إلى فَقْدهم لحافز إنقاص الوزن. بالإضافة لما سبق فإن الحوافز هي المفتاح الرئيسي للسلوك الاقتصادي، كما نعلم. وقد كتب ستيفن لاندسبيرج:

هذه هي إحدى القصص الجديرة ظاهريًّا بالتصديق: لقد نجحنا في التسعينيات في اختراع أدويةٍ، مثل البرافاكول وليبيتور، تؤدِّي لتخفيض نسبة الكولسترول وتساعد في زيادة متوسط عمر الفرد. من هنا لك أن تتخيَّل مَن سوف يرغب في إنقاص وزنه مع توافر هذا التقدم الطبي. بالطبع إن السمنة من أسوأ الأمور التي قد تحدث لك، ولكنها لم تعُد تمثل الخطر الذي كانت عليه من قبل. لقد قلَّت مخاطر السمنة (فيما يتعلَّق بالمشكلات الصحية)؛ لذلك فإن المستهلك العاقل قد يختار المزيد من السمنة التي لا تمثل خطرًا. مع النجاح الذي حقَّقه مشروع العوامل الوراثية في الإنسان، تلوح في الأفق المزيد من الإنجازات الطبية مما يجعل السمنة صفقة رابحة. من هنا؛ فإن زيادة نسبة الذين يعانون السمنة لا تعكس سوى توقُّع عقلاني للتقدم في المستقبل، للقضاء على أمراض القلب الناتجة عن هذه السمنة.

يعرض لاندسبيرج كذلك توضيحًا من المحتمل أن يكون مضلِّلًا للسبب الذي تسهم فيه المأكولات قليلة الدهون في زيادة الوزن. فقد كتب يقول:

نفترض أن تناول بعضٍ من الآيس كريم كلَّ ليلة يُضيف إلى وزنك ١٠ أرطال، بمعرفة ذلك قرَّرت أن الأمر لا يستحق، وقررت ألَّا تتناول الآيس كريم مرة أخرى. وبعد ذلك ظهر نوع من الآيس كريم قليل الدسم مما يسمح لك بتناول ضعف الكمية كل ليلة مع زيادة في وزنك بمقدار عشرة أرطال. إن هذه صفقة أفضل، وقد يختارها أحد الأشخاص. لذلك، عندما نكون بصدد المأكولات قليلة الدهون، فقد يختار البعض عن اقتناع أن تزيد أوزانهم.

وكما ترى فخبراء الاقتصاد لديهم تفسير لكل شيء. لماذا يميل طوال القامة لأن يكونوا ناجحين في الحياة؟ التفسير المعتاد لهذا هو أن أصحاب الأعمال يفضلونهم خاصة في المناصب القيادية. لكن الدلائل على ذلك قليلة. وإذا كان هناك أدنى دليل على هذه التفرقة، فإن قصيري القامة سيندِّدون بهذه التفرقة. والحل وفقًا للباحثين في جامعة ولاية بنسلفانيا، أن المهم في الموضوع ليس طول الفرد في فترة النضوج وإنما في فترة البلوغ. فطوال القامة من المراهقين يجري اختيارهم للانضمام للفرق الرياضية في المدرسة، ويجري اختيارهم كأفضل الطلاب؛ يحدث ذلك للطلاب الذكور أكثر من الطالبات. ففي فترة البلوغ يكتسب الفرد الثقة ومهارات القيادة، والفضل في ذلك يرجع لطول قامتهم. هذا يفسر السبب في نبوغ بعض قصار القامة. فإما أنهم كانت لهم ردة فعل على التمييز الذي لاحظوه عندما كانوا أصغر سنًّا، أو أنهم كانوا أطول قامة بالنسبة إلى سنِّهم خلال فترة المراهقة ثم توقف نموهم. لكن هل من الممكن أن نعتبر ذلك قاعدة عامة؟ يجب أن نسأل من حولنا.

العمل أم الترفيه؟

في نهاية هذا الجزء يجب أن نناقش الحوافز التي تسبب الكثير من الجدل بين خبراء الاقتصاد. عندما يكسب أحد الأشخاص مبلغًا كبيرًا من المال في رهانات مباريات كرة القدم، أو في اليانصيب، أو في برنامج «من يريد أن يصبح مليونيرًا؟» فإن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا هو: هل ما تكسبه سيجعلك تتوقَّف عن العمل؟ وهناك سؤال آخر، وسوف نتناوله لاحقًا في هذا الكتاب وهو: هل ستمنحك هذه النقود السعادة؟ إن إجابة سؤال التوقُّف عن العمل مثلجة للصدر، ولكنها غير واقعية: «لن أسمح لحياتي أن تتغير»، أو ستكون الإجابة الأكثر شيوعًا: «أراهن بحياتي أنني سوف أترك العمل.»

ومع أن عددًا قليلًا من الناس يفوز بهذا القدر الكبير من المال، فإن احتمال الفوز يعطينا الحافز للمشاركة في اليانصيب أو عمل المراهنات، مهما طال الخلاف. مع ذلك فبعضٌ منا يواجه أنماطًا بسيطة من هذا النوع من القرارات. نفترض مثلًا أنه في وقتٍ ساد فيه نوع من التضخم البسيط، فمن الممكن أن يزيد راتبك نحو ٢٥٪. إذن فالاختيار بين تحسُّن الحالة المادية أو تغيير ذلك بالعمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع بدلًا من خمسة أيام، مع التمتُّع بنفس مستوى المعيشة السابق. فمن الممكن أن يكافئ المدير الموظفين بزيادة رواتبهم، ويكون رد فعلهم ألَّا يأتوا للعمل إلا قليلًا. في أواخر عام ٢٠١٠، كانت هذه مشكلة واجهها العديد من أصحاب العمل في مجال البناء. كان نقص عمال البناء المهرة يعني أن الأجور كانت ترتفع بسرعة. ومع ذلك، عندما استجابت الشركات برفع الأجر بالساعة، على سبيل المثال، لعمَّال البناء، وجدت أن العديد منهم يعملون حتى يوم الخميس فقط، ويأخذون يوم الجمعة إجازة كبداية لعطلة نهاية أسبوع أطول، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى المال الإضافي.

يُعرَف ذلك باسم «التناوب بين العمل والترفيه» وهذا المصطلح مهم ومثير إلى حدٍّ بعيد. وبالمناسبة لا نقصد بكلمة الترفيه مجرد الذهاب للسينما أو الجلوس حول حمامات السباحة. فهو يشمل الساعات التي تقضيها في النوم أو الاستحمام أو في تنظيف البالوعات، بمعنًى آخر أي وقت غير وقت العمل. فإذا قضيت كل وقتك في العمل فلن تتعب فقط، وإنما لن يكون هناك وقتٌ لتنفق المال الذي كسبته. هذه هي إحدى نهايتَي الموضوع إذا كنا بصدد موضوع التناوب بين العمل والترفيه. أما إذا لم تعمل وكنت تقوم بقضاء كل وقتك على الشاطئ، فمن الممكن ألا تمتلك النقود لكي تأكل. وهذا يمثِّل الطرف الآخر في الموضوع. فيما يخصُّ معظم الناس فإن التناوب بين العمل والترفيه موجودٌ في منطقة وسطى. وبالرجوع لموضوع النقاش الأول عن السبب الذي جعل الناس يُنفقون بالطريقة التي يتبعونها دون أخرى، فلن يكترث الناس بكمِّ الوقت الذي يقضونه في العمل مقابل قضاء وقت محدَّد للترفيه، على سبيل المثال أربعون ساعةً في الأسبوع للعمل مقابل بقية الأسبوع للترفيه. عندما ترتفع الأجور ستتحسَّن أحوال الناس، وسيعملون لعدد ساعات أقل. ومن ناحية أخرى، قد تزيد قيمة الترفيه نسبيًّا — يمكنك أن تفكِّر فيما قد تكسبه من أموال وأنت في فترة الراحة — مما يؤدِّي لزيادة الحافز من أجل العمل لعدد ساعات أطول. سيحدد التوازن بين هذَين التأثيرَين، تأثير الدخل وتأثير الإحلال، وما إذا كان ارتفاع الأجور سيؤدي إلى زيادة أو قلة عدد ساعات العمل.

يتضح ظاهريًّا من دلائل المدى الطويل أن ارتفاع الأجور سينتج عنه تخفيض عدد ساعات العمل. ولقد ناقشنا في الفصل السابق مدى زيادة الدخول فعليًّا — مما جعلها تفوق نسبة التضخُّم — ولكن مع ذلك لاحظنا تناقصًا في عدد ساعات العمل. ففي السنوات اﻟ ١٥٠ الماضية أو أكثر، قلَّ عدد ساعات العمل اليدوي من ستِّين ساعةً إلى أربعين ساعةً أو أقل في الأسبوع، مع تخفيضٍ موازٍ لذلك للكوادر العليا. لقد كان من متطلبات الرخاء وجود قدر كبير من الترفيه، وقد تحكَّم تأثير الدخل في تأثير البديل. ولكي نذكِّرك بكيفية حدوث ذلك، فإن الزيادة التي تحدث في مقدار الدخل تمكن الفرد فعليًّا من شراء المزيد من الوقت للترفيه، وذلك بالطبع هو ما اختاره الكثير من الناس. حدث كل ذلك رغم الحقيقة التي تقول: إن وقت الترفيه قد أصبح أغلى بمرور الوقت إذا ما تعرَّضنا لما يستطيع العامل كسبه من أموال مثلًا عند العمل في صباح أيام السبت.

من المثير أن يشهد الكثيرون أن هذه المرحلة انتهت ونحن نقترب من نهاية القرن العشرين، عندما طُلب من كبار الموظفين والإداريين العمل لمدة أطول من الساعات القانونية، بالإضافة لاستكمالهم باقي العمل في منازلهم. هذا في الوقت الذي قام فيه العديد من الناس بالحصول على وظائف أخرى خاصةً في أمريكا وبريطانيا. ولكن حدث تغيير آخر، ولو مؤقَّتًا، أثناء وبعد الركود الذي شهدته المملكة المتحدة في عامَيْ ٢٠٠٨ و٢٠٠٩. فقد ارتفعَت معدَّلات البطالة بنسبة أقل كثيرًا مما كان متوقعًا؛ لأن الموظفين كانوا على استعدادٍ للعمل لساعاتٍ أقلَّ (والحصول على أجر أقل). كما تم توزيع كمية أقل من العمل المتاح على عدد أكبر من الناس. ولم يكن الانخفاض في التوظيف أكثر من ثلث الانخفاض في إجمالي الناتج المحلي. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا يمثِّل تغييرًا دائمًا. وهناك أيضًا اختلافات كبيرة في ساعات العمل، حتى بين البلدان الصناعية. إذ يعمل الأمريكيون ما يقرب من ١٨٠٠ ساعة في المتوسط سنويًّا، مقارنة بنحو ١٤٠٠ ساعة في ألمانيا، وحوالي ١٦٥٠ ساعة في بريطانيا. وتُعزى هذه الاختلافات إلى الاختلافات في كلٍّ من ساعات العمل الأسبوعية واستحقاقات الإجازات.

وكان هناك تغيير كبير آخر أثناء جائحة فيروس كورونا، مع زيادة هائلة في العمل من المنزل. فقد شجَّع أصحاب العمل الناس على العمل من المنزل أو ألزمتهم الحكومة بذلك. لقد جعلت التكنولوجيا ذلك ممكنًا بطريقة لم تكن لتكون في الأوقات السابقة. أحب غالبية الناس العمل من المنزل بسبب المرونة الأكبر التي منحها لهم. وكان هذا على الرغم من حقيقة أنه في غالبية الحالات، كان يعني أيضًا أنهم يعملون لساعات أطول، دون نهايةٍ ثابتة ليوم العمل. وتوقع الكثيرون أن ثورة العمل من المنزل ستكون دائمة، مع تحوُّل الناس إلى نموذج هجين ما بعد الجائحة يتضمَّن يومَين أو ثلاثة أيامٍ في الأسبوع في المكتب والباقي في المنزل. وبينما تقرأ هذا، قد تعرف ما إذا كانت هذه التوقُّعات دقيقة أم لا.

العمل والضرائب

كل ذلك مهم إلى حدٍّ ما، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بالسياسة الاقتصادية. ففي الثمانينيات من القرن العشرين عندما كانت مارجريت تاتشر تتولَّى رئاسة الوزراء في بريطانيا، وكان رونالد ريجان رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك ضغط كبير على دور الحوافز وكيفية زيادتها خاصةً عن طريق تخفيض ضريبة الدخل. كان الجدل قائمًا على أنه في حالة ما إذا سُمح للناس بالاحتفاظ بجزءٍ أكبر من أرباحهم — أي زيادة أجورهم — فإنهم سيعملون بجدٍّ أكثر. ومن ناحيةٍ أخرى إذا فُرضت عليهم معدَّلات ضريبية عالية، فإن كَمَّ عملِهم سَيقِلُّ. ومما أحرج الحكومة البريطانية، أن أحد الأبحاث التي كلفت وزارة الخزانة بإجرائها البروفيسور تشاك براون الأستاذ بجامعة سترلنج أظهرت أن العكس هو الصحيح عندما أجرى البحث من قبل. فعند تخفيض الضرائب، فإما ألَّا يؤثر ذلك على الأفراد أو أن يعملوا عدد ساعات أقل. ولكن عند زيادة الضرائب، كانوا مضطرين للعمل أكثر للحفاظ على مستوى الدخل (بعد الضرائب). وتلا ذلك نشوب جدلٍ عنيفٍ لم يسفر عن أي فائز فعلي. ومن ثَم فقد اتضح أن غالبية الناس لا يملكون حق تغيير عدد ساعات العمل التي يؤدونها؛ لأن الشركات التي يعملون بها قد حددتها. مع ذلك فلم يتوصَّلوا للإجابة عن السؤال الأكثر صعوبة عما إذا كان تخفيض الضرائب يعني زيادة الجهد المبذول في الوقت المخصص للعمل، أي: زيادة القدرة الإنتاجية للفرد. ولكن كانت هناك أدلَّة أخرى. فقد خُفِّض أعلى معدل لضريبة الدخل في بريطانيا إلى ٤٠٪ في عام ١٩٨٨، وبدا أن هذا المعدَّل كان له تأثيرٌ إيجابيٌّ من خلال تشجيع المزيد من الشركات العالمية على التواجد في بريطانيا، وخاصَّةً في مجال الخدمات المالية، الأمر الذي ساعد في إحياء مدينة لندن بقوة. كما أدى هذا إلى تقليص الحافز بين الأفراد للانخراط في التخطيط الضريبي المكلف، أو التهرب الضريبي. وقد أدى هذا، إلى جانب ارتفاع أقوى في الأرباح بين ذوي الأجور الأعلى مقارنة بالسكان ككل، إلى ارتفاع في نسبة عائدات ضريبة الدخل القادمة من دافعي الضرائب ذوي المعدلات الأعلى. وفي الفترة ١٩٧٨-١٩٧٩، عندما كان أعلى معدل لضريبة الدخل ٨٣٪، كان ١١٪ من عائدات ضريبة الدخل تأتي من أعلى ١٪ من أصحاب الدخول. وبحلول الفترة ٢٠٠٩-٢٠١٠، مع أعلى معدل ٤٠٪، تضاعفت النسبة إلى أكثر من الضعف، إلى ٢٦٫٥٪. ولكن هذا كان العام الأخير من تطبيق المعدل الأعلى للضريبة الذي بلغ ٤٠٪. وقد رفعته حكومة حزب العمال إلى ٥٠٪ اعتبارًا من أبريل ٢٠١٠، كأحد التدابير الرامية إلى خفض العجز في الميزانية. وحذَّر قطاع الأعمال من أن هذه الخطوة قد تخلف آثارًا سلبية خطيرة، في حين وعدت الحكومة الائتلافية القادمة في مايو ٢٠١٠ بفحص ما إذا كان المعدل الأعلى للضريبة قد ولَّد زيادة صافية في العائدات الضريبية، وفي حال حدوث ذلك فإنها قد تخفضه إلى ٤٥٪ اعتبارًا من أبريل ٢٠١٣.

ولكن نسبة ضريبة الدخل في شريحة اﻟ ١٪ العليا من السكان، لا تقدِّم دليلًا مقنعًا على أن خفض المعدل الأعلى للضريبة يعزز الحافز للعمل. قد يعكس هذا حقيقة مفادها أن المجتمع أصبح أكثر تفاوتًا، أو أن الحافز ذا الصلة هو لجذب المزيد من الأشخاص ذوي الأجور المرتفعة إلى بريطانيا، كما حدث لمدينة لندن بعد عام ١٩٨٨. ومن المثير للاهتمام أن معدل الضريبة الأعلى بنسبة ٤٥ في المائة لم يمنع المزيد من الارتفاع في نسبة ضريبة الدخل التي تدفعها شريحة اﻟ ١٪ العليا. فقد انخفضت إلى ٢٥٫١٪ في ٢٠١٢-٢٠١٣، عندما كان معدل ٥٠٪ ساريًا، ولكنها ارتفعت بعد ذلك إلى ٢٩٫٦ في المائة بحلول ٢٠١٩-٢٠٢٠.

ومن الجدير بالذكر أن بعض الضرائب، وخاصة الضرائب المرتبطة بالدخل، تؤدي وظيفتها في إعادة توزيع الدخل. وهكذا، في عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠، كانت حصَّة الدخل قبل الضريبة التي تتمتَّع بها شريحة اﻟ ١٪ العليا هي ١٢٫٨٪، لكن الضرائب خفضتها إلى ٩٫٥٪. وفي الوقت نفسه، كانت حصة الدخل قبل الضريبة لشريحة اﻟ ٢٥٪ الدنيا هي ١٠٫٥٪ — وهذا أقل من شريحة اﻟ ١٪ العليا — لكن هذه الحصة ارتفعت إلى ١٢٫١٪ بعد الضريبة.

سنعود لاحقًا للحديث عن الضرائب. إن وَضْع المرأة العاملة يُعدُّ أحد المجالات التي تُظهر فيها تغيُّرات الضرائب تأثيرًا واضحًا على إقبال الناس على العمل. ففي بريطانيا كان المتزوجون يشتركون في دفع الضرائب. تقوم المرأة التي تعمل في وظيفة لنصف الوقت بمشاركة زوجها في دفع الضرائب، على أساس أعلى حدٍّ للضريبة وهو الذي أوصل بريطانيا في السبعينيات من القرن العشرين إلى ٨٣٪، وبلغ ٦٠٪ في معظم الوقت في فترة الثمانينيات من نفس القرن لمن يدفعون الضرائب بنسب كبيرة. ونتيجة لهذه الظروف قرَّر العديد من الأزواج عدم جدوى عمل الزوجة أو العكس، إذا كانت هي معيلة الأسرة. وقد تغيَّر كل ذلك في ظل النظام الذي قدَّمه في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين المستشار نايجل لاوسون، وهو أحد وزراء الخزانة الثلاثة في حكومة تاتشر، ألا وهو نظام الاستقلال الضريبي، أي أن تحصَّل الضرائب من الأزواج والزوجات كل على حدة. وهكذا أصبح للزوجات نصيب محدد من الضرائب؛ فهن يدفعْنَ الضرائب بمعدل يعكس مقدار الدخل الخاص بهن، دون أية علاقة بدخل الزوج. وقد أسهم ذلك كثيرًا في تغيير أحد ملامح سوق العمل في بريطانيا في الجزء الأخير من القرن العشرين، وارتفع بذلك عددُ السيدات العاملات.

•••

لقد قطعنا شوطًا طويلًا ولم نبدأ في الطبق الرئيسي بعد. أنا أدرك هذا الشعور عندما تكون في منتصف حفل عشاء راقٍ وتنتظر سماع عدد من الخطب، وتتساءل ما إذا كنت ستتمكَّن من إكمال الحفل للنهاية. هذا إلى جانب أنني أكره الفصول الطويلة للغاية. لذلك فقد حان وقت أخذ فاصلٍ من الراحة، ثم بعد ذلك نرحِّب بضيف خاصٍّ جدًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥