آدم … بلا تفاحة
سيكون اختيارنا الأول لضيف مشهور اختيارًا جريئًا. ففي حين يكثر الجدل بين العديد من خبراء الاقتصاد بسبب اختيار آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠) مؤسسًا لعلم الاقتصاد الحديث، فإن كثيرين قد يتردَّدون قبل دعوته كمتحدث عن هذا العلم. فمن الممكن وصف هذا الاسكتلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر بعالِمٍ شارد الذهن. ومن بين النوادر التي تُروى عنه في تلك السنين، أنه كان يضع الخبز والزبد في إبريق الشاي، ثم يصب عليهما الماء الساخن ويتعجَّب من سوء مذاق الشاي. وهناك رواية أخرى عنه تقول: إنه أثناء انشغاله بأحد خطاباته الفلسفية أثناء سيره، تعثَّر ووقع في حفرةٍ بها مياه للدباغة. لقد وُلد في مدينة كيركالدي على خليج فيرث من نهر الفورث بعد بضعة أشهر من وفاة والده، الذي كان يشغل منصب مأمور جمرك المدينة (في الوقت الذي كان فيه المنصب ذا شأن رفيع أكثر مما هو عليه الآن)، ولم يتزوَّج سميث، مع أنه قد أشار باستحسانٍ في أحد كتاباته لجمال فتيات الليل الأيرلنديات الموجودات في لندن، اللاتي يتغذَّين على البطاطس. وقد أقرَّ بنفسه أنه لا يصلح لأن تُرسمَ له صورة. فمن كانت تمتدح عقله من النساء كانت لا بد أن تتغاضى عن أسنانه الكبيرة وعينَيه الجاحظتَين. وقد وصفته إحدى الروائيات الفرنسيات بأنه «الشيطان القبيح». أما عن مشاعره الخاصة فقد كتب عنها أنها سوف تخضع لتخمين الآخرين؛ لذا أمر أن يتخلَّصوا من كل أوراقه عند وفاته.
يبدو أن سميث لم يكن متحدثًا لبقًا مثل بقية المفكرين العظماء. فبالإضافة إلى صوته الأجش وتلعثمه أحيانًا إلا أنه كان محاضرًا صارمًا. فبعد أن قضى بضع سنوات صعبة طالبًا في أكسفورد، اختار موطنه اسكتلندا لإكمال حياته المهنية الجامعية. أما محاضراته التي كان يبدؤها متلعثمًا وهو في جلاسكو في الساعة السابعة والنصف صباحًا، فكانت تستمر لعدة ساعات، وهو يتكلم وينظر لسقف القاعة بدلًا من النظر إلى الطلاب. وفي بعض الأحيان كان يبدأ مناقشات من هذا النوع مع نفسه بصوت عالٍ في زاوية من الطريق. ومع أنه كان شارد الذهن فإن تأثيره كان كبيرًا. فبعد قرنَين من وفاته عادت أفكاره لتكتسب المرتبة الأولى في العالم، وبالتحديد عند انتخاب الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر. وقيل إن تاتشر كانت تحمل معها نسخة من كتاب سميث «ثروة الأمم» داخل حقيبتها الأسطورية الواسعة. كان هذا العمل يتضمَّن ما يقرب من ١٢٠٠ صفحة. وكان معهد آدم سميث في لندن (الذي يبيع مجموعة متنوعة من تذكارات آدم سميث) من أول المؤيدين لسياسة السوق الحرة. وهكذا نجد أن انهيار الشيوعية وانتصار الرأسمالية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين نصرٌ لسميث على كارل ماركس. لقد أدَّت الأزمة المالية التي كادت أن تؤدِّي إلى انهيار النظام المصرفي العالمي في عام ٢٠٠٨ إلى إلقاء الضوء على السوق الحرة، أو على الأقل على إحدى نسخها، في ضوء أقل ملاءمة.
التوقيت هو كل شيء
فيما يتعلَّق بخبراء الاقتصاد فإن آدم سميث لم يرحل عنهم. قد يبدو خيالًا أن نقول: إن علم الاقتصاد بدأ في عام ١٧٧٦ عند نشر عمل سميث العظيم وعنوانه الكامل «بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» (فلم تحقق مبيعاته نفس نجاح كتابه الرئيسي الآخر «نظرية الوجدان الأخلاقي» في حياة سميث نفسه). لقد كان علم الاقتصاد موجودًا قبل آدم سميث، ولكن تُعرف هذه الفترة الآن باسم عصر اقتصاد ما قبل آدم سميث. فقد أنتجت الحضارات القديمة مفكرين في علم الاقتصاد مثلما حدث في عصر النهضة. واتهموا سميث مثل باقي المفكرين العظماء بسرقة بعض من الأفكار الجيدة من سابقيه ومن أقرب المعاصرين له. ومما لا شك فيه أنه كان محظوظًا في بعض الأمور. فقد عُرضت عليه وظيفة مربحة بدون عمل حقيقي، من قِبَل السيد تشارلز تاونشيند وقَبِلها، ويُعد تشارلز أحد المعجبين بكتاب سميث «نظرية الوجدان الأخلاقي» وقد تولى وزارة الخزانة فجأة، وطلب منه أن يصبح المعلم الخاص لابن زوجته المراهق، دوق باكلوت. وبعد قبول هذه الوظيفة التي تخلَّلها اثنا عشر عامًا من الكتابة في كتاب «ثروة الأمم»، سافر سميث لأماكن كثيرة مع تلميذه، مما مكنه من التعرف على الفكر الاقتصادي في باقي أوروبا. فقد تأثَّر كثيرًا بخبيرَي الاقتصاد الفرنسيَّين فرانسوا كويسني وفولتير.
من النقاط المهمة في كتاب «ثروة الأمم»، إضافة للطموح الذي يمتلئ به ذلك الكتاب إلى جانب حجمه وتعدُّد مواضيعه، فإنه قدَّم أول تركيبة متكاملة عن الاقتصاد. لقد فسَّر السبب الذي يجعل الدول تقيم معاملات تجارية بعضها مع بعض، مع الاستفادة من جرَّاء ذلك (عكس رأي التجاريين الأوائل الذين فضَّلوا فرض قيود على التجارة، اعتقادًا منهم أن الحماية الاقتصادية تحفظ المميزات الاقتصادية لبعض الدول). وقد حدد توضيحًا وتفسيرًا للحد الأدنى من تدخُّل الحكومة في السوق الحرَّة داخل الدول. إلى جانب أنه ساعد الحكومات في معرفة كيفية التعامل مع عملية زيادة الضرائب. وفسَّر أيضًا مدى تأثير الثورة الصناعية التي كانت تزدهر آنذاك في رفع مستوى الرخاء ارتفاعًا ملحوظًا، كما سنرى عندما نتناول المثال المشهور عن مصنع الدبابيس.
ربما يساعد ذلك في شرح أثر سميث أكثر من أي شيءٍ آخر. لقد وصل لنقطة تحول في تاريخ الاقتصاد. وقد تزامن إصدار كتاب «ثروة الأمم» مع بداية عملية معينة كان التصنيع فيها يُحدث نموًّا هائلًا في الثروة، إلى جانب أنه صدر في نفس العام الذي حدث فيه الاستقلال الأمريكي؛ ومن ثَم بداية النظام العالمي الجديد. كان هذا التغير المبدئي مقارنة بالكساد الاقتصادي في العصر الزراعي أيضًا سببًا في طرح أسئلة عن كيفية توزيع هذه الثروة على السكان. لقد قدَّم سميث — وهو من نتاج حركة التنوير — نموذجًا للتفكير الاقتصادي أثناء وبعد الثورة الصناعية التي غيَّرت كُليةً المفاهيم السابقة عن الطريقة التي تعمل بها المجتمعات.
لكن ما الذي يجب أن نهتمَّ به تحديدًا في كتاب «ثروة الأمم» ذي المجلَّدات المتعدِّدة؟ هل هو قواعد سميث في تحصيل الضرائب التي تتركَّز على القدرة على الدفع؟ أم أنه نظرية القيمة؟ أم اعتقاده بأن الحكومات يجب أن تركِّز على وظائف أساسية محددة؛ لأن غالبية الخدمات العامَّة لا تُولِّد إنتاجًا، أما الأعمال العامة مثل الطرق والكباري فيجب أن تُدفع قيمتها عن طريق سداد الرسوم، وليس من الضرائب العامة؟ ومع أهمية أعمال سميث للطلاب الذين يدرسون تاريخ الفكر الاقتصادي، وفي بعض الحالات لواضعي السياسات في الوقت الحالي، وأيضًا مع أهمية توصية الناس بقراءة كتاب سميث كاملًا بأنفسهم (والقليل منهم فقط يقوم بذلك)، فإن هناك ثلاثة أشياء يجب معرفتها عند التعرُّض لأعمال آدم سميث.
تقسيم العمل
كان سميث يكتب في الوقت الذي كان يَقِلُّ فيه عدد المصانع في بريطانيا. أما المصانع الموجودة فكانت تُدار بالماء. فإن الثورة الصناعية لم تكن بعدُ قد بدأَت على نطاق واسع. ولكنه تعهَّد بشرح كيفية حدوث تغيرات اقتصادية قد تؤدي لحدوث «الثراء العالمي الذي سيمتدُّ لأبسط طبقات الشعب». كان أول شيء هو تقسيم العمل. ويوضِّح مثال مصنع الدبابيس الذي ذكرناه من قبل مدى بساطة تطبيق هذا المبدأ. قال سميث: عندما نفترض قيام المصنع بتعيين عشرة موظفين، كل فرد يقوم بعملية تصنيع الدبوس بكاملها. في النهاية سيقوم المصنع بإنتاج الدبابيس، ولكن ستكون الحصيلة مائة دبوس ونَيِّفًا في اليوم؛ لهذا لن يكون ذلك مُجديًا بدرجة كافية. وهنا من الضروري أن تتعرَّف على الطريقة التي أرادها سميث ليوم عمل:
يقوم أحد العمال بمد السلك، ويقوم آخر بتسويته، ويقطعه ثالث، ويقوم العامل الرابع بعمل نهاية الدبوس الحادة، والخامس يقوم بتشكيل الرأس حتى ينتهي العمل فيه، ولكي ينتهي العمل في الدبوس فقد يتطلَّب ذلك عمليتَين أو ثلاث عمليات مختلفة؛ هي: تثبيت هذا الرأس على الدبوس، ثم تلميع هذا الدبوس، ومن الممكن أن يصبح وضع هذا الدبوس في علب ورقية — أي تغليفه — من الصناعات المنفصلة.
وهكذا. زاد التخصص من كفاءة كل فرد. من هنا زادت الأرباح الإنتاجية، حتى فيما كانت الأعمال اليدوية فيه ضرورية، بدون الآلة التي تميِّز التصنيع. بعبارة أخرى رفع تقسيم العمل من مستوى إنتاج العامل الواحد. لقد أنتج المصنع الذي وصفه آدم سميث بضع مئات بل عشرات الآلاف من الدبابيس كل يوم. ومن المثير أن تعرف أن ازدهار هذا النوع من تقسيم العمل لم يُطبَّق حتى عام ١٩١٢، عندما قام هنري فورد بتطبيق أساليب الإنتاج الكُلِّي لتصنيع سيارة «موديل تي» في مصنعه لتجميع السيارات في مدينة هايلاند بارك في أمريكا، هذه الأساليب كانت تعني تقليل الوقت المستخدم في تصنيع السيارة نحو ثلاثة وتسعين دقيقة.
يمكننا عرض المزيد من أفكار سميث عن تقسيم العمل، أكثر من مجرد التعامل مع آرائه كخبير إداري في تنظيم المصنع. فإذا كنا بصدد مصنع الدبابيس، فإن المفتاح الرئيسيَّ لرفع إنتاجية العمال؛ ومن ثَم ازدهار المصنع ومن يمتلكونه، هو التخصص. ولكن لا يوجد سبب كما فسر سميث للتفكير في إمكانيات التخصص على أنها تقتصر على إمكانيات مكان العمل الواحد.
ماذا يحدد السبب وراء قيام البعض بوظائف معينة وقيام آخرين بوظائف أخرى؟ بوجهٍ عام، يجد الناس شيئًا ما يناسبهم، ويُجيدونه في الوقت المناسب. فما هو أفضل شيء يمكنك القيام به؟ هل هو محاولة إصلاح مشكلة مواسير المياه في منزلك بدون خبرة وبطريقة مرهقة؟ أم يمكنك كتابة مقال (أو ربما كتابة مقالَين أو ثلاثةٍ بعد معرفتك بأسعار تصليح المواسير في لندن) حتى تستطيعَ الحصول على المال اللازم لتغطية تكاليف خدمات المتخصصين في هذا المجال؟ الإجابة واضحة لنا على الأقل، والأمر واضح كذلك عندما يُطلب من السباك كتابة مقال عن علم الاقتصاد. فمن الأمور التي تزيد الكفاءة أن تركز على ما تستطيع القيام به وتتقنه، وبعد ذلك يمكنك شراء الخدمات الأخرى. فعندما نرغب في تناول شرائح اللحم نذهب للجزار بدلًا من أن نقوم باصطياد الخنزير بأنفسنا.
عند العمل على توسيع نطاق مبدأ تقسيم العمل، فمن المفيد أن يكون هناك تخصص في الشركات. فمثلًا يمكن صناعة إحدى السيارات الحديثة باستخدام مئات من القطع التي قامَت شركات أخرى بصناعتها. وهكذا يساعد هذا التخصص في تخفيض تكلفة السيارة، عما تكون عليه الحال عند قيام شركة واحدة بتصنيع كل الأجزاء. ففي الثمانينيات من القرن العشرين حدثت ثورة في الصناعة البريطانية، عندما تعاقدت الشركات الصناعية مع مورِّدين مستقلِّين للقيام بعدَّة مهام من تنظيف وتصليح وتوزيع. فقد ساروا في ذلك على نهج آدم سميث.
لم تتوقَّف هذه العملية عند حدود الدولة الواحدة. فالجدل القائم عن التجارة الخارجية، والتجارة الحرَّة على وجه التحديد، يقوم أساسًا على تقسيم العمل. فقد تمكَّنت بريطانيا نظريًّا من الاكتفاء ذاتيًّا من كل احتياجاتها من الخمور ولم تستورد قطرة خمر واحدة من الخارج، ونتج ذلك من الاستثمار الصحيح في الصوبات الزجاجية ومعدات المختصِّين. ومع ذلك فالأكثر تعقلًا أن تقوم بشرائه من الدول التي تتوفَّر فيها الظروف المناخية والخبرة الكافية للحصول على ذلك المشروب بجودة أعلى وبأسعار أرخص. فأساس التجارة أن تتخصَّص الدول في إنتاج سلعٍ معينةٍ تتفوَّق فيها. ومن ثَم فإن أرباح التجارة تنبع من هذا التخصص. لذلك فمحاولة حظر التجارة يضعفنا جميعًا. فماذا يحدث لو كانت إحدى الدول لا تتفوق في شيء على الإطلاق؟ سنعود مرة أخرى إلى هذه النقطة فيما بعد.
اليد الخفية
الجزء الأكثر أهميةً في كتاب «ثروة الأمم» الذي يُلمُّ به كل تلميذ — وإن لم يتقن معرفته جيدًا، حيث يجب عليه ذلك — هو الجزء الذي يعطينا أشهر أفكار لسميث. فقد كتب يقول: «عندما نحصل على طعام العشاء من الجزار وصانع الخمر والخباز، لا ينبع ذلك من الخير الموجود بداخلهم، ولكنه ينبع من اهتمامهم بمصلحتهم الشخصية. فنحن لا نتعامل مع إنسانيتهم ولكن مع حبهم لذاتهم.» ولتفهم ذلك كما يجب، فمن الضروري ربط ذلك بجزء آخر يقول فيه، بعد حذف أجزاء بسيطة منه: «عندما يوظِّف كل فردٍ مقدارًا من المال ويعمل بجهد، فإنه لا يفعل ذلك للمنفعة الجماعية ولا يدري مدى تطويره للجماعة عند القيام بذلك … ولكنه يتصرَّف تبعًا ليدٍ خفيةٍ لم تكن جزءًا من نواياه. وبعد اتِّبَاع مصلحته الشخصية فهو يُنَمِّي ويطوِّر مصلحة المجتمع.»
ماذا كانت هذه اليد الخفية؟ وبسبب كشف أهميتها فيما بعد، فمن الممكن أن تعتقد أن هناك إشاراتٍ ترمز إليها مبعثرة عبر صفحات كتاب «ثروة الأمم». ولكن في واقع الأمر فإن الجملة السابقة كانت الإشارة الوحيدة عنها. لقد خطر ببال بعض الكتاب وجود مغزًى دينيٍّ لها، ورأى آخرون أن سميث اقتبسها تلقائيًّا من مسرحية «ماكبث» لشكسبير، فإنه توجد إشارة عن «اليد الدامية الخفية».
مع ذلك فليس من ضرورةٍ أن نجول بخيالنا كثيرًا في هذا الأمر. فإن ما كان سميث يخطط له ما هو إلا آلية السوق، وقوانين العرض والطلب التي تناولناها من قبل، مع أنه تركها لخبراء الاقتصاد من بعده لإضافة التفاصيل. ولا يمثِّل هذا قصيدة شكر لرجال الأعمال. فكلما تجمَّعوا «انتهى الحوار بينهم إما بتآمرهم على الجمهور، وإما بالتحايل لرفع الأسعار». ولكن المهم في الموضوع هو أن السوق لم تَدعْ لهم الفرصة للإفلات بذلك، أو على الأقل لم تسمح لهم بحدوث ذلك لفترةٍ طويلة. فقد يترك (المستهلكون الاستغلاليون) هذه السلع لصالح منافسين يعرضون أسعارًا أقل. ويضاف إلى ذلك المحاولات التي تقوم بها مجموعات من الشركات لتثبيت الأسعار بالاتفاق فيما بينهم، مكونين هكذا ما يسمَّى بالكارتل — اتحاد المنتجين — ويحكم على ذلك بالفشل ما دامت السوق مفتوحةً لإمكانية دخول شركات جديدة تعمل على منافستهم. من هنا فاليد الخفية هي السوق، وعن طريق تشغيلها نحصل على الناتج النهائي بأقصى كفاءةٍ ممكنة وبأقصى درجة.
وبطبيعة الأمر، ففي أي اقتصاد تتواجد عدَّة أسواق مختلفة، ليس فقط لكل المنتجات والخدمات المتعددة، ولكن أيضًا، وعلى سبيل المثال، للعمالة. وفي الواقع كان موضوع العمالة من أكثر المناقشات التي أثارها سميث. فما هو الحل لوقف استغلال العمَّال المستمر في الثورة الصناعية الجديدة، وهم الذين يحصلون بالكاد على ما يكفي فقط لسد ضروريات الحياة؟ لم يُشِر سميث فحسب إلى التنافس بين أصحاب الأعمال على العمال وهو الذي قد يجعل ذلك مستبعدًا، بل أشار أيضًا لعملية التصنيع والتطوير لمنتجات السوق الكُلِّية التي تتطلَّب أن يحصل العمال على أجورٍ أعلى من حد الكفاف — نطرًا لأنهم مستهلكو المستقبل — بل ما يزيد على ذلك. لقد كان سميث على حق. فلم تَضع السوق حدًّا لاستغلال العمال، ولكن الثورة الصناعية كانت إحدى علامات بداية ارتفاع إجمالي مستوى الرخاء. أما كارل ماركس فقد كانت له آراء مختلفة تمامًا عن ذلك، كما سنرى فيما بعد.
الحرية
من الصعب المغالاة في أهمية إسهامات سميث في علم الاقتصاد. وباعتباره المؤسِّس لهذا العلم فقد أمدنا بنموذج وفلسفة أساسية امتدَّت لوقتنا هذا. وتمثلت هذه الفلسفة في أن الحرية الاقتصادية توفر لنا أفضل العوالم الممكنة عن طريق عمل اليد الخفية. أما محاولات التدخُّل في هذه الحرية بفرض القيود أو السماح للاحتكار بالتدخل، فسيؤدي ذلك إلى أن نصبح أكثر فقرًا مما يجب. أما الحكومات وبحسن نية، فسينتهي بها الأمر إلى زيادة الحالة سوءًا. ولكن هذا لا يعني إمكانية الاستغناء عن وجود حكومات ولكن يعني تحديد دورها، لقد كان سميث يحبِّذ وجود قوانين قوية وواضحة توضع بطريقة صحيحة. لكن سميث ليتجنَّب التعامل مع الحكومة بسبب انخراطها المباشر في عملية الإنتاج عن طريق تملُّك شركات، أو بعبارة أخرى صناعات مؤمَّمة.
من السهل معرفة السبب وراء إعادة تسليط الضوء على سميث بعد أن أيدته السيدة مارجريت تاتشر. فقد تراجع دور السوق على ما يبدو. وأصبح للمملكة المتحدة في ثلاثين عامًا، أو ما إلى ذلك منذ الحرب العالمية الثانية، اقتصادٌ يجري التحكم فيه بدرجة كبيرة، فكانت الدولة تلعب دورًا مسيطرًا ومتزايدًا. فسمحت للقوى الاحتكارية بالتطوُّر، وعلى الجانب الآخر كانت الاتحادات العمالية تئنُّ تحت مجموعة من القيود. ومن جهةٍ ثانيةٍ أضافت السياسات التي اتَّبعتها حكومات تاتشر الكثير للوصفات الكلاسيكية لاستعادة السوق. تضمَّنت هذه السياسات إزالة الضوابط وإلغاء التأميم (أو كما أُطلق عليه بعد ذلك الخصخصة) وإزالة القيود على كلٍّ من الاتحادات وأصحاب الأعمال، مما أتاح لليد الخفية الفرصة للعمل مرة أخرى. من هنا فإن آدم سميث لا بد أن يفخر بإنجازات رئيسة الوزراء.
ولكن هل ذهبت العملية إلى أبعد مما ينبغي؟ كانت إحدى السمات الأكثر إثارةً للاهتمام في الأزمة المالية في عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ هي مشهد المصرفيين، الذين يتمتَّعون بمؤهلات لا تشوبها شائبة في مجال السوق الحرة، وهم يصرخون مطالبين باتخاذ إجراءات رسمية لمنع انهيار النظام. وكان الإطار التنظيمي الخفيف الذي سُمح للمدينة بالعمل بموجبه يفترض أن المصرفيين، في تصرفهم لصالحهم الخاص، لن يتصرَّفوا على هذا النحو الذي يعرِّض الاقتصاد الأوسع للخطر. ولكن ماذا حدث لليد الخفية؟ لدى الجانبَين ردٌّ على هذا. يقول منتقدو السوق الحرة إن هناك خطًّا مباشرًا من تاتشر وريغان إلى الأزمة المالية. ويلقي أنصار السوق الحرة باللوم على التنظيم غير الكفء في الفشل، ويزعمون أن البنوك وغيرها من المؤسسات المالية كانت ستصير أكثر عزوفًا عن المخاطرة إذا تُرِكَت لتنظيم نفسها.
ربما لا يكون من المعقول أن نحاول تخمين موقف سميث في ظلِّ ظروفٍ كانت خارجةً عن تصوُّره، سواء أثناء الأزمة المالية أو أزمة فيروس كورونا بعد أكثر من ١٠ سنوات بقليل. هل كان سيتخيَّل أنه في أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، كانت الحكومات ستضطر إلى إغلاق اقتصاداتها لإبطاء انتشار فيروس قاتل؟ هل كان سيعتبر هذا هجومًا غير مقبول على الحرية أم نهجًا معقولًا للصحة العامة؟ لا يمكننا أن نعرف، على الرغم من أن معظم خبراء الاقتصاد زعموا بقوة أنه لا توجد مقايضة بين الاقتصاد والصحة العامة. بعبارة أخرى، كان لا بد من السيطرة على الفيروس حتى يتمكَّن الاقتصاد من العودة إلى النمو.