الفصل الخامس

الطبق الرئيسي (٢)

عدنا مرة أخرى. ولكن قبل أن نبدأ، أعتقد أننا قد أحرزنا تقدُّمًا كبيرًا في محاولة شرح كيف أننا كأفراد نتصرَّف بطريقةٍ اقتصاديةٍ بحتة، حتى ولو لم نكن نعي ذلك. قد تقول: إن كل ذلك ممتع جدًّا (وهذا هو ما أود سماعه منك)، ولكن كيف يتماشى ذلك مع المضمون ككل؟ عندما يتحدث الناس عن الاقتصاد ماذا يعنون؟ وهذا هو الوقت المناسب للبدء في التفكير بطريقة شاملة، أي الخروج من الجزء إلى الكل. هذه هي نقطة الانطلاق.

إذن ما هو الاقتصاد؟

يعتبر ذلك من الأسئلة التي تشبه «ما هي الحياة؟» التي تتمنى ألَّا يقوم أحد أطفالك بسؤالك إياها. من هنا فالطريقة المثلى للإجابة عن هذا السؤال — ولأن الوقت ليس مناسبًا لإعطاء أي تشبيه من الأطعمة — هي التفكير في مباراة كرة قدم. فمباراة كرة القدم هي لعبة بين فريقَين، كل فريقٍ يتكوَّن من أحد عشر لاعبًا، وتستغرق المباراة تسعين دقيقة، والهدف منها هو ركل كل شيء دائري، وإدخاله في مرمى الفريق المنافس لعدد من المرات أكثر من التي يحرزها الفريق الآخر في مرماك. لكن يعرف الكثير منا أن الأمر لا يتوقَّف على ذلك فقط. فالمباراة هي مجموع إسهامات اللاعبين وحكم المباراة، والجمهور والأهداف، والأحداث في منطقة الجزاء، ومخالفة قواعد اللعبة والأخطاء. وكما أوضحنا فإن مباراة كرة القدم تتكوَّن من آلاف الأحداث التي تتجمَّع كلها لتكوِّن المباراة ككل. فكيف ستستطيع شرح ذلك لمن لم يحضر تلك المباراة؟ فمن الممكن قراءة تقريرٍ رياضيٍّ عن أحداث المباراة في إحدى الصحف. أما إذا كانوا فعلًا من المفعمين بالحماس، فقد يبدءون في قراءة الإحصائيات؛ عدد الأهداف وعدد التصويبات على المرمى، وعدد البطاقات الحمراء والصفراء، ونسبة استحواذ كل فريق على الكرة وما إلى ذلك. ومع كل ذلك، فإن الإحصائيات لا تُغني تمامًا عن الوجود في هذا الملعب ومشاهدة المباراة، ولكنها ثاني أفضل شيء. وهذا هو الحال فيما يخص الاقتصاد. وببساطة فإن الاقتصاد البريطاني هو مقدار ما تنفقه وتكسبه وتنتجه أمة تعدادها نحو ستةٍ وستين مليون نسمة. وإجماليًّا فهو ملايين الملايين من القرارات التي يتخذها الأفراد إما لأنفسهم أو لأجل الشركات. ومع أن ذلك يبدو رائعًا في ملاحظته، فإنه مستحيلٌ أيضًا. من هذا المنظور فمثَله مثَل كرة القدم من الضروري مراعاة كل هذه الأحداث للتوصُّل إلى إحصائيات سهلة التناول. وفيما يخص خبراء الاقتصاد، وكما سنرى فيما بعد، فمن الضروري تنمية نماذج للنظام الاقتصادي. إن هذه النسخ المبسطة تشبه في مفهومها النماذج المصغَّرة للمباني التي يصنعها المهندسون. لكن في النموذج المصغَّر لأيِّ مبنًى لا يحاول المهندس أن يوفر به لمحة لكل التفاصيل الموجودة في المبنى الأصلي؛ حيث بعضها فقط به مياه جارية أو نموذج لآلة مصغَّرة لصنع القهوة، ومع ذلك، فهم يعطون فكرة جيدة عما سيكون عليه الشكل النهائي للمبنى ككل. في الفترة التي سبقت الأزمة المالية، استخدمت البنوك المركزية ووزارات المالية وغيرها من الجهات المتنبِّئة على نطاق واسع، ما كان يُعرف بنماذج التوازن العام الديناميكي العشوائي. وقد فشلت مثل هذه النماذج في الكشف عن الأزمة القادمة، ويرجع ذلك في الأساس إلى ضعف تطوُّر قطاعاتها المالية. ويزعم بعض المدافعين الأكثر ولاءً عنها أن التنبُّؤ بالأزمات لم يكن هدفها قط.

ومن المخيب للآمال أنه عندما يقول خبراء الاقتصاد: إنهم ينشئون نموذجًا للنظام الاقتصادي، فهذا لا يعني أنهم سيستخدمون لوحًا مقوًّى وأوراق القص واللصق وقصاصات الورق. فإن نماذج النظم الاقتصادية عادة ما تمثِّل مجموعات مترابطة من المعادلات الرياضية، تتحرَّك بعنف في داخل أجهزة الحاسب. ويستثنى من هذه النماذج ما يوجد في متحف العلوم بلندن، وقد صُمِّم في مدرسة لندن للاقتصاد.

وفي أواخر الأربعينيات من القرن العشرين كان إيه دبليو «بيل» فيليبس وهو نيوزلندي في الثلاثينيات من عمره، وقد أُطلق سراحه من أحد المعتقلات الحربية اليابانية (وكان زميله في المعتقل هو لورانس فان دير بوست، المعلم الخاص للأمير تشارلز). كان فيليبس قد قاسى في سجنه من جوع مميت، وقد كان ذلك واضحًا لزملائه عندما ذهب ليدرس في مدرسة لندن للاقتصاد. إلا أنه كان يعاني صعوبة فهم ما يتعلَّمه، وبالتحديد التدفق النقدي في النظام الاقتصادي. لذا قام باستخدام أنابيب من البلاستيك الشفاف والرافعات والبكر، ومحركات مساحة الزجاج التي حصل عليها من طائرة من زمن الحرب، وصنع منها نموذجًا لنظام اقتصادي. كان ولا يزال هذا النموذج معقدًا على نحو فوق العادة. فلم يكن فقط مجرد جهاز مائي تظهر فيه النقود (على هيئة الماء) تتدفق حول النظام، ولكنه أيضًا مزوَّد بصفحات بدائية الطباعة، ومضاف إليها قلم متصل بالآلة لرسم النتائج. عندما قام فيليبس بعرض آلته على جمهور من المشككين من مدرسة الاقتصاد عام ١٩٤٩، قام بصب سائل أحمر في القمة ليظهر تأثير إضافة المزيد من النقود للنظام الاقتصادي، هنا حَظي على هتاف الجميع. إن إعداد نموذج كهذا — في زمن كانت الحاسبات ما زالت تنسب إلى قصص الخيال العلمي لمعظم الأشخاص — جعل تأثيره يتساوى مع تخفيض الضرائب أو زيادة نفقات الحكومة. وقد أعلنت مجلة «بانش» الهزلية أن نموذج فيليبس لا بد أن يوضع في كل دار للبلدية في جميع أنحاء بريطانيا. وأضافت المجلة: «إن الآلة أطول وأعرض وأثقل من رجل الشارع العادي، ولكنها أمهر منه بكثير». ومضت المجلة تقول: «باستخدام الماء الملون (وهي وسيلة غير متوفِّرة لرجل الشارع) فإن الآلة تستجيب لكل مقدار بسيط من المعلومات الاقتصادية التي تصل إليها، وتسجِّلها على الرسوم البيانية باستخدام الأقلام الميكانيكية الخاصة بها، فتقوم بتسجيل التأثير البسيط لكساد في سوق السفن المستعملة، والإشارات الخفيفة عن وجود ازدهار في تجارة الصابون أو في عجلة الصنفرة أو في السمك الأبيض.» ولكن فيليبس لم يصنع آلته لكل دار بلدية في بريطانيا ولكنه قام بصنع أربع عشرة آلة. وقد أطلقوا عليها أسماءً مختلفة، مثل حاسب الدخل القومي النقدي التناظري، وحاسب فيليبس الهيدروليكي، وجهاز «فاينانس فالوجراف». وقد اشترت شركة فورد موتورز أحد هذه الأجهزة، وكذلك فعلت جامعة هارفارد. وبالإضافة إلى وجودها في متحف العلوم بلندن، لا يزال العديد منها موجودًا، وفي ذلك النموذج الأولي الذي أُهدي إلى جامعة ليدز، وفي بنك الاحتياطي في نيوزيلندا، مسقط رأس فيليبس.

لقد أصبح فيليبس بعد ذلك من الاقتصاديين المؤثرين على النظام، وقد اشتهر أيضًا بمنحنى فيليبس؛ العلاقة العكسية بين تضخم الأجور والبطالة. ثم قامت أجهزة الكمبيوتر، التي كانت أكبر حجمًا وأكثر ثقلًا من آلته، بمهمة استخراج نماذج من الاقتصاد. على أية حال، دعوني أَعُد مرة أخرى للسؤال عن محاولة تقريب الاقتصاد لفهم العامة.

الإجمالي

وصولًا إلى القرن العشرين، عرف خبراء الاقتصاد أو ظنوا أنهم يعرفون، ماذا يُقصد بالاقتصاد؟ ولكنهم لم يتمكنوا من معرفة طرق قياسه. فعندما كان ويليام جلادستون وزيرًا للمالية في القرن التاسع عشر، لم يواجه أية صعوبةٍ في إيجاد ما يتحدث عنه. فمعظم وزراء المالية المعاصرين يتدبَّرون أمر الانتهاء من خطبهم السنوية عن الميزانية العامة في غضون ساعة. أما جلادستون فقد ألقى خطبةً استمرَّت أكثر من أربع ساعات، وكانت تخلو من أي نوعٍ من إحصائيات الاقتصاد الكُلِّي التي يُنظَر إليها كضرورةٍ في وقتنا هذا. لم يكن المكتب المركزي البريطاني للإحصائيات، الذي يُعرف حاليًّا بمكتب الإحصائيات القومي، قد تأسَّس حتى عام ١٩٤١، وكان ذلك الوقت الذي اعترف فيه بوجود حاجةٍ ملحةٍ لإحصائيات دقيقة ومحددة عن الإنتاج، خاصةً للعتاد الحربي، وإحصائيات لموقف العرض والطلب لما يندر توافره من طعام. ففي الحرب أصبحت بريطانيا تهيمن فعليًّا على الاقتصاد، حيث كانت الحكومة تتحكم في ٧٠٪ منه. إلا أن الوضع الإحصائي استمر وامتد في وقت السلم. أما في الوقت الحاضر ففي غضون شهرَين نعرف مدى نمو الاقتصاد في أقرب ربع من العام مقرَّبًا لأقرب رقم عشري. تخضع الأرقام — مثلها مثل باقي الإحصائيات — للمراجعة، ولكنها لا تزال برهانًا على مدى تقدم فن القياسات.

من المفهوم ألَّا يقلق معظم الناس كثيرًا، على ما إذا كان الاقتصاد قد نما سواء بمقدار ٠٫٢٪ أو ٠٫٨٪ في الربع الأخير من العام المالي، تاركين هذه الأمور لمن يعملون في مجال التدقيق الإحصائي. وبالطبع فإن هذا ضروري. لقد انتبه الكثير من الناس عندما انزلق الاقتصاد خلال جائحة فيروس كورونا إلى تقلُّبات أكثر جنونًا، حيث انكمش بنحو ٢٠ في المائة في الربع الثاني من عام ٢٠٢٠، عندما أُغلق لمعظم الفترة، قبل أن يتوسَّع بأكثر من ١٦ في المائة في الربع الثالث، مع إعادة فتحه.

كان معدل نمو الاقتصاد البريطاني في الأمد البعيد حوالي ٠٫٦ في المائة ربع سنوي، أو حوالي ٢٫٥ في المائة سنويًّا، على الرغم من أنه كافح لتحقيق هذا المعدل منذ الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وقرار الاستفتاء في المملكة المتحدة بمغادرة الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦، وعلى خلفية شيخوخة السكان. هذا يُحدث فرقًا كبيرًا. على مدى عشرين عامًا، فإن الاقتصاد الذي ينمو بنسبة ٢٫٥ في المائة سنويًّا سينهي الفترة بنسبة ٦٥ في المائة أكبر مما بدأه، بينما عند ١٫٨ في المائة سيكون أكبر بنسبة ٤٣ في المائة. إن الاقتصاد الأبطأ نموًّا سيكون أصغر بنسبة ١٣ في المائة في نهاية الفترة من الاقتصاد الأسرع نموًّا.

في الإصدارات السابقة من هذا الكتاب، كان من المعقول افتراض معدل نمو «سائد» بنسبة ٢٫٥ في المائة سنويًّا. إذا ظل على هذا المعدل، عامًا بعد عام، فسوف تتوقَّع أن تظل البطالة ثابتة. لماذا؟ كل عام يرتفع عدد السكان في سن العمل قليلًا، إما بسبب الزيادات الطبيعية أو الهجرة. والأهم من ذلك، أننا نصبح أكثر إنتاجية كل عام، ونزيد إنتاجنا بنسبة ٢ في المائة أو نحو ذلك، مقارنة بالعام السابق. الإنتاجية هي أحد أهم المفاهيم في الاقتصاد. إنها الطريق إلى الرخاء المتزايد. لقد قال الخبير الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل وكاتب العمود في صحيفة «نيويورك تايمز» بول كروجمان ذات مرة: «الإنتاجية ليست كل شيء، ولكنها في الأمد البعيد كل شيء تقريبًا.» لذا فإن الإنتاجية مهمة للغاية. وهناك طريقتان لقياس إنتاجية العمل: كمية الناتج الذي ينتجه كل عامل، أو لكل ساعة عمل. ويتيح المقياس الثاني إجراء مقارنات بين العاملين بدوام كامل وجزئي، وبين البلدان التي يختلف فيها طول أسبوع العمل.

وسوف أتحدث أكثر عن الإنتاجية في وقت لاحق. إذا لم يحقق الاقتصاد نموًّا على الإطلاق، أو نما ببطءٍ فقط، فإن ارتفاع الإنتاجية يعني أن هناك حاجةً إلى عدد أقل من العمال؛ ومن ثَم ارتفاع البطالة. وإذا نما الاقتصاد بما يتماشى تقريبًا مع الإنتاجية، فإن البطالة تظلُّ مستقرة. وينبغي أن تعني معدلات النمو الأعلى انخفاض البطالة، والعكس صحيح. وإذا انكمش الاقتصاد حتى لربع واحد (يستخدم معظم خبراء الاقتصاد مصطلح «النمو السلبي» لوصف هذا)، فإن القلق سينشأ بشأن حدوث ركود، والتعريف الشائع للركود هو ربعان متتاليان من الانحدار. وإذا نما الاقتصاد بنسبة ١٫٥٪ في ربع واحد، فإن القلق سوف يكون بشأن «الاقتصاد المحموم». وسوف يتضح كل هذا لاحقًا.

وكما قلت، فإن ما كان معتادًا في الطبعات السابقة من هذا الكتاب أصبح مصدرًا للنقاش. فقد اختفى متوسط نمو الإنتاجية بنسبة ٢٪ سنويًّا في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وعلى هذا، ففي السنوات العشر من الربع الأخير من عام ٢٠٠٩ إلى الفترة المقابلة من عام ٢٠١٩ — عشية أزمة فيروس كورونا — زادت الإنتاجية التي تقاس بالإنتاج في الساعة — بنسبة ٥٪ فقط — في المجموع، أو نحو ٠٫٥٪ سنويًّا. والسؤال عمَّا إذا كان هذا يمثِّل تحولًا دائمًا سؤالٌ مهم. وهو وثيق الصلة أيضًا بسؤال ما إذا كان الاقتصاد يعاني من حالة محمومة أو انحدار نحو الركود. وربما يكون نمو الإنتاجية بنسبة ٠٫٥٪ سنويًّا — على افتراض نموِّ السكان كما ورد أعلاه — متسقًا مع معدَّل النمو السائد للاقتصاد بنسبة ١٪ فقط سنويًّا، وهو أقلُّ كثيرًا مما اعتدنا عليه في العصر الحديث.

الكسب والإنتاج

إن أكثر ما يفيد في البيانات الاقتصادية الكلية، وخاصَّة الحسابات القومية، ليس المعلومات الدقيقة التي تقدِّمها لنا عن أي ربع أو عام واحد. بل إنها تقدِّم لنا إطارًا لا يقدَّر بثمن للتفكير في كيفية بناء الاقتصاد. وإذا كان من الممكن مراقبة الاقتصاد من أعلى، فسوف يتألَّف من ملايين المعاملات التي يقوم بها الناس من خلال الإنفاق والإنتاج والكسب. وهذا هو بالضبط ما يسعى إجمالي الناتج المحلي، وهو المقياس الرئيسي لحجم الاقتصاد والتغيُّرات في هذا الحجم — النمو الاقتصادي — إلى قياسه. إجمالي الناتج المحلي هو مجموع كل ما يتم إنتاجه في الاقتصاد؛ ومن ثَم إجمالي الناتج المحلي. ولكن لتجنُّب العد المزدوج، من الضروري طرح قيمة المدخلات التي دخلت في إنتاج منتج ما في كل مرحلة. إن الطاهي في مطعمنا الباهظ الثمن يقوم بتجميع وطهو الوجبة. ولكنه لا يستطيع أن يقوم بذلك من دون الخضراوات التي تُوفَّر من السوق في ذلك الصباح، أو اللحوم من الجزار، أو الغاز والكهرباء اللذَين يُوفَّران من قِبَل شركة الطاقة. إن ناتجه، لأغراض قياس إجمالي الناتج المحلي، هو القيمة المضافة إلى هذه المدخلات المختلفة. وينطبق نفس الشيء على أكبر شركة على الإطلاق، والتي تجني المليارات كل عام، إلى أصغر تاجرٍ فردي. والمبدأ هو نفسه تمامًا مثل ضريبة القيمة المضافة. والواقع أن بعض الناس يفضِّلون الحديث، ليس عن إجمالي الناتج المحلي، بل عن «القيمة المضافة الإجمالية».

ولكن انتظر. أين يحدث انسجام بين الدخل والإنفاق؟ هل ينسجمان؟ والإجابة هي نعم. غالبًا ما يُعرف إجمالي الناتج المحلي باسم الدخل القومي. والاثنان ليسا متماثلَين تمامًا ولكنهما متشابهان إلى حدٍّ كبير. فإجمالي الناتج المحلي، فضلًا عن كونه مجموع كل ما يُنتَج في الاقتصاد، أو على الأقل القيمة المضافة في كلِّ مرحلةٍ من مراحل الإنتاج، هو أيضًا مجموع الدخول المكتسبة. من السهل أن نرى لماذا يجب أن يكون الأمر كذلك. فدخل رئيس الطُّهاة لدينا، بافتراض أنه أيضًا مالك المطعم، هو المبلغ الذي دفعناه له مقابل الوجبة. وهو بدوره، عليه توفير الدخل لمورِّديه، وعلى سبيل المثال، إيجار المبنى (دخل المالك). إن قيمة الدخل الذي يكسبه اللاعبون المختلفون تساوي قيمة الإنتاج.

قد تسأل في هذه المرحلة كيف يرتبط هذا بظروفك الخاصة. لنفترض أنك موظف بأجر ثابت في شركة مربحة. من الواضح أن دخلك يذهب إلى إجمالي الناتج المحلي. ولكن ماذا عن الربح الذي تحقِّقه الشركة؟ ماذا عن الضريبة التي تدفعها؟ الربح سهل بما فيه الكفاية. فإما أن يتمَّ إعادة استثماره، وفي هذه الحالة فإنه يولِّد دخلًا لمورِّدي المعدات الرأسمالية، أو يتم توزيعه على المساهمين في شكل أرباح، وهو ما يعني دخلًا لهم. أما الضرائب فهي أكثر تعقيدًا بعض الشيء. ففي ظاهر الأمر، هي تمثِّل ببساطة دخل الحكومة. وعمليًّا، فإن الطريقة التي يمكن بها التفكير في الضرائب هي من حيث الدخل الذي تولِّده عندما تقوم الحكومة بتحويل الضرائب إلى إنفاق عام؛ ومن ثَم توفير الدخل للأطباء والممرضات والمعلمين والموظفين المدنيين، فضلًا عن المدفوعات للمتقاعدين الحكوميين والأشخاص الذين يحصلون على إعانات الرعاية الاجتماعية. وتُعرف هذه الأخيرة باسم «مدفوعات التحويل»؛ لأنها ببساطةٍ تنقل الأموال بين دافعي الضرائب والمستفيدين.

إن كلَّ هذا يضيف قيمةً إلى إجمالي الناتج المحلي. فإجمالي الناتج المحلي ليس فقط قيمة كل شيء يُنتَج (القيمة المضافة) في الاقتصاد، بل أيضًا مجموع الدخول المستلمة. وهو أيضًا، وقد تركت ما أعتبره الأكثر فائدةً حتى النهاية، مجموع الإنفاق.

الإنفاق بطريقتنا وصولًا إلى إجمالي الناتج المحلي

إذن كيف يتناسب الإنفاق مع هذا؟ مرة أخرى، الشيء المهم الذي يجب تجنُّبه عند قياس الاقتصاد هو العد المزدوج. ومن ثَم، ما يهمنا هو الطلب «النهائي». عندما نشتري سيارة، ربما قرأنا الكتيب مسبقًا الذي يوضِّح جميع الميزات والأكسسوارات التي تأتي بها. ومع ذلك، ما يهمُّنا هو المنتج بالكامل. قليل من الناس يشترون سيارةً ثم يزيلون المذياع لبيعه، أو العجلة الاحتياطية (لم يعُد لدى الكثيرين واحدة منها). وعلى نحو مماثل، فإن شراء كل هذه المكونات من قِبَل الشركة المصنِّعة لا يظهر في إجمالي الناتج المحلي. تُعرف مثل هذه المشتريات باسم «الطلب الوسيط». لا يمكن تصنيع السيارة بدونها، لكنها تندرج ضمن الطلب النهائي.

هل يعني هذا أن إنفاق المستهلكين هو كل ما يهم؟ رغم كل شيء، إذا كنا نتحدَّث عن الطلب النهائي، فيبدو من الطبيعي أن يأتي معظم ذلك منك ومني عندما نتسوَّق. إن إنفاق المستهلكين، أو الاستهلاك الأسري كما يُعرف الآن من قِبَل الإحصائيين الرسميين في بريطانيا، يمثِّل بالفعل حصة الأسد من إجمالي الناتج المحلِّي، ولكن ليس كله. في عام ٢٠١٩، على سبيل المثال — تم اختيار هذا العام تحديدًا لأنه كان قبل تشويه كل شيءٍ بسبب جائحة فيروس كورونا — بلغ إجمالي إنفاق المستهلكين في المملكة المتحدة ١٣٦٨ مليار جنيه إسترليني. هذا رقم مثير للاهتمام للغاية، حيث يعادل أكثر من ٢٠٥٠٠ جنيه إسترليني لكل رجل وامرأة وطفل في البلاد. ومع ذلك، كان إجمالي الناتج المحلي أعلى من ذلك، عند ٢٢١٨ مليار جنيه إسترليني. لذا فإن إنفاق المستهلكين شكَّل معظمه، ٦٢ في المائة، وهي نفس النسبة تقريبًا قبل عشر سنوات. لقد استخدمت بريطانيا كمثال، ولكن هذا ينطبق على أغلب الاقتصادات المتقدمة. فالمستهلكون هم من يحركون اقتصاداتنا. وبعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ على الولايات المتحدة، كان السؤال الرئيسي الذي طرحه خبراء الاقتصاد هو ما إذا كان المستهلكون سوف يفقدون أعصابهم. وفي وقت لاحق، ومع اندلاع الأزمة المالية العالمية، كان السؤال المطروح في مختلف أنحاء العالم المتقدِّم هو ما إذا كان المستهلكون المحرومون من الائتمان سوف ينفقون أموالهم بحُرية، كما كانوا يفعلون في الماضي. وبالمناسبة، كثيرًا ما نسمع خبراء الاقتصاد والخبراء يعربون عن رأيهم الجادِّ بأن تباطؤَ الاقتصاد أو عدم تباطُئِه يتوقَّف على المستهلك. وقد فعلت ذلك بنفسي دون تفكير. ولكن كما تَرَون، لا يوجد شيءٌ عميق للغاية في هذا. فمن الناحية الحسابية البسيطة، فإن الأمر يعتمد إلى حد كبير على المستهلك. فمعدل نمو الإنفاق الاستهلاكي يعتمد في الأساس على معدل نمو الدخل (وهذا ما يُعرف باسم «دالَّة الاستهلاك») وقدرة الأسر على الاقتراض لتمويل إنفاقها. وقد يثير الإنفاق الاستهلاكي بعض الفضول. ففي عام ٢٠١١، كان هناك اندفاعٌ لشراء تذاكر الألعاب الأوليمبية لعام ٢٠١٢، وكان هذا كبيرًا بما يكفي ليكون له تأثير على إجمالي الناتج المحلي. ولكن، بينما تم شراء التذاكر في عام ٢٠١١، قرر الإحصائيون أنها لن تؤثر على إجمالي الناتج المحلي حتى عام ٢٠١٢، عندما أقيمت الألعاب. في الغالب، الأمر أكثر مباشرةً من ذلك. ولكن من أين، بصرف النظر عن المستهلكين، يأتي الإنفاق الذي يشكِّل إجمالي الناتج المحلي؟

الفئة الأكثر أهمية التالية، في بريطانيا على الأقل، هي الإنفاق من قِبَل الحكومة. مرة أخرى، هذا أمر طبيعي تمامًا. أظهرَت الحسابات الوطنية أنه في عام ٢٠١٩، «استهلكت» الحكومة ٤٢٣ مليار جنيه إسترليني. هذا رقم كبير، لكنه محير بعض الشيء أيضًا. كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، تبلغ ١٩ في المائة، وهي نفس النسبة التي كانت عليها قبل عقدَين من الزمن، ولكنها أقل من نسبة ٢٣ في المائة التي وصلت إليها في عام ٢٠١٠، في أعقاب الأزمة المالية. ومع ذلك، وكما يعلم الكثير من الناس، فإن الإنفاق العام والضرائب في بريطانيا يُنظر إليهما عادةً على أنهما يشكلان ما يقرب من ٤٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وقد دُفع الإنفاق العام إلى ما يقرب من ٥٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، تحت تأثير الركود والأزمة المالية في الفترة ٢٠٠٩–٢٠١١. دُفع إلى ما يزيد كثيرًا عن ٥٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي في عام ٢٠٢٠، أثناء جائحة فيروس كورونا.

إذا كان الإنفاق حقًّا ١٩ في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي، فقد تكون الضرائب أقلَّ بكثير. ماذا حدث لنحو ٢٠ في المائة المفقودة، في الأوقات العادية؟ والجواب هو أنه لأغراض إجمالي الناتج المحلي، من الضروري استبعاد مدفوعات التحويل، مثل معاشات التقاعد والمزايا الحكومية، التي تمثِّل قدرًا كبيرًا من الإنفاق الحكومي ولكنها، من الناحية الاقتصادية، تعني تسليم الحكومة الأموال لأشخاص آخرين لإنفاقها. في عام ٢٠٢٠، حدثت واحدة من أكبر التجارب الواقعية في الحكومة التي توزع الأموال لإنفاقها. جاء بعض هذا في شكل ائتمانٍ شامل، وهو الإعانة الحكومية الرئيسية، ولكن جاء معظمها في شكل مخطط الإجازة، حيث دفعت الحكومة ما يصل إلى ٨٠ في المائة من أجور العمال الذين لا يعملون مؤقتًا. يجب أن يقال إن رواتب العاملين في القطاع العام مثل الممرضات والمعلمين ليست مدفوعات تحويل. عندما تدفع الحكومة هذه المدفوعات، فإنها تشتري خدمات هؤلاء المهنيين، تمامًا كما يُعَد شراؤك لخدمات السباك جزءًا من إنفاق المستهلك. ولكن إدراج مدفوعات التحويل في إجمالي الناتج المحلي سيكون بمثابة حساب مزدوج، ولن يكون ضمن روح هذا المقياس للنشاط الاقتصادي. فهي لا يتم تلقِّيها في مقابل إنتاج شيء حاليًّا، على الرغم من أنه في حالة المعاشات التقاعدية، فإن الحق فيها قد اكتُسب نتيجة للإنتاج (ودفع الضرائب) في الماضي. هذا التعقيد هو السبب الذي يجعلني أشير دائمًا إلى الإنفاق العام باعتباره «ما يعادل» ٤٠ أو ٥٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. فكِّر في الأمر. إذا كان الإنفاق الاستهلاكي يشكِّل ٦٢٪ من إجمالي الناتج المحلي، فمن الصعب للغاية أن يشكل الإنفاق العام ٥٠٪ إضافية، نظرًا لأن مجموع المكونات لا بد أن يصل إلى ١٠٠٪.

إن الجزء الآخر المفقود من الإنفاق الحكومي يأتي في فئة إجمالي الناتج المحلي التالية؛ الاستثمار. فعندما تشتري شركة جهاز كمبيوتر، فهذا يعتبر استثمارًا. وعندما تفعل أسرة ذلك، فهذا يعتبر إنفاقًا استهلاكيًّا. والواقع أن أغلب الاستثمارات في بريطانيا تتم من قِبَل القطاع الخاص، في المصانع والآلات والمركبات، وما إلى ذلك. ولكن الحكومة، التي كثيرًا ما تتعاون الآن مع القطاع الخاص، تقوم أيضًا بالاستثمار. فالمستشفيات الجديدة والطرق وأجهزة الكمبيوتر الحكومية، على سبيل المثال، تشكِّل استثمارًا، أو «تكوين رأس المال الثابت الإجمالي»، كما يصفه خبراء الإحصاء عادة. والاستثمار في القدرة الإنتاجية، كما يعلم كل رجل أعمال، يشكل أهمية حيوية للنمو الاقتصادي في الأمد البعيد. ولعدَّة سنوات، كان من المعتقد أن النجاح الاقتصادي الذي حقَّقته اليابان يرجع إلى مستوياتٍ عاليةٍ من الاستثمار، بلغَت في المتوسِّط ٣٠٪ من إجمالي الناتج المحلي. لقد أثار العقدان الضائعان لليابان منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين تساؤلًا حول ما إذا كان من الممكن، فيما يتعلَّق بالاستثمار، أن يكون هناك الكثير من الأشياء الجيدة، على الرغم من أن الصين أيضًا اقتصاد استثماري مرتفع للغاية، لا سيما فيما يتعلق بالبنية الأساسية. في عام ٢٠١٩، بلغ إجمالي الاستثمار في بريطانيا ٣٩٩٫٥ مليار جنيه إسترليني، أو ١٨ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وكان هذا يتألَّف من استثمارات كلٍّ من الشركات والحكومة. يُفصَل الاستثمار الحكومي في الحسابات الوطنية عن «الإنفاق اليومي» على الخدمات العامَّة.

نظر مكتب الإحصاء الوطني في كلٍّ من الاستثمار التجاري والاستثمار الإجمالي خلال الفترة من ١٩٩٧ إلى ٢٠١٧، وقارن المملكة المتحدة باقتصادات أخرى. لم تكن الصورة وردية. بلغ متوسط الاستثمار التجاري ١٤٫٥ في المائة من إجمالي الناتج المحلِّي خلال تلك الفترة، وهو الأدنى بين دول مجموعة السبع، حيث كانت الدول الأعضاء الأخرى هي الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا. وبالنسبة للاستثمار الإجمالي، وفي ذلك الاستثمار الحكومي، بلغ متوسط المملكة المتحدة ١٦٫٧ في المائة، وكان هذا الأدنى بين الدول الأعضاء الأربعة والثلاثين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

المعادلة الأكثر فائدة في الاقتصاد

عند جمع نسب الإنفاق من قِبَل المستهلكين في عام ٢٠١٩، نجد أن كلًّا من الإنفاق من قبل الحكومة والاستثمار يعطينا ٦٢ زائد ١٩ زائد ١٨ في المائة، أو ٩٩ في المائة في المجموع. وإذا أخذنا أو أعطينا ١ في المائة للتقريب، يبدو أننا وصلنا إلى إجمالي الناتج المحلي. ولكن انتظر. ما كنا لنحقِّق هدفنا إلا إذا كنا نعيش في اقتصاد «مغلق» بدون تجارة خارجيَّة. تذكَّر أن ما نقيسه، وإن كان من خلال فئاتٍ مختلفة من الإنفاق، هو إجمالي الناتج المحلي، أو بعبارة أخرى، قيمة الإنفاق على السلع والخدمات المنتجة في بريطانيا. لا ينبغي أن تكون وحدة تحكُّم ألعاب نينتندو، أو سيارة أودي أو بي إم دبليو، أو آيباد أو آيبود المدرجة في الإنفاق الاستهلاكي — الكثير منها، في الواقع — جزءًا من إجمالي الناتج المحلي لبريطانيا (على الرغم من أن نسبة سعر البيع التي تعكس تكاليف التوزيع داخل بريطانيا وأرباح التاجر، يجب أن تكون كذلك). في الوقت نفسه، هناك الكثير من المنتجات والخدمات المنتجة في بريطانيا، ولكنَّها تستهلك في بلدان أخرى. ومن ثَم، يجب أن يعكس إجمالي الناتج المحلي الصادرات والواردات أيضًا. الصادرات هي السلع والخدمات المصنعة هنا ولكن يتم استهلاكها في مكان آخر. يتم تصنيع الواردات في مكان آخر ولكن يتم استهلاكها هنا.

في عام ٢٠١٩، بلغ إجمالي الصادرات ٦٨٩ مليار جنيه إسترليني، أي ما يعادل ٣١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. نضيف هذا المبلغ ٦٨٩ مليار جنيه إسترليني إلى إجمالي إنفاق المستهلكين والنفقات الحكومية والاستثمار. من ناحية أخرى، بلغت الواردات ٧١٧ مليار جنيه إسترليني، أي ٣٢ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. نطرح هذا من إجمالي الناتج المحلي لدينا. إن حقيقة أن الصادرات كانت تشكل ما يقرب من ثلث إجمالي الناتج المحلي، تُظهر أن بريطانيا اقتصاد مفتوح، كما كانت لقرون. كلٌّ من أمريكا واليابان، أول وثالث اقتصادَين في العالم وقت كتابة هذا التقرير (كانت بريطانيا وقت كتابة هذا التقرير في المرتبة الخامسة أو السادسة، حسب المصدر)، لديهما حصص تصدير أصغر بكثير، حوالي ١٢ و١٨ في المائة على التوالي. كانت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام ٢٠٢٠، تمتلك صادرات تزيد عن ٣٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي لعدة سنوات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن بحلول عام ٢٠٢٠، انخفضت هذه النسبة إلى حوالَي ١٨ في المائة، ويرجع ذلك أساسًا إلى التركيز الرسمي الأكبر على النمو المحلِّي. ولم تساعد الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، التي بدأها دونالد ترامب، أيضًا.

بالنسبة لبريطانيا، فإن حقيقة تجاوز الواردات للصادرات تُظهر أن بريطانيا كانت تدير عجزًا تجاريًّا صغيرًا، بنحو ١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وبالنسبة لأصحاب النظرة الثاقبة بينكم، فإن هذا من شأنه أن يخلق أيضًا لغزًا. فقد أوصلتنا مكونات الإنفاق المحلي في إجمالي الناتج المحلي إلى ٩٩ في المائة. وإضافة الصادرات وفي الوقت نفسه طرح الواردات الأكبر قليلًا لا يتركان لنا نسبة ١٠٠ في المائة ولكن ٩٨ في المائة. أين كانت النسبة المفقودة ٢ في المائة؟ كانت في مكانَين. أحد العناصر الصغيرة في إجمالي الناتج المحلي هو المخزونات. كان هناك تراكمٌ للمخزونات قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهذا عنصر يتعادل عادة مع مرور الوقت، فيضيف أحيانًا إلى إجمالي الناتج المحلي وفي بعض الأحيان يطرح منه. وكان العنصر الآخر هو ما أطلق عليه الإحصائيون التناقض الإحصائي. وذلك لأن المقاييس الثلاثة لإجمالي الناتج المحلي — الناتج والدخل والإنفاق — يجب أن تصل إلى الرقم نفسه، ولم يتم تخصيص جزء منه بشكل صحيح لعناصر الإنفاق المختلفة. وهذا أمر يحدث عادة في غضون عام أو نحو ذلك.

إن الغرض من هذا الكتاب أن يكون منطقة حرة خالية من المعادلات، ولكنني لا أريد أن أنتهي من هذا القسم دون إيجاز ما جاء أعلاه بصيغة مبسطة. وبتحديد أكثر، أقول إنها ليست معادلة على الإطلاق، بل «تعريف بسيط»، وهي على النحو التالي:

إجمالي الناتج المحلي يساوي (م + ك + ث + س − ص)

فالرمز «م» هو نفقات المستهلك، والرمز «ك» هو نفقات الحكومة، والرمز «ث» هو الاستثمار، والرمز «س» هو الاستيراد، والرمز «ص» هو التصدير. في بعض الأحيان من الممكن أن يرمز لإجمالي الناتج المحلي بالرمز «ع» بديلًا لمصطلح الدخل القومي، لكن المعنى واحد.

لماذا يكون ذلك مفيدًا إلى حدٍّ بعيد؟ أولًا: يوفر لنا طريقة بسيطة لفهم تفسير الأنواع المتعددة من الإنفاق التي تدفع بالاقتصاد إلى الأمام. ثانيًا: أي شخصٍ يحاول التنبُّؤ بما سيحدث للنظام الاقتصادي سيحتاج إلى التنبُّؤ بما يمكن حدوثه لعناصر الإنفاق في إجمالي الناتج المحلي. كل النماذج الأساسية للاقتصاد تُبنى على هذا التعريف البسيط. ويمدُّنا ذلك بفكرة عن ترتيب الكميات الموجودة بالإضافة للمعلومات الإحصائية المصاحبة. فعلى سبيل المثال الزيادة بنسبة ١٪ في نفقات المستهلك تؤدِّي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي بنسبة ٠٫٦٪، ولكن من الممكن أن تكون الزيادة في الاستثمار أكثر من ٤٪ أو زيادة في الصادرات أكثر من ٢٪، ليكون لها نفس الأثر.

يوجد تعقيد آخر بسيط. فمعظم ما ننفقه من أموالنا يخضع للضرائب. وتعرف أنواع الضرائب مثل ضريبة القيمة المضافة، ورسوم الإنتاج، بالضرائب غير المباشرة، وتعرف الضرائب على الدخل مثل اشتراكات التأمين الصحي وضريبة الدخل بالضرائب المباشرة. ولأن إجماليَّ نفقات المستهلك تتضمَّن هذه الضرائب المباشرة فمن الممكن اعتبارها نوعًا من الضرائب غير المباشرة. إن العديد من البضائع — نحو النصف — تخضع لضريبة القيمة المضافة بنسبة ٢٠٪. تستطيع الحكومة مؤقتًا رفع إجمالي الناتج المحلي عن طريق زيادة ضريبة القيمة المضافة، مع أن النتيجة المترتبة على ذلك هي تخفيض نفقاتنا كمستهلكين. وبسبب هذه التعقيدات التي تتعلَّق بالضرائب، يفرِّق خبراء الاقتصاد بين إجمالي الناتج المحلي بأسعار السوق — الأسعار التي ندفعها بالفعل — وإجمالي الناتج المحلي وفقًا لتكلفة عناصر الإنتاج، وهي نفس الأسعار ولكن بدون عنصر الضرائب. الفرق بين هاتَين التكلفتَين هو مقدار الضرائب غير المباشرة، بمعنًى آخر، إن إجمالي الناتج المحلي وفقًا لأسعار السوق بدون الضرائب غير المباشرة يساوي إجمالي الناتج المحلي، وفقًا لتكلفة عناصر الإنتاج. وأكرِّر عدم حاجتك للاهتمام بهذا الفرق. لن يحدث أي اختلاف بسبب هاتَين التكلفتَين عندما نكون بصدد قياس مقدار النمو الاقتصادي إلا عندما تحدث تغيرات جذرية في الضرائب غير المباشرة، مثلما حدث عام ١٩٧٩ عندما قامَت حكومة مارجريت تاتشر — التي تترأس حزب المحافظين — بزيادة ضريبة القيمة المضافة بنسبة ١٥٪ عن معدلاتها السابقة ٨٪ و١٢٫٥٪، أو كما حدث عام ١٩٩١ عندما رفعت حكومة المحافظين ضريبة القيمة المضافة مرة أخرى من ١٥٪ إلى ١٧٫٥٪؛ أو في عام ٢٠١١ عندما زاد الائتلاف الديمقراطي الليبرالي المحافظ النسبة إلى ٢٠٪. إن اختلاف النسبة بين سعر السوق وتكلفة عناصر الإنتاج من الأمور التي يجب أن تهتمَّ بها؛ لأن معرفتها لا تقدَّر بثمن في علم الاقتصاد، ذلك إذا كنت تطمح في التفوق على أقرانك.

هل للعمل المنزلي أية قيمة؟

آمل أن يكون كل ما سبق قد بدا منطقيًّا، إلا أنه مع ذلك يوجد جدلٌ منذ فترة طويلة في علم الاقتصاد عمَّا إذا كان إجمالي الناتج المحلي والإجراءات وثيقة الصلة به يعتبران شاملَين بدرجة كافية. يصدر البنك الدولي مجموعةً من مؤشرات التنمية البشرية للدول الأعضاء، بهدف رصد التغييرات التي لا تُرصَد بالضرورة من خلال إجمالي الناتج المحلي وغيره من التدابير الاقتصادية التقليدية. يقول:

من المهم النظرُ إلى مؤشرات التنمية البشرية جنبًا إلى جنب مع مقاييس الدخل أو الاستهلاك. يمكن للمعلومات المتعلِّقة بالاتجاهات في مؤشرات التنمية البشرية أن تكمل المعلومات التي حُصِل عليها من المسوحات القائمة على الاستهلاك؛ من أجل فهم أفضل لأداء الفقر. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن توفر هذه المعلومات نسيجًا إضافيًّا … من خلال إظهار كيف تنعكس التغييرات في الدخل أو الاستهلاك في نتائج ملموسة مثل، على سبيل المثال، معدل وفيات الأطفال أو الالتحاق بالمدارس.

هناك مشكلة أكثر جوهرية تتعلق بإجمالي الناتج المحلي، وهي أن الكثير من النشاط لا يُقاس في الاقتصاد. إن هذا ليس فقط النوع من النشاط الذي يتعمد الناس فصله عن جباية الضرائب، أو ما يسمى بالاقتصاد الأسود — والذي يعتقد أنه يساوي ما بين ٥ و١٥٪ من إجمالي الناتج المحلي في أغلب البلدان — بل أيضًا أشياء أكثر دنيوية. فإذا ذهب اثنان منا إلى الحديقة المحلية، وتعبنا في لعب التنس لبضع ساعات، فإن التأثير على إجمالي الناتج المحلي سيكون ضئيلًا (باستثناء المبلغ الضئيل الذي دفعناه لاستئجار الملعب وربما شراء أنبوب من الكرات الجديدة). ومن ناحية أخرى، إذا بذل لاعبان محترفان جهدًا كبيرًا في الملعب الرئيسي في ويمبلدون؛ من أجل الفوز بمبلغ كبير من أموال الجوائز، فإن التأثير على إجمالي الناتج المحلي سيكون كبيرًا للغاية. ويرى كثيرون أن هذا هو الحال. فالكثير من الناس على استعدادٍ لدفع مبالغ طائلة لمشاهدة اللاعبين المحترفين، ولكنك لن تتمكَّن من إهداء تذاكر لمشاهدة جهودي.

هناك أسئلة أكثر صعوبةً بكثير تتعلَّق بالأعمال المنزلية. فعلى سبيل المثال يوظِّف السيد جونز — وهو شخص ميسور الحال — مديرة منزل، هي الآنسة ويليامز. وهي امرأة دمثة الخلق وذات كفاءة ويعطيها أجرًا مناسبًا. بالإضافة إلى ذلك فهي بارعة الجمال. ويحدث ما هو متوقَّع ويقع في حبها. ويتزوجان، وتستمر هي في القيام بنفس الأعمال المنزلية التي تعوَّدت أن تقوم بها في السابق، إلا أنه يتوقَّف عن دفع راتبها. فمن الطبيعي أن كل ما يملكه يخصها بعد الزواج. ولكن أثر ذلك هو تقليل في إجمالي الناتج المحلي. فقبل الزواج كان جزء من نفقاته يُصرف على خدمات نظافة المنزل. ولأنها كانت تحصل على راتبها من دخله، فكانت أرباحها تُحسب على حدة بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي. كل هذه النتائج التي تتشابه، تخفض على التوالي من النفقات وحسابات الدخل وإجمالي الناتج المحلِّي، وتكون قيمةُ ما تنتجه على ما يبدو مفقودةً في الاقتصاد القومي. كان بوسعي وربما كان ينبغي لي أن أعكس الأدوار هنا، بحيث تقوم السيدة ويليامز بتوظيف السيد جونز كمدبرة منزلها ثم تتزوجه في نهاية المطاف، مع نفس التأثير على إجمالي الناتج المحلي المقيس.

هل من الممكن أن يكون ذلك صحيحًا؟ هناك كثيرون لا يعتقدون ذلك. ففي الغالب ما دام يوجد حسابات قومية، فهناك أناس يتناقشون حول ضمِّ العمل المنزلي غير مدفوع الأجر، وكثير من الأنشطة الأخرى المفيدة التي لا تدرُّ دخلًا، ولكن بدونها يتوقَّف الاقتصاد. وبالعمل على ما يطلق عليه في مقاطعة نوفا سكوشا بكندا «مؤشر التقدم الحقيقي»، وجدنا أن الناس يمارسون الأعمال المنزلية الروتينية وأعمال العناية بالأطفال لمدة ٩٤١ مليون ساعة في السنة، بمعدل ١٢٣٠ ساعة للفرد البالغ. يزيد ذلك بنسبة ٢٥٪ أكثر من عدد الساعات التي يقضيها الناس في العمل مدفوع الأجر في مقاطعة نوفا سكوشا التي تبلغ ٧٠٧ ملايين ساعة في العام. عندما قام الباحثون بتقييم هذا العمل غير مدفوع الأجر، بالنسبة لمعدَّلات الأجور في الأعمال المنزلية وأعمال العناية بالأطفال، وجدوا أن ذلك قد أضاف أكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي المقيس. بمعنًى آخر إن إضافة هذا العمل غير مدفوع الأجر سينتج عنه رفع مستوى إجمالي الناتج المحلي بمقدار النصف. بعبارةٍ أخرى، فإن إدراج هذا العمل غير مدفوع الأجر من شأنه أن يرفع مستوى إجمالي الناتج المحلِّي إلى النصف مرة أخرى.

ومن المثير للاهتمام، وهو ما يتردَّد صداه في المناقشة حول «التوازن بين العمل والحياة»، أن الطريقة التي أصبحنا بها نعمل ونعيش تبالغ في تقدير القيمة الاقتصادية والاجتماعية للوقت الذي نقضيه في المكتب أو المصنع. ومن المؤسف أن محاولة إدراج النشاط غير مدفوع الأجر في الحسابات الوطنية سوف تنطوي على مشاكل حقيقية للغاية. فإجمالي الناتج المحلي، كما رأينا، يتألَّف من عددٍ هائل من المعاملات المسجَّلة. فماذا يحدث عندما لا توجد معاملات مسجلة؟ هل نفترض أن الزوج سوف يدفع لزوجته السعر السائد في السوق للقيام بالأعمال المنزلية (أو العكس)؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يوظف الزوجان شخصًا ما للقيام بهذه المهمة؟ وإذا كانت القيمة التي يضعها الزوج أو الزوجة على الأعمال المنزلية أقلَّ من السعر السائد في السوق، فبأي مقدارٍ هي أقل من ذلك؟ إننا لا نعرف حقًّا، وسوف يكون من الصعب معرفة ذلك.

ولكن هذا لا يمنع الإحصائيين من المحاولة. تقدِّر هيئة الإحصاء الوطنية البريطانية أن قيمة العمل المنزلي غير مدفوع الأجر في عام ٢٠١٦ بلغت ١٫٢٤ تريليون جنيه إسترليني. هذا العمل غير مدفوع الأجر، والذي لم يُضمَّن في إجمالي الناتج المحلي للأسباب الموضحة أعلاه، كان يعادل ٦٣ في المائة من إجمالي الناتج المحلي هذا العام. اتخذ هذا النقاش منعطفًا جديدًا خلال جائحة فيروس كورونا في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، عندما أُغلقت المدارس لفترات طويلة. تولَّى العديد من الآباء مهمة التدريس المنزلي، إلى جانب الدروس عبر الإنترنت، ووجدوا أنها صعبة. لم يكن من المريح لهم اكتشاف أنه في حين أن الدروس عبر الإنترنت التي يقدمها متخصصو التدريس تحسب في إجمالي الناتج المحلي، فإن الدروس المنزلية غير مدفوعة الأجر التي يقدمها الآباء لا تحسب.

إجمالي الناتج المحلي ليس أخضر بما فيه الكفاية

إن الأمر الأكثر أهميةً ممَّا إذا كان إجمالي الناتج المحلي يشمل الأعمال المنزلية غير المدفوعة الأجر والدروس الخصوصية؛ هو ما إذا كان يأخذ في الاعتبار تأثير الأنشطة البشرية على الكوكب. من الواضح أنه لا يأخذ هذا الأمر في الاعتبار. وهذا حيز كبير. في عام ٢٠٠٤، أعلن ون جيا باو، رئيس الوزراء الصيني، أن إجمالي الناتج المحلي «الأخضر» في المستقبل — مع الأخذ في الاعتبار التلوث والتدهور البيئي — سوف يحل محل مقياس إجمالي الناتج المحلي التقليدي. ولكن التجربة أُلغيَت بعد ثلاث سنوات، عندما أصبح من الواضح أن نموَّ إجمالي الناتج المحلي الأخضر سوف يكون أقلَّ مما كان مقبولًا سياسيًّا. وتشير تقديرات مستقلَّة إلى أن النمو «الأخضر» في الصين كان سيقترب من الصفر منذ ذلك الوقت؛ بسبب التأثير البيئي لنمو البلاد.

في فبراير ٢٠٢١، نُشرت مراجعة داسجوبتا، الذي كلَّفته الحكومة البريطانية بإعدادها قبل عامَين. تحت إشراف البروفيسور بارثا داسجوبتا من جامعة كامبريدج، تناولت دراسة «اقتصاديات التنوع البيولوجي»، من بين أمور أخرى كثيرة، كيفية قياس التقدم الاقتصادي بشكل صحيح. وأكَّدت على أهمية «رأس المال الطبيعي». ووفقًا للمنتدى العالمي لرأس المال الطبيعي، يمكن تعريفه بأنه «مخزونات العالم من الأصول الطبيعية، والتي تشمل الجيولوجيا والتربة والهواء والماء وجميع الكائنات الحية». ومن رأس المال الطبيعي هذا، «يستمدُّ البشر مجموعةً واسعةً من الخدمات، والتي غالبًا ما تسمَّى خدمات النظام البيئي، والتي تجعل الحياة البشرية ممكنة». وقال التقرير النهائي لمراجعة داسجوبتا: «الطبيعة هي نقطة عمياء في الاقتصاد نتجاهلها على مسئوليتنا الخاصة.» كما قال:

يمكن أن تكون المقاييس الاقتصادية القياسية مثل إجمالي الناتج المحلي مضلِّلة بشكل سيئ. إذا كان الهدف المجتمعي هو حماية وتعزيز الرفاهية عبر الأجيال (أي «الرفاهية الاجتماعية») فيجب على الحكومات قياس الثروة الشاملة (الوسائل المجتمعية لتحقيق هذه الغايات). الثروة الشاملة هي مجموع القيم المحاسبية لرأس المال المنتج ورأس المال البشري ورأس المال الطبيعي. يتوافق المقياس بشكل مباشر مع الرفاهية عبر الأجيال: إذا عزَّز التغيير الرفاهية الاجتماعية، فإنه يزيد من الثروة الشاملة؛ إذا قلَّل التغيير من الرفاهية الاجتماعية، فإنه يقلِّل من الثروة الشاملة. الرفاهية الاجتماعية والثروة الشاملة ليستا نفس الشيء، لكنهما تتحرَّكان جنبًا إلى جنب.

على الرغم من أن التجربة الصينية السابقة مع الناتج المحلي الإجمالي الأخضر كانت قصيرة الأجل، فقد استشهدت المراجعة بموافقة على ابتكار آخر في جمهورية الصين الشعبية، وهو الناتج الإجمالي للنظام البيئي في الصين، فضلًا عن إطار مستويات المعيشة في نيوزيلندا. إن هذا مجال ضخم، من شأنه أن يملأ كتابًا بمفرده.

فقد نشأ الناتج المحلِّي الإجمالي في ثلاثينيات القرن العشرين، وحُسِّن وجُعِل قابلًا للتطبيق في الحسابات الوطنية في بريطانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية على يد ريتشارد ستون وجيمس ميد، بدعمٍ من جون مينارد كينز. ومن المحتمل تمامًا أن يُنظَر إلى الناتج المحلي الإجمالي قبل مرور مائة عامٍ على ظهوره باعتباره أثرًا تاريخيًّا، فيحل محله مقاييس النمو المستدام. ولكن هذا سوف يتطلَّب تحولًا كبيرًا. وكما ناقشنا أعلاه، يمكن إجراء تقديرات الناتج المحلي الإجمالي بسرعة كبيرة، وتستخدم لتقدير التقدُّم الاقتصادي، والتأثير بين أمور أخرى على الأسواق المالية، وتشكيل قرارات صناع السياسات في وزارات المالية والبنوك المركزية. وسوف يظلُّ هذا مطلوبًا، كما أقرَّت مراجعة داسجوبتا. وسوف يتعيَّن على مقاييس النمو المستدام، التي من غير المرجَّح أن تكون في الوقت المناسب، أن تسير جنبًا إلى جنب مع الناتج المحلي الإجمالي التقليدي.

المتسوقون والمدخرون

إن قياس التقدم الاقتصادي بطريقة مستدامة بيئيًّا يمثِّل تحديًا كبيرًا. لكننا نعود الآن إلى إجمالي الناتج المحلي. فيما يتعلَّق بالأفراد، فقد تناولناهم أثناء قيامهم بالعمل، سواء على مستوى الاقتصاد الجزئي أو الكلي، فهم إما عمالٌ يساعدون في العملية الإنتاجية أو ممَّن يحصلون على أجر أو بالطبع مَن ينفقون الأموال، وخاصةً من ينفقون بكميات كبيرة. أما ما لم نتناوله فهو دور الأفراد كمدخرين، فنحن نعلم مدى أهمية هذا الأمر، فلتلاحظ مثلًا الصفحات الخاصة بالمال في أية صحيفة، أو حجم صناعة الخدمات المالية المدعومة على نحوٍ كبيرٍ من قِبَل المدخرات الشخصية. فعلى المدى الطويل (١٩٦٣–٢٠١٩) تستطيع الأسر في بريطانيا ادِّخار متوسط ٨٫٦٪ من الدخل المتاح (الراتب الصافي)، مع أن هذه النسبة التي تُعرَف بنسبة الادِّخار تتفاوت تفاوتًا كبيرًا من عامٍ إلى آخر. وقد تكون نسبة الادخار سلبية، عندما تقترض الأسر أكثر مما تدَّخره في المجمل، أو تستنفد مدخراتها الحالية. وتميل نسبة الادِّخار إلى أن تكون أعلى أثناء فترات الركود وبعدها. ففي المملكة المتحدة، ارتفعَت إلى أكثر من ١٠ في المائة في عام ١٩٧٩ وظلَّت في خانة العشرات حتى عام ١٩٨٦، حيث بدأَت البطالة في الانخفاض وأصبح الناس أكثر ثقةً في الإنفاق. وتبعت نمطًا مماثلًا من عام ١٩٩٠ حتى عام ١٩٩٧، على الرغم من أنها ارتفعَت لفترةٍ وجيزةٍ فقط خلال الركود العميق المرتبط بالأزمة المالية العالمية، حيث ارتفعت إلى أكثر من ١٠ في المائة فقط في عامَي ٢٠٠٩ و٢٠١٠. ويعمل حذر الأسر، الذي ينعكس في نسب الادخار المرتفعة، على تعميق فترات الركود وإبطاء التعافي منها. وخلال جائحة فيروس كورونا في أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين، حدث شيءٌ مختلف تمامًا. وبسبب القيود المفروضة على الإنفاق بسبب عمليات الإغلاق وغيرها من القيود، ارتفعت نسبة الادخار في المملكة المتحدة إلى أعلى مستوًى لها على الإطلاق عند ٢٧٫٤٪ في الربع الثاني من عام ٢٠٢٠، وظلت مرتفعة عند ١٦٫٩٪ حتى مع استعادة الاقتصاد لبعض ما فقده في الربع الثالث. وكانت هذه حالة من الزيادة الحادة في الادخار غير الطوعي.

تشجِّع الحكومات في بريطانيا هذا الادخار عن طريق تخفيف الضرائب مثلًا عن خطط المساهمات الشخصية، والحسابات الخاصة المعفاة من الضرائب وحسابات الادخار الفردية؛ فالادخار شيء جيد. وتقوم معظم الحكومات بتقديم بعض الحوافز لكي تشجع على الادخار. فإذا حدث تغيير في السنوات الأخيرة، فهو بعيد عن دعم الحكومات الذي يهدف لمصلحتها الخاصة بالادخار في منتجات مثل سندات الأنصبة، وشهادات الادخار القومية التي تعتبر طريقة لتغطية وتمويل دَين الحكومة. ومن الواضح أنه في وقت الحرب — وفي أوقاتٍ أخرى أيضًا — يقتنع الناس بمساعدة الحكومة في تمويل دَينها عن طريق شراء السندات، أو ديون الحرب أو المنتجات الأخرى. وفي هذه الأيام تهتم الحكومات بتشجيع الادخار ليس فقط كغاية في حد ذاته، ولكن لتوفير المصادر الكافية للاستثمار المثمر. ففي النظام الاقتصادي المغلق بدون حكومة، يصبح مصدر التمويل الوحيد للاستثمار هو المقدار الذي يدَّخره الناس، إلا أن الأمور أكثر تعقيدًا من ذلك في الأنظمة الاقتصادية المفتوحة، بدون وجود قيودٍ على رأس المال (مما يعني أن التمويل من الممكن أن يتدفَّق من وإلى البلد)، ولكن تظلُّ الفكرة الأساسية كما هي.

أما الدول التي تمثِّل فيها المدخرات معدلات قليلة، فهي عادة إما لا تملك حجم استثمارات كافيًا، أو أنها تعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ على التمويل المتدفق من خارج حدودها. في وقت من الأوقات، كانت اليابان مثالًا لباقي العالم الصناعي؛ حيث يتساوى كلٌّ من الاستثمار والادخار فيمثِّل كلٌّ منهما نحو ٣٠٪ من إجمالي الناتج المحلي في السنوات الأولى من انتعاشتها بعد الحرب. مع ذلك، بعد انفجار «فقاعة» الاقتصاد في أواخر الثمانينيات، حيث كانت نسبة الادِّخار في ذلك الوقت في أعلى مستوياتها، كانت هناك فترات في التسعينيات كان فيها من الممكن للاقتصاد الياباني أن يستفيد من إنفاق المستهلكين أكثر وتوفيرهم أقل. وبدا أن اليابان كانت مثالًا حيًّا لما يُعرف ﺑ «مفارقة الادِّخار»، والتي عادةً ما تُربط بجون مينارد كينز، الذي سنتحدَّث عنه لاحقًا. والمفارقة هي أنه في حين أن ارتفاع مستوى الادخار مفيدٌ على المدى الطويل، حيث يوفر الأموال للاستثمار؛ ومن ثَم لتعزيز قدرة الاقتصاد على النمو، فإن المزيد من الادخار (ومن ثَم إنفاق أقل) في الأمد القريب يعني معدل نمو اقتصادي أقل، وهو ما قد يثبط عزيمة الشركات عن الاستثمار. ولكن في اليابان، انخفضت نسبة الادخار بشكلٍ كبير للغاية، حيث هبطت إلى ٠٫١٪ فقط في عام ٢٠١٤، قبل أن ترتفع إلى ٣٪ أو ٤٪، وهو ما يمثِّل جزءًا ضئيلًا من المستويات السابقة. وأحد الأسباب وراء هذا هو أن اليابان، التي كانت ذات يوم واحدةً من أعلى معدلات الادخار في العالم، تعاني من الشيخوخة السكانية (فهي تتمتَّع بأكبر متوسط أعمار بين الدول)؛ ومن ثَم فإن عددًا أكبر من الناس يسحبون من مدخراتهم السابقة أكثر من عدد الذين يستثمرون فيها.

ما السبب الذي يدعو الناس للادخار؟

بالطبع لا يدَّخر الناس بدافع الواجب الوطني، أو لأن الادخار ضرورة لتأكيد وجود رأسمال كافٍ للقيام بالاستثمار المثمر. إلا أنه ليس من الصعب إيجاد أسباب للادخار — تجنيب جزءٍ من المال تحسُّبًا لحالات الطوارئ غير المتوقعة — مثل فقدان مصدر الدخل أوقات الأزمات المالية، أو لدفع مصاريف المدارس أو الجامعات، أو للتقاعد، أو ليوم ممطر، كما قيل في الأمثال. لقد أعطانا، ميلتون فريدمان، الذي يعتبر الأب الفكري للسياسة الاقتصادية في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، نظرية الدخل الثابت. وقد أدَّى ذلك إلى الإسراع في طرح المناقشة حول ما إذا كان لدى الأشخاص فكرةٌ ثابتةٌ عن دخلهم الدائم أو طويل الأمد، وعن مقدار ما يريدون إنفاقه من هذا الدخل للحفاظ على مستوًى معين من المعيشة. وفي حالة حصولهم في أحد الأعوام على علاوة كبيرة، فهم بعيدو النظر بما يكفي ليروا في تلك العلاوة جزءًا من الدخل الثابت، وعليه سيقومون بتوفير جزءٍ كبيرٍ منها بشراء أصول مالية. أما إذا حدث خصم في دخلهم في عام آخر بسبب انخفاض مستوى المعيشة عامَّة، فمن الممكن أن يتعاملوا مع هذا الأمر على أنه أمرٌ مؤقَّتٌ ويحتفظوا بنفس مستوى الإنفاق، عن طريق سحب بعض مدخراتهم. إن الادخار يختلف تبعًا لما يكسبه الفرد فعليًّا مقابل الدخل الثابت له.

إذا كان هذا يبدو مثاليًّا جدًّا لأن يكون حقيقة، فقد قام فرانكو موديلياني وآلبرت آندو بتقديم نظرية دورة حياة سلوك الادخار. وببساطة يعتبر ذلك مجرد قصة عن المحالين إلى التقاعد. فالناس يزيدون من مدخراتهم في الفترات التي يكسبون فيها كثيرًا من الأموال، ثم يقومون بالسحب من هذه النقود عندما يتوقف حصولهم على المزيد من المال، في مرحلة التقاعد. ففي مرحلة الطفولة ننفق أكثر مما ندَّخر، ونجمع المدخرات في مرحلة منتصف العمر (أو نعطي بعضها لأطفالنا لكي ينفقوها) ونقوم بالإنفاق منها عندما يتقدَّم العمر بنا، ومن المحتمل أن نترك بعضها لكي يستفيد منها الجيل التالي. تلائم نظرية دورة الحياة إلى حدٍّ ما الكثير من تجارب الناس. ولكنها قد تحتمل بعض التنوع. من الممكن أن يدَّخر الزوجان لشراء منزل أو شقة، ولكن عندما يُرزَقان بأطفال ويتوقف ما تكسبه الزوجة من دَخْل لفترة، فإنهما يتوقفان عن الادخار لفترة قد تطول. إن فرضية دورة الحياة، والتي هي مثل كل الأفكار الجيدة بسيطة للغاية، عميقة في تداعياتها، كما أوضح الخبير الاقتصادي أنجوس ديتون في محاضرته التي ألقاها في جامعة برينستون بروما في عام ٢٠٠٥. وفي حين أن الكثير من علم الاقتصاد عرضة للمراجعة والخروج من الموضة، إلا أنها صمدت. وكما قال:

إن نظرية دورة الحياة هي التي تساعدنا على التفكير في مجموعةٍ من الأسئلة السياسية المهمة، التي لولا ذلك لما كان لدينا ما نقوله عنها. ومن بين القضايا الأكثر إثارةً للجدال اليوم، سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة، الكيفية التي ينبغي للمجتمعات أن تتخذ بها التدابير اللازمة بشكلٍ جماعيٍّ للأعداد المتزايدة من كبار السن. فكيف تتفاعل التدابير الحكومية مع التدابير الخاصة؟ وهل يشكِّل معاش التقاعد الحكومي بديلًا عن الادخار التقاعدي الخاص، وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي مدًى؟ وكيف تؤثر التغيرات في سلوك التقاعد على الاقتصاد؟ وهل تؤثر أنظمة الضمان الاجتماعي على السن التي يتقاعد فيها الناس؛ ومن ثَم على مقدار الثروة في الاقتصاد؟ كيف يؤثر ازدهار سوق الأوراق المالية على إنفاق الناس وادخارهم؟ وعلى نطاق أوسع، يتعيَّن على أي شخصٍ يفكِّر في التنمية الاقتصادية أن يفكِّر في الدور الذي يلعبه الادخار في النمو الاقتصادي. فهل الادخار هو مصدر النمو، أم أنه ببساطة نتيجة له؟

في الغالب يتأثَّر ويؤثِّر سلوك الادخار فيما يحدث في النظام الاقتصادي الأوسع. ويبدو أن ارتفاع نسبة البطالة يؤدي إلى تشجيع الادخار؛ لأن الناس يخافون من الاقتراب من الحد الذي قد يؤدي إلى الاستغناء عنهم، وهو السبب وراء ارتفاع معدل الادخار في أغلب الأحيان أثناء فترات الركود وبعدها. ويرتبط انخفاضُ معدل التضخُّم بانخفاض مستويات الفائدة، بسبب زيادة ثقة الأفراد في أن النقود التي أودعوها جانبًا لن تتآكل بارتفاع الأسعار. من الممكن أن يعني ذلك أن المدخرين يتأثَّرون بما يسمَّى «خداع النقود». فعندما يقلُّ معدل التضخم، تنخفض معدلات سعر الفائدة بطبيعة الحال لتقترب من الصفر، وأنا أكتب هذه الصفحات؛ ومن ثَم تصبح أسعار الفائدة التي تُعرض على حسابات المدخرين غير جذابة. إنه خداع بطبيعة الحال. فنسبة الفائدة التي تقدَّر ﺑ ١٠٪ عندما يبلغ معدل التضخم ٨٪ أقل في واقع الأمر (بعد إفراد حيزٍ للتضخم) من نسبة ٥٪ عندما يبلغ معدل التضخُّم ٢٪، لكن هذه الأوهام يمكن أن تكون مؤثِّرة بشكلٍ عجيب. ولكن في مارس ٢٠٠٩، كان من حقِّ المدخرين أن يشعروا بالظلم عندما خفض بنك إنجلترا أسعار الفائدة إلى ٠٫٥٪، وهو أدنى مستوًى منذ إنشائه في عام ١٦٩٤. ولم يسبق أن انخفض سعر الفائدة البنكية إلى أقلَّ من ٢٪ من قبل. ورغم أن المدخرين كانوا قادرين على الحصول على أسعار فائدةٍ أعلى قليلًا من سعر الفائدة البنكية البالغ ٠٫٥٪، وخاصة من البنوك وجمعيات البناء اليائسة لجذب التمويل، فإن قِلة منهم كانوا قادرين على تحقيق سعر فائدة أعلى من معدل التضخم، قبل أو بعد الضريبة. واستمر هذا الوضع لسنواتٍ عديدة وكان إرثًا للأزمة. وبالنسبة لأولئك الذين بنَوْا مخزونًا من المدخرات أثناء حياتهم العملية، لكي يعيشوا بعد التقاعد، كان هذا صعبًا.

•••

لقد أرسينا العديد من الأساسيات الآن. وفي الواقع، لقد تعرَّضنا كذلك لبعض الموضوعات المعقَّدة إلى حدٍّ ما. ولا نزال ننظر لما يكمن وراء سلوك الطرفَين الآخرَين من المنظومة — الشركات والحكومات — وهو إضافة إلى ما وصفناه سابقًا. لكن وقبل كل شيء لا يزال لدينا الكثير من الشخصيات المثيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥