الفصل السادس

الوصفات الكلاسيكية

تركنا آدم سميث ونحن ننعم بنظرة تفاؤلية على العالم. فكلَّما حافظنا على الحرية الاقتصادية تبعها الرخاء. سيبدأ في الحديث الآن ثلاثةٌ من العلماء ظهروا جميعًا بعد سميث، وسيقدِّمون رؤيةً أكثر اختلافًا. الأول هو توماس روبرت مالتوس (١٧٦٦–١٨٣٤)، ويُعرف توماس مالتوس بسمعته الكئيبة، وقد كان بلا شك مسئولًا عن صبغ الاقتصاد بها. ولا يمكننا الجزم بما إذا كان الكاتب توماس كارليل عندما وصف علم الاقتصاد بأنه «العلم الكئيب» كان يفكر في مالتوس أم لا. ولكن أصبحت هذه هي السمة المميزة لهذا العلم حتى يومنا هذا، مع حقيقة أن معظم خبراء الاقتصاد يتمتَّعون بروح مرحة. وتُطلق جمعية مارشال بجامعة كامبريدج على مجلتها اسم «ديسمال ساينتست» (وتعني بالعربية العالم البائس). وتضم قائمة الغداء أيضًا اسمَين من أسماء خبراء الاقتصاد العظماء من العصر الكلاسيكي، وتحديدًا من القرن التاسع عشر؛ وهما ديفيد ريكاردو (١٧٧٢–١٨٢٣) وجون ستيوارت ميل (١٨٠٦–١٨٧٣).

اكتئاب مالتوسي

معظم الناس على درايةٍ بالمكونات الأساسية لرؤية مالتوس المكتئبة، مع أن معظمهم يجهلون الكثير عن الرجل الذي أتى بهذه النظرية. وُلد روبرت مالتوس لعائلة ميسورة الحال في مدينة جيلدفورد في مقاطعة ساري، وكان أحد ثمانية أبناء. ولم يكن ينعم بالذكاء فقط ولكنه كان يتمتَّع بمهاراتٍ رياضية أيضًا. وكان حسن المظهر، ويعتني بمظهره — كما كان سائدًا في ذلك الوقت — عن طريق تصفيف شعره على شكل لفَّات ذهبية طويلة بها ومضات من اللون الأحمر الوردي، وكان شعره أشقر تشوبه حمرة، إلا أن ذلك الحسن كان يفقد فاعليته عندما يبدأ في الحديث؛ فقد ورث من والده الحلق المشقوق مما جعل نبرة صوته عالية وحادَّة. برع مالتوس في دراسته لعلم الرياضيات والفلسفة الطبيعية في جامعة كامبريدج، وأصبح عضوًا في كلية جيزس قبل أن ينذر نفسه للكنيسة. ثم ترك حياة القساوسة الإنجيلية في عام ١٨٠٤ حتى يستطيع الزواج من هارييت إيكرسال، التي تصغره بعشر سنوات، ومع كل ذلك فإنه كان يستخدم في أواخر حياته لقب «المحترم» الذي كان يدلُّ على أن صاحبه من رجال الكنيسة؛ حتى يبتعد قليلًا عن النقد الذي كان يُوجَّه لآرائه. وبعد عامٍ تولَّى منصب أستاذ التاريخ الحديث والاقتصاد السياسي في جامعةٍ أسَّستها شركة الهند الشرقية، مما جعل منه أول أستاذ لمادة الاقتصاد في العالم (شغل آدم سميث منصب أستاذ في علم المنطق وفي الفلسفة الأخلاقية)، ومن المحتمل أنه كان أول خبير اقتصادي محترف في العالم.

في هذا الوقت كان مالتوس قد نشر النسخة الأولى من مقالته التي جعلته مشهورًا. كان عنوانها المطوَّل «بحث في مبدأ السكان، بما أنه يؤثر في التحسُّن المستقبلي للمجتمع، مع ملحوظات عن تكهُّنات السيد جودوين وإم كوندورسيه وكتَّاب آخرين»، وعادةً يُختصر العنوان ليصبح فقط «بحث عن السكان»، لقد كان كوندورسيه، ماركيز كوندورسيه (١٧٤٣–١٧٩٤) فيلسوفًا فرنسيًّا عاش في القرن الثامن عشر، وتبنَّى رؤية آدم سميث التفاؤلية عن المستقبل ونهج نفس نهجه. لقد رأى أن المستقبل سيحظى بإنتاج صناعي وزراعي قوي وغزير، يتزايد فيه السكان ومستويات المعيشة جنبًا إلى جنب. أما ويليام جودوين (١٧٥٦–١٨٣٦) فقد وُلد لعائلة تتبع الفكر الكالفني بطريقة صارمة، وكان يُؤَهَّل ليصبح رجل دين، ولكنه أصبح كاتبًا ومفكرًا ذا آراء غير تقليدية بما في ذلك اعتبار الزواج عبودية (مع أنه تزوَّج مرتين، في المرة الأولى تزوَّج بالكاتبة ماري وولستونكرافت التي شاركَته آراءه عن الزواج، وأنجبَت له ماري شيلي.) شارك جودوين في آراء كوندورسيه المتفائلة عن المستقبل وكان مثاليًّا في رؤيته للأمور. ومن أكثر الأمور أهميةً أن والد مالتوس — دانييل صاحب الأرض الثري في مقاطعة ساري — كان متأثرًا جدًّا برؤية جودوين للأمور.

لقد كان المقال البحثي «بحث عن السكان» الذي كتبه مالتوس الأصغر، يتكوَّن من ٥٠ ألف كلمة، وكان الغرض من كتابته هو فض جدلٍ عائلي، ومع ذلك فقد تأثر به والده كثيرًا ونشره على نفقته الخاصة. إلا أن جوهر حالة التشاؤم التي كان يعانيها مالتوس لم يظهر إلا في بضع جمل من المقال فقط؛ فقد كتب:

أعتقد أنه بإمكاني وضع افتراضَين أساسيَّين مسلَّم بهما. أولًا: أن الغذاء ضروريٌّ لوجود الإنسان. وثانيًا: أن الرغبة بين الجنسَين ضروريةٌ وعلى وجه التقريب ستستمرُّ على وضعها الحالي. ومن ثَم ففي حالة افتراض تحقيق ما ورد في بحثي، فإنني أقول: إن قوة السكان تعلو فوق أية قوة على الأرض وهي قادرة على إنتاج مورد رزق يضمن بقاء الإنسان. فإذا تُرك عدد السكان بغير كبح، فإن نسبته تتزايد في متوالية هندسية. أما مردود الرزق فنسبته تتزايد في متوالية حسابية. كما أن أبسط معرفة بالأرقام سوف تظهر ضخامة القوة الأولى مقارنة بالثانية.

إن معرفة الأرقام التي كان يتحدَّث مالتوس عنها تعني أن إنتاج الطعام — كما تنبأ به — سيتزايد بمتوالية حسابية (٢، ٤، ٦، ٨، ١٠، ١٢ … إلخ)، في حين يتزايد عدد السكان في متوالية هندسية (٢، ٤، ٨، ١٦، ٣٢، ٦٤ … إلخ). ستعرف ما نقصده بالضبط إذا كنت قد قمت بتربية أرانب من قبل، وفكَّرت في طريقة توالدها. يجب أن يحدث شيءٌ ما، ففي الفكر المالتوسي يكون الاختيار إما بين التحديد الاختياري للنمو السكاني، وهو أمر كان مالتوس يشك في حدوثه، وإما شيء أكثر بشاعة ألا وهو التحكم في عدد السكان عن طريق الحرب والأوبئة والطاعون، وربما في معظم الأحيان بالمجاعات. أما العمال العاديون الذين تفاءل كلٌّ من سميث وكوندورسيه وجودوين بهم، فقد رأى مالتوس أن مستقبلهم مغلَّفٌ بالسواد. فلن ينعم العمال بأي ارتفاعٍ في مستوى المعيشة، وبدلًا من ذلك سيترنَّحون بين مستويات الكفاف أو حتى أقل من ذلك. فحياتهم كانَت مليئةً بالقسوة في زمنٍ كانت فيه «عوائق الزواج كثيرة، مع ارتفاع صعوبة بناء أسرة» وقد يكون ذلك إحدى الطرق التي تؤدي إلى انخفاض نسبة تعداد السكان. وبالفعل هذا أمر كئيب.

هل كان مالتوس مخطئًا؟

عندما تعرَّفت على كتابات مالتوس لأول مرة في أوائل السبعينيات من القرن العشرين — فقد بدا أن توقيته قد يكون خاطئًا — كانت تنبؤاته عن عالم يزيد فيه النمو السكاني على مخزون الطعام، تتوافق مع تحذيرات (لا تزال سائدة) من أن هذا ما سيئول إليه الحال، إن لم يكن قد تحقَّق ذلك بالفعل في العالم الثالث. ولن يختفيَ هذا النقاش؛ إذ تنبَّأت الأمم المتحدة في عام ٢٠٢٠ بأن عدد سكان العالم سيرتفع من ٧٫٧ مليارات نسمة إلى ٩٫٣٧ مليارات نسمة بحلول عام ٢٠٥٠، ثم يصل إلى ذروته عند ١١ مليار نسمة في عام ٢١٠٠. وكثيرًا ما تشير أسعار الغذاء العالمية المرتفعة بشكلٍ حاد، والتي تحدث بشكل دوري، إلى أن النمو السكاني يفوق قدرة العالم على إطعام نفسه. ولكن هناك عادة عدد من التفسيرات لهذا، من بينها الفيضانات وضعف المحاصيل. ويرى البعض أن التغيُّر المناخي وتأثيره على إنتاج الغذاء يشكِّلان العنصر الإضافي في الرؤية المالتوسية القاتمة.

في واقع الأمر أخطأ مالتوس في تقدير أمرَين مهمَّين. الأول هو استخفافه بمدى التطور التكنولوجي في إنتاج الطعام وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة البيولوجية لإنتاج الطعام، فلماذا يجب أن يرتفع عدد السكان من البشر في متوالية هندسية، ويتزايد — مثلًا — عدد الأغنام اللازمة لمتطلبات الغذاء من اللحوم، في متوالية حسابية فقط؟ والثاني هو أنه أخطأ أيضًا في فَهْم أسباب نمو السكان. فقد كتب عن كوننا على حافة حدوث زيادة كبيرة في عدد سكان العالم — من أقل من مليار نسمة عام ١٨٠٠ إلى أكثر من ٨ مليارات نسمة تقريبًا في الوقت الحالي — ولم يكن ذلك بسبب زيادة غريزة في التكاثر — بدون قيود — لدى الفلاحين، ولكن يُعزى ذلك للتقدم الطبي وارتفاع مستويات المعيشة (وفي ذلك إتاحة أنواعٍ من الأطعمة أكثر وفرة) اللذين أدَّيا إلى خفض نسبة وفيات الأطفال، ورفعا من متوسط عمر الفرد. من هنا كان من المفترض ربط ارتفاع مستوى المعيشة بتقليل حجم الأسرة — وليس زيادته. وهكذا، فحين كانت المجاعة في العالم الثالث تمثِّل كابوسًا مالتوسيًّا، كانت تنبؤاته مفرطةً في التشاؤم. فلم تكن المشكلة في الدول النامية بسبب وجود عجز في المخزون العالمي من الطعام، وبوصفهم فقراء لم يوضعوا في الحسبان. ولكن المشكلة تكمن في أن توزيع الكميات المتاحة من الغذاء بين البلدان لا يحدث بالتساوي.

المشكلة ليست في أعداد السكان فحسب

مع أنه من الممكن أن تكون تنبُّؤات مالتوس عن تعداد السكان غير صحيحة، فإن إسهاماتِه في هذا المجال لا تقدَّر بثمن. فبالإضافة إلى كونه أول خبير اقتصادي محترف، فقد كان أول من أجرى إحصاءً للسكان. ولا يُعد ذلك فقط الذي أدَّى إلى شهرته؛ فقد أعطانا مالتوس قانون «تناقص الغلة» ومصدره ملاحظاته الزراعية. وهناك طريقتان للتفكير في الأمر. أما الأولى فهي إذا قام ١٠ أشخاص بالعمل في قطعة أرض، فإنهم سيحصلون على كمية معينة من ناتج هذه الأرض. وبزيادة عدد العمال إلى ٢٠ فإن حجم المحصول سيزداد أيضًا ولكن لن يتضاعف؛ لأن المتاح هو ما تستطيع الأرض أن تنتجه فقط. لذا يقلُّ متوسط ما يحصل عليه الفرد من إنتاج؛ حيث إنه بعد حدٍّ معين سيكون الناتج الحدي لكل عامل إضافي — الكمية التي يزيد بها الإنتاج — يقل عن العامل الذي يسبقه. وأما الطريقة الثانية الخاصة بالتفكير في هذا الموضوع فهي أن تنظر للأرض المتاحة على أنها أكثر الأراضي الخصبة المستخدمة في أي وقت من الزمان. لذا فإن زيادة الإنتاجية ستؤدي إلى التقليل من خصوبة الأرض، وستتحوَّل إلى أرض بور؛ مما سينتج عنه خفض الإنتاجية. هذا هو السبب الذي كان يجعل مالتوس متشائمًا بخصوص إنتاج الغذاء. من الممكن أن يكون قد أخطأ في ذلك، ولكن يعتبر قانون تناقص الغلة حتى الآن من أكثر الموضوعات المهمة في علم الاقتصاد.

في النهاية تناول مالتوس آراء جان بابتيست ساي الفرنسي (١٧٦٧–١٨٣٢)، وهو رأي آخر معاكس للآراء السائدة في ذلك الوقت. كان ساي من أتباع آدم سميث، وقد أكَّد أن آلية السوق لا تؤكِّد التقاءَ العرض والطلب على المنتجات الفردية، ولكن ينطبق ذلك على الاقتصاد ككل. وقانون ساي الذي يوصف في بعض الأحيان ﺑ «العرض يخلق الطلب الخاص به»، أو بعملية إنتاج البضائع، ودفع أجور العمال وما إلى ذلك، يعني وجود الطلب الفعلي على هذه المنتجات، وفي المجمل أيضًا يتساوى العرض مع الطلب. من هنا فمن المستحيل أن تحدث زيادة أو وفرة في الإنتاج. ولم يوافق مالتوس على هذا الرأي. ورأى أن الوفرة لا تمثِّل خطرًا لبعض المنتجات الضرورية مثل الطعام. لكنه اعتقد أن زيادة الإنتاج يمكن أن تؤدِّي إلى ذلك، فيما يخصُّ السلع الأخرى. وتبعًا لذلك تظهر البطالة. ولأن البطالة في بريطانيا قد ارتفعَت إلى نحو أكثر من مليون في أعقاب الحروب النابوليونية، فيبدو أنه كان لديه وجهة نظر. وقد كان لديه العلاج؛ إذ نادى ﺑ «تشغيل الفقراء في الطرق والأعمال العامة». بهذه النظرية يكون قد سبق أكثر علماء الاقتصاد شهرةً في القرن العشرين؛ جون مينارد كينز، بأكثر من ١٠٠ عام. دُفن مالتوس في دير باث، ويوجد رثاءٌ طويلٌ له في مدخل الدير يصفه بأنه «أحد أفضل الرجال وأصدق الفلاسفة في أي عصر أو بلد». وغالبًا ما تستحقُّ أماكن دفن الاقتصاديين الكلاسيكيين الزيارة. يوجد لآدم سميث حجرٌ تذكاريٌّ رائع في كنيسة كانونجيت، إدنبرة، بالقرب من أحد طرفَي رويال مايل في المدينة. ديفيد ريكاردو، الاقتصادي الكلاسيكي التالي، مدفونٌ في كنيسة القدِّيس نيكولاس في هاردنهوش في ويلتشاير. وهناك لوحةٌ تذكارية له، ونصب تذكاري مزخرف لعائلته.

ديفيد ريكاردو

لقد كان لريكاردو سيرةٌ ذاتية تُشبه إحدى شخصيات روايات الكاتب ديكينز، أو من الممكن أيضًا أنتوني ترولوب. كان ريكاردو من العلماء المعاصرين لمالتوس، وأحد أفراد أسرة كبيرة العدد لأب ثري يعمل سمسارًا في البورصة، وكان عدد إخوته نحو ٢٠ (العدد الدقيق غير معروف بالضبط). وُلد في لندن بعد بضع سنواتٍ من مغادرة والده — اليهودي الهولندي — هولندا ليعيش في مدينة لندن. كان ريكاردو قد حظيَ منذ الصغر بتعليم عام، ولكنه كان تعليمًا يكفي لإعداده لكي ينضمَّ إلى الشركة التي تمتلكها العائلة وهو في عامه الرابع عشر. سار كل شيء على ما يرام حتى أحب، وهو في سن الواحدة والعشرين، فتاة من جماعة الكويكرز وتزوجها؛ ومن ثَم ترك معتنقه اليهودي؛ مما أدى إلى طرده من شركة العائلة وحرمانه من الميراث. لكن ريكاردو كان ماهرًا وواسع الحيلة، ونجح في تأسيس شركته الخاصة التي تعمل في مجال سمسرة البورصة، وأنشأ لنفسه عملًا ناجحًا جدًّا. وكان أيضًا رجلًا مثقفًا وكثير الاطلاع. وفي العشرينيات من عمره وقع على كتاب سميث «ثروة الأمم»، وبدأ في تطوير أسلوبه الخاص عن علم الاقتصاد. وبعد أن جمع قدرًا كافيًا من الثروة في الثانية والأربعين من عمره، قرَّر أن يتقاعد (لقد حصل على لقب أغنى خبير اقتصادي في العالم، وهو يمتهن مهنة من النادر أن يصبح مَن يمتهنها مليونيرًا). لقد كان يملك الكثير من الممتلكات، أشهرها جاتكومب بارك في جلوسيسترشير، مسقط رأس الأميرة آن ابنة الملكة. وبعد عدَّة سنوات من التقاعد اشترى لنفسه مقعدًا في البرلمان، واعتبروه في مجلس العموم البريطاني الخبير الرائد في علم الاقتصاد. ولم يمهله الوقت لكي يطوِّر حياته السياسية حيث توفِّي كهلًا وهو في الحادية والخمسين من عمره.

ريكاردو والتجارة

قانون المزايا النسبية هو الجزء الذي يجب أن يلمَّ به الجميع، في علم الاقتصاد الريكاردي، ولا بد أن الكثيرين يعرفونه. لقد ناقش سميث مبدأ تقسيم العمل، وفسَّر السبب الذي يجعل التخصُّص مُبرِّرًا لزيادة الإنتاجية الاقتصادية، ومن هنا يعمُّ الرخاء. لقد طوَّر ريكاردو هذا الأمر عن طريق وضع نظرية كاملة عن التجارة الدولية. ولا نختلف بالطبع على أهمية تخصُّص الدول في إنتاج ما تبرع فيه، فلم نكن بحاجة لخبير في الاقتصاد لمعرفة ذلك. لكن ماذا يحدث لو كانت إحدى الدول تبرع في إنتاج كل شيء أكثر من دولة أخرى؟ هل يجب أن تقوم هذه الدولة بإنتاج كل هذه المنتجات؟ وهل على الدولة الأخرى وضع حواجز جمركية لتجنُّب غمر إنتاجها بواردات الدولة القادرة؟ كانت إجابة ريكاردو عن السؤالَين بالنفي، واستخدم حججًا اقتصاديةً لكي يشنَّ حملة من أجل التجارة الحرة عمومًا، وإلغاء قوانين القرن التاسع عشر المعنية بالحبوب في بريطانيا على وجه الخصوص.

وبمرور الوقت اكتسب المثال الذي استخدمه شهرة واسعة. نفترض أن دولتَين مثل إنجلترا والبرتغال تتاجران في سلعتَين فقط: النبيذ والقماش. تشتهر البرتغال بجودة النبيذ الذي تنتجه بسبب سطوع الشمس هناك، فيستطيع نحو ٢٥ عاملًا إنتاج برميل واحد من النبيذ فيما يقرب من يوم عمل واحد. أما إنجلترا فهي غير كفء في إنتاج النبيذ؛ لأنها لكي تنتج نفس الكمية التي تنتجها البرتغال لا بد أن تقوم بتوظيف ٢٠٠ عامل، مع عدم التأكد بعد ذلك من جودة المذاق. هنا، من الواضح أنه من الأفضل أن تقوم البرتغال بإنتاج النبيذ. وعند النظر أيضًا إلى صناعة الملابس، نجد أن البرتغال تستطيع إنتاج لفة واحدة من القماش بتوظيف ٢٥ عاملًا. أما إنجلترا فهي أكثر كفاءةً في تصنيع القماش من النبيذ، لكنها ليست في كفاءة البرتغال، فتحتاج إلى نحو ٥٠ عاملًا لكي تصنع نفس الكمية. لذلك ماذا سيحدث؟ تتمتَّع البرتغال بمزايا «مُطلَقة» في كلا المنتجَين. فكيف انتهى الأمر لصالح بريطانيا؟ لقد فسَّر ريكاردو ذلك بأنه في هذه الظروف سيكون هناك ربح مؤكد في الإنتاج إذا حولت البرتغال نشاطها من القماش إلى النبيذ، وقامت إنجلترا بعكس ذلك. نفترض أنك بدأت من وضع يكون لديك فيه نفس عدد العمال المتوفرين في كل دولة، وكانت البرتغال تستطيع إنتاج ١٠٠٠ وحدة من النبيذ و١٠٠٠ وحدة من القماش يوميًّا. وفي المقابل تستطيع إنجلترا، التي لا تنتج بنفس الكفاءة، إنتاج ٥٠٠ وحدة فقط من القماش و١٢٥ وحدةً من النبيذ. فإذا حوَّلت إنجلترا كل العمال الذين يعملون في إنتاج النبيذ لإنتاج القماش، فستستطيع إنتاج ٥٠٠ وحدة إضافية من القماش، مما سيجعل إجمالي الإنتاج يصل إلى ١٠٠٠ وحدة، ولكن بدون أن تُنتج أيَّ نبيذ. أما البرتغال — في مثل هذه الظروف — فإنها ستستطيع إنتاج كميات أكبر من النبيذ (لسدِّ احتياجات السوق الإنجليزية)، وتُخفِّض من إنتاج القماش. من هنا يكون إجمالي إنتاجها كما هو ٢٠٠٠ وحدة من السلعتَين، وسيرتفع إنتاج إنجلترا من ٦٢٥ إلى ١٠٠٠ وحدة. ويرتفع الإنتاج العالمي. النقطة الرئيسية هنا هي أن أكثر شيء أهمية في التجارة هو المزايا «النسبية»، وليس المزايا المطلقة. من هنا فإن أهمية قانون ريكاردو عن المزايا النسبية تنبع من كونه يفسِّر كيف تستفيد الدول في كل الظروف من التبادل التجاري.

يتأثَّر الكثيرون بهذه الفكرة. فلماذا يرغب البرتغاليون في شراء الملابس التي تقلُّ في جودتها عما يقومون بإنتاجه؟ الإجابة عن هذا السؤال هي أن أسعار القماش الإنجليزي تتحدَّد وفقًا للمستويات «العالمية». فالعمال الذين يعملون في مصانع القماش في إنجلترا تكون أجورهم نصف أجور العمال البرتغاليين؛ لأن كفاءتهم تقلُّ إلى النصف. من هنا يستطيع البرتغاليون شراء كميات كبيرة من الزيادة في الإنتاج العالمي. وتحصل إنجلترا وعمالها على ربح، مع ابتعادها عن إنتاج النبيذ الرديء والاتجاه لإنتاج القماش. ويعتبر هذا الموقف مربحًا لجميع الأطراف. ولا يزال هذا بمثابة حجة جوهرية لمن يؤيدون التجارة الحرة.

ريكاردو وعلم الاقتصاد

مع أن قانون المزايا النسبية يُعتبر من أكثر إسهامات ريكاردو الثابتة، فقد أضاف إلى علم الاقتصاد أكثر من هذا. وبسبب خبرته في علم المالية، فقد كان أول من تناول الموضوع الأكثر جدلًا في ذلك الوقت، وهو «الاقتصاد السياسي» وذهب به إلى نطاقات نظرية وعلمية بدرجة أكبر. لقد كان ريكاردو بفضل أفكاره المعقَّدة وذكائه المتقد، أول من قدَّم المفاهيم الرياضية الصعبة لهذا الموضوع، تلك الخطوة التي لم يرحب بها كل شخص. فكل مَن يحاول فَهْم أي مقال أكاديمي مليء بالمعادلات عن علم الاقتصاد اليوم لا بد أن يلقي باللوم على ريكاردو.

ومع أن قانون المزايا النسبية عرض تقييمًا متفائلًا للأرباح المتوقَّعة من التبادل التجاري، فإن الكثير من آراء ريكاردو — مثل قرينه مالتوس — تتغلف بالكآبة. لقد ساعد على وَضْع قانون تناقص الغلَّة، ومثله مثل مالتوس، كانت أفكاره عن المستقبل تشاؤمية. ونجد أن مثال ريكاردو عن «الحبوب» قد اهتم بمبدأ توزيع الثروة وليس كيفية تكوينها. وفي أحد الأبحاث التي ساعدت ماركس على وضع الأسس التي قامت عليها نظرياته الاقتصادية، رأى ريكاردو أن المعركة حول توزيع كعكة الاقتصاد أكثر أهميةً من حجم الكعكة نفسها. فمن الممكن تقسيم الدخل بين أجور وأرباح وإيجار لملاك العقارات. إذا ارتفعت الأجور فستنخفض الأرباح والعكس صحيح. كما اقترح أيضًا أنه على المدى الطويل من المرجح أن يتمكن أصحاب العقارات من تحقيق أرباح على حساب العمال، الذين لن ترتفع أجورهم بالقدر الكافي فوق حد الكفاف، وعلى حساب الأرباح التي قد لا تكفي لتشجيع الاستثمار في الإنتاج الجديد. ونتيجة لذلك، من الصعب أن تكون متفائلًا بالنسبة للتوقعات الاقتصادية الطويلة الأمد.

وأخيرًا، وضع ريكاردو أيضًا فكرةً ساندها الكثيرون في الآونة الأخيرة. لقد تحَيَّر خبراء الاقتصاد في السنوات الأخيرة بخصوص السبب الذي أحدث قفزة وهمية في الاقتصاد الياباني في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، وقد فشلَت كل الجهود المتعاقبة المبذولة من جانب الحكومة اليابانية لإنعاش الاقتصاد عن طريق تخفيض الضرائب وزيادة النفقات العامة. وقد استطاع خبير الاقتصاد الأمريكي المعاصر روبرت بارو الإجابة عن هذا السؤال بقوله إن هذه الإجراءات لا تؤثر البتة؛ لأن الكثيرين يعلمون أن عليهم دفع هذه الضرائب فيما بعد ولكن بقيمة أعلى، فالزيادة في عجز الموازنة تلائم تمامًا الزيادة في فائض القطاع الخاص. يطلق على ذلك المكافئ الريكاردي، لأن ريكاردو اقترح شيئًا مشابهًا. ومن الواضح أن خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين لا يزالون يؤمنون بالصلة الوثيقة بين هذَين الموضوعَين.

جون ستيوارت ميل

يعتبر جون ستيوارت ميل من أكثر المفكرين المتحرِّرين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر أهمية، وإن كان لا ينظر أحد إليه على أنه من خبراء الاقتصاد على الإطلاق. فقد كان أعظم كتبه وهو كتاب «عن الحرية» عملًا فلسفيًّا. وهناك تساؤل عما إذا كان ميل مُفكرًا مُبدعًا أو مُفسرًا ومُبسِّطًا لعلم الاقتصاد. من الممكن أن يكون الأمر مسألة توقيت. وقد كان كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي الذي نُشر عام ١٨٤٨ بمنزلة النص الأساسي في هذا الموضوع لقرابة نصف قرن.

قدِّر لجون ستيوارت ميل القيام بأعمال عظيمة دائمًا. فقد كان والده جيمس ميل خبير الاقتصاد السياسي المعروف، وكان بيت العائلة دائمًا ما يستضيف شخصيات مثل جيرمي بينثام وديفيد ريكاردو، وأصدقاء ومعلمين. لقد تذكَّر في وقت لاحق من حياته أن البيت أشبه بالصومعة الفكرية، يمنحه أفضلية تساوي ٢٥ عامًا من التقدم على معاصريه. لقد كان ميل الصغير يقرأ الكلاسيكيات باللغة اليونانية الأصلية في سن الثامنة، وقُبيل ذلك الوقت كان قد تعلم اللغة اللاتينية بالفعل. بدأ في دراسة الاقتصاد في سن الثامنة، وفي أواخر سن المراهقة حرَّر كتابات بينثام في مجموعة من خمسة مجلدات أطلق عليها اسم «البيِّنة»، وبسبب المجهود الذي بذله في كتابتها أصيب بانهيار عصبي. كان بينثام، الذي عادة ما يتم عرض نسخة من جسده، بما في ذلك هيكله العظمي على الأقل، في جامعة كوليدج لندن (نتيجة لشرط غريب في وصيته، والذي ينصُّ على ضرورة الحفاظ على «أيقونته الذاتية» أو صورته الذاتية)، مشهورًا ﺑ «النفعية». وتُعتبر المنفعة العامة مفيدة في حدِّ ذاتها. لكن عند استخدامها بنفس المعنى الذي كان بينثام يقصده، يتضح أنها تعني أكثر من ذلك؛ فهي طريقة للتعبير عن السرور والسعادة والارتياح أو حتى مجرد تلبية الاحتياجات. ولا بد أن نقول إن الاقتصاديين اختلفوا في تفسير معنى المنفعة، لكن مبدأ المنفعة العامة لدى بينثام هو «تحقيق السعادة القصوى لأكبر عدد من الناس». من السهل معرفة كيفية تطبيق هذه المبادئ. فعندما يجري التخطيط لمشروع عام جديد مثل مشروع إنشاء قاعة خامسة للمسافرين في مطار هيثرو، فمن الطبيعي عمل دراسة للتكلفة والأرباح، فإذا كانت الأرباح تزيد على التكاليف تتحقَّق «السعادة القصوى» ويستكمل المشروع. أما إذا لم يحدث ذلك فلا بد من التغاضي عن المشروع. كذلك بعد أن يكشف وزير المالية النقاب عن مشروع الموازنة كل ربيع، فلا بد من وجود تحليل يمثِّل «الفائزين والخاسرين». وإذا كان أي وزير يهدف لإطالة حياته السياسية، فلا بد أن يتأكد من أن عدد الفائزين أكثر من عدد الخاسرين. وبعد ذلك اتجه خبراء الاقتصاد لتطوير إطار عمل بينثام وميل، ليصبح مجالًا كاملًا لدراسة اقتصاديات الرفاهية. يُشير خبراء الاقتصاد في ذلك إلى مبدأ «باريتو» عن الموقف المثالي، نسبة إلى خبير الاقتصاد الفرنسي المولد فيلفريدو باريتو (١٨٤٨–١٩٢٣). وتطبيقًا لهذا المبدأ لا يستطيع أي فرد أن يحسن من حالته المادية بدون إتلاف حياة الآخرين. إن المنفعة تطبَّق بوضوح على الفرد، فضلًا عن المجتمع ككل. ومثل قانون تناقص الغلة، فإن قانون تناقص المنفعة الهامشية يخبرنا أنه كلما زاد استهلاكنا من شيء ما — الشوكولاتة والقهوة كانتا المثالَين اللذَين استخدمناهما في وقت سابق من الكتاب — قلَّ ما نحصل عليه من كل شيء إضافي.

أضاف ميل في أعماله إلى هذه الطريقة النفعية (بعد أن تغلَّب على الانهيار العصبي الذي أصيب به، وانضم إلى والده للعمل في شركة الهند الشرقية، ويبدو أن فرصًا كبيرةً قد سنحت له للتفكير المستقلِّ في المستقبل والكتابة المستقلة.) إذا تجاوزنا أحد آرائه الغريبة عن النمو الاقتصادي — فقد كان يعتقد أن الثورة الصناعية هي مجرد فاصل مؤقت سيعود الاقتصاد بعده مرة أخرى إلى «حالة من الثبات» — كان أعظم إسهاماته توضيح أنه في الوقت الذي كان يجري فيه تطبيق القوانين الاقتصادية في مناطق معينة، لم تكن تُطبَّق في أماكن أخرى. لقد كتب ميل قائلًا: «تتوافق القوانين والشروط الخاصة بإنتاج الثروة مع سمت الحقائق المادية». وأضاف: «فلا يوجد منها ما هو اختياري أو إجباري. فالأمر ليس على هذا النحو في توزيع الثروة. فهذا أمرٌ يختصُّ بالمؤسسة البشرية فقط.»

ويعني هذا أن مقدار الناتج في اقتصادٍ ما تحدِّده القوانين الاقتصادية. ولكن لا يوجد أيُّ قانون يحدِّد كيفية توزيع محصلة هذه الثروة بين السكان. وقد كانت تلك الفكرة بأكملها جديدة. ولم يسعد ميل حتى بفكرة الملكية الخاصة، بالرغم من اعتناقه المطلق لفكر ريكاردو الذي يقول إن الثروة ستجد طريقها لملاك الأراضي. وقد اعتقد إلى أبعد حدٍّ أن المجتمع يستطيع ترتيب توزيع الثروة بطريقةٍ تجلب السعادة القصوى لأكبر عددٍ من الناس. لقد كان يُعتبر بهذه الطريقة من التفكير مصلحًا اجتماعيًّا مثاليًّا. وقد تناول الاشتراكيُّون تحليله بتعميم أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥