التركيز على العمل
كما تعرَّضنا لكيفية تحديد المستهلكين لنوع وكمية المشتريات، ومدى ملاءمة العناصر المختلفة لإجمالي الناتج المحلِّي، فمن المسلَّم به أن جوهر عمل الشركات هو القيام بعرض البضائع والخدمات. ولا يعدُّ هذا وصفًا سيئًا لطبيعة الأمور. ففي الحياة الواقعية عادةً ما يوجد مَن يرغب في توفير كل احتياجات المستهلك لسد «فجوة في السوق». من هنا استخلص سميث فكرته أن «الجزار وصانع البيرة والخباز» يمدوننا باللحوم والبيرة والخبز بدافع الحصول على المال، فإن لم يقوموا بذلك فسنجد البديل الذي سيؤدي هذه الخدمة. إذا لم نجلس في هذا المطعم بالتحديد، فبالتأكيد يوجد غيره كثير يملكه آخرون، ومن المحتمل أن يكون على نفس المستوى من الجودة. كما أن هناك كثيرًا من المواقف نجد فيها أن الشركات تعمل على خَلْق سوقٍ معينة عن طريق إنتاج سلع جديدة، وتقوم بالدعاية والترويج لتلك السلع. ويمثِّل ذلك النهج المعروف للرأسمالية. إلا أن معرفة ذلك لا تكشف النقاب عن كيفية تحديد الشركات للمقدار الذي ستقوم باستثماره وإنتاجه وتسعيره، وذلك في حالة رغبتنا في توضيح كيفية تفعيل الأعمال. ونبدأ هذا التوضيح بسؤال غاية في البساطة. لماذا توجد شركات عامة؟
الشركات والأفراد
ونحن نستهلك كأفراد أو أسر، فلماذا لا ننتج بنفس الطريقة؟ في الواقع يفعل ذلك الكثير منا. فقبل جائحة كورونا، كان هناك ما يقرب من نحو خمسة ملايين بريطاني من ذوي المهن الحرة (تراجع هذا العدد إلى ٤٫٥ ملايين) التي تشتمل فعليًّا على أي عمل حر يقوم به رجل أو سيدة، بدءًا من السباك والكهربائي وحتى مسئولي تكنولوجيا المعلومات والصحفيين وكبار الفنانين. ومن الممكن ملاحظة العملية التي تتطوَّر من خلالها المشروعات، ولنبدأ بعمل فردي لشخص واحد. يبدأ جون البنَّاء عمله الخاص، وهو بناء أسوار الحدائق. فقريبًا سيعجب أحدهم بهذا العمل، ويطلب منه توسيع المنزل. ويسعد جون بهذا الأمر، ولكنه يحتاج إلى اثنَين من العمال. لقد تم العمل بنجاحٍ ونتج عن ذلك زيادة عدد الطلبات. فقد طُلب إليه توسيع ثلاثة منازل في وقت متزامن. من هنا فإنه لا يكون في حاجة فقط إلى زيادة العمالة ولكنه أصبح المدير بالفعل، ويقوم بالإشراف على ثلاثة مشروعات، إلا أنه يقوم بالقليل من أعمال البناء بنفسه. وتوالت عقود بناء المنازل، بعد ذلك وبمساعدة البنك بالإضافة إلى صديق أو اثنَين رغبا في استثمار مبلغ من المال، قام جون بشراء قطعة أرض ليحوِّلها إلى مشروع إسكان. والآن لا يقوم فقط بتعيين بنَّائين، وإنما يقوم بتعيين محاسبين وخبراء تسويق. وبعد بضعة أعوام أصبح لجون شركةٌ ذات مسئولية محدودة، مسجلة في سوق الأوراق المالية، وتقوم بمشروعات إسكان في كل أنحاء الدولة، فقد انتهت حياة البنَّاء بالأجر منذ زمن.
من السهل أن تتعقَّب معظم الشركات تاريخها بنفس الطريقة. يمكن أن يبقى الكثير من الشركات الفردية الأخرى على هذه الحال، أو يختار أصحابها بدلًا من ذلك ما يعتبرونه أمانًا وظيفيًّا. ولكن يوجد عدد من أصحاب المهن الحرة يزيد عن عدد الشركات التي توظِّف الأفراد، كما أن عدد الموظفين في بريطانيا يزيد بمقدار خمس مرات عن عدد أصحاب المهن الحرة. فغالبية الناس يعملون لدى آخرين، سواء أكان ذلك في شركة أو مؤسسة قطاع عام. ولمعرفة السبب في ذلك، نحتاج فقط إلى الرجوع لآدم سميث، لقد فسَّر في مثال مصنع الدبابيس كيف يزيد التخصص وتقسيم العمل من الكفاءة؛ ومن ثَم تقليل التكلفة إلى حدٍّ بعيد. يستطيع تاجر بمفرده إنتاج الدبابيس، ولكنه لن يستطيع منافسة المصنع في أسعاره. هذا هو السبب وراء تأكيد الكثير من أصحاب المهن الحرة والصناعات الصغيرة على تخصصهم، وأن يدلِّلوا بذلك على جودة الخدمة التي يقدِّمونها؛ فقد تدفع سعر تكلفة أعلى، ولكن ستحصل على الجودة، أو على الأقل على تفرُّد أكثر. ففي العديد من الحالات يكون الإنتاج خارج نطاق الفرد الواحد. مثلما يحدث عندما نريد أن نكتب ونحرِّر ونصمِّم ونطبع صحيفة قومية، فهذه ليست مهمة يمكن لفرد واحد القيام بها. في الواقع يوجد حدٌّ أدنى معين للمهام المطلوبة من الموظفين في العديد من مجالات الإنتاج، وفي الكثير من أنشطة قطاع الخدمات الصناعية. لكن هذه الحقيقة لا تعني بالضرورة أنه يجب على الناس أن يكونوا منظمين، ويكوِّنوا ما نعتبره شركة بمدير مالك أو بمديرين وأصحاب أسهم من الخارج. فمن الممكن أن يقوم الصحفيون والناشرون، على سبيل المثال، بتنظيم أنفسهم في منظومة تعاونية. فيوجد الكثير من الشركات والمنظمات التي يمتلكها أفراد بالتبادل، كجمعية الإسكان التقليدي البريطانية، مع كونها نوعًا منقرضًا من الجمعيات. تعتبر شركة جون لويس من أكثر الشركات الناجحة في مجال البيع بالتجزئة، ويمتلكها العاملون بها (الذين هم شركاء)، رغم أنها واجهت تحديات في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وتتواجد شركة جون لويس من أجل تحقيق أرباح مثل كل الشركات، رغم أن مشهد الأعمال يتضمَّن أيضًا شركات غير هادفة للربح ومؤسسات اجتماعية. مع ذلك فمن الأفضل التفكير في الشركات بالطريقة التقليدية، والتفكير في أن دافعها الأساسي هو تحقيق الأرباح.
حساب التكاليف
من السهل تحديد تكاليف إدارة أحد الأعمال؛ فهي تتكوَّن من الأجور والمواد الخام والمكوِّنات والطاقة والتوزيع (توصيل البضائع للمستهلك) والإيجار. وتوجد أيضًا تكلفة الاستثمار، التي نعبِّر عنها بكلمة «تناقص القيمة». إذا اشترَت إحدى الشركات جهاز كمبيوتر تكلفته ١٠٠٠ جنيه إسترليني، وعمره الافتراضي المتوقَّع هو خمس سنوات، وتكلفته السنوية هي ٢٠٠ جنيه إسترليني. لكن قيمته تقلُّ سنويًّا بمقدار ٢٠٠ جنيه إسترليني حتى تنتهي مدة السنوات الخمس المحددة، عندئذٍ، ستنعدم قيمته تمامًا. من الطبيعي أن تُقسَّم التكاليف التي تتكبَّدها الشركة إلى تكاليف ثابتة وتكاليف متغيرة. تشمل التكاليف الثابتة تكاليف المباني والمعدَّات التي جرى شراؤها بالفعل. أما التكاليف المتغيرة فتشمل الأجور التي تتنوَّع طبقًا لعدد الموظفين وعدد ساعات العمل (مع أن العديد من الشركات يعتبر الرواتب الأساسية للعاملين الدائمين من التكاليف الثابتة بالفعل). أما التكاليف المتغيرة الأخرى فقد تشمل تكاليف المواد الخام والمكونات واستهلاك الطاقة والتوزيع. ترتفع التكاليف المتغيرة بنسب طردية للكميات التي تُنتج بعكس التكاليف الثابتة. فكلما زاد إنتاج الشركة، قلَّت كمية التكاليف الثابتة لكل وحدةٍ منتجة. لذا فإن جزءًا من التكاليف المتضمنة في صنع سيارة هو تكاليف المصنع الذي صُنعت فيه. حيث تقلُّ تكاليف كل سيارة تُنتج داخل المكان الذي تُصنع فيه؛ ذلك لأن إيجار المصنع يقسم على كمية الإنتاج الكبيرة. أما التكاليف الثابتة للوحدة الواحدة من الإنتاج، فتبدأ في الزيادة إذا وصل الإنتاج لحدٍّ يكون فيه المصنع الأصلي غير كافٍ، وكانت هناك حاجةٌ لبناء مصنعٍ جديد.
إن توزيع التكاليف الثابتة على كمية أكبر من الناتج هو أحد أهم مصادر اقتصاديات الحجم، وهو الميل إلى انخفاض تكلفة الوحدة مع ارتفاع الناتج. تستطيع الشركات الكبيرة القيام بالأشياء بتكلفةٍ أقلَّ من الشركات الصغيرة. كما أن سيارات خطوط التجميع أرخص، حتى لو لم تكن تتمتَّع بنفس المكانة، من السيارات المصنوعة يدويًّا لأنه كلما كانت المهمة أكثر تخصصًا، أصبح العامل الفرد أكثر كفاءةً في القيام بها. وهناك مصادر أخرى لاقتصاديات الحجم؛ لا يكلف تشغيل شاحنة ممتلئة أكثر بكثير من امتلاء نصفها فقط، ولكن تكاليف الشاحنة الممتلئة موزَّعة على ضعف كمية السلع. كما أن تكاليف الإدارة، وتكاليف الإعلان، موزَّعة بشكل مماثل على كمية أكبر من الناتج. ولكن هذه العملية لا تستمر إلى ما لا نهاية، وإلا فإن الوضع المثالي في كل صناعةٍ سيكون شركة عملاقة واحدة، أي شركة احتكارية.
يُطبَّق مبدأ تبذيرات الحجم بعد نقطةٍ معينة، وهو يعني ارتفاع تكاليف الوحدة. إحدى هذه التكاليف ستكون تكلفة بناء مصنع جديد، كما شرحنا من قبل، علمًا بأن تشغيل المصنع الجديد بكامل طاقته سيضع حدًّا لكل ذلك، إلا أن هناك تكلفةً أخرى، وهي الاستعاضة عن إدارة ذات كفاءة بعدد من الموظفين الإداريين بعد وصول الشركة إلى حجم معين. فلا بد أن تتطلَّع الشركات الصاعدة فعليًّا لمستهلكي منتجاتها. فمن الممكن أن تزيد تكاليف النقل حيث تبتعد الأسواق عن مصدر الإنتاج. وقد تزيد تكاليف الأجور؛ بسبب إنهاك مهارات مجموعة العاملين في الشركة، حيث إنه من الملاحظ تكوين اتحادات عمالية في الشركات الكبرى. وهكذا دواليك. كان كتاب «كل صغير جميل» للكاتب إي إف. شوماخر من أكثر الكتب مبيعًا في سبعينيات القرن العشرين، ولا يزال قيد الطباعة، وكان عنوانه الفرعي «دراسة الاقتصاد المعني بالناس». وقد جسَّد الكتاب وجهة النظر القائلة بأن الأكبر ليس بالضرورة أفضل، أو أكثر كفاءة.
تحقيق الأرباح
لماذا تهدف الشركات إلى تحقيق الأرباح؟ ذلك لأن الأرباح هي الأساس في كل شيء، حيث توجد نصوص وكتابات تؤكِّد وجود دوافع خاصة لدى المديرين، مثل حجم الشركة، ونصيبهم منها، وحجم مكتبهم وحجم سيارات الشركة التي تمنحهم إياها، وحتى أيضًا جاذبية موظفة السكرتارية. (ينطبق هذا المبدأ على كل المديرين سواء أكانوا رجالًا أم نساءً). فبدون أرباح، لماذا سيبدأ أي فرد مشروعًا، في حين يمكنه أن ينعم بحياةٍ هادئةٍ خاليةٍ من الضغوط عند العمل لدى شخص آخر؟ ولماذا يقوم أيُّ مستثمر بوضع أمواله في مشروعات لا تدرُّ عليه مالًا، وهو يستطيع أن يكسب من هذه الأموال بإيداعها خزانة بالبنك؟ بالطبع فالأمر ليس بنفس هذه الصورة تمامًا. يقوم الأفراد بإنشاء مشروعاتٍ لأنهم لا يستطيعون اللحاق بركب الوظائف المدفوعة الأجر. فمثلًا عندما يرغب مصرفيون سابقون — كان يُتداول بين أيديهم الكثير من الشيكات المصرفية — في تحقيق حلم حياتهم بفتح مطعم، فلا شك، ومن غير المستغرب أيضًا، أن يكون معدل المخاطرة أمامهم مرتفعًا إلى حدٍّ ما. وفيما يخصُّ المستثمرين والأرباح، فإن رغبة الأشخاص في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، في استثمار أموالهم في شركات الإنترنت التي لم يتحقَّق من ورائها مكاسب مادية ضخمة، ولم يكن من المتوقَّع أن تدرَّ عليهم دخلًا في المستقبل — كانت مثالًا يضعف وجهة النظر القائلة بأن المستثمرين يسعَوْن وراء الشركات الرابحة فقط. ومن ثَم فإن المستثمرين بدورهم سيقولون بدون شكٍّ إنهم لا يستثمرون على أساس الربح السريع، ولكن على أساس الإمكانات المستقبلية. من الممكن أن يؤمنوا بذلك لأنهم استطاعوا اكتشاف هذه الإمكانات قبل أي شخص، وستكون هناك فرصة متاحة للحصول على أرباح حقيقية من رأس مال هذه الأسهم. وهذا ينطبق على بعض الناس، بما في ذلك أولئك الذين حصلوا على وظائف في مشاريع ناشئة تحوَّلت إلى شركات ناجحة للغاية في وادي السيليكون.
ولننحِّ كل هذه الانتقادات جانبًا؛ فالأهداف المنهجية للشركات هي زيادة الأرباح. وهذا أيضًا هو هدف العالم الحقيقي إلى حدٍّ بعيد. يبدو ذلك بسيطًا بدرجة كافية. ومثلما قال السيد مكاوبر، تلك الشخصية الخيالية التي ابتكرها تشارلز ديكنز في روايته التي حملت اسم «ديفيد كوبرفيلد»: «عندما يكون الدخل السنوي ٢٠ جنيهًا، والنفقات السنوية ١٩ جنيهًا و٦ بنسات، تكون النتيجة هي السعادة.» ثم يضيف: «أما إذا كان الدخل السنوي ٢٠ جنيهًا، والنفقات السنوية ٢٠ جنيهًا و٦ بنسات فقط، فستكون النتيجة هي التعاسة.» كان ديكينز يوضِّح أن موقف الدائن أفضل من موقف المدين، ولكن الأمر الذي نحن بصدد دراسته يتجاوز ذلك. ولحسن الحظ يستطيع خبراء الاقتصاد المساعدة في هذا الأمر. فيمكنهم تفسير كيفية زيادة أرباح الشركات وهذا أمر غاية في البساطة. وللقيام بذلك نحتاج إلى أداتَين فقط:
الأولى تُعنى بالنفقات أو التكاليف، والثانية تُعنى بالدخل أو الإيراد. لقد شرحنا من قبلُ فكرة أن التكاليف تتنوَّع طبقًا لكمية المنتجات. فالتكاليف الثابتة تميل للانخفاض لكل وحدة إنتاجية كلما زاد الإنتاج. أما التكاليف المتغيرة فهي قد ترتفع بالتناسب مع الناتج، ولكنها قد تبدأ بعد ذلك في الزيادة المطردة. فعلى سبيل المثال، من الضروري دفع معدلات من الأجر الإضافي تزيد على الأجر الأساسي؛ لزيادة الإنتاج عن مستوًى معين. وفي كل مستوًى من الإنتاج، من الممكن حساب التكلفة الحدِّية، تكلفة إنتاج وحدة إضافية. فالنمط الأساسيُّ هو أن تميل التكلفة الحدية للانخفاض لمستوًى معين؛ لذلك تتكلَّف أقل وأقل من إنتاج كل وحدة إضافية، ولكن تبدأ بعد ذلك من البداية. من هنا فإن التكلفة الحدية هي أول الأدوات الضرورية التي نحتاجها.
أما الأداة الأخرى فهي الإيراد الحدي، وهي النظير المباشر لجانب الدخل في حسابات الشركة. ولأنه من الممكن حساب التكلفة الحدية، فمن الممكن عمل نفس الشيء للإيراد. فالإيراد الحدي هو ببساطة الإيراد الإضافي في أية نقطة من أية عملية بيع إضافية. فمثلًا في موسم جديد لتخفيضات ملابس الشتاء، سيقوم بعضٌ من هُواة آخر صيحة في الأزياء بالشراء بمجرد ظهور تلك الأزياء في الأسواق، سواء كان ذلك في أغسطس أو في أوائل سبتمبر. أما الكثيرون فسينتظرون حتى منتصف موسم التخفيضات في أكتوبر أو نوفمبر عندما تنخفض الأسعار. وسينتظر المزيد منهم حتى انخفاض الأسعار مرة أخرى في يناير. وفي النهاية سيقوم مَن لا يهتمون بالأزياء الحديثة بشراء الملابس في فصل الربيع، عندما يقوم المصنع ببيع منتجاته بأقل الأسعار. ونجد أنه في كل مرة ينخفض الإيراد الحدي، أي الدخل في كل تخفيض إضافي.
لذلك كيف يمكنك أن تعرف القدر الذي يجب تحقيقه لكي تزيدَ من الأرباح؟ الإجابة ليست سهلة فقط، ولكنها أيضًا تعتبر من البديهيات. فإنك تتوقَّف عن زيادة حجم الإنتاج عندما تكون على وَشْك خسارة المال في موسم بيعٍ إضافي. يعني ذلك أنك لا تستطيع البيع بالخسارة. وما دام الإيراد الإضافي من التخفيضات الإضافية يزيد عن التكلفة التي تحملتها عند بَدْء ذلك الموسم، فيمكنك القيام بزيادة الإنتاج. وبمجرد أن يصبح الإيراد الإضافي يساوي التكلفة الإضافية — تتساوى التكلفة الحدية مع الإيراد الحدي — هنا لا بد من التوقف. في الواقع هذا أسهل بكثير مما يبدو عليه للكثير من المشروعات. فسيارة ميني الأصلية، التي كانت قيد الإنتاج من عام ١٩٥٩ إلى عام ٢٠٠٠، وواحدة من أشهر السيارات المبتكرة على الإطلاق، كانت الشركة المنتجة تتكبد خسارة في كل سيارة تباع. ربما كانت هذه أسطورة حضرية، نشأت من خلال ممارسة نفذتها شركة فورد في أوائل الستينيات، والتي خلصت إلى أن تكلفة بناء السيارة كانت أكثر من سعر البيع بمقدار ٣٠ جنيهًا إسترلينيًّا. وقيل إن السيارة، التي صُنِّعت تحت ملكية مختلفة لشركة بريتيش موتورز كوربورشن وبريتيش ليلاند وروفر، كانت دائمًا تحقِّق ربحًا عندما تُخصَّص التكاليف بشكل صحيح. احتفظت شركة بي إم دبليو، المالك النهائي لسيارة روفر وسيارة ميني الأصلية، بالاسم لسيارة جديدة وأكثر نجاحًا من الناحية المالية بشكل واضح.
فمثال شركة الملابس هو واحد من الأمثلة التي يتنوَّع فيها السعر، وتتحكَّم الشركة في مقدار هذا التنوُّع بمرور الوقت. لكن لا يحدث ذلك لمعظم الشركات. حيث تقوم السوق بتحديد السعر؛ القرارات الجماعية للمتنافسين والمستهلكين. من هنا تظلُّ الإيرادات الحدية (الأسعار) في نفس المستوى. فكل ما يتطلَّبه ذلك هو التأكيد على أن الإنتاج لا يرتفع للحد الذي تتساوى فيه التكلفة الحدية والسعر. وأية زيادة في الإنتاج ستعني أنك تساعد المستهلكين على حساب خسارتك. يمكنك فَهْم هذه المرحلة من خلال الرسوم البيانية، ومن يرغب في ذلك، فمن الممكن أن يجد هذه الرسوم في الكتب الأكاديمية الأخرى.
دعونا فقط نوضح شيئًا يحير الكثير من الناس. فبزيادة حجم الإنتاج للحد الذي تتساوى فيه التكلفة الحدية مع الإيراد الحدي تمامًا، ستظلُّ الشركات قادرةً على تحقيق الأرباح. هذا لأنه قبل الوصول إلى هذا الحد يكونون قد قاموا بعمل الكثير من التخفيضات التي تفوق فيها الإيرادات الحدية التكلفة الحدية، ربما بمقدار كبير. ولكي تنتج الشركات للحد الذي لا يوجد فيه أي أرباح إضافية، تصبح متأكدة من أنها قد حصلت على كل جزء من الأرباح مسبقًا من السوق التي دخلت فيها.
هل هذا هو نمط السلوك في المشروعات؟
لقد التقيت بكثير من رجال الأعمال على مر السنين، بعضهم من الناجحين والبعض الآخر ليس ناجحًا بالقدر الكافي. وبالطبع فإن أفضلهم عادةً ما يكونون بارعين في الاقتصاد. ومَن هم دون المستوى يميلون للحديث عن موضوعات الإدارة المملَّة، كالحديث عن المسائل الإدارية. ولكن لا أتذكَّر أن أحد رجال الأعمال أيًّا كان مستواه، كان هدفه في الحياة هو التأكُّد من تساوي إيراداته الحدية مع التكلفة الحدية. وهناك بضعة أسباب لذلك. أما السبب الأول فهو أن علم الاقتصاد يحاول تبسيط واقع معقد. ومن ثَم تستخدم المشروعات مجموعة من الاستراتيجيات، مثلًا، البيع بالخسارة عن قصد لبضعة شهور أو سنوات؛ من أجل كسب حصة من السوق والتغلب على المنافسين. ومما لا شك فيه أن هذه الاستراتيجيات تكون أقل صعوبة، إذا استطاعت المشروعات الحصول على الدعم المالي من جزءٍ آخر في العملية الإنتاجية. أو كمثال آخر، فقد تبيع سلاسل المحلات التجارية الكبرى بعض أنواع البضائع التي يطلق عليها «سلع ذات أسعار معروفة» مثل الخبز واللبن؛ بأسعار أقل من التكلفة الحدية، مع علمها أنها قد تستردُّ الأرباح المفقودة من بيع شيء آخر، مثل البضائع التي قد لا يعرف المستهلك أسعارها. هناك سبب آخر، فليست كل المشروعات — كما يظنُّ الجميع — تؤدِّي إلى زيادةٍ في معدلات الربح المحقَّقة. لكن الواقع هو أن التوافق بين التكلفة الحدية والإيرادات الحدية هو إحدى اللبنات الأساسية للمشروعات، حتى ولو كان ذلك يحدث بطريقة ضمنية في القرارات التي يتخذها رجال الأعمال، بدلًا من تطبيق هذا التوافق بشكل صريح. وفي نهاية المطاف، فإن المشروعات التي تتجاهل القواعد الاقتصادية لن تستمر طويلًا.
يجتمع كلٌّ من النظرية والتطبيق في مجالاتٍ مثل وفورات الحجم، التي أمدَّتنا بالأساس المنطقي للإنتاج الكلي، مثل خطوط التجميع لشركة هنري فورد؛ ومن ثَم التطوُّر الصناعي في القرن العشرين. ربما يكون أفضل مثالٍ على اجتماع النظرية والتطبيق في مجال التنافس. ويعتبر ذلك إلى حدٍّ ما مجالًا مثيرًا للغاية.
لعبة الاحتكار
قد تعلَّمنا من آدم سميث أن الشركات يمكن أن تستغل العملاء، وخاصة من خلال التواطؤ على الأسعار. وزعم سميث أن السوق ستكون كافيةً للتعامل مع مثل هذا السلوك. ومع ذلك، وجدت الحكومات أن الأسواق تحتاج إلى القليل من المساعدة لمنع السلوك المناهض للمنافسة. وفي بريطانيا، تعدُّ هيئة المنافسة والأسواق هي الأحدث في سلسلةٍ طويلةٍ من الهيئات التنظيمية التي تراقب المنافسة. وقد استوعبت هيئة المنافسة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي كانت بدورها خليفة لهيئة الاحتكارات والاندماجات. وتتحمل هيئة المنافسة مجموعةً واسعةً من المسئوليات تحت العنوان الشامل للعمل «لضمان حصول المستهلكين على صفقة جيدة عند شراء السلع والخدمات، وأن تعمل الشركات في إطار القانون». وفي هذا السياق، تتولَّى اللجنة التحقيق في عمليات الاندماج، «للتأكُّد من أنها لا تقلِّل من المنافسة»؛ وتتولى التحقيق في الأسواق بأكملها، «إذا اعتقدنا أن هناك مشاكل تتعلَّق بالمنافسة أو المستهلكين»؛ وتتخذ إجراءات ضد الشركات أو الأفراد «الذين يشاركون في الكارتلات أو السلوكيات المناهضة للمنافسة»؛ وتحمي المستهلكين من «ممارسات التجارة غير العادلة»؛ وتشجع الحكومة والجهات التنظيمية على استخدام المنافسة بشكلٍ فعَّال نيابة عن المستهلكين. ولديها سلطة فرض غرامات تصل إلى ١٠ في المائة من حجم التداول العالمي للسلوك المناهض للمنافسة، ومنع عمليات الاندماج.
وتتمتَّع معظم البلدان أو الكتل بنظام للمنافسة. وفي الاتحاد الأوروبي، تهدف سياسة المنافسة إلى «حماية الأداء الصحيح للسوق الموحدة». ويشمل هذا مجموعة واسعة من التدخلات المختلفة، بما في ذلك التحقيق في السلوك المناهض للمنافسة، والكارتلات، وعمليات الاندماج، والمساعدات الحكومية، وتحرير الأسواق، والتعاون الدولي. يمكن رفع قضايا المنافسة إلى المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي، مع الاستماع إلى الاستئنافات من قِبَل محكمة العدل الأوروبية. خلال الفترة ٢٠٠٩–٢٠١٩، وافقت المفوضية الأوروبية على أكثر من ٣٠٠٠ اندماج ورفضت ٩ فقط. في جميع أنحاء العالم، مُنحت سلطات المنافسة صلاحيات أكبر، فضلًا عن القدرة على فَرْض عقوباتٍ ماليةٍ تضرب الشركات المخالفة بشكلٍ مباشر.
هناك سببان وراء حرص الحكومات على اتخاذ إجراءات صارمة ضد الاحتكارات. الأول هو اعتقادها بأنها تعمل على حساب المستهلكين، وتفرض عليهم أسعارًا أعلى مما لو كان هناك الكثير من الشركات المتنافسة على العملاء. السبب الثاني هو أن الافتقار إلى المنافسة يُنظَر إليه على أنه ضارٌّ بطريقة أخرى. المنافسة حيوية للكفاءة الاقتصادية. يمكن أن تصبح الاحتكارات؛ لأنها تمتلك السوق لنفسها، منتفخة وغير فعالة. إن هذا بدوره يؤثر على قدرة الدولة على التنافس مع الآخرين، أي «القدرة التنافسية» للدولة. وعلى هامش ذلك، لا بد أنك لاحظت الآن أن هناك ميلًا في علم الاقتصاد إلى أن تحمل الكلمات المتشابهة معاني مختلفة تمامًا. وفي هذه الحالة، يُشير مصطلح «المنافسة» إلى مدى قدرة الشركات المختلفة على التنافس على الأعمال في سوقٍ معينة. وإذا أردنا أن نستعينَ بمصطلحٍ آخر، فإن مصطلح «السوق القابلة للتنافس» هو السوق التي يسهل على الشركات الدخول إليها (أو الخروج منها). وتعني «القدرة التنافسية» قدرة اقتصاد دولةٍ ما (أو الأفراد والشركات التي تشكِّل هذا الاقتصاد) على التنافس مع دول أخرى.
لماذا يشكِّل الافتقار إلى المنافسة، والاحتكار، ضررًا على المستهلكين؟ برغم كل شيء، إذا كانت اقتصاديات الحجم متضمنة إلى أي درجة، فهل لا يعني هذا أن الأكبر هو الأرخص؟ إن شركة فورد، التي لا شك أنها ستحب أن تحتكر سوق السيارات بالكامل، قد تزعم أن إضافة المزيد إلى عمليات الإنتاج الطويلة بالفعل من شأنها أن تؤدي إلى خفض تكلفة كل سيارة تُنتَج. من شأنها أن توفر أيضًا كميات هائلة من الإعلانات التي تستخدمها، لمحاولة إقناع العملاء بأن منتجاتها أفضل من منتجات جنرال موتورز أو تويوتا أو فيات. ومن المؤكد أن الاحتكار الحميد من شأنه أن يمنحنا أفضل العوالم.
ولكن المشكلة، بصرف النظر عن حقيقة أن فكرة الاحتكار الحميد ربما تحمل تناقضًا اصطلاحيًّا، هي أنه لن يكون أفضل العوالم، على الإطلاق. فمن ناحية، من شأنه أن يحرم المستهلكين من الاختيار، والاختيار في حد ذاته يشكل فائدة كبيرة. والأمر الأكثر أهميةً هو أن الاحتكار من المرجح أن يعني ارتفاع الأسعار. ولكن لماذا يحدث هذا؟ إن أفضل طريقة للتفكير في الأمر هي مقارنة طرفَين متطرفَين. أحد هذه الأشكال هو المنافسة المثالية، وهي حالةٌ تتنافس فيها شركاتٌ كثيرة جدًّا في صناعة ما، حيث ينتج كلٌّ منها منتجات متطابقة، وليست كبيرة بالحجم الذي يكفي للتأثير على السعر بسلوكها. تنتج كل شركة إلى الحد الذي تساوي فيه تكلفتها الهامشية إيراداتها الهامشية؛ لذا فإن هذا هو الوضع أيضًا بالنسبة للصناعة ككل. يتعيَّن على كل شركةٍ قبول السعر الذي تحدِّده السوق، وهذا السعر، بسحر المنافسة، لا يزيد فقط من ربح كل شركةٍ على حدة، ولكنه أيضًا أقل مما قد يتقاضاه أي محتكر.
إن هذا يرجع إلى أن المحتكر، على النقيض من ذلك، قادرٌ على التأثير في الأسعار. هب أن شركة فورد، التي نفترض أنها لهذا الغرض هي المورد الوحيد لسوق السيارات في المملكة المتحدة (رغم أنها لم تعُد تصنع السيارات في المملكة المتحدة، بل تصنع المحرِّكات والمكوِّنات الأخرى فقط)؛ قادرة على بيع مليون سيارة سنويًّا بسعر ٢٠ ألف جنيه إسترليني لكل سيارة، ولكنها قادرةٌ على بيع مليونَي سيارةٍ بسعر ١٠ آلاف جنيه إسترليني. وبالمناسبة، لا تستطيع الشركة أن تبيعَ المليون الأول بسعر ٢٠ ألف جنيه إسترليني والمليون الثاني بسعر ١٠ آلاف جنيه إسترليني؛ لأن المليون الأول من العملاء لن يتقبَّلوا ذلك. وكلما زادَت الشركة من توريداتها، انخفض السعر. ومنحنى الطلب لدى المحتكر (كلما انخفض السعر، زاد عدد العملاء الراغبين في الشراء) هو نفسه منحنى الطلب لدى الصناعة ككل. وبعبارة أخرى، فهو يمثِّل الصناعة. فماذا يفعل المحتكر إذن؟ إن ما يفعله المحتكر ببساطة هو اتباع القاعدة القياسية، وذلك من خلال الإنتاج إلى الحد الذي تتساوى عنده تكاليفه الهامشية وإيراداته. ولكن المحتكر غير عادي: فالإيرادات الإضافية التي يحصل عليها من بيع سيارة إضافية، على سبيل المثال، لا بد أن تأخذ في الاعتبار حقيقةً مفادها أن إنتاج المزيد في فترةٍ زمنيةٍ معينة من شأنه أن يخفض الأسعار على جميع المستويات. ومن السهل إثبات ذلك. فلنقُل إن شركة فورد توصلت إلى أنها تستطيع بيع ألف سيارة أسبوعيًّا بسعر ٢٠ ألف جنيه إسترليني، ولكن لبيع ألف وواحدة من هذه السيارات لا بد أن ينخفض السعر إلى ١٩ ألفًا و٩٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا. والإيرادات الهامشية من ألف وواحدة من هذه السيارات في الواقع تساوي ١٩ ألفًا و٩٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا ناقص ١٠٠٠ جنيه، أي ١٨ ألفًا و٩٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا. لماذا؟ لأن خفض سعر ألف وواحدة من هذه السيارات بمقدار جنيه إسترليني واحد لا بد أن ينطبق أيضًا على أول ألف سيارة تخرج من خط الإنتاج، ولكنها لم تُبَع بعد.
ينتج عن ذلك شيئان؛ الأول: هو أن المحتكر سيقوم بتقليل إنتاجه بالمقارنة بما سيكون عليه الحال في السوق التي تتمتع بالتنافس المثالي، في ظل وجود الكثير من الشركات التي تتصارع على حصتها في السوق. والثاني: هو أن أسعار هذه المنتجات ستكون أعلى. أما الشركات التي تتنافس بمثالية، فيتساوى الإيراد الحدي لديها بسعر السوق. وبالنسبة للمحتكر، سيكون السعر — في حالة ٩٩٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا — أعلى من الإيراد الحدي (٨٩٩٩ جنيهًا إسترلينيًّا). ومن ثَم سيستطيع تحقيق أرباح تتجاوز المألوف أو أرباح احتكارية. من هنا يتأتَّى ضرر الاحتكار.
المنافسة على أرض الواقع
مما لا شكَّ فيه أن أفكار التنافُس تختلف في الكتب الأكاديمية عنها في الواقع. ففي حالاتٍ قليلةٍ تتمتَّع الشركات بالقوة والسيطرة، مما يجعلها تستطيع الحصول على مكانة احتكارية دائمة تتمتع فيها بحصانة قوية تمنع دائمًا المنافسين المحتملين من محاولة اختراق للسوق. وهناك الكثير من الأمثلة على الشركات المحتكرة لفترات مؤقَّتة، فمثلًا عندما تبتكر شركةٌ ما منتجًا جديدًا، مثل ما يحدث عندما تمتلك براءة اختراع له، ولا يستمر هذا النوع من الاحتكار طويلًا، حتى في وجود براءات الاختراع. تمتَّع صنَّاع مكعب لغز روبيك المشهور، بفترة قصيرة من الاحتكار تميزت بارتفاع الربح في الثمانينيات من القرن العشرين، قبل أن يدخل الساحة المنافسون والمقلِّدون من السوق السوداء. كما كانت هذه هي الحال مع لاديسلاو بيرو الذي اخترع أول قلم حبر جاف عام ١٩٣٨، وقام بتسويقه. في بعض الأحيان نطلق على هذه الأقلام اسم أقلام «بيروس» ولكنهم لا يحتكرون السوق (تمامًا مثلما ظللنا لسنوات كثيرة نطلق على المكنسة الكهربائية «هوفرز»، وربما نطلق عليها الآن «دايسونز».) وفي الواقع كان التنافس فيها عاليًا جدًّا. بعض الشركات الاحتكارية قد تحافظ على وجودها من هذا المنطلق؛ حيث نجد العديد من الأمثلة على احتكار الأقلية أي الصناعات التي يكون عدد المتنافسين فيها صغيرًا، ربما أربعة أو خمسة فقط.
في بريطانيا من الشائع الحديث عن البنوك الأربعة الكبرى في العاصمة، وهي في الوقت الحالي بنك إتش إس بي سي، وبنك باركليز، ومجموعة لويدز المصرفية، وبنك ناشيونال ويستمينستر. كان آخر هذه البنوك هو رويال بنك أوف سكوتلاند، لكنه غيَّر اسمه بعد الأزمة المالية عندما تم تأميمه جزئيًّا (مع لويدز) لإنقاذه من الإفلاس. استحوذ بنك رويال بنك أوف سكوتلاند على بنك ناشيونال ويستمينستر في عام ٢٠٠٠. وفي تجارة التجزئة الغذائية أيضًا، من الشائع الحديث عن الأربعة الكبار — تيسكو، وسينسبيري، وآسدا، وموريسونز — على الرغم من مواجهتها لمنافسةٍ شديدةٍ من تجار التجزئة الألمان منخفضي التكلفة ألدي وليدل.
تمتلك البنوك الأربعة الكبرى في المملكة المتحدة أكثر من ٧٥ في المائة من الحسابات الجارية، و٨٥ في المائة من حسابات الأعمال، على الرغم من الجهود المبذولة لفتح القطاع المصرفي أمام منافسة أكبر. شهدت أكبر أربعة متاجر سوبر ماركت انخفاضًا في حصتها في السوق، من أكثر من ٧٥ في المائة إلى ما بين ٦٠ و٦٥ في المائة، وهو الأمر الذي لا يزال يمثل سوقًا مركَّزة إلى حدٍّ كبير. وكان كلا القطاعَين موضوعًا لتحقيقاتٍ منتظمةٍ من قِبَل سلطات المنافسة؛ لمحاولة اكتشاف ما إذا كانا منخرطَين في سلوك تواطُئي أو شبيه بالكارتل. يتشكل الكارتل عندما تتآمر مجموعةٌ من الشركات، كبيرة بما يكفي للهيمنة على السوق، معًا بحيث تعمل بشكل جماعي كاحتكار، وتحدِّد أسعارًا أعلى وتحقق أرباحًا احتكارية. لا تنطوي معظم الإجراءات التي اتخذتها هيئة المنافسة والأسواق، وهي هيئة مراقبة المنافسة في المملكة المتحدة، على شركات كبيرة ومهيمنة مثل البنوك ومحلات السوبر ماركت، بل على تواطؤ أصغر نطاقًا وسلوك كارتل. كان أحد الأمثلة في أواخر عام ٢٠٢٠ غرامة قدرها ٩ ملايين جنيه إسترليني لشركتَين هما ليد ميلز وبي إل إم بريتيش ليد، للتواطؤ على الأسعار في توريد الرصاص المدلفن، وهو منتج رئيسي للتسقيف.
لا ينطوي السلوك المناهض للمنافسة بالضرورة على نشاط الكارتل. نجحت سلطات المنافسة في المملكة المتحدة في دفع التغيير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي أدَّى إلى خفضٍ كبيرٍ في أسعار العديد من الأدوية التي لا تستلزم وصفةً طبية. في هذه الحالة، بينما كانت الأسعار المرتفعة تفيد شركات الأدوية، فإنها كانت موجودةً لأنه قبل ٣٠ عامًا، أقنع الكيميائيون الصغار الحكومة بالسماح بالحفاظ على سعر إعادة البيع (تحديد الأسعار من قبل الشركات المصنعة) لمنعهم من الخروج من العمل من قبل سلاسل الصيدليات الكبرى. ومع ذلك، فقد تم النظر إلى هذا لاحقًا على أنه ممارسة تقييدية تعمل ضد مصالح المستهلكين. كما هو مذكور، فإن السلوك المناهض للمنافسة يعمل ضد مصالح المستهلكين. ولكن في بعض الأحيان، يقول المنتقدون إن تصرفات سلطات المنافسة تمنع «الأبطال» الوطنيين؛ الشركات الكبرى التي تهيمن على سوقها المحلية وتستخدمها كنقطة انطلاق لتطوير أعمال عالمية. ولكن بشكل عام، هذه حجة ضعيفة. فبوسع أي شركةٍ أن تزعم أنها تحتاج إلى احتكارٍ محلي لكي تزدهر على الصعيد العالمي. وقليلون هم الذين يستطيعون الإشارةَ إلى العديد من الأمثلة الواقعية حيث ينطبق هذا.
عندما يتعلَّق الأمر بالكارتل فإن المثال الأكثر واقعيةً الذي يتردَّد في أذهان غالبية الناس هو منظمة الدول المصدِّرة للنفط، أوبك، التي حددت حجم الإنتاج من أجل رفع سعر البترول في العالم، خاصة في الفترة بين ١٩٧٣-١٩٧٤ و١٩٧٩-١٩٨٠. ومع ذلك هناك سؤال يطرح نفسه، عمَّا إذا كانت منظمة أوبك التي تتحكَّم في حوالَي ٤٠٪ من مخزون العالم من النفط، لها وضع مسيطر بالقدر الكافي الذي يجعل منها كارتل (اتحاد منتجين) حقيقيًّا. ولقد اعتمدَت في الوقت الحاضر على التعاون مع الدول المنتجة للنفط من غير أعضاء المنظمة من أجل تحقيق أهدافها. ويتوقَّع الخبراء — ربما وهم قلقون — أن سيطرة منظمة أوبك على المخزون العالمي للنفط ستزيد زيادة ملحوظة خلال القرن الحادي والعشرين. وتزعم منظمة أوبك نفسها أنها تمتلك ٧٩٪ من احتياطيات النفط الخام المؤكدة في العالم. ولا يزال تأثيرها على سوق النفط العالمية قائمًا.
الاحتكار والخصخصة
من المشكلات التي تواجه خبراء الاقتصاد مع الاحتكار، هو أنه عادة ما يقع تبادل بين ارتفاع الكفاءة بسبب وجود مورِّد كبير، وخصوصًا في وفورات الحجم، وبين احتمال قويٍّ لوجود خطر استغلال المحتكرين لمواقعهم. فماذا سيحدث، على سبيل المثال، إذا كان الحد الأقصى لصناعة ما، من حيث الكفاءة، هو وجود شركة كبيرة واحدة؟ وماذا سيحدث إذا كان هناك احتكار «طبيعي»؟ إن الرد التقليدي على هذا السؤال في بريطانيا هو قبول فكرة وجود عدد معين من الاحتكارات الطبيعية، أو على الأقل وجود قطاعات تكون فيها المنافسة مضيعة للوقت وغير مجدية. وكانوا يتجادلون حول الداعي لوجود شركتَين متنافستَين لضخِّ الغاز عبر أنابيب متجاورة لإمداد المنازل والمصانع والمكاتب. كما كانوا يتجادلون حول وجود نوعَين من كَبلات الكهرباء. الحل هو السماح بتواجد القوى الاحتكارية في هذه المجالات، ولكن على أن تكون في ظل الملكية العامة، بغرض الحد من حصولها على أرباح باهظة. لقد كان العديد من الصناعات المحلية في بريطانيا في الأصل شركات احتكارية، ثم جعلتها تحت لواء الملكية العامة حكومة حزب العمال ١٩٤٥–١٩٥١. ولكن بعد أن أصبحت تحت السيطرة صار من الصعب عليها تحقيق أرباحٍ على حساب المستهلك. وفي الواقع لم يستطِعْ معظمها تحقيق أية أرباح على الإطلاق.
لقد سبَّب وجود احتكارات للقطاع العام في الغاز والكهرباء والماء والفحم والسكك الحديدية والاتصالات ومجالات أخرى؛ مشكلةً لحكومة حزب المحافظين، عندما أرادت خصخصتها في الثمانينيات من القرن العشرين. فمن ناحية، كانت طبيعتها الاحتكارية عامل جذب للمستثمرين، الذين كانوا يحلمون بتحقيق الأرباح المحتملة من هذه المشروعات بمجرد أن تُنقل إلى القطاع الخاص. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت هناك مخاطرةٌ تكمن في خلق وحوش فرانكشتاين؛ أي شركات ضخمة جدًّا ولكنها مربحة جدًّا، وتسيطر على المعروض من الخدمات الضرورية. لقد تطوَّر منظور الناس لهذا الموضوع مع الوقت. فقد خصخصوا شركة الاتصالات البريطانية لتصبح احتكارًا، وقد قامت الحكومة بطرح أسهم الشركة للبيع عام ١٩٨٤. وقامَت الحكومة بوضع نظم خاصة بشركة الاتصالات، ومنحت الهيئة المنظِّمة للاتصالات دور المراقب على سلوك تلك الشركة الكبيرة المحتكرة، ولكن سيطرة هذه الهيئة المنظِّمة على الأمور لم تكن محكمةً في البداية. مما أدى إلى نجاح المستثمرين في جني الكثير من الأموال. وتدريجيًّا تطوَّر الأمر بأسلوب أكثر تعقيدًا عندما تمَّت خصخصة الغاز والكهرباء والماء، مما أتاح لهذه الشركات النجاح في تخفيض الأسعار، فيما يتعلق بالأرباح المتاحة، ولكن مع زيادة صعوبة المنافسة في مرحلة مبكرة. في الوقت الذي قامت فيه الحكومة بخصخصة السكك الحديدية في بريطانيا في عام ١٩٩٦؛ فقد كان من المعروف أن العملية قد تطوَّرت بدرجة كافية للسماح بالمنافسة منذ اليوم الأول. لذلك فقد ألغيَ التأميم عن سكك الحديد البريطانية، وانقسمت بدورها إلى ثلاثة أقسام كبيرة: يختص قسمٌ منها بالخطوط والإشارات والمحطات والأرض ويسمَّى ريلتراك، ويضم القسم الثاني سلسلة متكاملة من شركات تشغيل القطارات وتقوم بالخدمات المختلفة، أما القسم الثالث فيضم شركات تأجير عربات السكك الحديدية، حصلت على قاطرات وعربات الركاب والبضائع من شركة السكك الحديدية البريطانية، ثم قامت بتأجيرها للشركات المشغلة. لم تكن النتيجة فقط القضاء الفوري على الاحتكار، ولكن قد يقول البعض إنه حدث تفتيت أدَّى إلى العديد من المشكلات المتتالية للسكك الحديدية. بعد سلسلةٍ من الحوادث، بلغت ذروتها في حادث هاتفيلد في هيرتفوردشاير في أكتوبر ٢٠٠٠، والذي أُلقِيَ باللوم فيه على سوء الصيانة، وضعت حكومة حزب العمال ريلتراك تحت الإشراف الإداري بعد عام. وحلت محلها شركة نتورك ريل، وهي شركة «لا توزع أرباحًا» محدودة الضمان؛ بعبارة أخرى، تعمل في القطاع الخاص ولكن ليس بهدف تحقيق عوائد للمساهمين. وفي وقتٍ لاحق، أُعيدَ العديد من امتيازات السكك الحديدية، وشركات تشغيل القطارات التي تقدم الخدمات، إلى الملكية العامة. وتمَّت إعادة الصناعة تدريجيًّا وبطريقةٍ فوضويةٍ إلى الملكية العامة. قد يكون الاحتكار أمرًا سيئًا، ولكن عليك توخي الحذر عند تفكيكه.
هل يعتبر الإنترنت مجالًا مثاليًّا للمنافسة؟
عندما حدثت ثورة شركات الإنترنت في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، توقع المحللون حدوث انفجار في البيع بالتجزئة عبر الإنترنت، أو في خدمات التجارة الإلكترونية للعميل، بالإضافة إلى زيادة ملحوظة في الخدمة المقدمة من منشأة إلى منشأة أخرى، وفي خدمة التجارة الإلكترونية للدولة، ومن المفترض وجود عدد كبير من الاختصارات ولكن يكفي ذكر ما سبق. وقد طرح خبراء الاقتصاد سؤالًا مختلفًا. هل كان الإنترنت مثالًا واقعيًّا للسوق التنافسية المثالية الموجودة في الكتب الأكاديمية؟ لقد كانت أحقيته في أن يكون هكذا سليمةً إلى حدٍّ بعيد. فالسبب في ذلك أن موانع اختراق السوق في الغالبية العظمى من الأسواق الموجودة على الإنترنت تقلَّصت بشدة. فأي فردٍ يستطيع أن ينصب نفسه موزعًا عبر الإنترنت لمنتجات مثل الكتب أو الأقراص المضغوطة، ما دام استطاع شراء هذه المنتجات بالجملة من الناشرين أو المصنِّعين، ويستطيع تكليف بعض الأشخاص بتغليفها وإرسالها للمستهلك (أو في حالة التحميل، إنجاز ذلك إلكترونيًّا). وإذا كان من متطلبات التنافس المثالي وجود وفرة في المنافسين، فقد أتاح الإنترنت هذه الإمكانية. من المصادر المهمة في احتكار سعر سلعة ما، نقص في المعلومات المتاحة للمستهلك. فنستطيع أن نبيع لك إحدى أسطوانات الكمبيوتر بمبلغ ١٥ جنيهًا إسترلينيًّا، ما دمت لا تعلم بوجود أحد الأشخاص على بعد بضعة أميال منك يبيعها بسعر ١٢ جنيهًا فقط. ولتعلم أيضًا أن هذا المنافس يجب عليه الاهتمام بالدعاية مما يعني رفع تكلفة منتجه. ولكن حتى بعد كل ذلك قد تقرر أن الأمر لا يستحق عناء الذهاب إليه.
من الممكن أن يكون الإنترنت مصدرًا لمثل هذه المعلومات. لقد أسهم في الواقع في زيادة عدد المواقع التي تتخصص مهمتها في ضبط الأسعار. وعادةً لا تكون هذه المواقع شاملة لكنها تمدنا بشيء ما يشبه شفافية الأسعار. فمن الممكن في بضع ثوانٍ معرفة من يعرض أفضل العروض لمنتج ما. هذا بالإضافة إلى الحقيقة التي تقول إن أهمية جغرافية المكان تقلُّ — حتى بالنسبة لمن يقصرون التسوق عبر الإنترنت على مواقع توجد داخل المملكة المتحدة، فلا يوجد فرق عادةً في تكاليف الشحن، سواء كان المورد يبعد عن المشتري بضعة أميال أو مئات الأميال — لا بد أن الإنترنت هو مكان للمنافسة المثالية الموجودة في الكتب الأكاديمية.
إذن فلماذا لا يتحوَّل الأمر لذلك؟ فالبيع بالتجزئة على الإنترنت كان تأثيره قويًّا. خلال عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، وبمساعدة إغلاق المتاجر غير الأساسية نتيجة لعمليات الإغلاق بسبب الجائحة، ارتفعت حصته من تجارة التجزئة إلى ٣٠ في المائة أو أكثر. مرَّت أشهرٌ بلغت فيها حصة تجارة التجزئة غير الغذائية عبر الإنترنت أكثر من ٦٠ في المائة. وكان هناك أيضًا تأثير أوسع. فقد كان على تجَّار التجزئة التقليديين، إلى جانب إدارة مواقعهم الإلكترونية الخاصة، أن يأخذوا في الاعتبار الأسعار المتاحة عبر الإنترنت عند تحديد أسعارهم في المتاجر. ومن ثَم كان الإنترنت قوةً لخفض التضخُّم، وساعد على إحداث انخفاض في أسعار العديد من السلع (على الرغم من أن هذا ربما كان تأثيرًا لمرة واحدة أو «مستويًا».) لقد اضطرَّت شركة جون لويس، وهي واحدة من أكبر شركات التجزئة في بريطانيا، إلى التخلِّي عن شعارها «عدم البيع بأقل من السعر الحقيقي عن عمد» بسبب المنافسة من البائعين عبر الإنترنت.
ولكن هذا لم يُسفر حتى الآن عن المنافسة الكاملة. إن أقليةً فقط من المتسوِّقين عبر الإنترنت يستخدمون مواقع التحقق من الأسعار (عادة ما تكون مجانية للعميل) قبل اتخاذ قرار الشراء. إن المعلومات موجودة ولكن معظم العملاء لا يستفيدون منها. والذين لا يستفيدون منها، وحتى بعض الذين يستفيدون منها، لا يزالون متأثرين بشدة بالسمعة. إنهم يشترون من تجار التجزئة عبر الإنترنت الذين سمعوا عنهم، والذين يثقون في عدم سرقة تفاصيل بطاقاتهم الائتمانية. إن إنشاء موقع ويب ببساطة من غير المرجَّح أن يكون كافيًا لبناء موقف قوي في السوق. كما أن السمعة الطيبة مطلوبة أيضًا. كيف تبدأ شركات التجزئة الإلكترونية في بناء السمعة؟ من خلال إنفاق الكثير على الإعلان. تبدأ شركات التجزئة القائمة بميزة تتمثَّل في أن أسماءها معروفة بالفعل. أما أولئك الذين يسعَوْن إلى البيع عبر الإنترنت فيجب أن يروِّجوا لأسمائهم بطريقة أخرى. فكِّر في كمية الإعلانات التي تقوم بها شركة أمازون؛ شركة التجزئة عبر الإنترنت المهيمنة. كانت استراتيجية أمازون تتمثَّل في إقامة حاجز للدخول من خلال إقناع الجمهور، من خلال الإعلانات المكثَّفة والأسعار المنخفضة، بأنها المكان المناسب. ويبدو أن هذه الاستراتيجية نجحَت إلى حدٍّ كبير. فبدلًا من حاجز الدخول المتمثِّل في تكلفة إنشاء شبكة من المتاجر، ظهر حاجزٌ جديد؛ الحاجة إلى ميزانيات إعلانية تصل إلى عشرات الملايين. وهذا، إلى جانب الثقة التي بناها تجار التجزئة التقليديون على مدى سنواتٍ عديدة، والتي وفَّرت منصة لأعمالهم التجارية عبر الإنترنت؛ أعطاهم ميزة. لقد وفرت شبكة الإنترنت شريان حياة للعديد من الشركات الصغيرة، والتي لا يمكنها البقاء من دونها، ولكنها لم تكن منافسةً مثالية. ربما سيتغير هذا مرة أخرى، وسيمنحنا التطور المتزايد للمتسوِّقين عبر الإنترنت ما يشبه السوق المثالية. لكنها لم تصل إلى هناك بعد. نجحت استراتيجية أمازون وظلَّت شركة مقتصرة على البيع بالتجزئة عبر الإنترنت. الغالبية العظمى من أكبر ٥٠ شركة بيع بالتجزئة عبر الإنترنت في بريطانيا، هي شركات لها أيضًا وجود في الشوارع الرئيسية ومراكز التسوق، بما في ذلك أرجوس وتيسكو ونكست وماركس وسبنسر. ومع ذلك، في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، انقلبت الأدوار عندما استحوذت شركتان للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت فقط على تجار التجزئة «التقليديين»، ولكن ليس متاجرهم، لبيع المنتجات والعلامات التجارية عبر الإنترنت. فقد اشترت شركة «بوهو» العلامة التجارية «ديبينهامز»، دون أن تشتري متاجرها العديدة التي أغلقت أبوابها، في حين اشترت «أسوس» الكثير من العلامات التجارية من مجموعة «سير فيليب جرينز أركاديا»، بما يشمل «توبشوب».
ولكن ماذا عن الشركات التي لا تبيع منتجًا بل تقدم خدمة، تلك الشركات التي تعمل عبر الإنترنت والتي يكون منتجها، على سبيل المثال، مقطوعات موسيقية أو أفلامًا يمكن تحميلها عبر الإنترنت؟ هذه منطقة مثيرة للاهتمام، ولكن التحدي مختلف إلى حدٍّ ما. فقد انتزعت نتفلكس وأمازون برايم حصة سوقية من محطات البث الأرضية الحالية، مثل هيئة الإذاعة البريطانية. ولكن معظم المبادئ المذكورة أعلاه لا تزال سارية. قد تكون مثل هذه الخدمات عديمة الوزن، لكنها ليست خاليةً من التكاليف. على سبيل المثال، يتعيَّن على مزوِّد الموسيقى عبر الإنترنت أن يستثمر في سعة الويب — فكلَّما زاد الطلب، زادت السعة — وفي التسويق والإدارة. قد تكون اقتصاديات الحجم كبيرةً ولكن لا تزال هناك تكاليف وإيرادات هامشية. ومع ذلك، فهذا يعني أن مثل هذه الأسواق يمكن أن تكون عالميةً حقًّا، وتخضع لحقوق الطبع والنشر وقدرة البث. عندما نُشرت الطبعة السابقة من هذا الكتاب، كانت شركة لاف فيلم من بين الشركات الناجحة، وهي الشركة التي قدَّمت خدمة إرسال أقراص دي في دي بالبريد. وقد طغى على نموذج أعمالها الأحداث والتكنولوجيا. فاستحوذت شركة أمازون على الشركة في عام ٢٠١١، وأوقفَت خدمة «الأفلام بالبريد» التي صارت شركة أمازون تقدمها في عام ٢٠١٧.
لعبة المشروعات
تعتبر الطريقة التي تتبعها الشركات في السوق الإلكترونية مثالًا على استراتيجيات المشروعات. فقد اهتم خبراء الاقتصاد في القرن العشرين على نحوٍ متزايدٍ بهذه الاستراتيجيات على أنها أمثلة واقعية على «نظرية الألعاب». فكرة النظرية بسيطة. فسواء كنت تحصل على أقصى فائدة في موقف معين أم لا، فإن ذلك لا يعتمد فقط على ما تقوم به وإنما ما يقوم به الآخرون أيضًا. فقد كان قرار شركة أمازون زيادة ما تنفقه من أجل التعريف أكثر باسمها، متأثرًا جزئيًّا بتوقعاتها بما سيقوم به الآخرون، بما في ذلك موزعو الكتب الموجودون بالفعل. هل نفتح أحد المحلات التجارية في مكان معين في المدينة؟ هذا جائز، ولكن لكي تحدد مدى الربح منه، لا بد أن ترغب في معرفة ما إذا كان هناك آخرون يخطِّطون لنفس الشيء. يتعرَّف الطلاب على هذه النظرية في شكل يطلق عليه مشكلة السجين، التي تقوم على وجود اثنَين من المشتبه فيهم يجري استجوابهم عن إحدى الجرائم. إن رد الفعل المنتظر أن كلَيهما سيحاول الإنكار ويطالب ببراءته ويشي بالآخر. إذا قام الاثنان بعمل ذلك فستعتبرهما السلطات مذنبَين، وتحكم عليهما بحكم إضافي جزاء تضليلهما للعدالة. واستنادًا على ما سيفعله الآخر، من الممكن تحديد السياسة المثلى لكل فرد سواء كان مذنبًا أو بريئًا، ولكن لتحديد الأفضل عليه أن يكوِّن رأيًا عما سيقوم به الآخر. أما في السوق فإذا كانت هناك شركتان، فإن أفضل استراتيجية للتحالف بينهما هي تحديد الإنتاج للحفاظ على ارتفاع السعر. ولكن إذا قامَت إحداهما بتحديد إنتاجها وأنتجت الأخرى بكامل طاقتها، فقد تخسر الشركة الأولى. ومن هنا يصبح تخمينُ أو اكتشافُ ما سيقوم به المنافس هو جزءًا من اللعبة.
لقد جذبت هذه النظرية اهتمام بعض خبراء الاقتصاد من غريبي الأطوار. لقد أطلق باول ستراذرن على كتابه اسم لعبة «الدكتور سترانجلوف» بعد أن عمل جون فون نيومان، منظِّر الألعاب المجري الأصل — ذو الاحتياجات الجنسية غير العادية — في الخمسينيات من القرن العشرين مستشارًا للحكومة الأمريكية أثناء حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، وقد كان في هذا الوقت ملازمًا لكرسي متحرك، وكان الأساس في استشاراته نظرية الألعاب. وهنا، ففي حين كان أفضل سبيل لأمريكا هو التخلص نهائيًّا من موسكو في وقت لن تستطيع هذه الأخيرة فيه محاولة الانتقام، كان البديل المختار هو «الدمار الحتمي المتبادل». لقد قام جون ناش العالم الأمريكي البارز والمتخصص في نظرية الألعاب بتطوير فكرة «توازن ناش»؛ أي الحل الأمثل لكل اللاعبين في أية لعبة. لكنه أصبح في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين متوقفًا عن الاشتراك في الحياة العملية، بعد أن عانى نوبات من انفصام الشخصية، إلا أنه تعافى بدرجة كافية ليستطيع أن ينال جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٩٤. لقد اعتنق هذه النظرية عن طريق عرض إمكانية وجود نتائج «مفيدة لكل الأطراف»، وفيها يمكن لكل الأطراف أن تحقق مكاسب. وقد كان ناش موضوع فيلم مرشح للحصول على جائزة عام ٢٠٠١ وهو فيلم «عقل جميل» (أبيوتفول مايند)، وفيه اقترب الممثل الشهير راسل كرو كثيرًا من الفوز بجائزة الأوسكار عن قيامه بشخصية ناش. وفي عام ٢٠٠٥ فاز اثنان آخران من علماء نظرية الألعاب، وهما توماس شيلينج وروبرت أومان، بجائزة نوبل. ومثل فون نيومان، أنجز شيلينج الكثير من أعماله في مجال توازن القوى العسكرية في فترة الحرب الباردة، وإن كان قد اهتمَّ في وقتٍ لاحقٍ بظاهرة الاحتباس الحراري العالمي. وكان يزعم أن القضية تتلخَّص في إقناع الناس في البلدان الغنية، بدفع تكاليف التخفيف من حدة المشكلة التي من شأنها أن تخلف أكبر تأثير على الناس في البلدان الفقيرة.
تحاول الحكومات استخدام هذه النظرية في ابتكار طرق لتحديد الأساليب المثلى لمنح التراخيص لمزاولة الأعمال، مثل التنقيب عن النفط. أحد هذه الأمثلة الرائعة عن الاستخدام العملي لنظرية الألعاب في سياق العمل؛ حدث في بريطانيا عام ٢٠٠٠، عندما أقامت الحكومة مزادًا لتراخيص المحمول من الجيل الثالث. وفي تصميم المزاد، لجأت الحكومة لخدمات فريق من خبراء الاقتصاد المتخصصين في نظرية الألعاب، بقيادة الأستاذ كين بينمور بجامعة لندن، وتوصلوا إلى تصميم، بدون أن يكون منعزلًا عن الواقع «برجًا عاجيًّا». ولقرابة عامَين وباستخدام طلاب البحث كلاعبين، حاول الفريق بمختلف الطرق تحديد كيفية استجابة المزايدين في ظل ظروفٍ متنوعة. فعندما تُزايد شركات الاتصالات من أجل الحصول على التراخيص، فإن أفضل نتيجةٍ هي أن يقدم كلٌّ من هذه الشركات مبلغًا صغيرًا من المال للحصول على التراخيص المعروضة، إلا أن ذلك يعتمد على وعيهم بكيفية قيام الآخرين بالمزايدة. وفي المزاد تحوَّلت معركة خبراء هذه النظرية لنصر شامل حظيت به الحكومة (وقامت الشركات المزايدة بتعيين خبرائها أيضًا). وحيث إن التوقيت كان في صالحها، وبعد وصول جنون بورصة شركات الهاتف المحمول لذروته، زاد المزاد عن المبلغ الخرافي ٢٢٫٤٧ مليار جنيه إسترليني، الذي يكفي لبناء ٤٠٠ مستشفًى جديد، وهو أيضًا مبلغ يزيد بكثير على المبلغ الذي توقعوه في بداية العملية. وفي غضون بضعة أسابيع عندما حدث انفجارٌ لفقاعة الاتصالات، طالبت الشركات باسترداد أموالها. في الواقع أساء المزايدون في تقدير نظرية الألعاب إساءة بالغة. حتى الشركات الكبيرة كان باستطاعتها القيام بمجهودٍ أفضل؛ من أجل التراجع بعد أن خرجت المزايدة عن نطاق السيطرة. وكما أوضح بينمور بعد ذلك:
لم يُجبَر أيُّ فرد على الدخول في المزاد، ومن يزايد على ترخيص بمبلغ أكثر مما يعتقد أنه يستحق، فهو ببساطة غبي جدًّا. ولم تخضع هذه الادِّعاءات للفحص الدقيق، وهي تقول: إن تعقيدات المزاد أدَّت إلى تضليل المزايدين. وفي مزادنا كانت الاستراتيجية المثلى بسيطة بطريقة مضحكة: المزايدة بأقل سعر على أي ترخيص ستؤدي لزيادة أرباحك إذا حصلت عليها بهذا السعر.
لقد استخدمت لجنة الاتصالات الفيدرالية في أمريكا مزادات نظرية الألعاب على نطاق واسع، لتخصيص النطاقات المختلفة على طيف الترددات الراديوية للشركات (وكان أول استخدام لها قبل بيع الجيل الثالث في بريطانيا)، في حين يقال إن المشاركين في مزادات إيباي وغيرها من المزادات عبر الإنترنت، يستفيدون أيضًا من معرفة نظرية الألعاب: وهو مثال آخر على أهمية الاقتصاد في العالم الحقيقي.
لماذا تستثمر الشركات؟
المزايدة للحصول على تراخيص هي إحدى الطرق التي تقوم فيها الشركات بالاستثمار، حتى لو كان مزادًا غير عادي. فيُطرح العديد من الأسئلة العامَّة. لماذا تستثمر الشركات؟ وما الذي يحدد مقدار ما تقوم باستثماره؟ فلعقود كانت إحدى نقاط الضعف الموجودة في الاقتصاد البريطاني هي قصور الاستثمار، إنفاق نسبة بسيطة من إجمالي الناتج المحلي على الاستثمار تقل عما تنفقه الأنظمة الاقتصادية المنافسة. في عام ٢٠١١، أصدرت حكومة الائتلاف بين المحافظين والديمقراطيين الليبراليين خطةً للنمو. وأشارت إلى أن «الاستثمار التجاري في المملكة المتحدة كان منخفضًا باستمرار وفقًا للمعايير الدولية، ففي الفترة من عام ٢٠٠٠ إلى عام ٢٠١٠ كان أقل مما كان عليه في العقد السابق كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، وكان ثاني أدنى مستوًى بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن قاعدة منخفضة بالفعل، انخفض الاستثمار التجاري بشكلٍ حادٍّ أثناء الركود». وهذا مهم لأداء الاقتصاد. ووفقًا لأحد الحسابات الرسمية، كان رأس المال لكل عامل (كمية المعدات المتاحة، على سبيل المثال) أعلى بنحو ٣٠٪ في أمريكا، وأعلى بنحو ٤٠٪ في فرنسا، وأعلى بنحو ٥٠٪ في ألمانيا مقارنة ببريطانيا. لماذا يعد هذا مهمًّا؟ لأنه، كما قالت وزارة الخزانة:
الاستثمار عالي الجودة والكمية له تأثيران أساسيان. الأول أنه يزيد مستوى المدخلات في النظام الاقتصادي، مما يزيد الإنتاجية ومن ثَم أرباح العمال مباشرةً. ولكنه أيضًا قناة مهمة لتقديم تقنيات وعمليات جديدة. فالاستثمارات الجديدة لا تستبدل فقط المعدات الموجودة، ولكنها تنمي العمليات الإنتاجية عن طريق تشكيل التغيرات التقنية.
الاستثمارات في المشروعات ليست بالطبع المصدر الوحيد لنفقات رأس المال. قد يقول خبراء الاقتصاد إن قصور الاستثمار من الحكومة في البنية التحتية — الطرق، والسكك الحديدية، والمستشفيات، والمدارس — أصبح خطيرًا مثلما ورثناه من قصور الاستثمار في المشروعات. من عام ٢٠٠٠ (عندما كان الإنفاق الرأسمالي الصافي من قِبَل الحكومة في أدنى مستوياته، كنسبةٍ من إجمالي الناتج المحلي منذ فترة وجيزة بعد الحرب العالمية الثانية) إلى عام ٢٠١٠، ارتفع الإنفاق على البنية الأساسية بشكل حاد، وبعضه في إطار مبادرة التمويل الخاص، والتي بموجبها تم بناء المشاريع وإدارتها وتمويلها من قِبَل القطاع الخاص، ودفع الأموال من أجلها بمرور الوقت من قِبَل دافعي الضرائب. وبصرف النظر عن ذلك، فمن الواضح أن أحد المكونات الحيوية في النجاح الطويل الأجل لأي اقتصاد هو مستوًى مناسب من الاستثمار. لقد لاحظت سابقًا أن الحسابات التي أجراها مكتب الإحصاء الوطني، أظهرَت أنه بين عامَي ١٩٩٧ و٢٠١٧ كانت المملكة المتحدة لديها أدنى حصة من الاستثمار — العام والخاص — من بين ٣٤ دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
إن وجود مستوًى ملائم من الاستثمار يعدُّ أيضًا من الضروريات لازدهار الشركات على المدى الطويل. ولكن ما الذي يحدد قابلية الشركات للاستثمار؟ في الظاهر، أسباب استثمار الشركات كثيرة ومعقدة تمامًا، كالأسباب المحددة لسبب رغبتنا في شراء شيءٍ ما في يوم معين من المحلات. فقد يقرِّر المديرون أن يستثمروا لاستبدال قطعة بالية تسبب ضوضاء من آلة أو من مركبة ما. قد يقررون أيضًا أن يستبدلوا كل أجهزة الكمبيوتر الموجودة في الشركة؛ لأنها قد أصبحت عتيقة. من الممكن أن الشركة قد قررت أن تضيف منتجًا جديدًا، وتحتاج إلى الاستثمار في معدات جديدة لإنتاج المنتج الجديد. أو ربما تبلي الشركة بلاءً حسنًا ولديها وفرة من النقد؛ ومن ثَم تقرر إنفاق بعضه.
في الواقع، ومع كل هذه الأسباب الثانوية عن الأسباب التي تدعو الشركات لاتخاذ قرار بالاستثمار، ثمة تفسير واحد سهل يحكمها. ستحدث الاستثمارات عندما يتوقع أن ينتج عنها معدل كافٍ من العوائد. يعني ذلك أن شراء معدةٍ جديدةٍ لا يجب فقط أن يغطِّيَ تكاليف شرائها بما تضيفه من إيرادات وأرباح، ولكن يجب أن يزيد العائد بأكثر من ذلك. فما مدى الزيادة المقرَّرة في هذا العائد؟ يعتمد ذلك على البدائل المطروحة. نفترض مثلًا أن مستوى سعر الفائدة هو ١٠٪ وتكلفة بناء منشأة صناعية جديدة هي ١٠ ملايين جنيه إسترليني. إذا كانت الشركة بالفعل لديها المال الكافي، وهو ١٠ ملايين جنيه إسترليني، فمن الممكن أن تستثمر في بناء المنشأة الجديدة، أو قد تستطيع ببساطة أن تضع المبلغ في البنك؛ لتحصل على عائد ١٠٪ يساوي مليون جنيه في أول سنة ثم يزيد، إذا لم يُسحب أي مبلغ وتزايدت قيمة المبلغ الذي تم إيداعه في السنوات اللاحقة. ولكن لكي يستحقَّ الاستثمار الجهد يجب أن يكون معدَّل الربح فيه أعلى من ١٠٪ بهامش ربح كبير. من هنا سيزيد دخل الشركة نتيجة للاستثمار الجديد لأكثر من مليون جنيه إسترليني في السنة الأولى وهكذا. يطلق خبراء الاقتصاد على هذا الاستخدام البديل «تكلفة الفرصة الضائعة» في الاستثمار، أي العائد المتاح إذا وضعت النقود المستثمرة في استخدامها الأمثل التالي. ينطبق هذا المبدأ إذا اضطرَّت الشركة إلى اقتراض أموال من البنك. ومرةً أخرى فإن الاقتراض لا يستحق العناء إذا لم يتولَّد عن الاستثمار عائدٌ ملحوظ أعلى من تكلفة التمويل. كانت إحدى الحجج التي ساقها البعض لخفض أسعار الفائدة المصرفية إلى أدنى مستوًى لها على الإطلاق عند ٠٫٥٪ في مارس ٢٠٠٩، فضلًا عن حقيقة مفادها أن الأوقات اليائسة كانت تتطلَّب تدابير يائسة، تتمثل في إقناع الشركات بأن هناك أشياء أفضل يمكن القيام بها بأموالها، بدلًا من تركها مودعة في البنك. ولكن فترة طويلة من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، منذ الأزمة المالية فصاعدًا، والتي عزَّزتها جائحة فيروس كورونا في الفترة ٢٠٢٠-٢٠٢١، فشلت في رفع الاستثمار التجاري بشكل كبير.
وبطبيعة الحال، فإنه فيما يتعلق بتقييم العائد على الاستثمار، ربما يكافح المحاسبون ليكونوا دقيقين كما يرغب خبراء الاقتصاد. وفي غياب تجربة خاضعة للرقابة، هل يمكن لشركة أن تخبر بدقة ما هو معدل العائد على الاستثمار في ٢٠ جهاز كمبيوتر جديدًا بقيمة ١٠٠٠ جنيه إسترليني، وكيف سيختلف الأمر إذا تم شراء ٢٤ جهاز كمبيوتر؟ ربما لا، ولكن نفس النقطة العامَّة تنطبق كما هي الحال مع التكلفة الهامشية والإيرادات، التي ناقشناها أعلاه. إن الشركات التي تتجاهل مثل هذه القواعد سوف تتعرَّض في النهاية للمتاعب. أما المديرون الذين يستثمرون على هواهم، دون مراعاة لمعدل العائد، فلا ينبغي لهم أن يتوقعوا حياة مهنية طويلة في عالم الأعمال.
هل يجب أن يكون للشركات ضميرٌ اجتماعي وبيئي؟
أحد التطوُّرات المثيرة في السنوات الأخيرة هو إدراك الشركات أن هناك الكثيرَ من الأشياء التي يمكن التعاون فيها في الحياة غير المال. ففكرة المسئولية الاجتماعية المشتركة، التي تنادي بأن الأمر يتعلَّق بشيءٍ أكبر من «الأرباح»، ليسَت جديدةً في حد ذاتها. فقد قام أندرو كارنيجي من رجال الصناعة الأمريكيين وهو من أصل اسكتلندي بوهب الكثير من المال للمكتبات العامة في بريطانيا، بالإضافة إلى معهد كارنيجي للتكنولوجيا ومؤسسة كارنيجي وقاعة كارنيجي في أمريكا. وكانت سلسلة شركات كادبوري في برمنجهام من الشركات الأوائل المستنيرة، فيما يتعلَّق بمعاملتها للعمال؛ فقد أخذتهم من عشوائيات المدينة ليعملوا ويعيشوا بين الحقول الخضراء، على الأقل في ذلك الوقت، في بورنفيل. لم يكن العمال هم المستفيدين فحسب، فعندما يختلط الدين بالمشروعات — تنتمي كادبوري لطائفة الكويكرز المسيحية — ينتج عنه المزيد من الاهتمام بالواجبات الاجتماعية للتجارة. بحلول وقت استحواذ شركة كرافت العملاقة الأمريكية للأغذية عليها في عام ٢٠١٠، كانت كادبوري قد ابتعدَت كثيرًا عن جذورها، وأصبحت شركة دولية ذات قاعدة كبيرة من المساهمين الأجانب. ورغم ذلك، أثار الاستحواذ احتجاجات واسعة النطاق، استنادًا إلى المخاوف من استحواذ شركة أمريكية صارمة على شركة بريطانية أبوية. وقد لعبت كرافت دورها الصارم على نحو جيد. وكان أحد أول أعمالها إغلاق مصنع كادبوري في سومرديل بالقرب من بريستول والذي وعدت بإبقائه مفتوحًا.
وقد تصرِّح الشركات أنها قد اتخذت هذه الواجبات الاجتماعية مأخذ الجد. فالموظفون السعداء والأصحاء يكون إنتاجهم أفضل. ومن المرجح أيضًا أن يفضل المستهلكون الشراء من الشركات التي تعتبر شركات وطنية صالحة؛ لا تلوث البيئة أو تستغل الموردين من العالم الثالث على سبيل المثال. من هنا فإن المال الذي أنفقته تلك الشركات على المشروعات الاجتماعية أو على الأعمال الخيرية، له نتائج مفيدة مترتبة، وربما تكون النتيجة الأساسية له، هي تكوين صورة مطمئنة عن المشروع. في السنوات الأخيرة برزَت هذه الأمور لتتبوَّأ الأسطر الرئيسية في جدول أعمال الشركات. ويخشى رجال الأعمال مما تقوم به الأطراف المعنية، سواء كانت جماعات مناهضة للعولمة، تستطيع تعطيل جلسات الأعمال أو الاجتماعات السنوية العامة، أو المؤسسات البيئية الخيرية. فعندما نجحَت منظمة السلام الأخضر في الضغط على شركة شل، في موضوع نفايات المنشأة النفطية برنت سبار في المياه العميقة في المحيط — وقد قامت بذلك عن طريق تنظيم مقاطعة شراء منتجات الشركة — كان ذلك بمنزلة نقطة تحوُّل. لكن حقيقة ما حدث هو أن المنظمة توصَّلت إلى أن الحقائق التي حصلت عليها عن التأثيرات البيئية لخطة شركة شل الأصلية كانت خاطئة، ولكن ذلك لم يتساوَ مع المفعول القوي لما أظهرته المنظمة من تأثير على أعمال الشركة. في عام ٢٠١٠، وجدت شركة نفط أخرى، وهي شركة بي بي، نفسها في أزمة هدَّدت بقاء الشركة لفترةٍ من الوقت، وهذه المرة بسبب كارثةٍ بيئية حقيقية؛ تسرب نفطي ضخم في خليج المكسيك. قد يستغرق الأمر سنواتٍ لاستعادة سُمعتها في أمريكا.
في وقت كتابة هذا التقرير، يتعيَّن على الشركات، وخاصة الشركات المدرجة، تلبية المعايير البيئية والاجتماعية ومعايير الحوكمة. وفقًا لتعريف واحد:
المعايير البيئية والاجتماعية ومعايير الحوكمة هي مجموعة من المعايير لعمليات الشركة التي يستخدمها المستثمرون الواعون اجتماعيًّا لفحص الاستثمارات المحتملة. تنظر المعايير البيئية في كيفيَّة أداء الشركة كوصيٍّ على الطبيعة. تدرس المعايير الاجتماعية كيفية إدارة العلاقات مع الموظَّفين والمورِّدين والعملاء والمجتمعات التي تعمل فيها. إن الحوكمة تتعامل مع قيادة الشركة، وأجور المديرين التنفيذيين، وعمليات التدقيق، والضوابط الداخلية، وحقوق المساهمين.
إن الشركات التي تريد البقاء والازدهار في القرن الحادي والعشرين يجب أن تلبي هذه المعايير، وكذلك أولئك الذين يستثمرون فيها. لقد وجدت البنوك المركزية نفسها تحت ضغط من دعاة حماية المناخ؛ لأن محافظ الاستثمار التي استحوذت عليها، على سبيل المثال، في شراء السندات المؤسسية لتحفيز الاقتصاد؛ أفادَت شركات النفط. إن الربح ليس كافيًا للشركات الحديثة، إن كان هناك ربحٌ من الأساس. إنها مسألة موازنة مجموعة من المسئوليات المختلفة.
إن توازن هذا الكتاب يتطلَّب منا الآن المضي قدمًا. لقد تعلَّمنا بعض التفسيرات الاقتصادية الأساسية حول كيفية عمل هذا المطعم، وغيره من الشركات، ودورها في الاقتصاد. ولم يكن هناك وقت كافٍ لاستكشاف قضايا حوكمة الشركات، والتفاعل بين مجالس الإدارة وإدارة الشركة. وتعرَّضت مجالس إدارة البنوك لانتقادات واسعة النطاق؛ لعدم قدرتها على إبقاء الإدارة تحت السيطرة في الفترة التي سبقَت الأزمة المالية العالمية.
عندما درست الاقتصاد لأول مرة، اعتدت أن أعتبر نظرية الشركة ربما الجزء الأقل واقعيةً من الموضوع، بعيدًا جدًّا عن الحياة العملية اليومية. ومع ذلك، فقد أدركت تدريجيًّا مدى أهمية الكثير منها. على سبيل المثال: إذا كنت تفكر في الاستثمار في شركة، فربما تريد أن تعرف شيئًا عن قوة موقعها في السوق، وما إذا كانت قادرةً على ردع المنافسين المحتملين؛ ومن ثَم فإن الحواجز أمام الدخول مهمة. ربما تريد أيضًا أن تعرف ما إذا كانت إدارتها تركز على التحكم في التكاليف وتعظيم الإيرادات، وكلها تأتي مباشرةً من الكتب الأكاديمية. الاقتصاد ليس دراسات أعمال. ولكن الاقتصاد والأعمال متشابكان.
الآن دعونا ننتقل إلى شخصٍ آخر مؤثِّر للغاية كان لديه منظور مختلف إلى حدٍّ ما، حول دور الأعمال.