توابل ماركس
أما محدثنا التالي، فعادة لا يُنظر إليه على أنه من خبراء الاقتصاد المعترف بهم، ولكن على كونه من فلاسفة السياسة، وثوريًّا وبطلًا للعديد من الثورات، ووجهة لعشرات الآلاف من الرحلات لزيارة مقبرته في مقابر هاي جيت بلندن. ومن الغريب هذا الإهمال الذي تعرَّض له ماركس، مع أن حوالي نصف العالم في وقت ما كان يطبق المبادئ الماركسية في علم الاقتصاد. فإذا كانت فترة أواخر القرن العشرين نصرًا لاقتصاد آدم سميث (وآخرين)، فيمكننا القول إن ذلك كان نتيجةً لقراءة ماركس لأعمال سميث عن كثب. لقد منحته الأزمة المالية العالمية التي كادت تجبر النظام الرأسمالي على الركوع في عام ٢٠٠٨، واستمرَّت في إحداث تداعيات خطيرة؛ فرصة جديدة للعيش. قال الخبير الاقتصادي نورييل روبيني في صيف عام ٢٠١١: «لقد أصاب كارل ماركس، ففي مرحلةٍ ما يمكن للرأسمالية أن تدمِّر نفسها.» ومع ذلك، لم تسفر الأزمة عن نهضة عظيمة كما كان أتباعه يأملون، على الرغم من أن الرأسمالية أنقذتها مرة أخرى تصرفات الحكومات خلال جائحة فيروس كورونا في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١.
قد يفكِّر أيُّ مطعم ذكي مرتَين قبل السماح لكارل ماركس بالدخول. فقد كانت لحيته الرائعة الكثَّة المنقطة ببقعٍ رمادية اللون، تجعله يُصوَّر في الرسوم الكاريكاتورية على أنه بروميثيوس. وفي نظر المعاصرين، كان مظهره يبدو أكثر شبهًا بمتشرد منه بمفكر عظيم. كان اسمه المستعار داخل العائلة «مور» (وتعني بالعربية بربريًّا)؛ بسبب مظهره الجامح. في الواقع، ربما كان «المظهر» الماركسي يستند إلى تمثال زيوس، الذي أُهدي إليه، والذي احتفظ به في مكتبه. ومع ذلك، لم يكن هناك الكثير مما يشبه الإله في ماركس، الذي عانى مثل قِلة من البشر من الدمامل، والخُرَّاجات (في أماكن لن تريد أن تعرف عنها شيئًا)، ومشاكل الكبد، والأرق، والنوبات الصفراوية، والصداع النصفي، ومشاكل الجهاز التنفسي. ولقد أشار جاسوسٌ بروسيٌّ كُلِّف بمهمة تقديم تقرير عن ماركس من منطقة سوهو في لندن، باشمئزاز، أنه «نادرًا ما يغتسل، أو يمشط شعره، أو يغيِّر ملابسه»، وأنه كان يستمتع بالسكر كثيرًا. وعلى الرغم من هذا، أنجب ماركس ستة أطفال من زوجته جيني فون ويستفالين، ابنة أرستقراطي بروسيٍّ ثري، وطفلًا آخر من خادمة الأسرة، هيلين «لينشين» ديموث. وقد تحمَّل فريدريك إنجلز، معاونه وولي نعمته، اللوم عن الحادث الأخير، مدعيًا أنه الأب. وقد دُفنت جيني ولينشين إلى جانب ماركس في هايجيت.
وعندما كتب ماركس عن الفقر، فعل ذلك من واقع خبرته الشخصية. فقد عاش فقيرًا طوال معظم حياته، وتوفِّي ثلاثة من أبنائه في سن الطفولة. ولكن يبدو أن فقره كان جزئيًّا من صنعه. لقد رفض قبول أي عمل، حتى خلال الفترات الطويلة التي عانى فيها من انعدام القدرة على الكتابة، مفضِّلًا الاعتماد على الأصدقاء والمحسنين، بما في ذلك إنجلز الذي عانى طويلًا.
وُلد ماركس عام ١٨١٨ في تراير في بروسيا (ألمانيا حاليًّا) لأبوَين تحوَّلا من اليهودية إلى اللوثرية لتجنُّب التفرقة القانونية. لقد درس في جامعة بون، ثم اكتسب ندبة المبارزة (علامة النبلاء)، وتأثَّر بالفلسفة الهيجلية. وهنا كان ماركس يشكِّل لنفسه أسلوبًا مميزًا، بدأ في تنفيذه عندما عمل صحفيًّا ثم محررًا في صحيفة «راينيش تسايتونج» وهي جريدة متحررة، وكانت السلطات تعتبرها متحررة أكثر من اللازم. انتقل ماركس بعد ذلك مع زوجته إلى باريس ثم بروكسل، حيث شارك أنجلز في كتابة البيان الشيوعي الذي نُشر عام ١٨٤٨. هناك لوحة تذكارية تخلد ذكرى إقامتهما على جدار المنزل في بروكسل حيث عمل ماركس وإنجلز، بالإضافة إلى متحف كارل ماركس في منزله في ترير. وفي عام ١٨٤٩ حضر المفكر الثوري للندن حيث بدأ في مباشرة عمله العظيم «رأس المال»، نُشرت أول طبعةٍ منه باللغة الألمانية في عام ١٨٦٧ وكانت مبيعاتها بسيطة، مع أن الطبعة الأمريكية منه التي نُشرت عام ١٨٩٠ بِيعَ منها ٥٠٠٠ نسخة، وهو العدد الذي كانوا قد انتهوا من طباعته، والسبب في ذلك هو أن ناشره قام بتسويقه على أنه كتاب يشرح كيفية تراكم رأس المال. لم تُنشر الطبعتان الأخيرتان منه، واللتان قام أنجلز بتحريرهما، حتى توفِّي ماركس، الذي رحل فقيرًا ومنكسر القلب عام ١٨٨٣ بعد وفاة زوجته. مع ذلك يعدُّ كتاب «رأس المال» أحد أكثر ثلاثة كتب اقتصادية أهمية، جنبًا إلى جنب مع كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث، وكتاب «النظرية العامة» لكينز.
نوع مختلف من العلماء البائسين
لاحظنا كيف قام بعضُ خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين الذين اتبعوا آدم سميث، بتبنِّي موقف أقل تفاؤلًا من الطريقة التي ستتطور بها الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية. فقد رأى مالتوس أن النمو السكاني يتجاوز مخزون الطعام وينتج عن ذلك عواقب وخيمة. أما ميل فقد فضَّل الاشتراكية المثالية لمواجهة ما يعرفه خبراء الاقتصاد المعاصرون على أنه فشل للسوق في توزيع الدخل. وقد اعتقد ريكاردو بعد أن أمدنا بتفسير لسبب الاستفادة من التجارة الحرة، أن ملاك الأراضي سيكونون أول المستفيدين من النمو الاقتصادي. أما العمال فسوف يقعون فريسةً لأجور بالكاد تعينهم على العيش. أما ماركس فلم يكن لديه وقتٌ للتفكير في استنتاجاتهم، مع أنه قام بالاستعانة بالأدوات الاقتصادية لخبراء الاقتصاد الكلاسيكيين، بما فيهم سميث. لقد قال عن توقعات مالتوس القاسية عن السكان: إنها ترتكز على افتراض استمرار النظام الرأسمالي في الإنتاج. وارتأى أنه في ظل نظام مختلف، لن يكون هناك أدنى مشكلة. وأضاف أن القوانين النظرية الوحيدة عن السكان موجودةٌ فقط من أجل «الحيوانات والنباتات» وليس البشر. وفي الوقت الذي كان ميل يضع فيه قواعد مبدأ الاشتراكية النموذجية، كان كارل ماركس يعمل على تأليف كتاب «رأس المال» في حجرة القراءة في المتحف البريطاني. لقد كانت هذه الاشتراكية عنده نوعًا من التفكير الضعيف المليء بالرغبات. لكن ماركس يدين بكل الفضل في علم الاقتصاد لريكاردو. فقد آمن الاثنان بالأهمية الأولية للتوزيع. فإذا كان التأكيد في أعمال آدم سميث على حجم الكعكة الاقتصادية، وعلى توقُّع نموها بطريقة معقولة بمرور الوقت، فإن كلًّا من ريكاردو وماركس كانا يهتمان بكيفية تقسيمها. فقد رأى كلٌّ منهما أن التقسيم سيقود إلى شدة التوتر. وكان الاختلاف هو أن ماركس تعامل مع هذا التوتر عن طريق ما توصَّل إليه من استنتاجات منطقية.
كان هذا المنطق، الذي يتمثَّل في تبنِّي ماركس للجدلية الهيجلية، هو السبب في اختلافه عن خبراء الاقتصاد الآخرين. فقد انتقدهم على أنهم وضعوا قوانين لعلم الاقتصاد على أنها شاملة ودائمة كقوانين الفيزياء والكيمياء، بدون معرفة أنهم يصفون مرحلة مؤقتة في التطور الاقتصادي. فالرأسمالية من وجهة نظر ماركس ما هي إلا مرحلة انتقالية في الرحلة الاقتصادية من النظام الإقطاعي وصولًا للنظام الشيوعي، وهو الوجهة النهائية للاقتصاد. هل كانت له وجهة نظر في ذلك؟ ومع أن أفكار سميث استطاعت البقاء في ظل الظروف الاقتصادية المتغيرة التي لم يكن يحلم بها، والمزايا النسبية ظلَّت موجودةً كما كانت في عصر ريكاردو، فإن الأمر — وبدون شك — يتلخص في أن الكثير من علم الاقتصاد في القرن التاسع عشر والفترة التي سبقته، لم يُرحَّب به جيدًا. ولسوء حظ ماركس ينطبق كل ذلك على غالبية تحليله. وقبل الخوض في تفسير السبب، دعونا نعرض جانبًا من هذا التحليل.
قيمة العمل
كان ماركس مثل كثيرٍ من علماء الاقتصاد الآخرين الذين عاشوا في زمنه؛ فقد تناول موضوع القيمة كنقطة البداية. ومن وجهة نظره فإن عدد ساعات العمل التي يتطلَّبها إنتاج أي منتج تحدد قيمته. وإذا كان ذلك يبدو غريبًا بعض الشيء للمراقبين المعاصرين لعلم الاقتصاد، في عصر نعلم فيه تمامًا أن تكلفة التصنيع تمثِّل جزءًا بسيطًا مما ندفعه ثمنًا لأي شيء معروض للبيع في المحلات؛ فما زال صدى هذا الأمر موجودًا حتى الآن. لو أخذت سيارتك لتصليحها في إحدى الورش، فإن السعر الذي سيتحدَّد لك عادةً سيكون على أساس عدد ساعات العمل التي يتطلَّبها تنفيذ المهمة. أو على مستوًى أكبر قليلًا، فإن أتعاب المحامي سوف يجري حسابها عادةً على أساس الأجر بالساعة مضروبًا في عدد مرات قيامه بالعمل. بالطبع لن يصدق أحد أن مقدار النقود التي تدفعها للورشة، يأخذها الميكانيكي كلها، أو أن كاتب المحكمة المنوط به القيام بعمل شاقٍّ في قضيتك القانونية لا يحصل إلا على بعضٍ من المبالغ التي تدفعها لمكتب المحاماة. وكانت تلك هي فكرة ماركس الأساسية. ففي أي سعر توجد قيمة، يحدِّدها تفسير دقيق لتكلفة العمل المطلوب، كما توجد أيضًا «القيمة المضافة»، التي يحصل عليها المالك أو المموِّل، أو صاحب المشروع مقابل كدِّ العمال وجهدهم.
لقد تعرضنا في الفصل السابق لسبب خضوع المشروعات لقاعدة المحرك الدافع للربح. بدون الأرباح سيترك أصحاب رأس المال المحتملون أموالهم في البنك، ويقضون الوقت في اصطياد الثعالب أو في لعب الجولف. من هنا فإن إغراء جمع المزيد من المال أصبح متاحًا، في ظل غياب المخاطرة التي تمدُّ أصحاب رأس المال بالحوافز اللازمة. لقد ساعد ذلك في بناء قاعدة الاستثمار التي بدونها لا يحدث التطور الاقتصادي. ودفعت ملاك الأراضي أيضًا لكي يسمحوا أن تتحول حقولهم الخضراء إلى مواقع صناعية. من هنا فقد وفَّرت الأرباح والإيجار الحافز للتطور. ومع أن ذلك يبدو منطقيًّا، فإن خبراء الاقتصاد في ذلك الوقت اكتشفوا أنه من الصعب تحدِّي ماركس، وكان السبب الرئيسي في ذلك أن تحليله لهذا الأمر كان في نطاق القيمة التي تخصُّ ملاك الأراضي. يضيف ماركس أن ملاك الآلات لا يستحقون عائدًا عن قيمة هذه الآلات — التي عرَّفها ماركس على أنها مقدار العمل الذي يتطلَّبه بناؤها — والتي كانت قد قدرت في بادئ الأمر. أما مكافآت ملاك الأراضي، فلا تدخل في الموضوع. وفي رأي ماركس، فإن كل الملكيات الخاصة ما هي إلا سرقة.
في الوقت الذي نستطيع الاحتجاج فيه على نظام ماركس، ندرك أنه يعطينا طريقة سلسة للتفكير في كيفية رؤيته وآخرين لمقدار التوتر المتأصل في الرأسمالية. فإن هدف أصحاب رأس المال هو زيادة القيمة المضافة، وقد كوَّن ماركس تكتلًا من الملاك والممولين وأصحاب الأراضي من أجل ذلك. وقد استدعى ذلك توظيف النساء والأطفال لتنفيذ مهام صناعية خطيرة وقذرة. وربما استدعى أيضًا توظيف الرجال للعمل لساعات طويلة في ظروف مزرية، واعتُبر ذلك استراتيجية سليمة. وقد علق أحد رجال الأعمال في مانشيستر، عندما أوضح أنجلز صديق ماركس مدى الفساد والقذارة التي كانت تعيش فيها طبقة العمال، قائلًا: «مع ذلك يوجد الكثير من النقود يمكن الحصول عليها هنا. عمت صباحًا سيدي!» لقد كان هذا التعليق بمنزلة الملخص للأسلوب ككل. لم يكن ماركس مهتمًّا بإلقاء اللوم على أصحاب رأس المال من الأفراد. لقد كانوا نموذجيين بالنسبة لمن يعيشون في هذا الوقت، وفي ظلِّ هذا النظام الذي يعملون فيه وكان عصرهم في طريقه للانتهاء. أشعلت نظرية ماركس عن قيمة العمل الصراع المتأصِّل في الرأسمالية بين تساوي الحصص وحتمية الاستغلال. وقام ماركس أيضًا بطرح خارطة طريق لانهيار الرأسمالية.
أزمة رأسمالية
في ظاهر الأمر لم يفسِّر تحليل ماركس بالضرورة السبب في انتهاء هذه العملية، حتى لو أنه أعطى وصفًا دقيقًا لاستغلال العامل — الذي كان جليًّا في ذلك الوقت إذ انتشرت العشوائيات في إنجلترا الفيكتورية — بالإضافة إلى سوء معاملة الأطفال العمال، إلا أن ذلك لم يوفر سببًا وراء توقُّف هذه العملية. إن هذا النوع من الرأسمالية التي وصفها ماركس قد يكون أحد أنواع الإقطاع الصناعي، ولكن لماذا حُكم على هذا النظام بالفشل، طالما استطاع أصحاب الأعمال الحفاظ على العمال تحت سيطرتهم؟ الإجابة على ذلك، كما اعتقد ماركس: هي وجود عملية ديناميكية تتحرَّك. فلم يكتفِ أصحاب رأس المال بالاعتماد على ما حقَّقوه من نجاح، والعيش من أرباحه أو قيمته «المضافة». بل كانت الحاجة هي المحرِّك لهم بالإضافة إلى ضغوط التنافس مع الغير؛ لتحريك الأمور للأمام عن طريق استثمار هذا الفائض في المزيد من الآلات. لقد اتبع ماركس أسلوبًا شعريًّا في هذا الصدد. فكتب قائلًا: «الادخار، الادخار! وهذا ما أوصى به موسى والأنبياء. لذلك وفروا، وفروا، أي أعيدوا تحويل أكبر نسبة ممكنة من القيمة المضافة أو المنتج الإضافي إلى رأس مال! ويعني ذلك الادخار من أجل الادخار فقط، والإنتاج من أجل الإنتاج فقط.»
وهذه النزعة لادخار رأس المال، أو كما يمكننا وصفها، الاستثمار، لها ثلاث نتائج مهمة؛ أُولاها أن بعض العمَّال قد تُستبدل بهم الآلات. وباستخدام المصطلحات الحديثة، يعدُّ ذلك تغييرًا لنمط الإنتاج من ارتكازه على العمل إلى الارتكاز على رأس المال، مع تشريد العمال، وذلك في الفترة التي تسبق حالة الرفاهية. من هنا يتكوَّن «جيش احتياطي» من العاطلين يكون مهمًّا فيما يتعلق باستغلال العمال. فما دام ثَمَّة أشخاصٌ مستعدون للحصول على عمل لمجرد الحصول على طعام، فستبقى الأجور منخفضة. والنتيجة الثانية هي أن الادخار سينتج عنه مبدأ «البقاء للأصلح»، حيث ستتساقط الشركات الأضعف في الطريق، وستصبح سيطرة بضع شركات كبيرة من الأمور الطبيعية. من الواضح أن التطوُّر ينطبق على الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية مثلما انطبق على العالم. (لقد أرسل كارل ماركس لتشارلز داروين نسخةً من الطبعة الأولى من كتاب «رأس المال»، إلا أنه لم يتلقَّ ردًّا.) أما النتيجة الثالثة والأكثر إثارةً، فهي أن عملية التراكم نفسها تسبِّب مشكلاتٍ للرأسماليين الذين أسَّسوها من قبل. وقد عرف ماركس ما نعرفه الآن بالإفراط في الاستثمار. من هنا فقد قام أصحاب رأس المال باستثمار أموالهم أكثر من اللازم؛ أملًا في تحقيق المزيد من الادخار وزيادة الأرباح. وقد يؤدي ذلك إلى تقليل الأسعار؛ لأن أصحاب رأس المال الآخرين لديهم القدرة على المنافسة، في ظل وجود زيادة في الاستثمارات والإنتاج. قد تكون عملية طرد الشركات الكبيرة للشركات الصغيرة من المشروعات؛ عمليةً إلى حدٍّ ما وحشية. ومن الممكن أيضًا أن تكون، من وجهة نظر ماركس، جزءًا من دائرةٍ لا نهاية لها. ويبدو أن أصحاب رأس المال لا يتعلَّمون من أخطائهم السابقة. لقد كُتب على الرأسمالية أن تحصل على معدل أرباحٍ ينخفض باستمرار، مما يزيد من الضغط على أصحاب رأس المال لاستغلال العمال. وقد يؤدِّي هذا أيضًا إلى فرض حالةٍ من عدم الاستقرار على النظام الاقتصادي، حيث نتج عن موجات الادخار — الاستثمار — اقتطاع وتخفيض فرص العمل والأجور.
أظهر نظام ماركس تناقضَين متأصلَين في النظام الرأسمالي. أحدهما هو العمال المضطهدون، الذين يحصلون بالكاد على أجورٍ تُعينهم على العيش على حد الكفاف؛ ولذا لن يستطيعوا مد السوق (الطلب) بالكميات المتزايدة من البضائع التي تُنتجها مصانع الرأسماليين. لقد وضع ماركس تفسيرًا مفصلًا عن كيفية بقاء النظام متوازنًا، عن طريق إنتاج كميات أكبر وأكبر من السلع الترفيهية التي يبيعها أصحاب رأس المال بعضهم لبعض، ولكن كان المعنى المتضمن الواضح أن هذا لن يستمر. وسيتفق معه في ذلك أي خبير اقتصادي. فالإنتاج الكلي يحتاج إلى استهلاك كلي. والتناقض الأساسي هو مع العمال أنفسهم؛ فهم يُجلبون معًا للعمل في المصانع، وينقلون عادةً من الريف للسكن في البلدات والمدن الصناعية، فهل بذلك يصبحون مستعدِّين لقبول حتمية استغلالهم؟ لكن ماركس لم يعتقد ذلك. فقد كتب يقول:
بالإضافة إلى العدد المتناقص من أقطاب رأس المال، الذين يمتلكون ويحتكرون كل المميزات في عملية التحويل هذه، يزيد جمهور البائسين والمكتئبين والمستعبدين والمقهورين والمستغلين، لكن كل هذا يزيد أيضًا من اشمئزاز الطبقة العاملة، وهي طبقة اجتماعية تتزايد بصفة مستمرة ومرتبة وموحدة ومنظمة، بنفس آليات العملية الإنتاجية الرأسمالية.
من هنا ستصبح مصانع أصحاب رأس المال مرتعًا للسخط والاشمئزاز، وأخيرًا للثورة الاشتراكية.
يا عمال العالم …
يحمل شاهد قبر ماركس الشعار الذي يقول «يا عمال كل الأرض اتحدوا». وسواء هذا الشعار أو الشعار الأكثر شيوعًا «يا عمال العالم اتحدوا» فكلاهما يدعو للاتحاد. وقد حصلنا من عمل ماركس العظيم «رأس المال» على فكرة عن الأنظمة الرأسمالية، فهي ليست فقط غير مستقرة بطبيعتها ومليئة بالأزمات، ولكنها أيضًا غير عادلة في جوهرها. فقد أظهرت نظريته عن قيمة العمل أن أصحاب رأس المال يتطفَّلون على الجسد الاقتصادي، ويتغذَّون على القيمة المضافة التي يصنعها عمالهم. وكانت الإجابة هي أن على العمال أن يتحكَّموا في «وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل»، مما سيؤدي في وقت واحد إلى التخلص من القيمة المضافة (إلى جانب أصحاب رأس المال الذين يكدسونها) وإثراء حياة العمال العاديين. لقد تبنَّت الأحزاب الاشتراكية، وأيضًا الشيوعية، هذا الموضوع. وظل الأمر هكذا حتى تولَّى توني بلير رئاسة حزب العمال وقام بإلغائه عام ١٩٩٤. ففي الفقرة الرابعة يقول برنامج الحزب:
لتأمين حصول العمال، الذين يعملون بأيديهم أو من يعملون بعقولهم، على كل ثمار عملهم ومن ثَم التوزيع العادل لهذه المنتجات، من الممكن للملكية العامة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل تحقيق ذلك، وإيجاد أفضل نظام متوفر فيما يتعلق بالإدارة العامة والتحكم في كل الصناعات والخدمات.
وقد كان التزام حزب العمال بالملكية العامة الماركسية، موضوع نقاش لفترات طويلة. فعلى سبيل المثال قد تبدو الجمعيات التعاونية مطابقة لما جاء في الفقرة الرابعة من برنامج الحزب. وقد استخدمت هذه الفقرة لتفسير موجة التأميمات التي حدثت في حكومة آتلي خلال الفترة ١٩٤٥–١٩٥١. كانت حركة التأميم، كما ذكرنا من قبل في الفصل السابق، تشمل العديد من الصناعات بما في ذلك الفحم والصلب والسكك الحديدية وجرى تحويلها لملكية الدولة.
وفي حين كان كتاب رأس المال بإصداراته الثلاثة يمدنا بالتفسير النظري عن أحقية تولي العمال زمام الأمور الاقتصادية، توصَّل ماركس وإنجلز إلى هذه النتيجة بالفعل في «البيان الشيوعي» الذي اشتركا في كتابته عام ١٨٤٨. مع أن بعض ما عرضه البيان قد يبدو للبعض في هذه الأيام ثوريًّا — بنك حكومي واحد يحتكر السوق، وملكية الدولة لكل وسائل المواصلات والاتصالات وإلغاء حقوق الملكية — ولكن يعتبره البعض الآخر وسطًا بين الاثنَين. لقد طرح البيان فكرة وجود ضريبة تدرجية أو تصاعدية على الدخل، وبسط ملكية الدولة لتصل للمصانع ووسائل الإنتاج الأخرى، ولكن ليست بدرجة السيطرة الكاملة.
مدى خطأ أو صواب ماركس
كان ماركس أحد المفكرين المؤثرين في العصر الحديث، ولكن التاريخ لم يتعامل مع طريقة تفكيره في علم الاقتصاد بتعقُّل. وقد كان ظهور الطبقات الوسطى من أصحاب رأس المال تحديًا لتوقعاته عن بقاء العمال الدائم في حالة قريبة من الفقر. لقد كانت الرأسمالية أرحم على العامَّة من الشيوعية. وقد حدثت أزمة بسبب الرأسمالية، وخاصة في فترة الركود الاقتصادي العظيم في الثلاثينيات من القرن العشرين، وقيام الثورة الروسية عام ١٩١٧. ولكن لم يستمرَّ توقُّع ماركس الأساسي عن تناقص أرباح أصحاب رأس المال لفترة طويلة. فقد كان السقوط المتتالي للشيوعية في أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وخاصةً عند انهيار سور برلين، وانخفاض مكانتها حينذاك واتباع القليل من الدول لهذا النظام؛ مؤشرًا على انحسار سطوع نجم ماركس بعد أكثر من قرن من وفاته، ومن المحتمل ألَّا يسطع ثانيةً. فعددُ الأنظمة الاقتصادية التي كانت قد طبقت مفاهيم ماركس من أجل الاستفادة الظاهرية للعمال؛ كبيرٌ جدًّا. قبل توحيد شطرَي ألمانيا في عام ١٩٩٠ كان الانطباع السائد أن الاقتصادَ في الشرق، في الجمهورية الألمانية الديمقراطية القديمة، قويٌّ إلى حدٍّ بعيد. لكن اكتشفنا نقاط الضعف الاقتصادية فيها فقط عندما انفتحت على العالم. ولم يستمر نظام ماركس الاقتصادي. لقد شنَّ كينز في الثلاثينيات من القرن العشرين هجومًا على كتاب «رأس المال»، ووصفه بأنه يحتوي على «أخطاء علمية»، وأضاف أنه «بدون فائدة ولا يمكن أن نطبِّقه في العصر الحديث». لقد قال عن الفكر الماركسي إنه بُني على سوء فَهْم لنظرية ريكاردو عن القيمة. وكان في هذا القول قليلٌ من القسوة؛ بسبب الإدراك المتأخر. فقد كان ماركس ينتقد خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين، وكان عمله في ذلك الوقت هو الأساس الفكري لأشكال التمرد التي تهدد الرأسمالية في العصر الصناعي. وقد اعترف أصحاب رأس المال في هذه الفترة والمفكرون المساندون لهم بالوقوع في خطأ؛ لاعتقادهم أن ماركس لن يشكِّل خطرًا عليهم.
كان ذلك جزءًا من أسباب توقعات ماركس الخاطئة. حتى ولو قُبِل تحليله الذي يفترض أن العمال يميلون دائمًا ليكونوا مقهورين؛ فالثورة لم تكن هي الحل الوحيد. ذلك لأن القوى العاملة كانت تستنزف بطرق أخرى، ليس أقلها تأثير الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. فالتحليل الماركسي يقول: إن الرأسمالية تناولت — تحت ضغط — منهجًا يوافق على توزيع للدخل أكثر عدلًا. وقد يكون رد فعل آدم سميث أن هذا ما يئول إليه الحال دائمًا.
لقد تعوَّد المدافعون عن ماركس، والذين استجابوا للحقيقة التي قالها عن تقدم العمال اقتصاديًّا، وتمتُّعهم بارتفاع مستوى معيشتهم بدلًا من الثبات على مستوى الفقر، على الإشارة إلى استغلال الدول الصناعية لمستعمراتها. دعنا نقُل ذلك بطريقة أخرى: لقد حقق العمال الغربيون الرخاء فقط بسبب العمال المقهورين الفقراء في أماكن أخرى. نفس الشيء موجود في الجدل القائم حول العولمة. دائمًا ما تتصدَّر منظمة أوكسفام عناوين الأخبار، عندما تعلن أن أغنى ٢٦ شخصًا أو عددًا مشابهًا في العالم لديهم ثروة تعادل مجموع دخل نسبة اﻟ ٥٠٪ الأفقر. هذا المقياس لا يخلو من عيوب، ولكن الآن ليس الوقت المناسب للتأمُّل فيها، أو لإنكار وجود قدرٍ كبيرٍ من التفاوت، داخل البلدان وفيما بينها. وتُشير تقديرات البنك الدولي إلى أن نحو ٧٠٠ مليون نسمة، أي ما يقلُّ قليلًا عن ١٠٪ من سكان العالم، يعيشون في فقرٍ مدقع، بأقل من ١٫٩٠ دولار في اليوم. ولكن الأمر الأصعب هو أن نزعم أن هذا ينبع من مخطط ماركس للأشياء. ذلك أن التفاوت ينشأ بنفس القدر من عدم قدرة العديد من الناس على المشاركة في العملية الرأسمالية. والواقع أن الروابط بين التفاوت العالمي واقتصاد ماركس ضعيفةٌ في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال غير موجودة.
ماركس والأزمة المالية العالمية
بغضِّ النظر عن هذه المشاكل التي تعيب الاقتصاد الماركسي، فقد كان من المتوقَّع أن تؤدِّي الأزمة الوجودية التي عصفت بالرأسمالية، مع اقتراب النظام المصرفي العالمي من الانهيار في عام ٢٠٠٨، إلى إحياء الماركسية. ولكن هذا لم يحدث. ومن بين أكثر مفسري ماركس نشاطًا ديفيد هارفي، الأستاذ المتميز في جامعة مدينة نيويورك. وهو مؤلف كتاب «لغز رأس المال: وأزمات الرأسمالية»، الذي نشرته دار نشر بروفايل. والكتاب يستحق القراءة. ومن بين نقاطه الأساسية أن الرأسمالية كانت دومًا بارعة في إعادة اختراع نفسها، حتى بعد الأزمات الأكثر تطرُّفًا. ويتلخَّص الخطر الأعظم الذي يهدِّد الرأسمالية في التظاهر بأن شيئًا لم يتغير، ومحاولة العودة إلى ما كانت عليه الأمور بالضبط قبل عام ٢٠٠٨. ولكن من غير المرجَّح أن تنهار الرأسمالية تحت وطأة تناقضاتها. ويخلص الكتاب إلى أن «الرأسمالية لن تسقط أبدًا من تلقاء نفسها. وسوف يتعين دفعها. ولن يتوقف تراكم رأس المال أبدًا. وسوف يتعين إيقافه. ولن تتنازل الطبقة الرأسمالية عن سلطتها طواعية أبدًا. وسوف يتعيَّن نزع ملكيتها».
وبالنسبة للماركسيين، ربما كان الإرث الأكثر إزعاجًا للأزمة المالية العالمية هو أنها لم تنتج اندفاعًا نحو اليسار، بل صعود الشعبوية والقومية اليمينية، بما في ذلك تصويت المملكة المتحدة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦، وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة. وبدلًا من الثورة الماركسية، كانت هناك ثورةٌ على اليمين.