دفع الفاتورة
والآن، غادر ماركس وحان الوقت للتفكير في شيءٍ يمكن أن يفسد أية وجبة: دفع الفاتورة. لم نصل بعدُ لنهاية وجبتنا هذه، وقد يعتقد البعض أنني ابتكرت عنوان هذا الفصل ليصف ما تقوم به الحكومات. لكن هذا يبدو منصفًا بالنسبة لي. فأهم دور تقوم به الحكومة في الاقتصاد هو العمل على زيادة الضرائب، مما يجعلنا جميعًا ندفع قيمة الفاتورة، ثم تقوم الحكومة بعد ذلك بإعادة توزيع هذه الضرائب في شكل نفقات عامة. لقد قام السير ليو بلياتسكي وهو موظف كبير سابق كان يعمل في إدارة التجارة والصناعة بوزارة الخزانة؛ بعَنْوَنة مذكراته «الأخذ والعطاء» نسبة لشعر ووردسورث الذي كان يقول فيه: «في الأخذ والعطاء نبدِّد قوانا.» لذا دعنا ننظر إلى دور الحكومة الأساسي في الاقتصاد ألا وهو السياسة المالية. وكلمة المالية هنا تعني «ما يتعلَّق بالضرائب» إلا أن السياسة المالية تهتمُّ بنفقات الحكومة والضرائب معًا. وهذا يختلف بالتالي عن السياسة النقدية — أسعار الفائدة وما إلى ذلك — التي أصبحت هذه الأيام حكرًا بشكل أساسي على البنوك المركزية المستقلة.
لماذا تنفق الحكومات؟
في وقتنا الحالي، كون الحكومة تنفق عدة مليارات كل عام يعتبر أمرًا مسلَّمًا به. فأينما توجد حكومات توجد لها نفقات. الأمر يستحق منا أن نفكر بإمعان في السبب الذي يجعل للحكومة نفقات. التبرير الأول يرتبط بما يعرف ﺑ «السلع العامة». ويمكن تعريفها بأنها خدمات أو مؤسسات غير تنافسية وغير حصرية. ونقصد بعبارة غير تنافسية أنه ليس معنى أنك تستهلك شيئًا ما أن هذا يمنعني من استهلاكه. وعبارة غير حصرية معناها أنني إذا أردت منعك من استهلاك شيءٍ ما دفعتُ مقابله، لن أستطيع فعل ذلك. فالكثير من السلع العامة هي خدمات أو مؤسسات تفيد المجتمع ككل، لكن من المستبعد أن يقوم الجمهور بدفع المقابل لهذه الخدمات على أساس تطوعي، ما لم يكن الآخرون جميعًا يفعلون نفس الشيء. فهل من الممكن أن تدفع تطوعًا مقابل خدمات الشرطة؟ ربما لا، إذا صدقنا عناوين الصحف التي تقول إنهم يقضون كل أوقاتهم في مضايقة سائقي السيارات من الطبقات المتوسطة، بدلًا من ملاحقة المجرمين. وهل يمكننا تمويل النظام القضائي، وهو من الضروريات ولكنه مكلف أيضًا، بكل ما يضمه من محامين وقضاة يتقاضون أعلى الرواتب؟ بالإضافة إلى ذلك، إذا ساد الإحساس بالوطنية في أوقات الحرب، فربما يعترض المواطنون في أوقات السلم على تكاليف الإبقاء على القوات المسلحة، عندما لا يلوح أي خطر في الأفق. يعتبر وجود سلع عامة معينة نوعًا من «إخفاق السوق». فإذا لم تقُم الحكومة بتوفيرها، يلزم على سبيل المثال، وجود نظام قضائي يعمل بشكل فعال من أجل استمرار الاقتصاد في العمل. قد يزعم أنصار الدولة الأصغر حجمًا أن العديد من الأشياء التي تعتبر سلعًا عامة سوف يتم توفيرها، عن طريق القطاع الخاص إذا لم تفعل الحكومة ذلك. ولكن ذلك لن يكون الحال بالنسبة إلى بعض الأشياء.
أما النوع الثاني من إخفاقات السوق، فهو ما يطلق عليه المخاطر غير القابلة للتأمين. فهل من الممكن أن يحصل شخص مريض بمرض مزمن وبدون دخل على تأمين صحي خاص؟ بالطبع لا، إلا إذا طلبت الحكومة من شركات التأمين أن توفِّر غطاءً لكل فرد في منطقة بعينها. وحتى في هذه الحالة، ونظرًا لانتشار المخاطر بين الأصحاء وغير الأصحاء، يتطلَّب الأمر من الشركات توفير هذا الغطاء عبر نطاقات أوسع. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقوم الحكومة نفسها به، أو على الأقل تعمل على ضمان ذلك التأمين والإنفاق عليه من الضرائب؟ وينطبق هذا الأمر أيضًا على المخاطر الأخرى، بما في ذلك استمرار صرف تأمين البطالة للعاطلين، ومرتبات من يحصلون على إجازات مرضية. حتى لو كانت الحكومة تقوم بدور المؤمن أو المشتري للخدمة، فلا يعني أنها يجب أن تكون المورد أيضًا. فمن الممكن أن تشتري الحكومة خدمات الرعاية الصحية من أطباء ومستشفيات القطاع الخاص نيابةً عن المرضى، ومن هنا تنتهي الحاجة لخدمات الصحة العامة. وقد سعت الحكومات لفعل هذا وإن كان بشكل هامشي فحسب. إن النقاش الذي يدور الآن، مطالبًا بتمويل مشروع خدمات الصحة العامة من الضرائب، يستند إلى قيام مؤسسة كبيرة (كأكبر شركة في أوروبا الغربية) بالاستفادة من وفورات الحجم، بحيث توفر خدمة الرعاية الصحية حتى في الأماكن التي بها عدد قليل من السكان، وتعمل على تدريب عددٍ كافٍ من الموظفين لتقديم تلك الخدمات.
وفي حين يتفق معظم خبراء الاقتصاد على أن دور الحكومة هو توفير السلع العامة، فإن دورها في المخاطر التي لا يمكن تأمينها وبوصفها موردًا لخدمات مثل الصحة والتعليم؛ أصبح مهددًا، على الرغم من قلة من يهدِّدونها بتغيير النظام تغييرًا كبيرًا، على الأقل في بريطانيا. وبالمثل فإن الحكومات تستخدم الضرائب والإنفاق الحكومي لإعادة توزيع الدخل من الأغنياء للفقراء. قد يقول خبراء الاقتصاد في السوق الحرة: إن الحكومات المعاصرة قد تطورت وأصبحت تدرك قدراتها الحقيقية. ومع ذلك توجد احتمالية ضعيفة أن نعود للحكومات الصغيرة والبسيطة، ليس أقلها في أعقاب الدور الأكبر بكثير الذي تبنته الحكومات خلال جائحة فيروس كورونا ٢٠٢٠-٢٠٢١. وقبل ذلك، في معظم الاقتصادات المتقدمة، أدَّت الأزمة المالية العالمية إلى دور غير مقصود ولكنه موسع إلى حد كبير للدولة، سواء من حيث التدخل المباشر لدعم القطاع المصرفي وزيادة الإنفاق العام بالنسبة لحجم الاقتصاد. وكان هناك توسُّع أكبر في دور الدولة أثناء الجائحة. وشهد مخطط الاحتفاظ بالوظائف، أو التوقف المؤقت عن العمل، قيام الحكومة بدفع ٨٠ في المائة من أجور الموظفين المسجلين في دفاتر الشركات، ولكنهم غير قادرين على العمل بسبب قيود كوفيد ١٩. وكانت هناك مخططات مماثلة في بلدان أخرى. وارتفع الإنفاق الحكومي في المملكة المتحدة في ٢٠٢٠-٢٠٢١ إلى أكثر من ٥٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهو أعلى مستوًى له في زمن السلم.
أنفق وزد في إنفاقك
تختلف الترتيبات الخاصة بالموازنة بين الدول، وعلى وجه الخصوص عندما نكون بصدد زيادة الإيرادات والنفقات، خاصةً عند تقسيم نظام الحكم إلى مركزي ومحلي، أو إلى حكومي وفيدرالي. ومع ذلك فالقواعد الأساسية تتشابه في كل مكان، فتُزاد الإيرادات لتمويل النفقات. فإذا حدثت زيادة في الإيرادات أكثر من اللازم، يكون هناك فائضٌ في الميزانية. أما إذا كانت الإيرادات لا تكفي فيحدث عجز في الميزانية، والحكومة — سواء كانت مركزية أو محلية أو فيدرالية أو جمهورية — عليها أن تقترض من أجل تغطية هذا العجز. هذا باختصار ما يُعرف بالمالية العامة. إن التحدِّي الذي يواجه هذا الرأي يتمثَّل في النظرية النقدية الحديثة، والتي اجتذبَت أتباعًا، وسيتم وصفُها لاحقًا.
لقد بلغ إنفاق الحكومة البريطانية في الفترة التي سبقت الجائحة، في عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠، ما يزيد قليلًا عن ٨٨٥ مليار جنيه إسترليني، في اقتصاد يبلغ إجمالي ناتجه المحلي ٢٢٢٢ مليار جنيه إسترليني؛ ومن ثَم فإن الإنفاق العام يعادل ٣٩٫٨ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وهذا، بالمناسبة، مماثلٌ لمتوسطه منذ عام ١٩٤٨، ٣٩٫٧ في المائة. وبصورة عامة، فإن الإنفاق العام في المملكة المتحدة يعادل بمرور الوقت ما يقرب من ٤٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. في وقتٍ ما، كان هناك نقاش، وخاصة بين الساسة المحافظين، حول إمكانية وصول حد الإنفاق إلى ٣٥ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهو رقم لم يتحقَّق إلا من حين لآخر؛ لمدة ثلاث سنوات في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين في ظل حكومةٍ محافظة، ولمدة عام واحد في نهاية التسعينيات من القرن نفسه تحت قيادة حزب العمال. في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، كما هو مذكور، أدَّى الجمع بين الانخفاض الكبير في إجمالي الناتج المحلي والارتفاع الحاد في الدعم الاقتصادي الحكومي؛ إلى زيادة الإنفاق العام إلى ما يعادل ٥٢ في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وعبارة «ما يعادل» مهمة في هذا السياق. ذلك لأنه لا يتم احتساب كل شيء في الإنفاق العام ضمن إجمالي الناتج المحلي، وخاصة معاشات التقاعد والمزايا الاجتماعية، فمن المضلِّل أن نقول إن أكثر من نصف الاقتصاد كان خاضعًا لسيطرة الدولة، حتى في ظل هذه الظروف غير العادية، رغم أن هذه النفقات لا بد أن تُدفَع في نهاية المطاف من الضرائب.
كيف تخصص الحكومات الإنفاق؟ إنها ليست مقايضة سياسية بحتة، رغم وجود تأثير كبير لذلك فيما يتعلَّق بالقرارات النهائية. ومع ذلك، فهي في الغالب عملية مماثلة لتلك التي تتبعها وزارة الخزانة البريطانية، حيث توجد مراجعة للإنفاق بقيادة وزارة الخزانة، وهي «عملية لتخصيص الموارد عبر جميع الإدارات الحكومية، وفقًا لأولويات الحكومة». وتحدد مراجعات الإنفاق ميزانيات إنفاق ثابتة على مدى عدَّة سنوات لكل إدارة. وبعد ذلك، يعود الأمر إلى الإدارات لتقرِّر أفضل السبل لإدارة وتوزيع هذا الإنفاق ضمن مجالات مسئوليتها. وقد أنشأت حكومة حزب العمال في عام ١٩٩٨ مراجعات الإنفاق هذه، التي تُجرى كل عامَين مع تحديد إجمالي الإنفاق لثلاث سنوات مقبلة، لتحلَّ محل المعارك السنوية القديمة التي أثارَت خلافات سياسية عميقة. ومع ذلك، لم تكن الأمور تسير دائمًا وفقًا للخطة. كان من المقرَّر أن تجري حكومة حزب العمال مراجعة للإنفاق في عام ٢٠٠٩ لكنها أرجأت ذلك بسبب الأزمة المالية، ونتيجة لخسارة الانتخابات العامة في العام التالي، لم تنفذها قطُّ. كما انحرفت الجداول الزمنية عن مسارها لاحقًا؛ بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجائحة فيروس كورونا. كان لا بد من الاستعاضة عن مراجعة الإنفاق المخطَّط لها لعام ٢٠٢٠ بتخصيصات لعام واحد نتيجة للجائحة.
وهناك تمييزٌ مهمٌّ بين الإنفاق الجاري والرأسمالي. على سبيل المثال، في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، ستشمل النفقات الجارية أجور ومرتبات الأطباء والممرضات وغيرهم من الموظفين، وفاتورة الأدوية السنوية، في حين أن بناء مستشفًى جديد سيُحسب كنفقات رأسمالية. والحصَّة الأكبر من الإنفاق الحكومي هي نفقات جارية.
فيما قبل القرن العشرين، كان موضوع النفقات العامة واحدًا من الموضوعات الرئيسية المرتبطة بالحرب والسلام. فالحكومات تنفق، في الغالب، للاحتفاظ بجيوشها. ويرتفع معدل هذا الإنفاق كثيرًا في أوقات الحروب عندما تتزايد أعداد هذه الجيوش. فعلى سبيل المثال، في فترة ما قبل الحروب النابليونية، كانت الحكومة البريطانية تُنفق حوالَي عُشر إجمالي الناتج المحلي، وقد ارتفع هذا الرقم ليصل إلى الثلث في وقت معركة واترلو. كانت الحروب مكلفة اقتصاديًّا ولا تزال، مما يعني ضرورة زيادة الضرائب، والأمر الأكثر أهميةً هو الاقتراض المكثف والممتد. لم يكن ذلك مجرد ظاهرةٍ فيما قبل القرن العشرين. فعبء تمويل الحرب العالمية الثانية استنزف قدرة بريطانيا على الاستمرار كقوة اقتصادية كبرى في فترة ما بعد الحرب.
حتى عام ١٩١٤ كانت النفقات في فترة السلم حوالي ١٠٪ أو ١١٪ من إجمالي الناتج المحلي. وهو المستوى الذي كانت عليه في الجزء الأول من القرن، وكذلك في أواخر العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي. لقد واكبت الحرب العالمية الأولى فترة اتسمت بسيطرة الدولة على الاقتصاد، وكانت النتيجة المترتبة هي عدم عودة النفقات العامة لحالتها الطبيعية، مع الاستقرار عند نسبة أعلى قليلًا من ٢٠٪ من إجمالي الناتج المحلي. لم يكن ذلك فقط بسبب نسبة الفوائد على ديون الحكومة نتيجة للحرب، ولكن أيضًا بسبب بداية حالة من الرفاهية مدعومة من قبل الحكومة. لقد قامت حكومة الديمقراطيين الأحرار التي جرى انتخابها عام ١٩٠٦ بإقرار تشريع معاشات حكومية لكبار السن في عام ١٩٠٨، وبجانب ذلك، في عام ١٩١١ صدر تشريع ديفيد لويد جورج للقانون الخاص بالتأمينات الاجتماعية، الذي اشتمل على مواد تخص كلًّا من البطالة والتأمين الصحي. استمرَّت هذه الزيادة في النفقات أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وهي الفترة التي شهدت صدور قانون التعليم عام ١٩٤٤، وقانون خدمات الصحة العامة عام ١٩٤٦ (الذي جرى تنفيذه فعليًّا عام ١٩٤٨)، وقانون التأمينات الاجتماعية ١٩٤٦، وقانون المساعدات القومية عام ١٩٤٨. لقد كانت هذه الفترة التي تبعت تقرير السير ويليام بيفريدج عام ١٩٤٢، هي الفترة التي جرى فيها تفعيل حالة الرفاهية المعاصرة، حيث أخذَت الحكومة على عاتقها مسئولية الصحة والتعليم والمعاشات، وعددًا من المزايا التي تشمل البطالة والمرض واحتياجات أخرى. وكان الهدف من حالة الرفاهية هو التعامل مع المشكلات الخمس الكبرى؛ وهي الحاجة والمرض والجهل والفساد والبطالة.
كذلك فهي الفترة التي جرى فيها بَسْط نفوذ الحكومة على الصناعة بوضوح. فبحلول الخمسينيات من القرن العشرين، وصلت نفقات الحكومة إلى ٣٥٪ أو ٤٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، وقد زادَت لمستوًى أكبر يتراوح بين ٤٥٪ و٥٠٪ في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، حيث زادت نفقات الرفاهية. ثم نجحت حكومة تاتشر في تخفيض تلك النسبة لتصل لحوالي ٤٠٪ من إجمالي الناتج المحلي، وثبتت على ذلك حتى الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨. ولقد كان هذا على الرغم من فترةٍ طويلة، بدأَت في عام ٢٠٠٠، زادت خلالها حكومة حزب العمال برئاسة توني بلير وجوردون براون بشكل كبير من الإنفاق، وخاصَّةً على التعليم والخدمات الصحية الوطنية، والتي استفادَت من زياداتٍ حقيقيةٍ سنويةٍ مستدامةٍ بنسبة ٧٪. وارتفع الإنفاق الحكومي ممَّا يعادل ٣٩٫٩٪ من إجمالي الناتج المحلي في عامَي ١٩٩٦ و١٩٩٧، إلى ٤١٫١٪ في عامَي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ قبل أن يزيد بشكل كبير. لقد أدى النمو القوي لإجمالي الناتج المحلي في الفترة التي سبقت الأزمة، وفي العامين الأولين أو الثلاثة الأعوام الأولى من ضبط الإنفاق بعد الانتخابات العامة في عام ١٩٩٧، إلى جَعْل حزب العمال يبدو حكيمًا نسبيًّا على الرغم من الزيادات الكبيرة للغاية في الإنفاق. ويزعم البعض أن الصورة الحقيقية لم تظهر إلا عندما انزلق الاقتصاد في شرك الركود.
تضاعفت نفقات الحكومة حوالَي أربعة أضعاف عن مستواها عام ١٩١٤ بالنسبة إلى حجم الاقتصاد، وقد صاحَبَ هذه الزيادة تغييرات واضحة في بنيتها. وحديثًا في عام ١٩٥٠ كان الدفاع هو أهم عنصر في نفقات الحكومة، فكان يمثِّل ٦٫٦٪ من إجمالي الناتج المحلي، ويليه التكافل الاجتماعي (٥٫١٪) والصحة (٣٫٦٪) والتعليم (٣٫٤٪) والإسكان (٢٫٦٪). وبعد مرور ما يزيد قليلًا على ٧٠ عامًا، في ٢٠٢١-٢٠٢٢ — وهو العام الذي شهد تعزيز الإنفاق الحكومي من خلال التدابير الخاصة بالتعامل مع جائحة فيروس كورونا — كان للضمان الاجتماعي، بما في ذلك معاشات التقاعد الحكومية، أكبر ميزانية (١٣٫٣ في المائة من إجمالي الناتج المحلي)، يليه الصحة (١٠٫٢ في المائة)، والتعليم (٥٫٥ في المائة) والدفاع (٢٫٦ في المائة)، والتي أنفق عليها أكثر قليلًا من ٢ في المائة من إجمالي الناتج المحلي على فوائد الديون الحكومية. ومن الواضح أن صعود دولة الرفاهية، وكذلك انحدار أهمية الدفاع، خاصة أن الحكومة البريطانية، مثل غيرها، طالبت ﺑ «ثمار السلام» بعد نهاية الحرب الباردة، على الرغم من أنها انخرطت لاحقًا في صراعات طويلة ودموية في أفغانستان والعراق. لقد أصبح الإسكان، الذي كان مهمًّا في الفترة التي أعقبت الحربَين العالميتَين — بناء «منازل تليق بالأبطال» — يشكِّل جزءًا ضئيلًا فقط من الإنفاق الحكومي، وذلك في أعقاب سياسة حكومة تاتشر الناجحة في بيع المساكن البلدية إلى مستأجريها، ونقل قدرٍ كبيرٍ من مخزون المساكن البلدية المتبقِّي إلى جمعيات الإسكان. ولم يشكِّل الإسكان والبيئة سوى ١٫٥٪ من إجمالي الناتج المحلي في الفترة ٢٠٢١-٢٠٢٢.
ما مستوى القياس الصحيح لنفقات الحكومة؟
كيف كان من الطبيعي أن تُنفق الحكومة عُشر إجمالي الناتج المحلي فقط على الخدمات العامة، على أن يكون النصيب الأكبر لخدمات الدفاع، في حين يعتبر خمسا الناتج المحلي كافيَين الآن؟ جزء من السبب يكمن في أنه في الماضي لم يكن هناك تعليم شامل تموِّله الدولة، أو خدمات رعاية صحية أو دعم للفقراء. هذا لا يعني عدم وجود هذا الدعم في السابق. ففي بريطانيا توجد شبكة من المنظمات التطوعية والمؤسسات الخيرية، وجمعيات المعونات الطبية والجمعيات التعاونية والكنائس، التي قد تُشبه في دورها دور الوكالات الحكومية المحلية أو القومية، والتي توفر حالة من الرخاء غير الرسمي قبل ظهور بيفريدج بفترة طويلة. فقد قامت إدارات المدارس بالتأمين على معظم الأطفال المحليين الذين كانوا يتلقَّون التعليم قبل تطبيق قانون التعليم عام ١٩٤٤. كان الانتقاد الوحيد على حالة الرفاهية هذه، هو أنها اجتاحت العديد من المنظمات التطوعية العالية التأثير. فدفع المال لزيارة الطبيب كان أمرًا شائعًا ومتوقعًا بالطبع. فالكثير من تلك الجمعيات طبقت نظامًا غير رسمي من الإعانات المشتركة، والتأكد من أن المرضى الأكثر ثراءً يدفعون الفاتورة، أما الفقراء فلا يرغمون على فعل ذلك. وفي بداية تطبيق نظام خدمات الصحة العامة، في ٥ يوليو ١٩٤٨، تسارع المرضى لإجراء جراحات لدى الأطباء الممارسين ومعهم القليل من المال، ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك الحد، فمنذ ذلك الوقت كانت الاستشارات والعلاج «مجانًا في مكان تلقي الخدمة». لقد تعوَّد المرضى على ذلك. وفي بضعة أشهر زادت تكلفة خدمات الصحة العامة بمعدل زاد من قلق الوزراء، وهذا هو نفس المعدل الذي استمر حتى وقتنا الحالي. وقد علق أنورين بيفان، «مؤسس نظام خدمات الصحة العامة» في حكومة حزب العمال بعد عام ١٩٤٥ قائلًا: «أخاف من التفكير في الكميات الهائلة من الأدوية التي يبتلعها البريطانيون باستمرار في الوقت الحالي.»
يتنوَّع مستوى النفقات العامة بمرور الوقت. وعندما تولَّى حزب المحافظين السلطة من عام ١٩٧٩ حتى عام ١٩٩٧، قام بالتخلُّص من بعض أنواع حالات الرفاهية، واستعاض عنها بالتأمين الخاص، مثل دفع مستحقات الرهن العقاري للعاطلين عن العمل. ووُضعت سياسة للتقليل من عوامل الجذب في الحالات الأساسية من المعاشات الخاصة بكبار السن؛ ومن ثَم زيادة الحوافز للمساهمة في التسويات الخاصة، وذلك عن طريق رَبْط الزيادات السنوية في المعاشات الحكومية بالأسعار، بدلًا من زيادة نمو الأرباح بسرعة. لقد قلصت عملية الخصخصة من دور الحكومة في النظام الاقتصادي للمملكة المتحدة في الثمانينيات من القرن العشرين، وأوائل التسعينيات من نفس القرن. فنُقلت ملكية مرفق الاتصالات والحديد والغاز والماء والكهرباء، من الملكية العامة إلى ملكية القطاع الخاص، في حين رفعت سياسة التأميم التي سبقتها من مستوى الملكية العامَّة.
النقطة المهمة هنا هي أنه لا يوجد سقف أمثل محدد اقتصاديًّا لمستوى الإنفاق الحكومي. إنها مسألة اختيار سياسي. وهي أيضًا مسألة تفضيل وطني. وفقًا لأرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (مختلفة قليلًا عن البيانات الرسمية البريطانية)، كان الإنفاق الحكومي في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يعادل ٤١ في المائة من إجمالي الناتج المحلي في المملكة المتحدة، على غرار إسبانيا (٤١٫٦ في المائة) وهولندا (٤٢ في المائة). وكان أعلى من الولايات المتحدة (٣٧٫٨ في المائة) واليابان (٣٨٫٩ في المائة)، ولكنه أقل من ألمانيا (٤٤٫٤ في المائة) وفرنسا (٥٥٫٩ في المائة). تميل الدول الاسكندنافية إلى تحقيق أعلى مستوًى من الإنفاق الحكومي نسبة إلى حجم اقتصاداتها، على الرغم من تجاوزها لفرنسا في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كانت فنلندا (٥٣٫٣ في المائة)، والدنمارك (٥٠٫٨ في المائة)، والسويد (٤٩٫٨ في المائة)، والنرويج (٤٨٫٨ في المائة) قريبة من قمة المقارنات الدولية. إن حقيقة أن مستوى الإنفاق هو خيار سياسي لا تعني، بالطبع، أنه لا يخلف أي آثار اقتصادية.
ظاهرة التزاحم
«لا يوجد ما يسمَّى بدعوة غداء مجانية» هذا هو شعار الكتاب، كما لا يوجد ما يسمَّى نفقات حكومية بدون تكلفة. فعندما ساوَر بيفان القلق بخصوص فاتورة علاج الأجنَّة في خدمات الصحة العامة، كان السبب هو إزالة آلية السوق. فلأول مرة لا توجد أسعار محددة — سواء في تكلفة زيارة الطبيب أو في تكلفة شراء الدواء — فيما يتعلق بالعناية بالصحة. هذا هو السبب في شيوع الترشيد وقد أصبح سمةً من سمات خدمات الصحة العامة منذ بداية العمل به، عندما كانت هذه الخدمات يجري تمويلها من الضرائب. فللنفقات الحكومية فوائد عديدة. تستطيع الحكومات عن طريق الضرائب توظيف المال في استخدامات مرغوب فيها اجتماعيًّا. ومن الممكن أن تقوم الحكومة بالإنفاق للحفاظ على استمرارية النظام الاقتصادي في الأوقات العصيبة (المزيد من التفاصيل لاحقًا) أو المساعدة في المناطق المنكوبة. ومع ذلك فهناك تكاليف أيضًا، ومن العوامل التي تمكنك من التفكير في هذا الأمر ظاهرة التزاحم.
ما هي ظاهرة التزاحم؟ في بداية الكتاب اخترنا أكثر التعريفات شيوعًا في علم الاقتصاد؛ فهو العلم الذي يتحدث عن توزيع الموارد النادرة. هذا التعريف مفيد في موضوع النفقات الحكومية، لأمرَين.
أما الأمر الأول فهو أن الأسواق تحقق هذا التوزيع عن طريق الأسعار. فالمنتجات التي يقلُّ المعروض منها، سيرتفع سعرها، مما سيحدُّ من الطلب عليها، ويشجع الناس على التحول للمنتجات الأرخص والأوفر. فالخدمات العامَّة «المجانية» مثل الرعاية الصحية يكون لها بالغ الأثر في ظل غياب أية آلية من آليات التسعير. ونتيجة لذلك، يمكن أن يصبح الطلب غير محدود. لذلك يصبح الترشيد في الخدمات العامة، سواء الرعاية الصحية أو الخدمات الأخرى، أمرًا مهمًّا.
والأمر الثاني الذي يكون فيه مفهوم توزيع الموارد مفيدًا، هو التفكير في الطريقة التي يوزع بها النظام الاقتصادي الموارد بين القطاعَين العام والخاص. فمثلًا لا يستطيع خبير تكنولوجيا معلومات يعمل دوامًا كاملًا في هيئة الإيرادات والجمارك البريطانية أن يحصل على وظيفة في القطاع الخاص. كما لا يمكنه استخدام الوظيفة التي يعمل بها لأغراض تجارية. والجنيه الذي يُدفع كضريبة ويستخدم لتمويل خدمات الصحة العامة لا يمكن أن ينفقه الفرد أيضًا على شيء آخر. فقد صُرِف فعلًا. فالحكومة عند تنفيذ الخدمات العامة تجازف بجزءٍ من أحقيتها في موارد النظام الاقتصادي، سواء كان هذا الجزء يتمثَّل في أفراد أو ممتلكات أو معدات أو أموال تُدفع مقابل كل هذه الخدمات. يحدث تزاحم «الموارد» عندما تمثل حقوق الحكومة ضررًا للقطاع الخاص. متى قد يحدث ذلك؟ نفترض وجود عدد محدود من خبراء تكنولوجيا المعلومات، ولا يستطيع القطاع الخاص الحصول على مجموعةٍ مدرَّبة منهم؛ لأن الحكومة تقوم بتعيين معظمهم. أو أن تقوم الوزارات في الحكومة البريطانية بشَغْل أفضل أماكن المكاتب في وسط لندن. وعمومًا ينشأ تزاحم الموارد عندما يجري استغلال الموارد بأكملها، كما هي الحال عندما يقوم النظام الاقتصادي بتشغيل جميع العمالة، ولا وجود للبطالة.
يوجد نوع آخر من التزاحم. ماذا يحدث عندما تزيد الحكومة من النفقات بمعدلٍ أسرع من تدفُّق إيرادات الضرائب؟ يتوجَّب على الحكومة الاقتراض، للتغلب على عجز الموازنة. وعادةً ما تقترض الحكومات من مواطنيها ومن المؤسسات المالية، على شكل مدخرات قومية أو عن طريق إصدار سندات حكومية (تسمى سندات مضمونة في المملكة المتحدة؛ لأن هذه السندات مضمونة القيمة بالذهب). إن اقتراض الحكومات أمر طبيعي تمامًا. ولكن تحدث المشكلة عندما تحاول الحكومات الاقتراض بكميات كبيرة. في المقام الأول يرى الناس أن هذا هو التزاحم المادي، فإذا كانت كمية المعروض من الأموال محدودة، وزاد الاقتراض الحكومي للإنفاق على أهدافها الخاصة، قلَّت نسبة الأموال المتاحة للشركات لزيادة مواردها؛ لكي تقوم بتمويل استثمار أكثر إنتاجية. في هذه الأيام التي تتَّسم بالتدفُّق العالمي الحر لرأس المال بين مختلف الدول، من الخطأ التفكير في مجمع نقود واحد يتحدد في نطاق ضيق، ويوجد في دولة واحدة فقط. فالمستثمرون العالميون يشترون السندات التي تصدرها حكومات الدول الأخرى. فقد سمحت المؤسسات المالية اليابانية — بإرادتها — لأمريكا بتولي مسئولية عجز موازنة كبير منذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وذلك بشراء سندات حكومية في الولايات المتحدة، التي يطلق عليها سندات الخزانة. ولقد تولَّت المؤسسات الصينية والهيئات الرسمية هذا الدور في وقتٍ لاحق. ففي عام ٢٠٠٨، أصبحت الصين أكبر حامل أجنبي لسندات الحكومة الأمريكية. ولكن الحيازات عبر الحدود من الديون الحكومية لا تغير المقترح الجوهري. وقد تكون الإزاحة التي تحدث أكثر دقة، ولكنها أيضًا أكثر خطورة. فالحكومات التي تقترض بكثافة سوف تنظر إليها الأسواق المالية بعين الريبة، والتي عادة ما تتطلَّب معدل فائدة أعلى في مقابل توفير الأموال. وعادة ما يكون تأثير الاقتراض الحكومي الكثيف هو رفع أسعار الفائدة لجميع المقترضين، وهو ما يؤدي إلى إزاحة بعضهم. ومن الغريب أنه مع انحسار الأزمة المالية العالمية، انخفضت أسعار الفائدة على سندات الحكومة البريطانية والأمريكية إلى مستويات منخفضة للغاية، على الرغم من الاقتراض الكثيف. وكان أحد أسباب ذلك أن المستثمرين اعتبروها أصول «ملاذ آمن»، في وقت من عدم اليقين. وقد انخفضت أسعار الفائدة هذه، أو «عائدات» السندات الحكومية، إلى مستويات أدنى خلال جائحة كورونا.
وهذا أحد الأسباب التي جعلت اليورو، عندما تأسَّس في عام ١٩٩٩، يعمل بمقتضى ميثاق «الاستقرار والنمو»، الذي بموجبه يُطلب من الحكومات الأعضاء تقييد عجز ميزانياتها إلى ٣٪ من إجمالي الناتج المحلي أو أقل، أو مواجهة عقوبات. وكان الخوف وراء ذلك هو أن الاقتراض المفرط من جانب دولة عضو واحدة، قد يخلف تأثيرًا ضارًّا في جميع أنحاء منطقة اليورو. ولكن هذا لم ينجح. فقدَ ميثاق الاستقرار والنمو مصداقيته عندما تجاهلته كلٌّ من فرنسا وألمانيا. ودفعت كلٌّ منهما ثمن عدم التعامل معه بجدية أكبر. فقد أدَّت الأزمة المالية العالمية إلى زيادات كبيرة في عجز ميزانية منطقة اليورو، ولكن بشكل خاص تلك التي أصبحت تُعرف بالاقتصادات الطرفية. لقد استسلمت منطقة اليورو للعدوى المالية في مايو ٢٠١٠، عندما اضطرَّت اليونان إلى طلب المساعدة من مجموعةٍ من حكومات منطقة اليورو الأخرى وصندوق النقد الدولي، ثم تلتها أيرلندا والبرتغال في الأشهر اللاحقة. وكان فشل الحكومات في السيطرة على اقتراضها سببًا في تهديد النظام بأكمله أثناء أزمة منطقة اليورو، والتي بلغت أشدَّ مراحلها حدَّة في عامَي ٢٠١١ و٢٠١٢.
مضاعفة النفقات الحكومية
قبل الانتقال لموضوع الضرائب، و«قرار الموازنة»، لا بد من التركيز سريعًا على إحدى النقاط المهمة. وسيقوم ضيفنا التالي جون مينارد كينز بتوضيح المزيد عن هذا الأمر، ولكن قبل ذلك لا بد من شرح تأثير الإنفاق الحكومي بدقة. فالجنيه الذي تنفقه الحكومة لا يمكن أن يستخدمه الفرد العادي لشراء كتاب أو بقالة، ومع ذلك يمكن استخدام جزء منه لشراء مثل هذه السلع. ما معنى ذلك؟ حوالي ٧٠٪ من نفقات الخدمات الصحية تؤثر على الأجور والرواتب بالزيادة. فترفع من دخل موظفي القطاع العام، وبالطبع يُستخدم جزءٌ منه في شراء الكتب والبقالة. كذلك فإن جزءًا من النفقات العامة، لا يدخل في رواتب الموظفين، سوف يُستخدم لدفع قيمة المؤن والخدمات التي بدورها ستمثِّل دخلًا لأحد الأشخاص. من هنا فإن الزيادة المبدئية في النفقات الحكومية ستتدفق في النظام الاقتصادي لفترة ما. وكما يحدث عندما تقوم بإلقاء حصاة داخل حمام سباحة، فإن تأثيرها لا يتوقف عند حد الرذاذ المتطاير في البداية. كذلك الجنيه الذي تنفقه الحكومة لا يترتب عليه إنفاق جنيه واحد فقط، ولكن يترتب عليه إنفاق جنيه آخر في المراحل التالية. وبعض الدخل المدفوع مقابل الخدمات الصحية سيجري تحصيله عن طريق الضرائب، وبعضٌ منه سينفق على الواردات والبعض الآخر سيُدخر. ولكن المضاعف فكرة مفيدة، بل وحيوية. وفي بعض الأحيان يستخدم لتبرير الإنفاق الحكومي الإضافي بدلًا من التخفيضات الضريبية، على أساس أن خفض الضرائب على الأفراد سوف يكون عرضة لتسريبات ضخمة؛ لأن نحو ثلاثة أرباع السيارات المبيعة في بريطانيا، على سبيل المثال، مستوردة. والواقع أن الإنفاق الحكومي، كما اعتاد الأمريكيون أن يقولوا (وما زال بعضهم يقول ذلك)، قد يحمل في مثل هذه الظروف «مردودًا أكبر مقابل المال»، وهو ما يحدث عادة.
ومنذ ذلك الحين، استخدم مكتب مسئولية الموازنة، وهو هيئة الرقابة المالية في المملكة المتحدة التي تأسَّست في عام ٢٠١٠، مجموعةً مماثلةً من المضاعِفات المالية. وكان أكبر المضاعفات يتعلق بالإنفاق الحكومي. إذا أرادت الحكومة تشديد السياسة المالية — أي خفض العجز في الموازنة — بنسبة ١٪ من إجمالي الناتج المحلي، فإن القيام بذلك عن طريق خفض الإنفاق الاستثماري من جانب الحكومة من شأنه أن يخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة ١٪، وخفض الإنفاق على الخدمات الحكومية (الإنفاق اليومي) بنسبة ٠٫٦٪، وزيادة الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة القيمة المضافة بنسبة ٠٫٣٥٪، وزيادة ضريبة الدخل بنسبة ٠٫٣٪. وفي الوضع المعاكس للسياسة المالية التوسعية، فإن أكبر التأثيرات الإيجابية على إجمالي الناتج المحلي سوف تأتي من خلال توسيع الإنفاق العام، وخاصة الإنفاق الرأسمالي. وفي عام ٢٠١٠، أشارت تقديرات مكتب الموازنة في الكونجرس الأمريكي، إلى مضاعِفات مالية تتراوح من ٠٫٢ لخفض الضرائب على الأفراد ذوي الدخل المرتفع — خفض ضريبي بقيمة مليار دولار من شأنه أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي بنحو ٠٫٢ مليار دولار — إلى ما يصل إلى ٢٫٥ لأنواع معينة من الإنفاق الحكومي؛ بحيث يمكن لإنفاق مليار دولار إضافي أن يعزز إجمالي الناتج المحلي بنحو ٢٫٥ مليار دولار.
خلال جائحة كوفيد في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، عندما شرعت الحكومات في تدابير دعم اقتصادي استثنائية، أصبحَت تقديرات المضاعِفات المالية أكثر صعوبة. وفي حالة الطوارئ الصحية أيضًا، يمكن توقُّع أن يكون لبعض أنواع الإنفاق — على سبيل المثال، برنامج اختبار أو تطعيم ناجح — تأثير أكبر من المعتاد من خلال تسريع عودة الاقتصاد إلى طبيعته. قدم مكتب مسئولية الموازنة في عام ٢٠٢٠ ثلاثة أسباب لتوقع أن تكون المضاعِفات المالية أكبر من المعتاد. وهذه الأسباب هي أولًا: حقيقة أن أسعار الفائدة الرسمية كانت قريبةً من «حدِّها الأدنى»، بعبارةٍ أخرى لا يمكن خَفْضها أكثر من ذلك بكثير؛ لذلك يمكن استبعاد أي خوف من أن التوسع المالي يحافظ على ارتفاع أسعار الفائدة؛ وثانيًا: مع ضعف الاستثمار في القطاع الخاص بشكل كبير، كان هناك خطر ضئيل من أن يحل القطاع العام محلَّه؛ وثالثًا: بعد الركود الكبير، الذي يخلق طاقةً فائضةً في الاقتصاد، كانت مخاطر الإنفاق العام الذي يؤدي إلى ارتفاع التضخم منخفضة. ومع ذلك، قدم مكتب مسئولية الموازنة أيضًا أسبابًا قد تجعل المضاعِفات أقل من المعتاد. كانت هذه الأسباب هي أن القيود الصحية العامة والتباعد الاجتماعي يمكن أن تحدَّ من الدفع الاقتصادي للتحفيز المالي، وأن الأسر قد تشعر بالقلق بشأن البطالة في المستقبل؛ ومن ثَم يحدُّ ذلك من استجابتها الإنفاقية، على سبيل المثال، لخفض الضرائب، وأن بعض الإنفاق العام (مثل الإنفاق على معدات الحماية الشخصية) كان يحتوي على نسبة استيراد عالية جدًّا؛ ومن ثَم فإن العديد من الفوائد الاقتصادية لمثل هذا الإنفاق ستتسرَّب إلى خارج المملكة المتحدة. وقال مكتب مسئولية الموازنة إن تقدير كيفية توازن هاتَين المجموعتَين من التأثيرات كان تحديًا كبيرًا. في أمريكا، لاحظ مكتب الميزانية بالكونجرس، في تقييمِه للتأثير الكبير للتشريعات المتعلِّقة بالجائحة على الاقتصاد، أن مضاعِفات الإنفاق الحكومي تميل إلى أن تكون أكبر خلال فترات الركود مقارنةً بفترات التوسُّع.
التقشُّف؛ شرٌّ ضروري، أم مجرد فكرة سيئة؟
خلال الأزمة المالية العالمية في عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، قرَّرت أغلب الحكومات الغربية، بدعمٍ من صندوق النقد الدولي، تعزيز اقتصاداتها في الأمد القريب وترك مهمة إصلاح المالية العامة إلى وقت لاحق. وأصبحت المملكة المتحدة، أكثر من أي دولة أخرى، مرتبطة بتجربة حول هذا الأخير، والوصف الذي سيظل مرتبطًا دائمًا بإصلاح الماليات العامة: التقشف. لقد قدَّمت حكومة حزب العمال بقيادة جوردون براون الدعم للاقتصاد أثناء الأزمة، ولكنها فقدَت السلطة في مايو ٢٠١٠. وتعهدت حكومة الائتلاف المحافظ-الديمقراطي الليبرالي القادمة، مع ديفيد كاميرون كرئيس للوزراء وجورج أوزبورن كوزير للخزانة، بالتعامل مع «أزمة الديون»، والتي كانت «الإرث الرهيب الذي يتركه جوردون براون لبلدنا». لم يمنح الناخبون هذه المنصة موافقة ساحقة؛ فقد فشل المحافظون في الفوز بأغلبية صريحة، لكنهم اعتبروا ذلك تفويضًا لهم.
ماذا حدث؟ في عام ٢٠١٩، قدم معهد الدراسات المالية في مذكرة إحاطية، بعنوان «عائدات الضرائب، والإنفاق على إعانات الضمان الاجتماعي والخدمات العامة منذ الأزمة»، تقييمًا. وقد أشار التقرير إلى أن التعافي الاقتصادي منذ الأزمة المالية كان «ضعيفًا بشكل غير عادي»، وخاصة عند قياسه بنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وأن المملكة المتحدة شهدت أبطأ تعافٍ لها على الإطلاق بعد الركود. وأشار التقرير إلى أن التوقُّعات الرسمية في ذلك الوقت أشارت إلى أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في عام ٢٠٢٣، سيكون أقلَّ بنسبة ٢٤ في المائة مما كان عليه لو استمرت اتجاهات ما قبل الأزمة. وبعد هذا التقييم، تجدر الإشارة إلى أن جائحة كورونا وجهت ضربة أخرى لنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يُعزى كل هذا التعافي الأبطأ إلى تأثير التقشُّف. فقد كان هناك نمط من النمو الأبطأ بعد الأزمة في معظم الاقتصادات المتقدمة، التي تبنَّى بعضها استجابة مختلفة للسياسة المالية. كما ألحقت الأزمة الضرر بالنظام المصرفي، مما أدى إلى إبطاء التعافي.
ومع ذلك، كان لبرنامج التقشف بعد عام ٢٠١٠ تأثير كبير. وأشار معهد الدراسات المالية إلى أنه حتى مع نهاية التقشف التي أعلنتها حكومة تيريزا ماي المحافظة، التي تولَّت منصبها بعد استفتاء الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٦، فإن الإنفاق اليومي على الخدمات العامة سيكون أقل بنسبة ٣ في المائة، بالقيمة الحقيقية في عام ٢٠٢٠-٢٠٢١ مقارنة بعام ٢٠١٠-٢٠١١، وهو ما يعادل خفضًا حقيقيًّا بنسبة ٩ في المائة للفرد. وبسبب حصر إنفاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية في التخفيضات، كان هناك تأثير كبير على الإنفاق الآخر، الذي شهد خفضًا بنسبة ١٦ في المائة بالقيمة الحقيقية، أو ٢١ في المائة للفرد. وسجل معهد الدراسات المالية أيضًا حقيقة مفادها أن سياسات الحكومة الائتلافية تعني أن إنفاق الضمان الاجتماعي في ٢٠١٩-٢٠٢٠، كان أقلَّ بمقدار ٣٩ مليار جنيه إسترليني مما كان سيصير عليه في حالة عدم تغيير السياسات. وقد حدث هذا على الرغم من مزايا التقاعد الأكثر سخاءً، مما يدل على أن عبء التخفيضات كان على السكان في سن العمل. كما زادت الحكومة الائتلافية الضرائب، وأبرزها زيادة ضريبة القيمة المضافة من ١٧٫٥ إلى ٢٠ في المائة، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام ٢٠١١. وقال معهد الدراسات المالية إن هذا يعني أن عائدات الضرائب كانت عند أعلى مستوياتها المستدامة كنسبةٍ من إجمالي الناتج المحلي، منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين؛ لأن «التخفيضات الضريبية الكبيرة تم تعويضُها بحزمة أكبر من الزيادات الضريبية».
وقد حققت السياسة هدفها، حيث خفضت الاقتراض الحكومي، عجز الميزانية، إلى أقل من ٢ في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول ٢٠١٨-٢٠١٩، وهو ما كان أقل من المستويات التي كانت قبل الأزمة المالية. كما حققت فائضًا في الميزانية «الحالية»، حيث تجاوزت إيرادات الحكومة الإنفاق اليومي، للمرة الأولى منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كما أدَّى برنامج التقشف إلى واحدةٍ من أكبر المناقشات الحديثة حول السياسة بين خبراء الاقتصاد. تبنَّت الحكومة التقشف لأنها أرادت الحفاظ على تصنيف الديون السيادية (الثلاثية) للمملكة المتحدة، وتجنُّب رد فعل عنيف في الأسواق المالية. في أوائل عام ٢٠١٠، حذر مدير صندوق عالمي بارز من أن المملكة المتحدة «تجلس على سرير من النيتروجلسرين»؛ بسبب ارتفاع العجز في الميزانية إلى ما يقرب من ١٠ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، واعتماد الاقتصاد على الخدمات المالية. كان الخوف هو أن تكافح الحكومة للاقتراض في الأسواق المالية، أو أن تكون قادرةً على القيام بذلك فقط بتكلفةٍ باهظة.
وقد عارض العديد من خبراء الاقتصاد هذا، بحجة أن الحكومة كانت تخفض الإنفاق لأسباب أيديولوجية بقدر ما كانت عوامل اقتصادية. لقد جادلوا حول ما إذا كانت الأسواق المالية من المرجَّح أن تعاقب المملكة المتحدة بتكاليف اقتراض أعلى، وكانت رافضة لوكالات التصنيف، التي اشتهرت بأداء سيئ في الفترة التي سبقت الأزمة المالية، من خلال منح تصنيفات عالية للأدوات المالية، والتي تبين أنها محفوفة بالمخاطر. كما جادل خبراء الاقتصاد في توقيت التقشف، الذي قالوا إنه سيقتل التعافي قبل أن يصبح راسخًا بشكل صحيح، وإنه كان واضحًا أن برنامج خفض العجز سوف يركز بشكل مفرط على خفض الإنفاق العام بدلًا من زيادة الضرائب. واستمر النقاش، وإن كان البعض قد يقول إنه تم حلُّه لصالح المنتقدين عندما تعهدت حكومة المملكة المتحدة، في مواجهة عجز أكبر بكثير في الميزانية أثناء جائحة كوفيد، بعدم العودة إلى التقشف، وإن كان هذا لم يمنعها من اتخاذ إجراءات، وخاصة من خلال زيادة الضرائب، للحد من الاقتراض الحكومي في وقت لاحق. ويبدو أن الدروس قد تم تعلُّمها. فالأسواق المالية لم تكن مخيفة على الإطلاق.
النظرية النقدية الحديثة؛ بديل حقيقي أم وهم؟
كان بعض الأشخاص الذين هاجموا التقشُّف في أعقاب الأزمة المالية قلقين بشأن توقيت التقشف المالي. واعتقد آخرون أنه لم تكن هناك قطُّ حاجةٌ للتقشف على الإطلاق، تحت أي ظرف من الظروف، وكان بعضهم من أتباع النظرية النقدية الحديثة. لقد دخلت نظرية النقد الحديثة حيز النقاش في وقت جائحة كوفيد، ومسألة كيفية تعامل الحكومات مع الديون الناتجة عن استجاباتها لها. قد تتساءل لماذا يظهر شيء موصوف بأنه «نظرية نقدية» في فصل عن السياسة المالية. إحدى الإجابات عن هذا السؤال قدمها آندي هالدين، كبير خبراء الاقتصاد في بنك إنجلترا في عام ٢٠٢١، الذي قال مازحًا: «إنها ليست حديثة، وليست نقدية، وليست نظرية حقًّا.» تكتب ستيفاني كيلتون، التي يقدم كتابها «أسطورة العجز» أوضح تفسير لنظرية النقد الحديث، تقول: «نظرية النقد الحديث تتطلَّب منا خفض رتبة السياسة النقدية ورفع مستوى السياسة المالية، كأداةٍ أساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي.»
إن الفكرة المركزية لنظرية النقد الحديث بسيطة. فهي تميز بين مصدري العملة ومستخدميها. إن مصدر العملة الوحيد في أمريكا هو وزارة الخزانة الأمريكية، وبنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يعمل كوكيل لها. وكل شخص آخر هو مستخدمٌ للعملة. في بريطانيا، مصدر العملة هو حكومة المملكة المتحدة، عبر بنك إنجلترا. وبصفتها مصدرًا للعملة، تتمتَّع الحكومة بالقدرة على طباعة أكبر قدر ممكن تحتاجه من المال. والعجز في الميزانية في حد ذاته ليس قيدًا، ولا الدين الحكومي أيضًا. في عالم النظرية النقدية الحديثة، تستطيع الحكومة أن تطبع ما يكفي من النقود لتغطية عجزٍ من أي حجم، وفي الحالات القصوى أن تسدِّد كل الديون المتراكمة في الماضي. والاختباران الوحيدان لتحديد ما إذا كان عجز الموازنة كبيرًا أو صغيرًا للغاية هما التضخم والبطالة. فإذا كان التضخم منخفضًا، فلا يمكن أن يكون عجز الموازنة مرتفعًا للغاية، وإذا كانت هناك بطالة، فلا بد أن يكون عجز الموازنة منخفضًا للغاية.
وإذا كان من الممكن تمويل العجز وإدارته دون تكلفة، من خلال الوسيلة البسيطة المتمثلة في إصدار العملة، فلماذا تحتاج الحكومات إلى زيادة الضرائب؟ إن تفسير أتباع النظرية النقدية الحديثة، بأن الضرائب ضرورية للسيطرة على التضخم، محير بعض الشيء؛ لأنه يعني أن العجز ليس أسطورةً على الإطلاق، بل إن كلًّا من الإنفاق الحكومي غير المقيد، والعجز الكبير المستمر، من شأنه أن يؤدي إلى التضخم. وليس هذا فحسب، بل إنه يعني كذلك أن الضرائب سوف تحتاج إلى تعديل منتظم للسيطرة على التضخم. وهذا لا يختلف كثيرًا عما كان يُعرف ﺑ «الضبط المالي» في الخمسينيات والستينيات، قبل أن يفقد سمعته عندما دخل العالم حقبة التضخُّم. وهناك تفسيرات أخرى للضرائب في نظرية النقد الحديث. وتفسير آخر هو أن الناس يحتاجون على ما يبدو إلى العمل لتلبية التزاماتهم الضريبية. وإذا لم يكن عليهم دفع الضرائب، فلن يحتاجوا إلى العمل. ويبدو من المرجح، في العالم الحقيقي، أنهم يعملون لتلبية رغباتهم. وهناك سبب آخر في نظرية النقد الحديث لفرض الضرائب لإعادة توزيع الثروة والدخل؛ غير مقنع أيضًا. يمكنك إعادة توزيع الثروة والدخل في إطار النظام الضريبي دون زيادة أي إيرادات صافية، من خلال أَخْذها من الأغنياء وإعطائها للفقراء في شكل ائتمانات ضريبية.
الواقع أن الضرائب موجودةٌ في العالم الحقيقي من أجل جمع الإيرادات. والاقتراض من قِبَل الحكومات موجود بوضوح كذلك. والتفسير الذي تقدِّمه نظرية النقد الحديث هو أن هذا ليس لجمع الأموال؛ لأن الحكومات لا تحتاج إلى ذلك، بل «لتقديم نوع مختلف من أموال الحكومة للناس، نوع يدفع القليل من الفائدة». وفي الماضي، دفعت حكومات كثيرة، بما في ذلك الحكومات البريطانية والأمريكية، قدرًا كبيرًا من الفائدة لتمويل اقتراضها، وكانت تكافح في بعض الأحيان للقيام بذلك. ولهذه الأسباب وغيرها، رفض العديد من كبار خبراء الاقتصاد نظرية النقد الحديث. وكتب كينيث روجوف، كبير خبراء الاقتصاد السابق في صندوق النقد الدولي، مقالًا تحت عنوان «هراء نقدي حديث»، واصفًا فكرتها الرئيسية بأنها «مجرد جنون». ووصف بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل والناقد للتقشف، محاولة المناقشة مع أنصار نظرية النقد الحديث بأنها أشبه بلعبة كالفن بول، وهي لعبة يضع فيها اللاعبون القواعد أثناء اللعب. لقد هاجم لاري سامرز، الخبير الاقتصادي البارز ووزير الخزانة الأمريكي السابق، «الادعاءات السخيفة» التي أطلقها «الاقتصاديون الهامشيون الذين يروِّجون لها باعتبارها تقدم وجبة غداء مجانية: قدرة الحكومة على إنفاق المزيد من دون فرض أي عبء على أي شخص».
إن ألطف ما يمكن أن يقال عن نظرية النقد الحديث هو أنها تخلط بين موقف يمكن ملاحظته، وهو أن الحكومات قادرة على الإنفاق دون انتظار وصول عائدات الضرائب، وبين السببية. فالحكومات قادرة بالفعل على الإنفاق بهذه الطريقة، ولكنها تفعل ذلك وهي تعلم أن العائدات قادمة، وهي موضع ثقة في القيام بذلك على هذا الأساس. هذا لا يثبت، من بعيد، أن الحكومات باعتبارها جهات مصدرة للعملة قادرة على الإنفاق بحرية، ودون قيود، حتى ولو لم تكن العائدات الضريبية قادمة.
وقت الضرائب؛ الموازنة
من سمات الميزانيات السنوية — القوائم المالية — أنها تجتذب اهتمامًا كبيرًا على المستوى الوطني، ولكن ليس كثيرًا على المستوى الدولي. لا ندرس الميزانيات الفرنسية أو الألمانية؛ لأنها تعمل ضمن أنظمة ضريبية مختلفة واتفاقيات إنفاق عام مختلفة. وتجتذب الحزمة المالية الأمريكية الكبيرة الانتباه، كما فعلت التخفيضات الضريبية التي أقرها دونالد ترامب في عام ٢٠١٧، بما في ذلك التخفيضات الجريئة في ضريبة الشركات، بعد وقت قصير من توليه منصب الرئاسة. كما اجتذبت التخفيضات الجريئة في ضريبة الدخل، وخاصة بالنسبة إلى أصحاب الدخول المرتفعة، اهتمامًا دوليًّا عندما نفذتها حكومة تاتشر في بريطانيا في أواخر الثمانينيات. ولكن بشكل عام، تعتبر الميزانيات شئونًا وطنية.
كان يوم الميزانية في المملكة المتحدة وليمةً متنقلةً في السنوات الأخيرة. وفي بعض الأحيان كان هناك يومان في السنة، وفي عام واحد لم يكن هناك يومٌ على الإطلاق. في عام ٢٠١٠، كانت هناك ميزانيات مارس ويونيو، واحدة من وزير الخزانة العمالي المنتهية ولايته، أليستير دارلينج، والأخرى من خليفته المحافظ، جورج أوزبورن. كان لدى أوزبورن ميزانيات مارس في أعوام ٢٠١١ و٢٠١٢ و٢٠١٣ و٢٠١٤ و٢٠١٥، على الرغم من أنه في آخر هذه الأعوام تبعها بميزانية أخرى في يوليو، بعد الانتخابات العامَّة لعام ٢٠١٥. كانت هناك ميزانيات مارس في عامَي ٢٠١٦ و٢٠١٧، ولكن كانت هناك أيضًا ميزانيات في نوفمبر في عام ٢٠١٧، والتي قال وزير الخزانة الجديد، فيليب هاموند، إنها يجب أن تكون القاعدة، على الرغم من أنه في العام التالي عقد ميزانيته في أكتوبر. في عام ٢٠١٩، لم تكن هناك ميزانية على الإطلاق؛ بسبب الجدل السياسي الساخن حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانتخابات العامة. عقد ريشي سوناك، الذي أصبح وزيرًا للخزانة آنذاك، ميزانية في مارس ٢٠٢٠، بهدف العودة إلى الجدول الزمني لشهر نوفمبر في وقت لاحق من ذلك العام. ومع ذلك، فقد اضطرَّ إلى إلغائها نتيجة للجائحة، وقدم ميزانية أخرى في مارس ٢٠٢١. يعدُّ الخريف وقتًا معقولًا للميزانية، مما يسمح بالوقت للتكيف قبل بدء السنة الضريبية في أبريل التالي. كما أشير، تدخَّلت الأحداث في كثيرٍ من الأحيان.
يوم عرض الموازنة الذي يُعقد في مارس أو أبريل، هو أحد المناسبات العظيمة في التقويم السياسي البريطاني، وهو أيضًا الحدث الكبير في التقويم الاقتصادي في المملكة المتحدة. ويكون هذا اليوم في العديد من الدول يومًا واحدًا في العام، عندما يُلقي وزير المالية خطابه السنوي عن الموازنة في البرلمان. وفي الولايات المتحدة، وحيث تكون الموازنة ناتجًا لمفاوضات طويلة وغالبًا تكون غير منظمة بين البيت الأبيض والكونجرس، لا تكون العملية واضحة المعالم. ومع ذلك فإننا نؤكِّد مرة أخرى أن مبادئ الموازنة متشابهة في العالم كله.
يسبق يوم الموازنة أسابيع من التكهنات، حيث يصرَّح ببعضٍ منها ويجري تسريب البعض الآخر؛ عن قصد أو بدون. وقد استقال وزيرٌ واحد فقط؛ بسبب تسريب الموازنة، وهو هيو دالتون. ففي عام ١٩٤٧ سمح — دون قصد — بتسريب بعض محتويات الموازنة، لأحد المراسلين الصحفيين لصحيفة مسائية في لندن، وقد استطاع أن ينشر الخبر في الصحف وفي الشوارع، قبل أن يقوم دالتون بإلقاء خطابه في مجلس العموم. وفي عام ١٩٨٤ قام أحد موظفي الحكومة بتسريب جميع محتويات الموازنة لصحيفة «جارديان» البريطانية. وقد أجرت الشرطة تحقيقًا في هذا، ولكن لم يُقبض على المتهم؛ فلماذا الإصرار على السرية؟ السبب أن بعض المعلومات الموجودة في الموازنة ذات حساسية سوقية، ولأن المعرفة المسبقة لها ستسمح للناس باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال ما يجب اتباعه. كان التسريب الذي حدث عام ١٩٨٤ في الليلة التي سبقت إلقاء الخطاب حدثًا مهمًّا، ليس بسبب احتواء الموازنة على بعض التغييرات المهمة في ضريبة الشركات، ولكن أيضًا بسبب احتوائها على خبر حذف بند تخفيف الضرائب على وثائق التأمين على الحياة. وقد أحدث هذا التسريب تهافتًا على إلغاء هذا النوع من التأمين؛ ومن ثَم استفاد الأفراد من تخفيض الضرائب، وتكلَّفت الحكومة عشرات الملايين في فاقد الإيراد.
لقد تغيرت الميزانيات على مر السنين، وتوسع حجم الوثائق المصاحبة لها بشكل كبير بمرور الوقت. لقد استخدم الوزراء والمستشارون هذه الوثائق دائمًا لتحديث البرلمان بشأن حالة الاقتصاد والمالية العامة، والتوقعات. وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على ذلك في قانون الصناعة لعام ١٩٧٥، والذي يتطلَّب من وزارة الخزانة إصدار توقعات منشورة للاقتصاد سنويًّا. في عام ٢٠١٠، أعلن ائتلاف المحافظين والديمقراطيين الليبراليين عن الإصلاح الرئيسي المتمثِّل في تسليم دور التوقعات الاقتصادية والمالية، إلى مكتب المسئولية عن الميزانية الجديد والمستقل. وكان أحد أسباب ذلك هو إزالة الشكوك المبررة بأن توقعات الخزانة، رسميًّا «توقعات الوزير» كانت متأثرة سياسيًّا. وإلا، فإن الميزانية ستتضمَّن كلًّا من التغييرات الضريبية والإنفاق العام، على الرغم من أن الإنفاق العام من المفترض أن يكون من اختصاص مراجعات الإنفاق. ومع ذلك، فإن الغرض الرئيسي من الميزانية، كما كان دائمًا، هو ضبط الضرائب.
الضرائب وحكم الميزانية
في ميزانية السنة الضريبية ٢٠٢١-٢٠٢٢، التي أُعلن عنها في مارس ٢٠٢١، تم تحديد إيرادات حكومة المملكة المتحدة بإجمالي ٧٩٤ مليار جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير. كانت ضريبة الدخل، التي قدَّمها ويليام بيت الأصغر قبل ٢٠٠ عام، هي الضريبة الفردية الأكثر أهمية، حيث بلغت ١٩٨ مليار جنيه إسترليني. ولم تتأخَّر عنها كثيرًا مساهمات التأمين الوطني، بمبلغ ١٤٧ مليار جنيه إسترليني. تعدُّ ضريبة الدخل ومساهمات التأمين الوطني، التي يدفعها كلٌّ من أصحاب العمل والموظفين (والعاملين لحسابهم الخاص)، أمثلةً على الضرائب المباشرة. يتم فرضها وفقًا للدخل. على النقيض من ذلك، يمكن تجنُّب الضرائب غير المباشرة، عادةً من خلال عدم شراء السلع التي يتمُّ فرضها عليها. إذا كنت لا تدخن أو تشرب أو تقود، فسوف تفلت من الرسوم وضريبة القيمة المضافة على هذه الأنشطة. ضريبة القيمة المضافة، التي من المقرَّر أن تحقق ١٥١ مليار جنيه إسترليني في ٢٠٢١-٢٠٢٢، هي ثاني أكبر ضريبة. من الصعب تجنبها، ولكن ليس من المستحيل. الطعام والكتب والصحف وملابس الأطفال والأحذية كلها معفاة من ضريبة القيمة المضافة. الشخص الصغير الذي هوايته الوحيدة القراءة سيدفع ضريبة قيمة مضافة محدودة. هذه الضرائب الثلاث — ضريبة الدخل والتأمين الوطني وضريبة القيمة المضافة — شكلت معًا ٦٢ في المائة من الإيرادات الحكومية المتوقعة. تشكِّل الرسوم الجمركية على وقود الطرق والكحول والتبغ معًا رابع أكبر ضريبة، ٤٨ مليار جنيه إسترليني، تليها ضريبة الشركات (على أرباح الشركات) وضريبة المجلس (ضريبة الملكية المحلية)، وكلتاهما ٤٠ مليار جنيه إسترليني.
إن «حكم الميزانية» هو في أبسط صوره المبلغ الصافي الذي ينوي الوزير رفعه أو خفضه من الضرائب في العام المقبل. وفي الممارسة العملية، قد يصبح الأمر أكثر تعقيدًا بعض الشيء؛ لأن الوزراء يعلنون في كثيرٍ من الأحيان عن تغييراتٍ ضريبيةٍ مؤجلةٍ لن تسريَ إلا في السنوات المقبلة. ولكن المبدأ هو نفسه. ففي ظاهر الأمر، ترتفع بعض الضرائب كل عام. وقد اعتاد المدخنون والشاربون وسائقو السيارات على فكرة ارتفاع الرسوم؛ ومن ثَم الأسعار، بعد الميزانية. ولكن بعض الضرائب تنخفض أيضًا عادة. وسوف يجد معظمُ دافعي ضريبة الدخل، بعد شهرٍ أو نحو ذلك من الميزانية، انخفاضًا طفيفًا في مبلغ الضريبة التي يدفعونها. وهناك تفسير سهل لهذا، ولا علاقة له بحكم الميزانية. فمن المعتاد أن يتم رفع مخصصات ضريبة الدخل والرسوم كل عام بما يتماشى مع التضخم، وأن يتم «ربطها» بالمؤشرات. بل إن هذا الأمر أصبح أكثر تعقيدًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تبنَّت الحكومة السياسة المتعلقة ﺑ «المبالغة في فهرسة» بدلات ضريبة الدخل، وزيادتها بنسبة أكثر من التضخم.
هناك الكثير من المسرح السياسي المرتبط بالميزانيات، كما هو مذكور، وهو غالبًا ما يكون غير متناسبٍ تمامًا مع تأثيرها على الاقتصاد. ستؤدِّي الميزانية «الكبيرة» إلى زيادة الضرائب أو خفضها بمقدار ١٠ مليارات جنيه إسترليني، وهو ما يبدو كثيرًا، ولكنه لا يمثِّل سوى ٠٫٥ في المائة من اقتصاد بقيمة تريليوني جنيه إسترليني (حيث إن تريليون جنيه إسترليني يساوي ١٠٠٠ مليار جنيه إسترليني). في الفترة ٢٠١٠–٢٠١٩، وفقًا لقاعدة بيانات التدابير السياسية التابعة لمكتب مسئولية الموازنة للتدابير السياسية، لم يكن هناك سوى ميزانيتَين كبيرتَين لرفع الضرائب، ولم تستوفِ أيٌّ منهما اختبار ١٠ مليارات جنيه إسترليني، إلا بالاقتران مع تخفيضات الإنفاق العام. كانت الميزانيتان في يونيو ٢٠١٠ ويوليو ٢٠١٥. وأعقبت كلتاهما الانتخابات العامة مباشرةً، مما يخبرنا بشيء ما عن سياسة القرارات المالية. تميل الحكومات إلى خفض الضرائب قبل الانتخابات ورفعها بعدها.
وتوارت الميزانيات العادية عن الأضواء؛ إذ غطى عليها الدعم المالي الاستثنائي الذي قدمه وزير الخزانة المحافظ ريشي سوناك خلال جائحة كورونا في عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١. وقد تم الإعلان عن الكثير من هذا الدعم، الذي تقدِّره وزارة الخزانة بأكثر من ٣٥٠ مليار جنيه إسترليني على مدى السنوات المالية ٢٠٢٠-٢٠٢١ و٢٠٢١-٢٠٢٢، ليس في الميزانيات ولكن في سلسلة من التحديثات والبيانات والإعلانات المخصصة. في حالة الطوارئ، يُضرب بالتقليد المتعارف عليه عرض الحائط.
من دقَّة الضبط إلى غيابه ثم معاودة الكَرَّة
كان الدعم الذي تلقَّاه الاقتصاد أثناء جائحة كورونا، وبدرجة أقل أثناء الأزمة المالية العالمية قبل أكثر من عقدٍ من الزمان، ذا أهميةٍ كبيرة. فقد مثل هذا الدعم استخدام تدخُّل السياسة المالية على نطاقٍ واسعٍ في ظروفٍ لا يمكن فيها لأحد سوى الحكومة أن تتصرَّف. وجرت العادة أن السياسة المالية كانت تتسم بسقف متواضع من الطموح. منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وتحت تأثير أتباع كينز — الذي سينضم إلينا بعد قليل — كان الأمر الشائع هو القيام بإجراء «تعديل طفيف». لقد كان الاقتصاد يخضع لتقلبات دورية تحت رقابة شديدة، استمرَّت حوالي أربع سنوات. ولمدة عام أو اثنَين كانت الأمور راكدة، ثم انتعشت، واكتسبت زخمًا حتى وصلت إلى الحد الذي كان فيه الرخاء وشيكًا. تَنتج هذه التقلبات الدورية من التنوع في الطلب، فما هي إذن أفضل السبل لإدخال تغييرات بسيطة على الضرائب؟ في ظروف انكماش السوق، قد يُحفَّز الإنفاق عند زيادة كمية النقود التي في حوزة المستهلكين وأصحاب المشروعات عن طريق تخفيض الضرائب. وبهذه الطريقة تقلُّ شدة هذا الانكماش. لقد اعتاد السياسيون في هذه الأيام أمثال هارولد مكميلان، الذي كان وزيرًا للمالية ورئيسًا للوزراء (بعد ذلك)، الحديثَ عن «ضغطة بسيطة على دواسة البنزين». أما في فترات التحسُّن، عندما تدعو الحاجة بإلحاح إلى قيام المستهلكين والمشروعات بتقليل رغبتهم في الإنفاق، فستزيد الضرائب بمقدار بسيط، «لمسة على الكابح». لماذا؟ لأنه بدون ذلك سيستمرُّ النظام الاقتصادي في النمو بسرعة أكبر من معدله على المدى الطويل، وسيصل معدل البطالة لمستويات منخفضة، وتكون الضغوط على السعة الإنتاجية سببًا في زيادة التضخم. وهناك آلية رسمية لإجراء التعديلات الطفيفة، عن طريق «الهيئة التنظيمية» التي تعارفنا عليها في أوائل الستينيَّات من القرن العشرين، والتي سمحت لوزير المالية أن يقوم بتغيير معظم الضرائب غير المباشرة — ضريبة الشراء (التي كانت تسبق ضريبة القيمة المضافة)، وضرائب الاستهلاك على التبغ والكحول والبنزين — بحوالي ١٠٪ في كلا الاتجاهَين بين الموازنات.
في السنوات التي سبقَت الأزمة المالية العالمية، رغم أن الساسة تحدَّثوا غالبًا عن التغييرات الضريبية باعتبارها تأتي في الوقت المناسب، فإن الضبط الدقيق من خلال الضرائب أصبح غير مستخدم، واختفى بسبب الإدراك الواضح لعدم كفاءته. عادةً ما لا يمكن استحداث التغييرات الضريبية، وخاصَّة المباشرة منها، إلا ببطء ثم تستغرق وقتًا حتى تصل إلى رواتب الموظفين. ويرجع هذا جزئيًّا إلى أن الميزانيات نادرة، وعادةً ما تكون مرة واحدة فقط في السنة (الميزانيات الطارئة تشبه الذعر)، وقد تستغرق وقتًا حتى تمرَّ عبر العملية البرلمانية. قد يكون للتخفيض الضريبي الذي تم تقديمه أثناء فترة الركود تأثيرُه في فترة الازدهار اللاحقة، عندما يكون العكس مطلوبًا. كما اختفى الضبط الدقيق المالي بسبب دورات الازدهار والكساد في السبعينيات والثمانينيات. كانت هذه الحوافز المالية قصيرة الأجل في حاجة، حال توافرها، إلى ضبط دقيق أكثر من محرك جديد. فلماذا إذن عادت فكرة تقديم حافز مالي قصير الأجل في عامَي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، وهيمن على المناقشة الاقتصادية الكلية بعد ذلك، مع إعادة تشغيل أكبر خلال جائحة كورونا؟ كان أحد الأسباب هو شدة الأزمات والركود، وهو الأسوأ بالنسبة للاقتصاد العالمي في فترة ما بعد الحرب. وكان السبب الآخر هو أن السياسة النقدية، الطريقة المفضَّلة للسيطرة على الاقتصاد في الأمد القريب — أثبتت التجربة أنه من الأسهل والأكثر فعاليةً تغيير أسعار الفائدة بدلًا من معدلات الضرائب — كانت تنفد ذخيرتها. وبحلول نهاية شتاء ٢٠٠٨-٢٠٠٩، خفضت معظم البنوك المركزية في البُلدان المتقدمة أسعار الفائدة إلى الصِّفر، أو ما يقرب منه. وظلَّت أسعار الفائدة منخفضةً حتى اندلاع الجائحة بعد عشر سنوات، وكشفت الحكومة عن حافز مالي ضخم.
القواعد المالية
بدلًا من وجود التعديلات الطفيفة، تميل الحكومات الآن للعمل على أساس ما يطلق عليه القواعد المالية. ففي حالة الدول التي اتبعت العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، جاءت القواعد تحت ما يطلق عليه ميثاق الاستقرار والنمو. ويتطلَّب هذا الأمر أن تقوم الدول بعمل موازنة متوازنة — أي تتساوى النفقات والضرائب تقريبًا — وعدم السماح للعجز أن يزيد أكثر من ٣٪ من إجمالي الناتج المحلي في الظروف الأخرى. وقد اتبعت حكومة حزب العمال التي انتُخبَت عام ١٩٩٧ كلا القانونَين. أما القاعدة الأولى فهي القانون الذهبي، وقد جاء فيه أنه خلال الدورة الاقتصادية تستطيع الحكومة الاقتراض فقط من أجل الاستثمار — بناء مستشفيات جديدة ومدارس وطرق — وليس لتمويل النفقات الجارية مثل الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام. ويكون عجز الموازنة «الحالية» متوازنًا أو أفضل. أما القاعدة الثانية فهي ما يطلق عليه قانون الاستثمار الدائم، الذي يدعو لتثبيت دين الحكومة، الدين القومي، على مستوًى «ثابت ومتوازن» — وعمليًّا فهو يساوي أقل من ٤٠٪ من إجمالي الناتج القومي. ولقد تم الحفاظ على كلتا الميزانيتَين، وإن كان تحت ضغط متزايد، حتى السنة المالية ٢٠٠٧-٢٠٠٨، ولكن سرعان ما تم كسرهما وتعليقهما عندما اندلعت الأزمة. وارتفع العجز في الموازنة الحالية إلى ٧٫٢٪ من إجمالي الناتج المحلي في ٢٠٠٩-٢٠١٠، في حين بلغ إجمالي الاقتراض نحو ١٠٪ من إجمالي الناتج المحلي. وبحلول نهاية السنة المالية ٢٠٠٩-٢٠١٠، بلغ الدين الحكومي نحو تريليون جنيه إسترليني، أو ٦٣٪ من إجمالي الناتج المحلي.
ورغم أن القواعد المالية لحزب العمال أثبتت عدم فعاليتها في الأزمة، فإن الحكومة الائتلافية المنتخبة في عام ٢٠١٠ رفضت المزيد من الضبط المالي الدقيق وتبنَّت قواعدها الخاصة، التي سيتولى تقييمها مكتب مسئولية الموازنة. وكانت أولى قواعدها هي أن تكون الموازنة الحالية متوازنة بعد خمس سنوات. وكان الهدف هو تحقيق موازنة متوازنة، باستثناء الإنفاق الرأسمالي وتأثيرات الدورة الاقتصادية. كانت القاعدة الأخرى، الخاصة بفترة ولاية الائتلاف الأولى، هي أن ينخفض الدين الحكومي كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام ٢٠١٥-٢٠١٦. وكانت مهمة مكتب مسئولية الموازنة هي مراقبة احتمالية تحقيق هذه القواعد بانتظام. ومع ذلك، فقد تم تفويت الأهداف، وإن لم يكن ذلك كثيرًا.
كانت هناك مجموعةٌ مختلفة من القواعد المالية سارية، عندما واجهت المملكة المتحدة فيروس كورونا في عام ٢٠٢٠. كانت هذه القواعد هي أن الاقتراض المعدل للدورة الاقتصادية سيكون أقل من ٢ في المائة، من إجمالي الناتج المحلي في عام ٢٠٢٠-٢٠٢١، وأن ينخفض الدين الحكومي كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، أيضًا في عام ٢٠٢٠-٢٠٢١، وأن يكون الاقتراض الإجمالي صفرًا أو فائضًا بحلول عام ٢٠٢٥-٢٠٢٦، وأن يكون إنفاق الرعاية الاجتماعية أقلَّ من سقف محدد مسبقًا في عام ٢٠٢٤-٢٠٢٥. وخلص مكتب مسئولية الموازنة في مارس ٢٠٢١ إلى أن جميع القواعد إما تم تفويتها، أو من المقرر أن تكون كذلك، بفارق كبير. لقد تم تفجير القواعد بسبب الأزمة. وكان الدرس المستفاد هو أن القواعد المالية يمكن أن تكون مفيدةً في تقييد السياسيين في الأوقات العادية، ولكنها ليست ذات فائدةٍ كبيرة أثناء الأزمات.
الضرائب والسلوك
يُعد الغرض من فرض الضرائب في أساسه، هو زيادة الأموال التي تحتاجها الحكومة لتمويل نفقاتها، إلا أن تأثير الضرائب يفوق ذلك الحد. لقد أوضح آدم سميث «المبادئ» الأربعة في فرض الضرائب: يجب أن ترتكز على القدرة على الدفع، ويجب أن تكون «مؤكدة»، ويجب أن يعرف دافعو الضرائب مقدار ما يدفعونه ومتى سيدفعونه، ويجب أن تكون مناسبة لمن يدفعها، وأن تكون غير مكلفة نسبيًّا عند جمعها، وتتناسب مع الدخل المتحصل عليه، وأن تكون «اقتصادية». تعتبر القدرة على الدفع الشيء الذي تمتاز به المناقشات المعاصرة عن الضرائب بدرجةٍ واضحة. توجد نظم ضريبة الدخل «التصاعدية» في غالبية الدول، وفي هذه النظم، يدفع من يحصلون على المزيد من الأموال، معدلات حدِّية عالية (معدل الضريبة على آخر جنيه من الدخل)؛ ومن ثَم زيادة نسبة الضريبة على ما يربحونه.
كل أنواع الضرائب يحدث لها تشويه. فالكثير منا قد رأى أن بعض نوافذ المنازل القديمة في بريطانيا قد أُغلقت، وهذا ما ورثناه عن قانون ضريبة النوافذ الشهير، الذي قُدِّم عام ١٦٩٦ وأُلغيَ عام ١٨٥١، وفي ظلِّه خضعت المباني التي يكون عدد النوافذ فيها عشرًا أو أكثر لضرائب إضافية. وفي عام ١٩٩٠ أدَّت ضريبة الاقتراع أو الرسوم المجتمعية، التي فُرضت على شكل ضرائب حكومية محلية (وكانت تُعتبر العامل الأساسي وراء سقوط مارجريت تاتشر)، إلى قيام العديد من الشباب بحذف أسمائهم من السجل الانتخابي؛ ومن ثَم حرموا أنفسهم من فرصة التصويت، بدلًا من دفع الضريبة.
تعتمد الطريقة الدقيقة التي تشوه بها ضريبة الدخل على الظروف؛ فزيادة معدلات الضرائب قد تجعل الناس إما يعملون أكثر للحفاظ على دخلهم السابق على الضريبة، أو يعملون أقل لأن الحافز لكسب المزيد قد انخفض. والضرائب على العمالة، مثل مساهمات أصحاب العمل في التأمين الوطني، سوف تميل، من خلال رفع تكلفة كل عامل، إلى تقليل العمالة. والضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة أو الرسوم الجمركية على الكحول والتبغ والبنزين، سوف تعمل، مع تساوي كل الأشياء الأخرى، على تقليل الاستهلاك حسب الأسعار. وسيعتمد المدى الذي تزيد به التغييرات في مثل هذه الضرائب أو تقلل من الاستهلاك، على ما يحدث للدخل وما إذا كان الطلب على المنتج «مرنًا» (يستجيب بشدة لتغيرات الأسعار) أو غير مرن. ومن غير المرجح أن يكون للفهرسة، مجرد زيادة الرسوم الجمركية بما يتماشى مع التضخم، تأثير كبير على الاستهلاك. في الواقع، إذا كانت الأرباح ترتفع بسرعة أكبر من الأسعار، فإن الفهرسة ستجعل المنتج أرخص نسبة إلى الدخل. لنفترض أن الأرباح ترتفع بنسبة ٥٪ سنويًّا والتضخم ٢٫٥٪. إن زيادة الرسوم بنسبة ٢٫٥٪ من شأنها أن تجعلها أرخص نسبة إلى الأرباح. يجب أن ترتفع بنسبة ٥٪ على الأقل. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الرسوم الجمركية على السلع التي تعتبر ضارَّة بالصحة أو البيئة — التبغ والكحول والبنزين — غالبًا ما تكون «مفرطة الفهرسة»، وترتفع بنسبة أكبر من معدل التضخم.
لافر والمستوى الصحيح للضرائب
وفي ظل حكومة مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في أمريكا، وفي ظل ثورة اقتصاديات العرض في الثمانينيات من القرن العشرين، كان هناك رفضٌ متعمَّد لفكرة التعديل الطفيف في الضريبة. والجزء المهم في هذه الثورة هو الاعتقاد القوي أن الضرائب المرتفعة عمومًا، والمرتفعة على الدخل بالتحديد تتشوه. كما حدث نقاش حول فرض الضرائب على مكافآت النجاح بطريقةٍ مبالغ فيها، مما سيؤدي لاختفاء الحافز الذي يجعل الأفراد يتحملون المخاطر الضرورية من أجل تحقيق النجاح. فالمعدلات العالية من الضرائب على مديري الشركات ستكبت محاولات المغامرة. يعني ذلك أن القدرة على دفع الضرائب تكون لها حدودها قبل أن تبدأ الأضرار في الظهور. بالإضافة إلى ذلك إذا كانت معدلات الضرائب عالية جدًّا، فإن تأثيرها سيكون «خفض» مقدار الإيراد الذي تحصل عليه الحكومة.
في أواخر السبعينيات من القرن العشرين وأثناء تناولِ آرثر لافر — أستاذ علم الاقتصاد الذي تولَّى عدَّة مناصب في جامعتَي شيكاغو وجنوب كاليفورنيا — الغداءَ مع جود وانيسكي مراسل «صحيفة وول ستريت» في مطعم بواشنطن، قام لافر بعمل رسم تخطيطي على المحرمة الورقية الموجودة على المائدة، مبينًا فيه تخفيض الإيراد كنتيجةٍ للنسب العالية من الضرائب. إذا كان معدل ضريبة الدخل صفرًا ٪، فلن تحصل الحكومة على أي إيراد. وإذا كان المعدل ١٠٠٪، فستكون حالة الحكومة المالية متعسِّرةً أيضًا؛ لأنه لا مغزى من قيام الإنسان بالعمل ليجد الدخل بعد خصم الضريبة يساوي صفرًا. وقد أوضح لافر أنه بين هاتَين النقطتَين يوجد معدَّلٌ للضرائب تبدأ الإيرادات بعده في الانخفاض. في البداية مثلًا لنقُل من صفر٪ إلى ٥٠٪، تزيد المعدلات العالية إيرادات الحكومة. وفي مكان ما حول هذه النقطة يحدث العكس وتجد الحكومة نفسها بعد أن رفعت الضريبة في أسوأ حال. يُعرف ذلك بمنحنى لافر، الذي يأخذ شكل القبة، ويكون المعدل الأمثل من الضرائب في مكان ما في منتصف المنحنى. (مع أن تاتشر وريجان والمؤيدين لهما قد يعتقدون أن معدل ضريبة دخل يصل إلى نحو ٥٠٪، كأعلى معدل حدي، يكون عاليًا أكثر من اللازم). عندما تم زيادة أعلى معدل لضريبة الدخل في بريطانيا مؤقتًا في عام ٢٠١٠ إلى ٥٠٪، على الدخول التي تزيد عن ١٥٠ ألف جنيه إسترليني، ثار نقاش عنيف حول ما إذا كان هذا من شأنه أن يؤدِّي إلى هجرة كبيرة بما يكفي من الأشخاص ذوي الدخول المرتفعة من البلاد لتحييد (أو ما هو أسوأ) أي تأثير إيجابي على الإيرادات. تم خفض المعدل إلى ٤٥٪ في عام ٢٠١٢ بعد تحليل أجرته السلطات الضريبية في المملكة المتحدة — هيئة الإيرادات والجمارك — خلص إلى أن خسارة الإيرادات من القيام بذلك ستكون صغيرة، حوالي ١٠٠ مليون جنيه إسترليني. في النهاية، ارتفعَت عائدات الضرائب من دافعي الضرائب من أعلى المعدلات في ٢٠١٣-٢٠١٤، العام الذي تلا الإعلان عن التخفيض. ومع ذلك، كان هذا له علاقة أكبر بقيام دافعي الضرائب هؤلاء بخفض دخولهم بشكل مصطنع؛ لتجنب الضربة التي لحقت بهم من معدل ٥٠٪ في السنة الضريبية ٢٠١٢-٢٠١٣.
إن أحد الدروس التي آمل أن يستخلصها القراء من وصفي لمنحنى لافر، هو عكس ما يستخلصه العديد من الساسة ومراكز البحوث اليمينية. وهو أنه في حين توجد ظروف معينة قد تؤدي فيها تخفيضات معدلات الضرائب إلى زيادة الإيرادات، فإن هذه ليست قاعدةً عامة. إن خَفْض معدلات الضرائب المرتفعة إلى حدٍّ لا يطاق من شأنه أن يخلف هذا التأثير. ولكن أغلب التخفيضات الضريبية تحمل تكلفة الإيرادات. ولعل منحنى لافر هو أحد أكثر أجزاء علم الاقتصاد التي يساء استخدامها.
مخصصة أم خفية؟
عندما قامت حكومة حزب العمال بتولي الحكم في عام ١٩٩٧، شرعت فورًا في زيادة الضرائب. وقد فعلت ذلك في أغلب الأحيان بطريقة ماهرة وخفية. وقد حققت وعدًا انتخابيًّا عن طريق فرض ضريبة غير متكررة وغير متوقعة تقدَّر بنحو خمسة مليارات جنيه إسترليني، على المجالات التي كانت مؤممة مثل الغاز والكهرباء والماء. وقد أعلنت أن حدوث التغيير يقدر بحوالي خمسة مليارات جنيه إسترليني في السنة، عن طريق إلغاء الخصم الضريبي على أرباح الشركات التي كان يستفيد منها صندوق المعاشات. كان ذلك تغييرًا خفيًّا لأن معظم الأفراد لم يكونوا ليشعروا به إلا عند بلوغهم سن التقاعد، وفي هذا الوقت سيكون الأمر محاطًا بمجموعة من العوامل الأخرى التي تؤثر على أداء صندوق المعاشات للمدى الطويل. وقد تعطي الضرائب الخفية نتائج عكسية. ومن الأمور الأخرى التي قامَت بها الحكومة أنها استغلَّت الأسعار العالمية الضعيفة للنفط؛ من أجل زيادة الرسوم على البنزين زيادة كبيرة. لأن انخفاض الأسعار العالمية يُعَوِّض ارتفاع الضريبة، ولم يلاحظ أي شخص ذلك. وفي سبتمبر عام ٢٠٠٠ عندما ارتفع سعر البترول العالمي، زادَت أيضًا أسعار البنزين وأُلقيَ اللوم على الحكومة، وليس على منظمة الدول المصدرة للنفط. وقد أجبر رئيس الوزراء جوردون براون — بعد أن تنازل عن موقفه بطريقة مخزية — على تخفيض الضرائب.
على الرغم من ذلك، تظلُّ الضرائب الخفية تحظى بشعبيةٍ كبيرة بين وزراء الخزانة. ففي مارس ٢٠٢١، أراد وزير الخزانة المحافظ ريشي سوناك زيادة الضرائب، لكنه كان مقيدًا بتعهُّد في بيانه الانتخابي بعدم زيادة المعدلات على أيٍّ من الضرائب الرئيسية الثلاث: ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة، والتأمين الوطني. وبدلًا من ذلك، إلى جانب الزيادات الضريبية الأخرى، أعلن تجميد المخصَّص الشخصي — مستوى الدخل الذي يبدأ عنده الناس في دَفْع ضريبة الدخل — وفي عتبة المعدل الأعلى، المستوى الذي يخضعون عنده لمعدل ضريبي هامشي بنسبة ٤٠ في المائة. وفي حين أن التغيير من شأنه أن يجلب عدة ملياراتٍ من الجنيهات في الإيرادات الإضافية، على مدى السنوات الأربع التي كان من المفترض أن يكون ساريًا من أجلها، كان الأمل هو ألَّا يلاحظ الناس ذلك كثيرًا.
والعكس من الضريبة الخفية هو الضريبة التي يتم رفعها لغرض محدد؛ ضريبة مخصصة أو «مرهونة». عندما شرعت حكومة حزب العمال في زيادة كبيرة في إنفاق الخدمة الصحية الوطنية، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثار نقاشٌ حول إدخال ضريبة صحية مرهونة، لتغطية الإنفاق الإضافي على وجه التحديد. رفضت وزارة الخزانة ذلك، متعلِّلة بأنه سيكون من الخطأ ربط الإنفاق الصحي بالإيرادات من ضريبة يمكن أن تختلف من عام إلى آخر، اعتمادًا على الظروف الاقتصادية. السبب الحقيقي لحذر وزارة الخزانة بشأن الرهن، وهو اعتراض قائم منذ فترة طويلة، أنه في حين قد يكون الناس مستعدين لدفع ضريبة صحية؛ فقد يعترضون على ضريبة كان غرضها جمع الأموال لدفع إعانات الرعاية الاجتماعية. حتى الدفاع، وهو منفعة عامة تقليدية، قد يكافح لجمع الأموال إذا تم منحه ضريبة مرهونة خاصة به. ولكن هذا الجدل يتجدد بانتظام. ففي سبتمبر ٢٠٢١، تغلَّبت وزارة الخزانة على شكوكِها بشأن الرهن العقاري، وفرضت ضريبة على الرعاية الصحية والاجتماعية، في شكل زيادة بنسبة ١٫٢٥ نقطة مئوية في التأمين الوطني لكلٍّ من الموظفين وأصحاب العمل. وكان الهدف من ذلك هو دفع تكاليف الإجراءات الصحية المتراكمة خلال الجائحة، والبَدْء في إصلاح الرعاية الاجتماعية.
والآن قد حان وقت وصول من كنتُ أشرت إليه منذ قليل. وبما أن آدم سميث كان اسكتلنديًّا، فلا بد أن يكون ضيفنا التالي بمرتبة أعظم عالم اقتصاد إنجليزي، مع أن ديفيد ريكاردو كان له نصيبٌ عادلٌ من المؤيدين. على أية حال لا شك أن جون مينارد كينز هو أعظم عالم اقتصاد بريطاني، وأحد الرموز البارزة في القرن العشرين.