المقالة الأولى

الجزاء من جنس العمل

كان لي جار من الكهول، يخلب بسماع أحاديثه العقول، فقال لي ذات يوم — وقد خلا ناديه من الناس، ولم يكن معنا فيه أحد من الجلَّاس: يا بُنيَّ، إنه يختلج في صدري منذ أربعين سنة سرٌّ ما جرى ذكره في هذه المُدَّة الطويلة على الألسنة، وها أنا عليك الآن أقصه، وكما رأيته بأسانيده أنصه، فأعِرْ سمعك لمقالي، والْتقط منه نفيس اللآلي. إني دعيت بمجلس أنس إلى وليمة عُرس، فبادرت بالإجابة عملًا بما رواه عن النبي الصحابة، فلما دخلتُ دار العروس عطفوا بي، قبل الجلوس، على الخوان؛ لتناول ما راج من الطعام، مع فتية من الظرفاء وأبناء التجار العظام، ثم انتقلت مع هؤلاء الجماعة، بعد مضي برهة لا تنقص عن ساعة، إلى مجلس سماع الألحان والأغاني المطربة الحسان، فلاحت مني التفاتة ذات اليمين.

فرأيت رجلًا منعزلًا في ناحية عن الجالسين، وهو قصير القامة، دقيق الساقين، أشعث أغبر، مُشَوَّه الخلقة، حالك السواد، قبيح المنظر، محدودب الظهر، مرتفع الصدر، فقلت لخال الفتاة الذي دعاني إلى الوليمة: من أين تعرف هذا الرجل صاحب الخلقة الذميمة؟ فقال لي وهو مبتسم: إنَّ هذا العبوس هو صهري أبو العروس؛ فقلت: تبًّا له! مالي أراه وهو رب الفرح غارقًا في بحار الهمِّ والترح! فقال: إنه ورث جميع ما فيه عن جده وأبيه، وإني سألت عن أطواره وأحواله أحد أقاربه وأمثاله، فأخبرني أنه ما دُعي فأجاب، ولا تكلم في أي مادة فأصاب، ولا قرع بابَه ابنُ سبيل، ولا تَصدَّق على سائل بالنزر القليل، وطالما لهج أمام والده في المحافل، مع ما هو عليه من البُخل بقول القائل:

هبْكَ عمرت عمر عشرين نسرًا
أترى أنني أعيش وتبقى
ولئن عشت بعد موتك يوما
لأشقن جيب مالك شقًّا

وهو وإن كان والدَ رَبَّة الزفاف، وبعل أمها شقيقتي بلا خلاف، فإنه ما حضرها في عقد نكاح، ولا قام لها بأداء واجب ولا مندوب ولا مباح، ولا سعى بدعوته إلى داره أحد لعدم وقوفه في شحه عند حدٍّ، وما أظنُّ أنَّه بشَّ في وجه صهره وهو ابن أخيه، الذي ما بنى بابنته لرغبته فيه، بل لطمعٍ في الاستحواذ على ماله من بعده، عقب حلوله عما قليل بلحده؛ لأنه عارٍ عن حلل المروَّة، مجرد عن حلية الإنسانية والفتوة، تارك للمفروض والمسنون، متقلب في أودية السخف والجنون، مشغوف بالأباطيل، آخذ في الأضاليل، ما انبعث شعاع عقله لشيء سوى العبث، ولا شيَّع هالكًا إلى جدث، وهو حائر في أمره، نابذ لمكارم الأخلاق وراء ظهره، وقيل إنه قصد الأقطار الحجازية للتجارة، في سنة من السنين لا للحج والزيارة، وكان ذلك غب قدومه من العراق بكثير من الجمال والنياق، فقالت له أمه: خذني معك إلى بيت الله الحرام؛ لأقضي فريضة الحج هذا العام، فأجابها إلى سؤالها بشرط أن تكون نفقتها على نفسها من مالها، فلما توسطت الدرب في السير مع الركب سقطت من تحتها الراحلة، وكادت تفوتها القافلة، فمشت على قدميها حتى كلَّت وضعفت قواها واضمحلَّت، وولدها لا يلتفت إليها، ولا تأخذه رأفة بها ولا شفقة عليها، فقالت له، وقد وقفت من شدة التعب عن المسير، وامتدَّ إليه طرفها فارتد وهو حسير: يا بنيَّ، احملني على واحدة من هذه الدواب؛ لتفوز في غدٍ بجزيل الثواب، ولا تتركني في هذه الفدافد الشاسعة، والدروب والعقبات الوعرة غير الواسعة؛ فأموت بالظمأ والسغب، أو أقع في قبضة أحد من العرب، أو تفترسني الوحوش الكواسر، وأنت على خلاصي من هذه التهلكة قادر.

فقال وقد نسي ما لها عليه من الحقوق، مبارزًا لها بالعقوق: هيهاتَ هيهاتَ أن يستوي على قتب، سوى من يبذل الفضة والذهب، فأنقديني خمسين من الدراهم، التي هي لجروح أمثالي كالمراهم؛ حتى أسمح لكِ براحلة سريعة الحركة، لا يلحق غبارها سُلَيك بن السلكة؛ فقالت له: يا بني، إني حملتك تسعة أشهر في بطني فلا تخيبْ فيك ظني، وتذكَّرْ قول الرحيم الرحمن في كتابه المنزل على سيِّد ولد عدنان: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لتزداد يقينًا وإيمانًا، فقال لها — ولم يزدد إلا جحودًا وقسوة، وحنقا ونفورًا ونبوة: لا سبيل لكِ بغير المنقوشة إلى بلوغ المرام، فاقطعي حبال الرَّجاء واذهبي عني بسلام.

وكان بإزائهما من يسمع ما دار بينهما من المقال، فتًى قد توفَّرت فيه شروط السماحة والوجاهة والكمال، فقال لها: اركبي يا أماه على هذه الرَّاحلة، فأنتِ سميرة والدتي في القافلة، ثم نظر إلى هذا المهين نظرة الغضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال بعد أن قرعه بالعصا، ورجمه بالحصا: يا قذى جفن الدين، وبلاء نفوس المهتدين، أما علمتَ أنَّ الجنة تحت أقدام الأمهات، وبطاعة الوالدين يفوز الولد بأقصى الدرجات! لك الويل إنَّ الشقاوة غلبت عليك، وقادك العقوق إلى النار برجليك، ثم خلَّى سبيله وانصرف، وهو على عدم قتله في غاية الأسف.

وبالجملة فأخبار هذا السفيه المفند في مثل هذه الرَّذائل لا تعد، ثم ضرب صفحًا عن ذكره، بعد أن لعنه في علانيته وسِرِّه، ولا زلنا نخوض في حديث بعد حديث، ونحن ساخطون على هذا الرَّجل الخبيث، حتى عوَّل الحاضرون على الرواح، وكان أكثر الليل قد مضى ودنا الصباح، فانتصبتُ عند انفضاض الناس للوداع، وكان غيري قد فاز بلذة السماع، وقلتُ لغُلامي: يا ابن شكلة، هيِّئ لي على الفور البغلة، فقال: إني تركتها في الدار مع الجواد والحمار، هنالك انتهز صاحبي الفرصة، وقال: إنه لم يبق من الليل إلا حصة، فاقبل مني النصيحة، واسترح في هذه القاعة الفسيحة، وكنت لطول السهر قد اعتراني بعض فتور وخدر، فلم أخالفه فيما به أشار؛ لبعد المنزل واقتراب النهار، بل أجبت بالطاعة، وتبعته إلى القاعة.

وبعد أن اضطجعت فيها على سرير، ودعني وعدل إلى بعض المقاصير، وإذ كنت بين اليقظان والنَّائم في تلك القاعة الخالية من النَّسائم، إذ سمعتُ من بعيد صلصلة حديد؛ فطار عن جفني الوسن، واقشعرَّ مني البدن، وتَلوْتُ وقد أعياني الأرق: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وبينما أنا من الفزع في اضطراب إذ أبصرت معي شبحًا من داخل الباب، فتأملته وقد استولى على قلبي الرعب وخفق، وكدتُ أموت من شدة الفرق، فإذا هو رجل طويل القامة، قصير اليدين، كبير الهامة، عاري الجسد، أصلع الرأس، يلوح عليه مع شيخوخته أنه شديد البأس، فقوَّيت جأشي وثبتُّ الجنان، وقلت له: أَمِن الإنس أنت أم من الجان؟! فصاح صيحة كأنها الرَّعد في خلال الغمام، وتنهد تنهد الواله المستهام، ثم قال بعد هذه الضجة: قد مَرَّ بي عشرون حجة، ما طرق سمعي حديث بشر، ولا وقعت عيني على أنثى ولا ذكر، فما هذه الأغاني والأصوات، والألحان الموسيقية المطربات، التي شنفت المسامع؟ وما هذه الشموع التي أضاءت بها جميع المواضع؟ فقلتُ مُجيبًا له وقد سكن روعي، وتماسكتْ بعض التماسك ضلوعي: إنَّ رب هذه الدار أنكح ابن أخيه ابنته نوار؛ فصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض، وقد كاد بما حلَّ به من التشنجات يختلط طوله في العرض، فَلَمَّا أفاق من غشيته، ورجع إليه بعض قُوَّته، قال: اللهم اجعل هذه الوليدة برة بوالدتها سعيدة، ولا تجعلها كأبيها الشقي المحروم من رحمة الحي القيوم، فقلتُ له: من أنت يا أبتاه؟! ومن أين أقبلت يرحمك الله؟! وما هذا الحديد الذي حمْلُه أعياك، وأودى بك إلى هذه الحالة في دنياك؟! فجثا على ركبتيه، وبسط راحتيه، وقال بعد تضرع وابتهال، وطلب الغفران من ذي الجلال: إني والد هذا الجبان الخائن، عدو نفسه المهان المائن، وإني أقبلتُ عليك من طبقة في الأرض تحت قدميك، طرحني فيها هذا الوغد العنيد، بعد أن كبلني — كما ترى — بالحديد، ولعل الباعث له على ذلك — والله أعلم بما هنالك — هو أنه زار في بعض الأيام ثلاثة إخوة من اللئام، وكان أبوهم هلك عن تَرِكة جسيمة، وأموال عظيمة القيمة، فلما اقتسموها وهو إليهم ناظر، تكدَّر منه على عدم موتى الخاطر، ودخل عليَّ في بعض الليالِ، ومعه أربعة متنكرون من الرجال، فوضع في رجلي هذا القيد الثقيل، وحبسني في هذه الطبقة عن الصاحب والخليل، وأشاع أني شربت كأس المنون، وبكى واستبكى عليَّ العيون.

تنكرني دهري ولم يدر أنني
أعزُّ وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبتُّ أريه الصبر كيف يكون

وقد لبثتُ في السجن عشرين من الأعوام، لا يزورني فيها من الناس شيخ ولا غلام، ولا أتغذى في الليل والنهار، إلا بشربة ماء ورغيف من الكشكار، تدفعها إلي في كل صباح، عجوز اسمها كفاح، ثم تغلق عليَّ باب الطبقة، ولا تأخذها بي شفقة، وقد غفلتْ في يوم هذه الوليمة عن الباب، فتركتْه وانسابت كأنها الحباب في الحباب، فلما خفقت الأصوات، وانقطع حسُّ الآلات، خرجت لاستنشاق النَّسيم، فاجتمعت بك في هذا الليل البهيم.

ثم إنَّه استعد للانصراف إلى حبسه وهو ساخط على يومه، راضٍ عن أمِّه، فقلتُ له: إلى أين وقد فُرِّج عنك الكرب، ونجوتَ وزال عنك الخطب، وتخلصت من الطبقة والتصفيد، وبلغتَ — بمنه تعالى — فوق ما تُريد؟ فقال ودمعه في انهمال، ونيران جواه في اشتعال: يا بني، جُزيت عني خيرًا، ولا لقيت من زمانك ضيرًا، كيف السبيل إلى الخلاص، وليس لي عن السجن مناص؟! وكيف أرمي ولدي باتباعك في مهاوي الفضيحة، وأكشف الغطاء عن أفعاله القبيحة؟ وإنَّ أجلي قد أخذ في الاقتراب، وشمس حياتي قد توارت بالحجاب، فقلتُ له: لا تخش على ولدك من الفكاك العار، فإنَّ لي التزامًا بعيد المزار، أُسَيِّرُك إليه في غد؛ بحيثُ لا يشعر بك أحد، فقال لي: لا سبيل إلي ما جنحتَ إليه؛ لأنَّ ذمتي لا تطاوعني عليه، فقلتُ له: إنْ أبيت إلا الإصرار على الإقامة في غيابة الجُبِّ إلى يوم القيامة، فأنا أسعى في خلاصك منه بالقوة القهرية، وأفضح ولدك بين البرية، فقال لي: يا بُني، سِر على مهل ولا تعجل، فالجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يُدان، وإني مستحق لهذه العقوبة من قديم الزَّمان؛ فإني قتلت والدي في حُبِّ المال، وجرعته بيدي كأس الوبال، وهذه آثار دمه على الجدار تشهد عليَّ بأني رميته بسهام البوار. فَلَمَّا عرفت حقيقة الخبر، ووقفت على جلية الأثر، تبين لي أنَّ الوالد أشقى من الولد، وأنَّ عذابه في الآخرة أشد، وكان الليل قد أدبر، والصبح قد أسفر، فانطلق وهو أبغض إليَّ من قاتل ابن جبير، ولسان حالي يتمثل فيه بقول البهاء زهير:

بحق الله متعني
من ذاتك بالبعد
فلا تصلح للهزل
ولا تصلح للجد
فلا صُبِّحت بالخير
ولا مُسيت بالسعد

فكان آخر عهدي بهذا الجار أول انقطاعي عن سماع مثل هذه الأخبار، فخرجتُ مِنْ دَارِه، عَازمًا على عدم ازدياره، قائلًا في نفسي: لا رادَّ لما قضاه الله وأراده، راجيًا منه سبحانه أن يختم لنا بالحسنى وزيادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤