المقالة الخامسة

في الاشتغال بمباشرة المناصب عن الاحتفال بمسامرة الصديق والصاحب

نقلت من خزانة الأسرار، بإحدى مُدن الآثار، عن حبر أحبار، وجهينة أخبار؛ عبارة بالحروف مرقومة، تحت صورة في الكتاب مرسومة، تُشير بإحدى يديها إلى المِقَة والوفاق، وبالأخرى إلى المقت والشقاق، وهي مع ما فيها من اللطافة، تُعدُّ في ذاتها خرافة، ونصها: أنَّه كان يُوجد بمدينة تلمسان، كهل من عفاة بني ساسان، أنهكت جسمه الفاقة، ولم يقابله دهره بالطلاقة، وكان له وليد نجيب، أو حفيد ذكي لبيب، انحاز إلى مؤدب صبيان، ومعلم أطفال وفتيان، فتعلم القراءة منه والكتابة، وأبدى في حفظ دروسه النجابة، وأخذ عن غيره النحو والصرف، وجال في ميدان الأدب بأسبق طرف، وبلغ من المنطق والبيان والبديع، ما يرتفع به قدر الوضيع، واستحوذ من العروض والإنشاء واللغة وسائر الفنون، والحديث والفقه والتوحيد وآداب البحث على ما تقر به العيون، وبرع في معرفة الهيئة والجبر والهندسة والحساب.

وحل بفكره الوقاد في كل فن مسائله الصعاب، حتى أصبح لا يُجاريه مجارٍ، ولا يُباريه في مجاله مبارٍ، وهاجر في طلب العلم إلى أكثر البلاد، وكانت آخر مدينة انتهى إليها بغداد، فاجتمع فيها بأقيال البراعة، وأبطال البلاغة واليراعة، وركب معهم سفينة المناقشة ورفع في بحرها شراعه، ومدَّ بينهم في كل فرع من العلوم باعه، فلَمَّا تَبَيَّن لهم أنه فارس الميدان، وأنَّه أوحد زمانه في المعارف بين الأخدان، مالوا إليه وكثرت في المدينة خلَّانه، وأثنت على أخلاقه بكل لسان جيرانه.

وشاع بين البرية ذكر معلوماته الخارجة عن حد القياس، حتى طرق مسامع وزير أحد خلفاء بني العباس؛ حيث قيل له وهو في محفل من نبلاء الجلَّاس: إنَّ هذا الأُستاذ أفصح من قس، وأذكى من إياس.

فقال الوزير لحاجبه ابن جرير: اقصد في غدٍ دار هذا الفاضل، الذي دونه المباحث كل مناضل، والتمس من جنابه، أنه يزورنا بركابه؛ لعلي أتخذه كاتبًا ومشيرًا، وحاسبًا بالديوان وسميرًا، فقَبَّل الحاجب الأرض وأجاب بلبيك، وقال: إنه سيكون عندك وبين يديك، فَلَمَّا كان في صبيحة يوم الجمعة، هيَّأ بغلة عظيمة السرعة، وسعى إليه وسأله عن داره، من وجيهٍ كان ساكنًا في جواره، ومذ لقيه وجاء به إلى مولاه، قربه وأكرم مثواه، وأنزله برُواق من مأواه، ورفع درجته على من سواه، ولما كان هذا المتفنن حلو الفكاهة، حسن المسامرة حجازي النباهة، خلب العقول بفصاحته، وسلب الألباب بسحر بلاغته، وتشبث من عهد نشأته، بما ينشر بين الملأ أعلام شهرته، ويذهب عنه العسر والباس، ويجلب له اليسر بين الناس، ويجذب إليه قلوب الورى، ويطيع له أُسْد الشَّرَى، ويرغب فيه العباد، ويحبب فيه ذوي الرشاد.

وقد احتفل بذلك في السر والعلن، حتى نال بغيته وفاز بالذكر الحسن، ولم يدع من أفعال الخير شيئًا إلا سارع إليه، وانقض بلا توانٍ انقضاض العُقاب عليه، فكنت تارة تراه بالمساجد، كناسك راكع ساجد، وتارة يبدو في المجالس، بوجه بشوش عابس، وطورًا يبرز بين الأقران، في حلة الرأفة والإحسان، وطالمًا أحرز قصب السبق، في مضمار نضرة الحق، وتمادى على هذا العمل، بلا فتور ولا كسل، إلى أن تقرب بمثل هذا السلوك، من هذا الوزير الذي تفتخر به الملوك، فقلده في ديوان الخليفة، بوظيفة كاتب الإنشاء المنيفة، ثم تنقل من إيوان إلى إيوان، حتى استوى على مرتبة رئيس كتاب الديوان، وصار يركب في المواكب، بعد انتظامه في سلك ذوي المراتب، ويتقلب في أودية النعم، ويتصرف التصرف التام فيما يتعلق بأرباب السيف والقلم، ولا زال في كل يوم يعلو مناره، وينمو على الدوام فخاره، ويزداد بين الأمراء اعتباره، ويغرس في أفئدة الوزراء وقاره، إلى أن نَالَ من زمانه الأمل، ووصل بالإرادة الأزلية إلى ما وصل، ولاحظته عيون السعادة، ففاز بالحسنى وزيادة.

ألا رُبَّ راجٍ حاجة لا ينالها
وآخر قد تقضى له وهو جالس
يجول لها هذا وتقضى لغيره
وتأتي الذي تُقضى له وهو آيس

وبعد أن تقلد بهذه الوظيفة الرَّفيعة، وتأهل من بنات أعيان المدينة بحرة في حسنها بديعة، أقبلت عليه الدنيا بخيراتها الجزيلة، وامتلأت عليه داره من الخدم والجواري الروميات الجميلة، واشتغل بمباشرة المناصب، عن الاحتفال بمسامرة الصديق والصاحب، فثارت عليه طوائف الحساد من كل جانب، واتهموه بالانحراف عن أقوم المذاهب، وقال فيه شاعرهم:

إذا رفع الزمان وضيع أصل
وألبسه ثياب الاعتبار
فسالم من أردت سواه وانظر
له أبدًا بعين الاحتقار

وزعموا أن بشاشته تبدلت بالتقطيب والعبوس، وأن فظاظته وعدم استقامته قد اشمأزت منهما النفوس، وأنه اعتزل الأشراف، وحاد عن طريق الإنصاف، وبالغوا في ذَمِّه، وبالغوا في هجاء أمِّه، وقال بعضهم في مجلس الوزير: إنَّ سوء فعله من الأدلة القائمة على دناءته وخِسَّة أصله، وأنه مُبير كذاب، ومثير للفتن مُرتاب، وأنه لما نال بغيته بغى، وضلَّ بعد الهداية وطغى، وتاه على أبناء جنسه، ولم يذكر في يومه ما لقيه في أمسه.

وقال آخرون: إنه بقية من قوم عاد، وإن حياته مضرة بالأنام على القرب والبعاد، وإنه ظهير لذوي المعايب، ونصير للعاكفين على المثالب، وليس الباعث لهم على إذاعة هذه الأقاويل الكاذبة، وإشاعة هذه الأباطيل التي سهامها به صائبة، سوى الغيرة والحسد الذي رماهم بنبال الكمد.

وإذا خشيت من الأمور مقدرًا
وفررت منه فنحوه تتوجه

وبالجملة فإنهم أقاموا على هذه الوتيرة مدة من الزمن غير قصيرة، ونسبوا إلى بعض أصهاره، أنه هجاه بقوله من بديع أشعاره:

ما لي أراك عدلتَ مما لضرورة
عن سنة الأشراف والأمجاد
أنسيت أنك قد نشأت بلا أب
في فاقة من معشر أوغاد
من أين كان لك التقدم عنوة
لا عن أبيك ولا عن استعداد

وكان كلما ذُكر في محفل قال أدناه وأعلاه، مُشيرًا إلى كِبْرِه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله.

وحيث إن كل ذي نعمة عليها محسود، اجتهدوا في تقبيح سيره المحمود، حتى أوغروا عليه صدر ولي أمره، بعد أن أقاموا له البَرَاهين على اعتزاله وكفره، فتنكر له وعزله، وعن وظيفته السامية فَصَلَه، فلمَّا انزوى عقب الطرد بقصره، لم يتركوه بلا أذى في حصره، بل اعتدوا عليه وبعثوا إليه.

أمسيت يا طير مقصوص الجناح وقد
ألقاك صيادك المحتال في القفص
لا فرج الله عنك الكرب فيه ولا
أخلاك فيه مدى دنياك عن غصص
وأنت لا شك بعد الموت في سقر
بنَصِّ ما أنزل الجبار في القصص

وكان قد اكتسب من الرزق الحلال بالهمة، ما لا يُحصى من الأموال الوافرة الجَمَّة، وادخرها في داره المُضاهية في زينتها لمدينة إرم، التي كانت آهلة بالسراري الحسان والحشم، ولولا شغفه بحب الرياسة، وتولعه بأحوال السياسة، لعاش عيشة راضية في يسار وثروة، ولذة وافية وزيادة حظوة، وكيف لا وقد كان في هذه الدار المزخرفة الرصينة الأسوار، ما تشتهي الأنفس وتعجز عن وصفه الألسن، مما يشرح الصدور ويسر الأعين، من عُرُب أتراب، تسحر بجمالها الألباب، وحور عين حسان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وهو معهن آناء الليل وأطراف النهار، في جنات تجري من تحتها الأنهار.

ولما توارى عن ذوي الأحقاد، وانقطعت عنه ألسنة الحساد، كان لا يسمع ما يكدر منه الخاطر، أو يحرك ما انطوت عليه الضمائر من غيظ وحنق، على من بِنَارِ النميمة احترق، فلو أنه دام على هذه الحال؛ لتنعم منه البال، لكنه لما طال عليه المدى، وتذكر شماتة العدى، عاف الشراب والطعام، وانعجم لسانه عن الكلام، وضاق منه الخناق، وكادت روحه تبلغ التراق، وهجر الكواعب، وبسر في وجوه ذوي الملاعب، ومجَّ سمعه الأنغام والأغاني، وأعرض عن مشاهدة الغواني، وتَوَهَّم أنَّ بستانه النضير الواسع، ورَوْضَه المُزهر البائع؛ قد أمسى لتقارب الأطراف، أضيق من سم الخياط بلا اختلاف، وأظلمت الدنيا في عينيه، وصار لا يبصر ما بين يديه، وساءت منه الأخلاق، واعترض في سره وعلانيته على الخلاق، مع أنه كان يستقبح الفسق والفجور، ويمقت مُنْكِر البعث والنشور، ويقضي بكفر أدهى أبناء معرة النعمان؛ حيث قال وهو أشعر العميان:

أتترك لذة الصهباء عمدًا
بما وعدوك من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو

وكان لاحتجابه عن انتشاق نسيم الأخبار، يُصبح ويُمسي في اختناق على مقالي النار، ولقد عيل منه الاصطبار، بعد طول الانتظار، وأضحى لا يقر له قرار، بأي مكان من الدار، حتى إنه في خلال الدوران، دخل قاعة مُزخرفة البنيان، ووقف تجاه شباك، مشرف على شارع ابن الحباك، فوقع بصره على شيخ كبير، كأنه لضخامته بعير، وهو يتوكأ على عصاه، وقد كشف رأسه وقفاه، وشرع في طلب الصدقة، من ذوي المروءة والشفقة، بقوله: يا أهل المراحم والمروة، والمكارم الشاملة والفتوة، تصدقوا على بعل الشيخة أم طبق، بما يستر العورة ويسد الرمق.

فلَمَّا رآه وهو على ما به من الاضطرار، إلى سؤال الجائز والمار، حسده على غدوه ورواحه، وتمنى أنْ يَحْظَى مثله بإطلاق سراحه، وقال لغُلامِه وائل: عليَّ بهذا السائل؛ فانطلق على الفور يهرع خلفه، فأدركه قبل الانسياب في أول عطفه، وقال له: أيها السائل المضطر، أجب الرئيس أوحد الدهر، فحصل للشيخ من شدة الارتياع، ضرْبٌ من الخدر والصداع، وأوجس منه في نفسه خيفة؛ لتَوَهمه أنَّه من الأعوان، الموكلين بضبط كل سائل من الرجال والنسوان. وقال: سألتك بالله يا ابن الحلال، ألا ما تركتني أسعى في طلب زرق العيال، فتلطَّف به حتى لان وأجاب، وسار معه وهو على غاية من الارتياب، وأدخله القصر بعد صلاة العصر، فاعتراه من هيبة المكان، ما زلزل منه الأركان، وكاد عقله من رأسه يطير، عند رؤيته لأعوان هذا الرئيس الخطير، ومن شِدَّة ما ناله من الذهول، هَمَّ بالرجوع من قبل الوصول، فمنعه الخادم أبو خف، عما أراد بلين ولطف، ولا زال يسكن عنه بعض رَوْعه، وينهاه عن رجوعه، ويعده من مولاه بزوال البوس، وامتلاء كيسه بعد الإفلاس بالفلوس، حتى وقف به أمام سيده بالبستان، وقال له: ادنُ من مولانا وقبِّل راحتيه بأمان.

فَلَمَّا عاينه الشيخ جثا عن ركبتيه، وبادر إلى تقبيل مواطئ قدميه، فأقامه وعلى متكأ بجواره أجلسه، وبشَّ في وجهه وبعذوبة ألفاظه آنسه، وسأله عن أحواله، وعن مقر زوجته وعياله، ثم أَمَر غلامه ابن بسام، بالتوجه به إلى الحمام، وبعد تنظيف بدنه، وإزالة ما عليه من درنه، خلع عليه حلة تليق بحاله، وغمره من الإحسان بما كفه عن سؤاله، وحمله بعد حلق رأسه وقص شاربه، إلى مولاه فأكرمه وأجلسه بجانبه، وقال له: أيها الشيخ، الذي ألبسه الشيب من الوقار أبهى ثياب، أنت صرت الآن عندنا من أجل الأصدقاء والأحباب، وقد ربطنا لك ولعيالك، من المرتَّبات ما يستقيم به أَوَد حالك، ورفعنا ما بيننا وبينك من الحجاب، فادخل علينا بدون استئذان من أي باب، وأتحفنا بما تلتقط من الأخبار، ولا تَخفْ بعد إقبالنا عليك غائلة الإدبار، فقال الشيخ متمثلًا، بما راق وحلا:

يا أيها البر الكريم ومن له
مِنن حَللن من الزمان وثاقي
من شاكر عني نداك فإنه
من عظم ما أوليت ضاق خناقي
منن تخف على يديك وإنما
ثقلت مئونتها على الأعناقِ

وحضرت المائدة بالأطعمة، فدعاه إليها وعلى سواه قدمه، فامتنع الشيخ وتأخر، وأحجم عند الإقدام وتقهقر، وقال: معاذ الله أن يأكل السائل المسكين، مع حضرة الرئيس الأجل المكين؛ لأنه لا يسوغ للصعلوك، الذي لا يُساوي قلامة ظفر مملوك، أن يتجارى على الأكل مع المالك، ولو ساقه الجوع إلى المهالك، وكيف يجلسُ معه على خوان، يتعذر الدنو منه على الوجوه والأعيان؟! فقال له الرَّئيسُ النَّبيل: هذه عادتنا مع الحقير والجليل، ولا زال يدعوه إلى الزَّاد وهو يمتنع، ولونه من شدة الخجل ينتقع، إلى أن تقدم لكن على رغم أنفه؛ لأنهم كانوا يقودونه من أمامه ويسوقونه من خلفه، ولما قعد للأكل ولم يتفق له ذلك من قبل، مدَّ يده وهي في غاية الارتعاش، وتناول أول لقمة فسقطت على الفِرَاش، وهكذا كان يأكل بخوف ووجل، وكأنَّ حلقه مسدود بصخرة من جبل، مع أنه كان يتأتى له في غير هذا الخوان، ابتلاع عشرة أرغفة بفخذ من الضان، ولا شكَّ أنه ما تحصل من هذه المائدة الكثيرة على شبع، بل قام جائعًا يتمنى الأكل مرة أخرى مع التبع، إلا أنَّه قد حيل بينه وبين المرام؛ لخوفه من التوبيخ والملام، ولما فرغ من غسل يديه، وانتصب أمام الرئيس على رجليه، أشار إليه بالقعود، وأجاب بالرُّكوع والسجود، فألحَّ عليه حتى جلس فوق بساط منقوش، في قاعة بجوار قاعة المائدة مفروش، وبعد أن شرب القهوة، ازداد فرحًا ونشوة، وبات إلى الصباح وهو في سرور وانشراح، ثم خرج من القصر ولسان حاله يقول، وفي طريقه يجول:

تبدل عسري بيسر وقد
بلغت من الدهر كل المنى
فيا رب زدني قبولًا به
أعيش سعيدًا حليف الغنى

وكان برفقته أحد غلمان الدار، فأخذه معه في السير إلى جهة اليسار، حتى أوصلَه في عطفة مائلة، إلى المنزل الذي نُقلت إليه العائلة، ثم تركه وانصرف من حيث أتى، ودخل هو على زوجته فسمعها تقول لأحد أولادها: يا فتى، أين أبوك الأقرع بن شعلان؟ فإنه لو رأى ما نحنُ فيه من الخير والإحسان، لزال عنه الهمُّ والترح، ولبكى من شِدَّة الفَرَح، تالله يا قرة العين، وحياة أختك أم بطنين، إني أطنُّ أننا الآن في منام، والذي نحن فيه أضغاث أحلام. فقال لها وقد لاحت منه التفاتة إلى جهة الباب: هذا أبي قد أقبل يرفل في أبهج أثواب، فعند ذلك هرولت الشيخة بملابسها الجديدة إليه، وقبلت يده وسلمت بالاشتياق عليه، وقالت له: يا أبا الأطفال، من أين لنا هذا الإقبال؟ فقال لها: يا بنت عبد الله، هو من عند الله، ثم قصَّ عليها ما جرى من أوله إلى آخره، وأوقفها على باطنه وظاهره، وقال لها: وأنت أخبريني كيف كان الانتقال، من دويرتنا الحقيرة إلى هذا المنزل العال؟! فقالت: جاءني جماعة من الغلمان، بأقمشة صالحة للبنات والصبيان، وقالوا: إنَّ الشيخَ بعثَ بها إليكم فالبسوا منها ما شئتم، فإنَّه فصلها عليكم، وسيروا بنا إلى الدار التي اشتراها برسمكم، وأعدها بجوار قصور الأعيان والأمراء لكم، فلما توسطناها وطفنا بما فيها من المناظر والمخادع، والأروقة الواسعة المطلة على الدور والجوامع، وكان طوافنا فيها بالذكور والإناث، وجدناها بديعة الهندسة كاملة الأثاث، وألفينا بها من الحنطة والسمن والعسل، والفول والزيت والزيتون والثوم والبصل، ما يكفي بلا تردد في القول، مدة لا تنقص عن نصف حول، وها هي أمامك وبين يديك، فطف بها إن لم يكن في الطواف مشقة عليك. فقال لها وقد تبسم، وهو بمدح المنعم عليه يترنم: قولي معي في الابتهال، بعد الصلاة على النبي والآل: اللهم بارك لنا فيما أعطيت، ومتعنا بزيارة ساكن طيبة وحج البيت، وانظر بعين الرضا والقبول، والرعاية الكاملة والشمول، إلى من عمَّنا من بَحْر كرمه، بوافر هباته ونعمه.

وكان الليل بظلامه أقبل، والنهار بضيائه تحول، فأكلوا حتى اكتفوا مما تهيأ لهم من الطعام الفاخر، وحمدوه سبحانه على ما اغترفوا من بحر جوده الزاخر، وباتوا في مسرات وأفراح، إلى أن أشرقت غرة الصبح الوضاح، ثم نهض من نومه كأنما نشط من عقال، وصلى صبحه وأفرغ عليه ملابسه في الحال، وأكل مع أولاده ما تيسر، وخرج من داره واكترى من السوق حمارًا أخضر، فركبه وانساب في الأزقة والشوارع، فالتقط كل خبر شائع، وسارع بما جمع إلى مولاه، فقص عليه ما سمع من الأفواه، ويا ليته باع كما شرى، بل أضاف إلى كل لفظة من أمثالها عشرًا، فحظي عنده بأعلى منزلة، وبالغ في احترامه وبجله، وقال له: أيها الشيخ المعمر، ومن هو نعم السمير المدبر، اركض بخيلك ورجلك ولو في الدواوين والمصالح، وأتحفني بأخبار المقيم والغادي والرَّائح، وإن لاح لك في مدحي فرصة، فانتهزها عسى تزول بها عني الغصة؛ لأعود يا أبي، كما كنت إلى منصبي. فأجابه الشيخ بالطاعة والسمع؛ لطمعه في الحصول منه على النفع، ثم ودعه وانقلب إلى داره، وأمر كلًّا من زوجته وأولاده بالتجرد عن أطماره، وصعد بهم في الثلث الأخير من الليل على السطح، وكان يحفظ من القرآن الشريف سورة الفتح، فتلاها بسكينة وخشوع، وقد تناثرت من عينيه الدموع، وقال: يا أولادي، أنتم تعلمون ما كنا فيه من الفقر، وعري البدن والفاقة التي تقصم الظهر، وإن هذا الرجل المُحْسِن تكفل لنا بالمئونة والكسوة، ودفع عنا بما وصلنا به من الإحسان ما كان للزمن من الجفوة، فارفعوا أكف الضراعة بإخلاص، واطلبوا منه جل وعلا إنقاذه من ضيق الأقفاص، وعودته إلى ما كان عليه من الإقبال، وامتيازه في الدَّرَجة عن الأقران والأمثال، وقد استمر معهم على ذلك نحو سنة، لا تأخذهم فيها عند السحر نوم ولا سِنة.

فلما كان في أول ليلة من شهر الصيام، خلعوا ملابسهم والناس نيام، ودعوا وعليهم أمنت الوالدة، وكانت أبواب الدعاء مفتحة والأيام مساعدة، فاستُجيب دعاء الوالد والأفراخ، وانتُشل الرئيس من وحلة الطرد وما له من الأوساخ، وذُكر عند الوزير بخير في الديوان فأمر برده إلى منصبه، وانجلت عنه غياهب الحرمان، وعند فراغ الشيخ في صبيحة هذه الليلة من عبادته سعى إلى خدمته على حسب عادته، فتعذر عليه الوصول إلى الجناب، بسبب ازدحام الحمير والبغال والخيل على الباب، ولما أعياه ذلك، وضاقت عليه المسالك، قال لبعض الخدم، وكان اسمه كعب بن قدَم: كيف السبيل إلى لقاء السيد الجليل؟ فقال مستهزئًا به وقد رجمه بالحصى، وضربه على كتفيه بالعصا: من أنت أيُّها الحقير، حتى تحظى بمُقابلة الرئيس الخطير؟ إني أظن يا سخيف العقل أنك مجرد من حلية الفضل، أيخطر ببالك أنه باق على عهده القديم، أو أنه يجد وقتًا يستغرقه في منادمة النديم؟! أما علمت يا خرفان أنه تحول من شان إلى شان، وأنه أماط عنه جلباب التواضع والفتور، واستعد لمباشرة الأمور، وكأن به قد أهمل الرفيق، وتغافل إلا عن الرحيق.

فقال له الشيخ: كذبت فيما ادعيت، ولا جرم أنك عليه افتريت، وسأقص عليه خبرك؛ ليقطع من الدنيا أثرك، فقال الخادم: يا شيخ الضلال سترى، أن مثلي ما كذب وما افترى، وكان الأقرع قد تعب من طول مدة الوقوف، فرجع إلى داره بالخيبة والكسوف، وبمجرد دخوله العتبة، قال له ابنه أبو رقبة: يا أبتي، إن الراتب ما أُتي به في هذا اليوم، وإنه لا قدرة لنا في الليل والنهار على الصوم؛ فسكت الشيخ على مضض، وقد اعتراه من شكوى ولده المرض؛ لأن عائلته لما كانت كثيرة العدد، كان لا يبقى من مرتبها اليومي أدنى شيء إلى غد، ويُقال إنَّهم باتوا في هذه الليلة بلا زاد، وإن أحوالهم قد تبدلت بعد الصلاح بالفساد.

ثم انتبه الشيخ من نومه ونهض في يوم الأحد، إلى ملاقاة مولاه الأوحد، فلم يصل بأي حيلة إليه؛ لكثرة الازدحام عليه، وقد استمرَّ على ذلك أربعة أيام، مضت عليه كأنها لطولها أربعة أعوام، وخطر بباله في اليوم الخامس، أنه يدخل عليه وهو في الديوان جالس؛ لعله يفوز من الاجتماع معه بعد الوحشة بالاستئناس، فانتهز فرصة استراحة الحراس، وأيقن أنه بزعمه أتقن الحيل، واندفع في قاعة جلوسه على عجل، وتأمل فيها فوجدها ملونة الجدران واسعة، وهي لأنواع الظرافة والزخرفة جامعة، وشاهد في صدرها شبحًا كأنه أسد، أو آدميًّا مشوه الخلقة كالرَّصد، وقبل أن يدنو منه ويفوز بالقصد، سمع منه صيحة هائلة كالرَّعد، فانقلب على ظهره وسحبوه، وطرحوه على الأرض وضربوه، وقال له زعيم الأعوان نذير، موبخًا له على فعله النكير: لك الويل يا أغبر، يا مهين يا قبيح المنظر، كيف خاطرت بنفسك، وتجاريت على ارتكاب ما يسوقك إلى رمسك؟! ثم تفل في وجهه وصفعه، وقال: على أبيك اللعنة وعليك معه، اذهب — لا كنت — من حيث أتيت، وإن رجعت بعدها إلى هذا البيت، أشبعناك ضربًا، ودفناك بالحياة غصبًا، تبًّا لك يا سلالة الأنذال، ويا حثالة أسافل الجهال، كيف تسعى بقدمك إلى إراقة دمك!

فَلَمَّا انفلت الشيخ من أيدي الأعوان اللئام، وقد خفَّ عنه بعض ما كان يجد من الآلام، أخذ يمشي الهوينى حتى انتهى إلى منزله عند الغروب وهو في ارتباك، وقد أشرف من الضرب بالسياط على الهلاك، ودخل على زوجته وشقه مائل، والدم من رأسه سائل، فقالت له: من فعل بك هذا يا ابن شعلان؟! قال: فعله جماعة من الأعوان، بعد ما أفرطوا في السب واللعن، وأوعدوني إن لقيني أحد منهم بالطعن. فقالت له: لعلك ما عرفت لزعيمهم حقه، ولا استعملت معهم في كلامك الرقة، فعوقبت على قلة أدبك، بما أودى بك إلى سوء منقلبك، وإنَّه يَجِبُ عليك مع فقرك، وزيادة فاقتك وعُسْرِك؛ أنك يا أقرع بالنزر اليسير تقنع. فقال لها: إني دخلت في قاعة الرئيس الهمام، لزعمي أني له من جملة الخدام، فسحبوني على وجهي قهرًا، وعاملوني بضد عدل كسرى، هنالك نسيَتْ بما ناله من العذاب الأليم، ما كانت فيه مع عائلتها من النعيم، وتمثلت وهي على جمر الغضا بقول من مضى:

أيا ويح دهر منه قد عدم الوفا
فما ينقضي فيه لراجيه مأرب
يكدر عيش المرء بعد صفائه
وإن ما كسا ثوبًا من العز يسلب

ثم قال لها: يا حليلتي، ويا صاحبتي وخليلتي، إن هذا الرجل قد غدر بي ومكر، وجعلني عبرة لمن اعتبر، وانقطع عنا كما تعلمين الراتب، وزحفت إلينا جنود النوائب، فاخلعي مع البنات ما عليكن من اللباس، ولنقل بأجمعنا: اللهم يا شديد الباس، اشدُد وطأتك عليه، وافصله من منصبه ولا تنظر إليه، وليكن ذلك سريعًا معجلًا، لا بطيئا مؤجلًا.

لعن الله من يرى الضر للنا
س ويسعى في كشف حال الخلائق
رب فأنزل عليه سوط عذاب
وارمه الآن في أشد المضايق
وأذقه نكال بطشك واصرم
عمره في دياره بالصواعق
يا شديد المحال شدد عليه الكـ
ـرب وانصب له شباك العوائق

وكان دعاؤهم عليه كل ليلة في وقت الفجر، فاستجاب الله منهم في عامهم وقُضي الأمر، ومنع عن مباشرة وظيفته، بعد إحالته على خليفته، وكان السبب في إبعاده على ما قيل في هذه المرة، هو أنهم رموه بقتل خادمه سكران بن خمرة؛ لادعاء بعضهم عليه أنه جمع ما جمع من الرشوة، وصرفه في سبيل اللهو والصبوة، ولمَّا عاد إلى ما كان فيه من الضيق والكرب، وكان في هذه الدفعة قد انتقم من الحساد بالضرب، أغضب الصديق والجار، وفي حكمه على الجميع جار، فازداد عليه حنق العاقل والأحمق، ونظر إليه كل واحد منهم بعين العدوِّ الأزرق، وبعد أن مكث في سجنه نحو شهر، يتقلب وحده على الجمر، تذكر الأقرع بن شعلان، الذي كان يأتيه بالأخبار في بعض الأحيان، وكان هذا الشيخ عند ذلك يقول، وجسمه من السغب في نحول: ليت شعري هل يسمح الزَّمان الذميم، بالقرب من سدة الرئيس الكريم، ويسالمني بعد ما فعل فعلته، وغيَّر في عبادة الإخلاص قبلته، وأبى إلا أن يصفعني بخُفه، ويطأ عنقي بظلفه، وتحول معي من الأدب إلى السفاهة والقباحة، ومن اللين إلى الصعوبة والوقاحة، وبينما هو يَلهَج بكيت وكيت، ويتعلل بلو وليت، ويقول هيهات هيهات، أن يرجع ما فات! إذ دخل عليه بشير، غلام الرئيس الخطير، وكان قد بعث به إلى هذا الأقرع، فانطلق إلى منزله كلمح البصر أو أسرع، وقال له بعد السلام والتحية: أجب مولانا صاحب السدة السنية، وكان الشيخ لا يعرف هذا الغلام، مليح الصورة رشيق القوام، فقال له: ومن هو هذا الأمير، الذي تدعوني لمقابلته وإليه تُشير؟ فقال: هو سيدك ونصيرك، وعدتك في شدتك ومجيرك، وإني أيها الشيخ الفقير، أعتذر لك عنه في التقصير، وقد جاء معي أخي عنبر، وهو واقف أمام بابك الأكبر؛ فلثم الشيخ يده اليمين، وقال له: مرحبًا بك أيها الأمين، وكان الغلامُ قد هيَّج فيه شهوة الطمع، وأعطاه من النقود كمية اندفع بها عنه الوجع، ووعده بأموال وضياع، ورفاهية أحوال ومتاع، فلم تكن إلا هنيهة من الزَّمن أو لحظة، حتى نال الشيخ من هذا الطلب حظه، وبمرافقة الغلام إلى مولاه سمح، وعفا عن دهره المسيء وصفح، وبعد صلاة الظهر لبس أطماره البالية، وتمنى مُفارقة عيشته غير الحالية، وسار مع الرسول، ولسان حاله يقول:

سامح زمانك إن أتى
بعد العناد مسالما
واقبل معاذير امرئ
أولاك منه مكارما

فلما دخل عليه في قاعة الجلوس، ودنا منه بوجه غير عبوس، وانكب على القدمين، وقبلهما بعد اليدين، قال له: ما الذي قطعك عني، وأنت بمنزلة الروح مني؟ فقال: قطعتْني عنك السياط، وحرماني أنا وعيالي من المرتب للسماط، فتأسف عليه وتألم، وقال: تالله يا أبا مريم، إني ما رأيتك منذ عدة شهور، مع احتياجي لك في بعض الأمور، وإني ما أشرت إلى أحد بضربك، ولا أغريته على شتمك وسبك، ولا أمرت بقطع الراتب، بعد قيده في سجل الكاتب، فقال له: يا سبحان ربي! أمَا أنت الذي أشرت بضربي، وأمرت بقطع معاشي، وشق ريش رياشي؟ فقال: لا وحرمة ما لك عليَّ من الخدامة، ما وقع في حقك ما يُوجب المَلامة، فإنْ كان قد أصابك من الإهانة، ما يقضي بالانخفاض بعد علو المكانة، فلا تحمله على الاستخفاف، بمن هو دونك ولو من الأجلاف، بل احمله على رداء إبليس، الذي يستر به عين كل رئيس، عند قيامه بوظيفة جليلة؛ ليُنسيه صديقه وخليله، ويضرب الحجاب بينه وبين العدوِّ والحبيب، حتى لا يميز البعيد من القريب.

فلما سمع الشيخ منه مقاله، عرف أنه صادق المقالة، وصفا له وقبل عذره، وانقاد له وامتثل أمره، وشرع على جري عادته في إتحافه بالأخبار، فزال عنه بعض ما نزل به من الأكدار، وضاعف له أرزاقه، وحل منه الفقر وثاقه، وكساه حلة جديدة، وملأ بطنه الجائع بالثريد والعصيدة، وأقطعه ضيعة خصبة، ذات بساتين وعيون عذبة، يقال إنَّ غلتها لا تنقص في كل سنة، عن مائتين من الدَّنانير المُسْتَحسنة، ووعده أنه إن عاد إلى منصبه الفخيم، وانجلت عنه دياجي العزل الوخيم، كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده، وشاركه في أمره ونهيه وحله وعقده، فعند ذلك قال له الشيخ بعد أن أخذ عليه العهود: سترجع إلى منصبك على رغم الحسود، ثم تركه ومضى إلى البيت، يعدو على رجليه كالجواد الكميت، وقال لزوجته: أيتها الوليفة، إن الرجل تاق إلى الوظيفة، فاستعدي للدعاء له لا عليه، عسى يعود منصبه إليه. فقالت له: إنه ما عرف لك هذه المَنْقَبة، لمَّا سالمته الأيام وجلس على المرتبة، وإننا لا نزال بخير، ما دام هو في ضير، وقد رأيتَ بالأمس ما فعله. فقال: لا تثريب عليه يغفر الله له، ثم دعا فأجيب بعد مدة من الزمن إلى ما طلب، وفاز الرئيس من دعائه بالأرب.

وكان الشيخ قد احتال حتى خرق سقف مخدع ظريف في الطريق الموصلة إلى الديوان المنيف، وانتظره إلى أن ركب ومن تحته عبر، فأدلى من الخرق رداء حجب بصره عن النظر، فانزعج الرئيس وقال وهو في حالة الخوف: ما هذا الملم الذي حَرَّك مني الخوف؟ فقال له الشيخ: يا مولاي، لا بأس عليك، هذا ردائي قد سبقت به إليك، حتى لا يتمكن إبليس من وضع ردائه على وجهك المهاب، وأعود أنا إلى ما كنت فيه من العذاب.

فلما عرفه ذهب عنه الروع والاضطراب، وأنزله من المخدع وقربه منه كل الاقتراب، ووصله واتصل به غاية الاتصال، وعاش معه في أرغد عيش بلا انفصال، حتى أدركه الحِمام بعد ثمانية أعوام، ولم يزل أولاد هذا الشيخ من بعده، رافلين عند الرئيس في حُلَل رفده، ناطقين بشكره، إلى أن ثوى بقبره، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسبغ عليه النعم السرمدية في جناته، ومتعه فيما بها من القصور، بوصال الحور الفائقة في الحسن على تمام البدور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤