آراء أناتول فرانس

ليس بدعًا أنْ نقول: إنَّ سوء الاختيار ضروري لوجود الأكاديمية الفرنسية، فلو كانت لا تؤدي في انتخاباتها قسط الضعف والخطأ، ولا تتظاهر أحيانًا بأنها تأخذ أعضاءها اتفاقًا، لجعلت ذاتها بغيضةً إلى حد أنها لا تستطيع أنْ تعيش، ولكانت في الآداب الفرنسية كالمحكمة وسط المجرمين، لو كانت معصومةً لأصبحت ممقوتةً، ما أشد الإهانة على الذين تردُّهم لو كان من يقع عليه اختيارها هو الأفضل دائمًا! يجب على ابنة ريشيليم أنْ تتظاهر بشيء من الخفة؛ لئلا تحسب وقحةً، إنَّ ما ينجيها هو أنَّ لها خواطر وأهواء براءتها في أنها غير عادلة، ولأنا نعهدها متقلبةً، فهي قادرة على أنْ تصدنا دون أنْ تجرحنا، إنَّ في بعض انتخاباتها ما يجرد الحسد من سلاحه، ثم إذا بها — وقد أيأستك من أمرها — تثبت أنها ذات حيلة، وأنها حرة بصيرة، حقًّا، ينبغي أنْ نحسب في شئون البشر كلها حساب المصادفة.

***

إنَّ الأوساط يسودون في الأكادمية، وأين لا يسود الأوساط؟ أتراهم أضعف سلطانًا في البرلمانات ومجالس التاج، حيث هم في غير موضعهم بلا جدال؟ ولكن هل يجب أنْ تكون رجلًا نادر المثال؛ لتشتغل في معجم يريد أنْ يعين الاستعمال، ولا يستطيع إلَّا اتباعه؟!

***

يتمسك الشيوخ بأفكارهم أكثر مما يجب؛ لهذا كان سكان جزر فيجي يقتلون آباءهم إذا شاخوا، إنهم يمهدون سبيل النشوء على حين أننا نعوق سيره بتأليف الأكادميات.

***

في أعمال البشر كلها أحد عاملين: الجوع والحب، لقد علم الجوع المتوحشين أنْ يقتلوا، وأنْ يخوضوا غمار الحروب والغارات، أمَّا الشعوب المتمدنة فهي ككلاب الصيد، تهيجهم غريزة فاسدة إلى الهدم بلا سبب أو جدوى، ويُدعى جنون الحروب الحديثة مصلحةً ملكيةً أو مبدأ قوميات، أو توازنًا أوروبيًّا أو شرفًا، ولعل هذا العامل الأخير أبعدها عن المعقول؛ إذ ما من أمة إلَّا احتملت كل المهانات التي قُدِّر لجماعة من الناس أنْ تنزل بساحتهم، وعلى كلٍّ إنْ كانت لا تزال عند الشعوب بقية شرف، فأعجب الوسائل إلى صيانتها إشعال نار الحرب؛ أي ارتكاب كل الجرائم التي تعرِّي الفرد من شرفه؛ الحرق والنهب والقتل وهتك الأعراض. أمَّا الأعمال التي يوحي بها الحب، فهي عنيفة جنونية، فظيعة بقدر الأعمال التي يوحي بها الجوع حتى يحق القول: إنَّ الإنسان وحش شرير.

***

إذا سموت يومًا فوق طبيعتك، وبلغت إلى معرفة ذاتك، ومعرفة الذين حولك، أيقنت أنَّ الناس لا يأتون عملًا إلَّا مراعاةً لرأي الناس، وهم بذلك أشد المجانين جنونًا، يخشون أنْ يُلاموا ويودون أنْ يمدحوا.

***

الأرواح لن ينفذ بعضها إلى بعض.

***

لو كنا ندرك أشكال النفوس كما ندرك أشكال الهندسة، لما خالطنا عداءٌ لعقل ضيق إلَّا بمقدار ما يعادي رياضيٌّ زاويةً يعوزها خمس درجات أو ست؛ لتكون لها خصائص الزاوية القائمة.

***

آراؤنا في الحب كآرائنا فيما سواه؛ تقوم على عادات سالفة تكاد تمَّحي ذكراها. في دائرة الأخلاق تجد الأوامر والنواهي التي فقدت علة وجودها، والفروض والواجبات التي لا طائل تحتها، والإلزامات التي بلغت في الفظاعة غايةً لا غاية بعدها، لكنها مبجلة محترمة؛ لأنها عريقة في القدم، تكتنف منشأها الأسرار، لا تُنال بجدل، أو اعتراض، أو تمحيص، بل إنك لا تخالفها إلَّا تعرضت لأشد اللوم والتقريع. إنَّ الآداب الخاصة بعلاقات الجنسين قائمة على هذا المبدأ: متى أُخذت المرأة أصبحت ملكًا للرجل كجواده وسلاحه، والآن — وقد بطل هذا المبدأ — فلا يزال سببًا لبعض الأمور العارية عن المنطق كالزواج مثلًا: الزواج عقد بيع امرأة لرجل، يتضمن بنودًا لتحديد الملكية، أُدخلت منذ أخذ الوهن يطرأ على المالك.

***

في جميع الفنون لا يصور الفنان إلَّا نفسه: آثاره، أيًّا كان الثوب الذي يخلعه عليها، معاصرةً له بالفكر. ماذا يعجبنا في الكوميديا الإلهية إنْ لم يكن نفس دانتي الكبيرة؟ ورخام ميكال آنج؟ ماذا يمثل من الخوارق إنْ لم يكن ميكال آنج بذاته؟ إذا كنت فنانًا منحت بدائعك ما فيك من حياة، وإلَّا فأنت تقتطع ألاعيب كالتي يحبها الأطفال.

***

من الخرق أنْ يقتل رجل امرأةً، والرجال القادرون على هذه المجزرة لا مراء في أنهم لا يُطاقون أصلًا، لو سلمنا بأنهم ليسوا مصابين بالجنون المطبق، فيجب أنْ يكونوا قليلي النعمة في عقولهم والليونة في أفهامهم، وأحسب أنهم يظلون ثقلاء قساةً حتى في حجر السعادة؛ لأن أنفسهم لا تدرك تلك الفروق الدقيقة الفتانة، التي ما فُقدت إلَّا كان وجه الحب أغبر داعيًا إلى السأم.

***

لسنا نألو جهدًا في محاولتنا أنْ ننفذ إلى المستقبل الذي لا يُنفذ إليه، ونعمل لذلك بكل قوانا، وبكل ما أوتينا من الوسائل، نحسب أننا سنبلغ إليه بالتأمل حينًا، وبالصلاة والوجد حينًا. يسأل بعضنا وحي الآلهة، ولا يخاف البعض الآخر إتيان المحرمات، فيسأل عرافي كلدة أو يجرب طوالع بابل. يا للفضول الباطل الكفور! ماذا تجدي معرفة المستقبل ولا مفرَّ من المستقبل؟!

***

لم يقل الأقدمون عن عبث: إنَّ القدرة على اختراق حجب المستقبل شر موهبة ينالها المرء. لو جاز لنا أنْ نرى ما سيأتي، إذن لما بقي لنا إلَّا أنْ نموت، بل لربما سقطنا مصعوقين ألمًا أو رعبًا، المستقبل يجب أنْ نشتغل به كما يشتغل النساجون، دون أنْ يروا الطراز الذي يوشُّون.

***

الحقيقة هي أنَّ البشر لا ينظرون بعيدًا إلى الأمام إلَّا وجلين، ويعتقد كثير منهم أنَّ هذا الاستقصاء ليس باطلًا فحسب، بل هو سيئ أيضًا، والأقربون إلى الاعتقاد أنَّ من المستطاع الاطلاع على شئون المستقبل هم الأشد خوفًا من اكتشافها، لا ريب في أنَّ وراء هذا الخوف دواعي بعيدة الغور، فإن النظم الأخلاقية والدينية أتت بكشوف عن أقدار البشر، وأكثر الناس — سواء اعترفوا أم كتموا أنفسهم — يخشون أنْ تتحقق هذه الكشوف القدسية فيجدوا باطل آمالهم، لقد ألفوا تصور أشد العادات والأخلاق اختلافًا عن عاداتهم وأخلاقهم؛ لأنها عريقة في القدم، وهم يغبطون أنفسهم على تقدم الأخلاق، ولكن لما كان نظامهم الأخلاقي بالجملة قائمًا على عاداتهم، فهم لا يجرءون على الإقرار بأن النظام الأخلاقي الذي ما فتئ يتبدل بتبدل العادات قبل أنْ يصل إليهم سوف يتبدل من بعدهم أيضًا، وأنَّ رجال المستقبل قد يرون غير رأيهم فيما هو حلال وحرام، يخيفهم الإقرار بأنه ليست لهم إلَّا فضائل متحولة، وآلهة طاعنة في السن، وتراهم يخالون أنفسهم مخدوعين إذا توقعوا أنْ تتخذ البشرية حقوقًا وواجبات وآلهةً غير التي عرفوها، رغم تلك الفروض والحقوق المتقلبة المتبدلة التي عرضها الماضي لأنظارهم، وبالنهاية إنهم يخافون أنْ يُعابوا في أعين معاصريهم إذا أثبتوا تلك «اللاأخلاقية» الشنعاء التي ستكون «أخلاقية» المستقبل، هذه أيضًا موانع عن العمل لمعرفة المستقبل.

***

نحن نضع اللانهاية في الحب؛ ليس هذا ذنب النساء.

***

حب الرجال دنيء، لكنه قد يسمو إلى ذُرى الآلام، فيوصل إلى الله.

***

إذا أحببتِ وأُحببتِ، فاصنعي ما ترين أنْ تصنعي.

***

ولكن لا تمزجي بالحب المصالح والشئون التي لا شأن للحب معها.

***

سيُعفى عن ذنوب الحب، بل إنَّ المرء لا يذنب متى أحب، ولكن الحب الشهواني يقوم بعناصر البغض والأثرة والغضب، بقدر ما يدخل فيه من عنصر الحب.

***

ما من حب حقيقي إلَّا فيه أثر من الشهوانية.

***

لا يحب المرء حقيقةً إلَّا إذا أَحَبَّ لغير علة.

***

إنَّ ما يجعلك تشتهي وتحب لقوةٌ لطيفة هائلة أكبر سلطانًا من الجمال، يجد الرجل امرأةً بين ألف، فإذا أخذها لم يستطع قط أنْ يدعها، وهو يريدها أبدًا ولن يزال. إنَّ زهرة جسدها هي التي ترمي نداء الحب الذي لا بُرء منه، بل شيء آخر لا يمكن الإفصاح عنه هو روح جسدها.

***

يحب المرء؛ لأنه يحب ورغم كل شيء.

***

من العبث البقاء في هذه الدنيا متى أصبحت عاجزًا عن أنْ تحب.

***

المرأة المحبة لا تخاف جهنم، ولا ترغب في الجنة.

***

هو الحب الذي يهب الأشياء جمالها.

***

لنا الحب في هذه الدنيا، ولكن ثمنه الموت، لو لم يكن حتمًا علينا أنْ نموت لما أمكن تصور الحب.

***

الحياء خطيئة كبيرة نحو الحب.

***

لا يُعطى الحب كما تُعطى جائزة الفضيلة، ولن تقتل دناءةُ المرأة شعورك نحوها، بل إنَّ دناءتها قد تحييه.

***

إنَّ هذا الحيوان البشري مركب على أن لا يكون فاضلًا عفيفًا إلَّا بعيب فيه.

***

الجمال يحفظه الحب، وجسد النساء يتغذى بالقُبَل كما يتغذى النحل بالأزهار.

***

من شئون الحب ما تأتيه المرأة بغير مبالاة، لاهيةً عنه بغريزة المرأة، وبفعل العادة والروح التقليدي؛ لتجرب سلطانها ولتسرَّ بمشاهدة آثاره.

***

نريد أنْ يحبنا الرجال، فإذا أحبونا عذبونا أو أسأمونا.

***

آه ليس هينًا على المرأة أنْ تقول ما تحب وما لا تحب.

***

إني لتروعني السرعة التي قد يَفسد بها الرجل الفاضل.

***

لا يحب النساء حبًّا حقًّا إلَّا أنانيٌّ.

***

لا يعرف السعداء كثيرًا من أمر الحياة، فإن الألم هو مربي الإنسانية الأكبر، علَّمها الفنون والآداب والشعر، وأوحى إليها بالبطولة وبالرحمة، وهو الذي يجعل للحياة قيمةً؛ إذ يتيح لنا أنْ نقدم الحياة قربانا؛ الألم المحسن الذي يضع اللانهاية في الحب.

***

أولى لك أنْ تكون المخدوع أحيانًا، فقد علمتنا الحياة أنَّ المرء لا يكون سعيدًا إلَّا بقليل من الجهل.

***

أمن المستطاع أنْ تعزِّي محزونًا دون كذب؟!

***

امرأة محجبة تمشي في سبيلها منذ وجدت الدنيا؛ يدعونها الملانخوليا.

***

سواء أعلم المرء أم لم يعلم فهو يتكلم، ليس يُعلم كل شيء، ولكن كل شيء يقال.

***

كتبي يا كتبي! لا يقول أحد في كتابه شيئًا مما يود أنْ يقول، وما كان لامرئ أنْ يعرب عن مكنونات نفسه، نعم أنا قادر كغيري على أنْ أحدِّث بقلمي، ولكن ما الكلام وما الكتابة؟ سخافة؛ أي سخافة! لو فكرتَ في هذه الإشارات التي تتألف منها المقاطع والكلمات والجمل لأشفقت، ماذا يبقى من الفكر الجميل تحت هذه الهيروغليفات الغريبة المألوفة معًا؟ ماذا يصنع القارئ بالصفحة التي أكتبها؟ سلسلة من معانٍ مغلوطة، ومن معانٍ معكوسة، ومن «لا معاني» ليس المرء إذ يقرأ ويسمع إلَّا مترجمًا، وقد توجد ترجمات حسنة، ولكن لن توجد ترجمات أمينة. ماذا يهمني أنْ يعجبوا بمؤلفاتي إذا كانوا لا يعجبون إلَّا بما يضعونه فيها؟ إنَّ كل قارئ يبدل برؤيانا رؤياه، وغاية ما في الأمر أنا نعطيه سوطًا يهيج مخيلته.

***

لن تزالي يا حبيبتي لغزًا في معناه المجهول ملذات الحياة وأهوال الموت، لا تخشي أنْ تعطيني نفسك، سأشتهيك أبدًا، وسأجهلك أبدًا. هل قُدِّر لامرئ أنْ يملك المرأة التي يحب؟ وهل كانت القُبَل إلَّا جهودًا يبذلها يأس ناعم؟ إني إذا ما ضممتك إلى صدري لا أفتأ أطلبك، لن أحوزك قط؛ لأني فيك أطلب المحال واللامتناهي.

***

ليس في هذه الحياة أجمل من الأهواء، لكنها خرقاء، والحب أجملها وأبعدها عن الصواب.

***

لا تنسَ أنَّ الجمال من فضائل هذه الدنيا.

***

إنَّ الأشياء الجميلة محببة إلى النفس؛ لأنها تزين الحياة، والشيء الجميل يوازي عملًا من أعمال الخير، بل من أعمال الخير أنْ تؤلف باقة زهر جميلة.

***

ليس في الدنيا ما هو أكبر سلطانًا من الجمال.

***

لو خُيرت بين الجمال والحقيقة لما ترددت بل اخترت الجمال، يقين أنه يحمل حقيقةً أعلى وأبعد غورًا من الحقيقة عينها، وأجرؤ على القول إنه لا حق في الدنيا إلَّا ما هو جميل، الجمال أسمى كشفٍ عن الإلهي أُذن لنا أنْ نعرفه.

***

أيسر عليك أنْ تَعد بسعادة كبرى من أنْ تعطيها.

***

الرقص صلاة …

***

أنا أفهم كل شيء، ولكن من الأشياء ما تعافه نفسي.

***

ما يبدو لنا أنه حسن فهو حسن، وما يبدو لنا أنه قبيح فهو قبيح. ليس الشر على الحقيقة إلَّا في بذل الجهد وعدم الرضى، إذن فلا نجهد قوانا ولنكن راضين، لا نضرب الأشرار لئلا نصبح مثلهم، وإذا أسعدنا الحظ بأن نكون فقراء بالفعل، فلا نجعل أنفسنا أغنياء بالفكر، متعلقي القلوب بمتاع الدنيا مخافة أنْ نشقى أو نظلم الناس؛ لنصبر على الاضطهاد، ولتكن كئوس الحب التي تحيل ما يُصب فيها من سم زعاف بلسمًا شافيًا.

***

ليس الخير في الإنسان، ولا يدري الإنسان ما هو خير؛ لأنه لا يعرف طبيعته، ولا ما يُراد به، قد يكون الشر فيما يراه خيرًا، والضرر فيما يراه نفعًا، هو عاجز عن اختيار ما يصلح له؛ لأنه لا يعلم ما هي حاجاته؛ كالطفل الصغير الذي يجلس في البرية، فيمتص حشيشة الحمرة غير عالم أنها سم لكن أمه تعلم؛ لذلك فالخير كله هو أنْ يعمل المرء بمشيئة الله.

***

يُورث كل تبدل يطرأ وإن تمنيناه كثيرًا حزنًا وغمًّا؛ لأن ما نتركه جزء منا، ينبغي أنْ نموت في حياة لندخل حياةً أخرى.

***

لا أعتقد أنَّ البشر أخيار بالفطرة، وأرى أنهم على الضد من ذلك، لا يخرجون من وحشيتهم الأولى إلَّا ببطء وجهد؛ لينظموا نظامَيْ عدل غير أكيد وخير غير دائم، ولا يزال بعيدًا الزمن الذي يصبحون فيه وادعين، يعطف بعضهم على بعض، ولا تقاتل أمة منهم أمةً، بل تُخبأ الصور التي تمثل الحروب؛ لأنها منافية للأخلاق الحسنة، يُخجِل منظرها الناظرين، وأرى أنَّ ملكوت العنف سيدوم طويلًا، وأنَّ الشعوب لن يكف أحدها عن تمزيق الآخر لأسباب تافهة، وأنَّ أبناء الشعب الواحد سيسلب بعضهم بعضًا القوت الضروري بدلًا من أنْ يتقاسموه قسمةً عادلةً، ولكني على يقين من أنَّ البشر أقل وحشيةً وفظاظةً، إذا كانوا أقل بؤسًا وشقاءً، وإنَّ ترقى الصناعة سيؤدي في النهاية إلى تلطيف الطباع، لقد قال لي عالم نباتي: إنَّ شجر البوت إذا نُقل من أرض جرداء إلى أرض خصبة تبدل بشوكه زهرًا.

***

لا أخشى القول إننا لا نفهم اليوم بيت شعر من الإلياذة والكوميديا الإلهية بالمعنى الذي أرادوه في الأصل. الحياة تبدُّل مستمر، وحياة أفكارنا الباقية بعد موتنا لا تخرج من سلطان هذا الناموس؛ ليست باقيةً إلَّا بشرط أنْ تبعد رويدًا رويدًا عما كانت إذا ولدتها نفوسنا، وسيعجب الناسَ منا ما هو غريب عنا.

***

إنَّ الحقائق التي يهتدي إليها العقل عقيمة، والقلب وحده قادر على أنْ يجعل أحلامنا منتجةً؛ إذ يفيض حياةً على كل ما يحبه، بالعاطفة تبذر بذور الخير في الدنيا، ولم يؤتَ العقل هذه القدرة، إذا شئت أنْ تنفع الناس فاطرح العقل كما تطرح متاعًا مربكًا يعوق سيرك، وارتفع بأجنحة الحماسة، أمَّا إذا تعقلت فلن تحلق في السماء.

***

من الحسن أنْ يكون القلب ساذجًا والفهم غير ساذج.

***

الاعتراف حاجة في النفس لا تغلب.

***

لا مراء في أنَّ جسم المرأة أقل جمالًا من جسم الرجل؛ لأنه يضم نفسًا أقل حسنًا من نفسه. النساء عابثات مخاصمات، منصرفات إلى السفاسف، عاجزات عن حمل الأفكار السامية، وعن إتيان الأعمال العظيمة، وكثيرًا ما يعمي المرض بصائرهن.

ومع ذلك، فقد كان في رومة وأثينة عذارى وأمهات ترأسن عن جدارة الاحتفالات الدينية، ورفعن القرابين إلى المذابح، وفي الآلهة من اصطفوا العذارى لتلقي وحيهم، وكشف حجب المستقبل لأعين الناس، هذه «كاساندر» زينب رأسها بعصائب «أبوللون»، وتنبأت بهلاك أهل طروادة، وهذه «جوترنا» خلدها غرام إله؛ إذ عهد إليها بحراسة الينابيع في رومة.

***

ليقل لومبروزو ومودزلي ما شاءا، فقد يكون امرؤٌ مجرم دون أنْ يكون مجنونًا أو عليلًا. في الإجرام بدأت الإنسانية حيلتها، وكان الإجرام قبل التاريخ قاعدةً لا مستثنى، ولا يزال كذلك في عصرنا عند جماعة المتوحشين، يمكن القول: إنه كان والفضيلة واحدًا بالأصل، ولمَّا ينفصل عنها في ظهراني زنوج أفريقية الوسطى، كان الملك «متزا» يقتل كل يوم ثلاث نسوة أو أربعًا من حريمه، وأمر ذات يوم بقتل إحداهن لأنها أهدته زهرةً، ثم اتصل الملك متزا بالإنكليز، فأظهر ذكاءً نادرًا واستعدادًا عجيبًا لفهم أفكار المتمدنين.

كيف لا نقر بهذا كله، وهذه الطبيعة نفسها تعلم الإجرام؟! يقتل الحيوانات بعضها بعضًا؛ لافتراسها أو بعامل الغيرة المحنقة أو لغير علة، فمن الحيوان إذن مجرمون، إنَّ ضراء النحل مخيف، وكثيرًا ما تفترس الأرانب صغارها، والذئاب يأكل بعضها بعضًا خلافًا لما في الأمثال، لقد شوهدت أورانغ أوتانغ أنثى تقتل عذولةً لها، هذه جرائم، فإذا كانت العجماوات التي ترتكبها غير مسئولة عنها، فالطبيعة أحرى أنْ تتهم بها؛ إنَّ الطبيعة جعلت الإنسان والحيوان في حالات من البؤس لا تُطاق.

ولكن لله! ما أسمى هذا الجهد المنصور الذي يبذله الإنسان ليتحرر من قيود الإجرام العتيقة، وما أعظم صرح الآداب الذي يشيده حجرًا حجرًا، لقد نظم البشر العدل تدريجًا، فأصبح العنف حالة استثنائية بعد أنْ كان في العصور السالفة قاعدةً عامةً، أصبح داءً من الأدواء، وشيئًا لا يمكن التوفيق بينه وبين الحياة كما عملها الإنسان بفضل صبره وشجاعته، لا يتسرب الإجرام إلى مجتمع إلَّا قرضه قرضًا وأكله أكلًا، كان المغذي الأول لأهل الكهوف، فأصبح اليوم سجان البؤساء الذين يطلبون العيش فيه.

القتل عادة في الحيوان ولا سيما في الإنسان، كان الرأي في الجماعات الإنسانية الأولى أنه عمل جليل، وما زال في آدابنا وأوضاعنا آثار من ذلك الإجلال الماضي.

***

بأي حق تسأل المرء أنْ يضحي حياته إذا سلبته الأمل في حياة أخرى؟

***

وبالجملة فإن النقد لا قيمة له إلَّا قيمة الناقد، فكلما كان ذاتيًّا كان أبلغ في تشويق القارئ وإغرائه.

إنَّ النقد كالفلسفة، والتاريخ نوع من القصص تنتفع به العقول الراجحة المتطلعة إلى المعرفة، وكل قصة على الحقيقة سيرة يكتبها القصصي عن نفسه، وخير ناقد من يقص عليك حوادث روحه ووقائعها بين آيات الفن.

لا يوجد نقد موضوعي، وهؤلاء الذين يباهون بأنهم يضعون في فنهم شيئًا غير أنفسهم، مغترون بأشد الآراء خطلًا، فإن المرء لا يخرج من ذاته، وفي هذا العجز إحدى خصاصات بني الإنسان، أيُّ شيء لا نعطيه كي نرى — ولو دقيقةً واحدةً — السماء والأرض بعيني ذبابة، أو كي نفهم الطبيعة بدماغ قرد خشن؟ لكن هذا محظور علينا، فليس أحدنا بقادر على أنْ يكون مثل «تريزياس» رجلًا يذكر أنه كان امرأةً. كلنا سجين كأنه من ذاته في سجن أبدي، وخير ما نصنع هو أنْ نقر مختارين بهذه الحالة الرهيبة، وأن نحدِّث عن أنفسنا كلما أعيانا الصمت.

إنَّ النقد هو آخر أنواع الأدب ظهورًا، ولعله سيتمثلها ويحتويها جميعًا؛ لأنه ملائم أحسن ملاءمة لهذا المجتمع الذي أدرك في المدينة شأوًا بعيدًا، فأصبح غنيًّا بالذكريات، قديم عهد بالتقليدات، وهو خير ما تمنحه الإنسانية المثقفة المهذبة المتطلعة، ولكن ينبغي ليكون نافعًا أنْ يقوم بثقافة أوسع مما تقتضيه الأنواع الأدبية الأخرى، هذا النقد الذي أوجده سان أفرمون وبايل ومونتسكيو متصل بالفلسفة والتاريخ على السواء، لم ينمُ نموه إلَّا لأنه نشأ في عصر كانت حرية الفكر فيه مطلقةً، فحل محل العلم الإلهي، وإذا بحثنا عن الإمام الأكبر في القرن التاسع عشر لم يذهب الفكر إلَّا إلى «سنت بوف» أولًا وآخرًا.

***

لو وُفقنا إلى معرفة كل ما في الكون من أسرار، لأصابتنا سآمة لا شفاء منها.

***

إذا أُعجبت جماعة من الناس بكتاب، فأبدى كل واحد سبب إعجابه، انقلب الاتفاق خلافًا وشقاقًا، فإن القراء يرضون في الكتاب الواحد عن أشياء متضادة لا يمكن أنْ توجد جميعًا فيه.

***

من المؤلفات الممتعة التي لم تؤلف بعدُ كتابٌ في تاريخ التبدلات الطارئة على نقد إحدى الطرف الأدبية التي شغلت الأذهان كثيرًا، كهملت والكوميديا الإلهية والإلياذة.

***

مما يلاحظ في فرنسة أنَّ المُبتلين بالصم يكثرون بين نقاد الموسيقى، كما أنَّ المبتلين بالعمى يكثرون بين نقاد النحت والتصوير، ولعل هذا مما ييسر لهم الانصراف الكلي إلى مسائل الفن.

***

ماذا يهمك أنْ تعلم بمَ يؤمن المرء؟ فالمهم هو أنْ يؤمن، وماذا يهمك أنْ تعلم فيم يؤمل؟ فالمهم هو أنْ يؤمل.

***

من الحمق العظيم أنْ تحتقر خطرًا يهددك.

***

لعل الفضول رأس الفضائل الإنسانية، نريد أنْ نعلم وإنْ يكن مقدرًا علينا ألَّا نعلم شيئًا، ولكننا على كل نعارض اللغز الكوني الذي يكتنفنا بتفكير مستمر وأبصار جريئة، وليس لكل أقيسة الجدليين أنْ تشفينا — لحسن الحظ — من هذا القلق الشديد الذي يثير نفوسنا أمام المجهول.

***

إنَّ الشهوات أقوى من الإرادات، فهي التي خلقت الدنيا ولا تزال تحملها.

***

في احتضار الآلهة مدعاة حزن لا ينتهي.

***

من فرج النفوس أنْ يُبدَّل اسم المجهول زمنًا بعد زمن.

***

ليس الآلهة بخالدين أكثر من الناس.

***

إذا كان الجمال ظلًّا، فليست الشهوة إلَّا برقًا، فلماذا تزعم أنَّ اشتهاء الجمال جنون؟ أليس معقولًا أنْ ينضم ما يزول إلى ما لا يدوم، وأنْ يأكل الشعاع الخلب الظل الزاحف.

***

في الهموم تسلية عظيمة.

***

ليس التعليم إلَّا فنًّا يوقَظ به التطلع في النفوس الفتية، ثم يكفى ويُعطى حاجته، ولا يكون التطلع حيًّا صحيحًا إلَّا في النفوس الهانئة الراضية، فإن المعارف التي تُحشر في الأفهام عَنْوةً وقسرًا تسدها وتخنقها. يجب أنْ تؤكل المعرفة بشهية لتهضم.

***

مذ علمت أنَّ الكائنات ليست إلَّا صورًا متحولة في الوهم الكوني العظيم، أصبحت وبي ميل إلى الوداعة والحزن والرحمة.

***

يختلف كل مخلوق بشري باختلاف الناظر إليه، حتى إنه ليصح القول إنَّ المرأة الواحدة لم يأخذها رجلان قط.

***

ينتج الخطأ عن ضعف في الخلق، أكثر مما ينتج عن ضعف في الإدراك.

***

في الصبيات طموح فطري إلى قطف الأزهار والنجوم، ولكن النجوم لا تمكن أحدًا من قطفها؛ هكذا يعلمن أنَّ في الدنيا رغبات لن تُكفى.

***

لا وجود للزمان والمكان، ولا وجود للمادة، إنَّ ما نسميه بهذه الأسماء هو ما لا نعرفه؛ أعني الحاجز الذي تتحطم عليه حواسنا، نحن لا نعرف إلَّا وجودًا واحدًا هو الفكر؛ فالفكر يخلق العالم، ولو لم يزن الفكر نجم «سيريوس» ويسمه باسمه لما وجد «سيريوس».

***

ينمو روح النقد في حالات خاصة نادرة، دون أنْ يحدث أثرًا بليغًا في عقائد البشر؛ لأنها غير خاضعة لحكم العقل، قد تكون فاسدةً، ولكن فسادها لا يجردها من السلطان الذي تخضع له النفوس، ومن الأقوال الشائعة أن فيها عزاءً وسلوى، ولكن لو تدبرنا الأمر لعلمنا أنَّ الناس في الأغلب يفيدون منها لذةً أقلَّ من الخوف الذي يمسهم.

***

أجل، إنَّ الذرات الكيموية التي اجتمعت لتؤلف هذه المرأة تعرض على الأنظار مجموعة جميلة، لكن هذا لهوٌ من الطبيعة، ولا تعلم الذرات ما هي صانعة، وستفترق ذات يوم بمثل عدم المبالاة الذي اجتمعت به، أين الذرات التي تألفت منها لاييس وكليوباطرة؟ أنا لا أعارض في أنَّ من النساء بارعات الجمال، لكنهن جميعًا خاضعات لضروب من التشويه ولحالات تعافها النفس، هذا ما يراه ذوو النظر، على حين أنَّ عامة الناس لا يعيرونه التفاتًا، إنَّ النساء يوحين بالحب، وإنْ يكن من الخطل حبك إياهن.

***

أمَّا ما نعلمه من أمر المرأة التي نحبها، ونوفق إلى حله من أحجيتها، وننفذ إليه من خفايا نفسها … الحقيقة هي أنَّ النصبة المتحركة والمرأة الحية في هذا الأمر سواء.

***

كل شيء يسخر منا؛ السماء والكواكب، والمطر والنسيم، والظل والنور، والمرأة.

***

أحسب أنه ليس في الدنيا ما يحكي سرعة نسيان المرأة، وأعني نسيانها ما كان في نظرها كل شيء، إنَّ المرأة بما أوتيت من قدرة على أنْ تنسى وأنْ تحب؛ لقوة من قوى الطبيعة.

النظر إلى امرأة حسناء نعمة كبرى على الرجل الفاضل.

***

علمنا من أقدم الأزمنة أنَّ آلهة النساء ليسوا من الشدة في شيء، بل إنهم متحلون بعفو غير متناهٍ عن خطيئات القلب والحواس.

***

لقد بلغتْ السنَّ التي يعوز المرأة فيها أنْ تكون معشوقةً كي تظل جميلة.

***

ليقل «لافونتين» ما شاء، فإن الأرنب يسبق السلحفاة دائمًا، كما أنَّ النبوغ يفوز على حسن الإرادة.

***

ليس لبني آدم في حياتهم إلَّا همَّان اثنان: الجوع والحب.

***

الإنسان نبات تقتله العواصف إذ تقتلعه.

***

الإنسان في جوهره حيوان أحمق، وليست ترقياته العقلية إلَّا جهود قلقه الباطلة.

***

لو كنت خالق الرجل والمرأة لما خلقتهما على الصورة التي نعرفها؛ صورة ذوات الثدي العليا أو القرود، كما هما في الواقع، بل كنت أخلقهما على صورة الحشرات التي تعيش أولًا في شكل الديدان، ثم تتحول إلى فراشات لا همَّ لها في آخر العمر إلَّا أنْ تحب وتكون جميلةً … ولكنت إذن أجعل الشبيبة في نهاية الحياة الإنسانية. إنَّ لبعض الحشرات في آخر تحولاتها أجنحةً، وليس لها معدة، ولا يُعاد خلقها ثانيةً على هذه الصورة المطهرة إلَّا لتحب ساعة وتموت بعدها.

***

كيف السبيل إلى الاعتقاد بأن الأفكار الدينية تصلح الأخلاق، وهذا تاريخ الشعوب المسيحية نسيج من الحروب والمذابح والاضطهادات، لا أخالك تطمع في أنْ يكون أحدنا أحسن تقوى من أبناء الأديرة، إذن فهذه طوائف الرهبان على اختلاف أنواعها؛ السود والبيض والكبوشيين وهلمجرا، سواء في أنها ارتكبت ضروب الجرائم الفظيعة، كان قضاة ديوان التفتيش وكهنة العصبة الكاثوليكية متورعين، وكانوا أيضًا قساة الأكباد، ولست محدثًا عن البابوات الذين لطخوا العالم بالدم؛ حتى ليشك المرء في أنهم كانوا يؤمنون بحياة أخرى، الحقيقة هي أنَّ البشر حيوانات شريرة، وأنهم يظلون أشرارًا أَثناء افتكارهم بالعبور من هذه الدنيا إلى الآخرة.

***

النساء والأطباء وحدهم يعلمون أنَّ الكذب ضروري فيه منافع للناس.

***

المصيبة أفضل معلم وخير صديق، فهي التي تهدينا إلى معنى الحياة.

***

رُبَّ رجل يقتحم الموت غير وجل، ولا يجرؤ على التفرد برأي في الآداب.

***

لم يأتِ زمن تبدلت الآداب والأفكار فيه طفرةً، فإن أعظم التبدلات الطارئة على الحياة الاجتماعية تحصل دون أنْ يشعر بها أحد، ولا تُرى إلَّا عن بُعد، كذلك لا يعيرها الذين يجتازونها أقل التفات.

***

لا يمكن تصور العالم إلَّا رمزًا، وما فيه مجازات من القول يتهجاها الرجل العامي دون أنْ يفهم لها معنًى.

***

في أعماق قلوبنا جميعًا ميل إلى الأعاجيب، يحبها أحسننا تفكيرًا دون أنْ يؤمن بها، وليس حبه أقل من حبنا إياها، أجل نحن مغرمون بالأعاجيب غرام اليائس، وإنْ كنا نعلم أنه لا وجود لها علم يقين، بل هذا وحده ما نعلمه علم يقين، فإن وُجدت الأعاجيب لم تكن أعاجيب؛ لأن الشرط فيها ألَّا توجد؛ لو عاد الأموات لكان أمرًا طبيعيًّا لا أمرًا عجيبًا أنْ يعود الأموات، ولو أمكن تحوُّل البشر إلى حيوانات مثل «لوسيوس» في الأقاصيص القديمة، لكان هذا التحول طبيعيًّا، ولما أدهشنا بأشد من تحول الحشرات. لا سبيل إلى الخروج من الطبيعة، وفي هذا اليقين من موجبات اليأس ما فيه، إنَّ الممكن لا يكفينا، فنحن نطلب المستحيل، ولكن المستحيل هو ما لا يتحقق أبدًا.

***

هذه الدنيا تُنغص عليَّ رجائي في الآخرة، أخشى أنْ تشبه تلك هذه، وهو عيب كبير يؤخذ عليها.

***

هذا الكون كما كشف العلم عنه، يورث سأمًا قاتلًا، فإن كل الشموس قطرات من النار، وكل السيارات قطرات من الوحل.

***

كلما أعجبنا بعظمة السماء ينبغي أنْ نعجب أيضًا بصغرنا، فإن على حقارتنا تتوقف جلالة الكون، أليس الكون في ذاته صغيرًا أو كبيرًا؟ فلو كان يصغر فجأةً حتى يصير كرأس الدبوس، لما استطعنا أنْ نفطن إلى ذلك، ثم إنَّ نظرية الزمان متصلة بنظرية المكان، فلو جاز في هذا الافتراض أيضًا أنْ تُطفأ كل شموس المجرة والسديم بمثل السرعة التي تنطفئ بها شرارة السيكارة، إذن لما بدا لأجيال البشر جميعًا أنَّ الأعمال والأيام والمسرات والأحزان قد نقصت دقيقةً واحدةً.

***

في كل رأي باطل شر مستطير. يحسب بعضهم أنَّ الحالمين أيقاظًا لا يسيئون قط وهو حسبان خطأ، فإن أبعد التخيلات عن الإساءة في الظاهر قد تحدث في الحقيقة أسوأ فعل؛ لأنها تبعث في النفوس كراهة الواقع والاشمئزاز من الموجود.

***

إنَّ أسطع الحقائق جعجعة لفظية باطلة عند الذين يُكرهون على قبولها، أتريد إكراهي على قبول ما تفهم أنت وما لا أفهم أنا؟! إنك إذن جاعل فيَّ لا شيئًا مفهومًا، بل شيئًا غير مفهوم.

***

الحقيقة كالشمس لا يراها إلَّا من كانت له عين النسر.

***

لا يصل المرء إلى أسمى الحقائق وأطهرها بحسن التفكير، بل بقوة الشعور، ولما كانت النساء أقوى شعورًا من الرجال، فإن سموهن إلى اكتناه الحقائق الربانية أيسر فيهن موهبة النبوة، وهل كان تمثيل أبوللون السيتاري ويسوع الناصري في ثياب فضفاضة كالنساء عن عبث؟!

***

ليس موضوع الفن الحقيقة، ينبغي أنْ تطلب الحقيقة في العلوم؛ لأن موضوعها الحقيقة، ولا ينبغي أنْ تطلبها في الأدب الذي لا يصح أنْ يكون موضوعه شيئًا غير الجمال.

***

ليست الحقائق العلمية محببةً إلى قلوب العامة، فإن الشعوب تحيا بالميثولوجيا، وتتناول من الأساطير كل مبادئ العرفان التي تحتاج إليها، وقليلة ما هي. إنَّ بضع أكاذيب كافية لإسعاد ملايين من الناس، وبالجملة ليس للحقيقة سلطان على البشر، ولو كان لها سلطان لكان هذا مدعاة أسف؛ لأن الحقيقة مضادة لطبيعتهم بقدر ما هي مضادة لمصالحهم.

***

من الخطأ الفاحش الاعتقاد بأن الحقائق العلمية تختلف في جوهرها عن حقائق العوام، فإنها لا تختلف عنها إلَّا من حيث الاتساع والدقة، وهذا من الوجهة العملية فرق جسيم، ولكن لا ننسَ أنَّ تحقيق العالم ينتهي عند ظاهر الحادثة دون أنْ ينفذ إلى جوهرها، أو يمسك بطرف من طبائع الأشياء. هذه العين وإنْ تكن مسلحةً بالمجهر، لن تزال عين إنسان تبصر أكثر من العيون العزلاء، ولكنها لا تبصر بشكل آخر، وقد يكثر العالم من بيان صلات الإنسان بالطبيعة، ولكنه عاجز عن اكتناه جوهر هذه الصلات، وقد يرى العالم كيف تحدث بعض الحادثات التي تغيب عنا، ولكن يُحظر عليه ما يحظر علينا من معرفة علة حدوثها.

إذا طلبت في العلم عبرةً وموعظةً كنت عرضةً لأمر الخيبات.

***

إنَّ رأي الجمهور لا يوازي تضحية رغبة واحدة من رغباتنا.

***

يحتاج أكثر الناس إلى شيء من الزينة ليبدوَ أنهم عظام.

***

كل شيء عكرٌ في النفوس العكرة.

***

لا يمكن أنْ يكون الموت أكمل من الحياة.

***

كان وجه الموت قبيحًا، ووقعه أليمًا، وما زال. إذا قال بعضهم: لا ينبغي الخوف منه؛ لأن المرء إذ يموت يصبح غير موجود ليس إلَّا؛ أجبناه: وهذا لا يمنع أنَّ فكرة الساعة الأخيرة ملأى بالآلام والأهوال.

***

ليس للأموات إلَّا الحياة التي يعيرهم إياها الأحياء.

***

يحترم الناس الموت؛ لأنهم يرون — وهو الصواب — أنه إذا كان موت المرء يُجل، فسيكون كل واحد موضع الإجلال مرةً بالأقل.

***

ما جيلٌ من الناس بالقياس إلى أجيال الموتى التي لا تحصى؟ وما إرادتنا التي لا تعمر أكثر من يوم أمام إرادتهم التي مرت عليها قرون متطاولة؟ هل من سبيل إلى الثورة عليهم؟ بل نحن لم نؤتَ من الوقت ما يكفي لأن نعصيهم.

***

من الأمور المشاهدة أنه لا شيء أهون على الناس من الموت في سبيل ألفاظ لا معنى لها، وهذا ما عناه «أجاكس»؛ إذ قال «نقلًا عن هوميروس»: «كنت في صباي أحسب أنَّ العمل أقوى من القول، فإذا بي أعلم اليوم أنَّ القول أقوى …» قاله أجاكس بن أويلي.

***

أكثر ما يتنازع الناس فعلى ألفاظ، ومن أجل ألفاظ يقتلون ويُقتلون بطيب خاطر.

***

الحركات الجميلة موسيقى العيون.

***

ما هو المثل الأعلى الذي لم يعرفه الإنسان ولم يعِش به حينًا من الدهر؟ لقد عبد آلهةً غلاظ الأكباد، ودان بأديان كفر وزندقة، وما زال يدين بمثلها. هو هنا يؤمل آمالًا أبديةً، وهناك يعبد اليأس والموت والعدم، وهو حيث كان يعمل بنظام أخلاقي معين؛ إذ يستحيل أنْ يعيش بلا آداب تسوسه.

أمَّا والآداب ضرورية لحياة المجتمع، فلا سبيل ولو اجتمعت نظريات العالم كلها إلى غلبتها والقضاء عليها، هل كف الإله «مولوخ» الأمهات الفينيقيات عن إرضاع صغارهن؟!

***

لم يعدم رأي في الآداب طائفةً من الناس تؤيده وتدعو إليه، وإذا توافقت آراء عدة؛ فلأن أكثر الأخلاقيين كان همهم ألَّا يخالفوا شعور الجمهور وغريزة العامة، ولو أنهم أصغوا لصوت العقل وحده، لقادهم في سبل مختلفة إلى أغرب النتائج، كما هو مشاهد في بعض الفرق الدينية التي أغرت العزلة واضعيها بازدراء إجماع الناس الذي لم يُبنَ على الروية.

***

ليس أفعل في النفوس من سحر الأشياء المحجوبة، ولا جمال بلا نقاب يصونه، فإن الإنسان لا يؤثر على المجهول شيئًا، ولولا الأحلام لما نهض بعبء الحياة أحد. ليس في الحياة خير من هذا الشيء الذي لا نعرفه، ولكن يخيل لنا أنه فيها. إنَّ الموجود أو الواقع يفيد في صنع الخيال أو المثل الأعلى — سواء بإجادة أم بغير إجادة — ولعل هذه أعظم فوائده.

***

إنَّ المؤلفات التي يجمع الناس على الإعجاب بها، هي التي لا يُعمِل الروية فيها أحد؛ يأخذونها كما يؤخذ الحمل الثمين الذي ينالونه آخرين دون أنْ ينظروا فيه، أم حسبت أنَّ في تقبلنا مؤلفات «الكلاسيك» من الإغريق واللاتين، بل من الفرنسيس أيضًا، كثيرًا من حرية الرأي؟ وهذا الذوق الذي يدفعنا إلى كتاب عصري، ويدفعنا عن كتاب آخر هل تحسبه حرًّا، أم هو مبني على ظروف لا شأن لمضمون الكتاب فيها، أهمها روح التقليد الذي ليس في عالمَيِ الإنسان والحيوان، أعظم منه سلطانًا؟ إنَّ روح التقليد ضروري لنعيش دون أنْ نضلَّ كثيرًا؛ هو مسيطر على أعمالنا وعلى ذائقتنا الفنية، ولولاه لكانت الآراء الأدبية والأحكام الفنية أشد اختلافًا مما هي. إذا نال كتاب بضعة أصوات لسبب من الأسباب، نال بعد ذلك بفعل التقليد أصواتًا لا تُحصى، فالأصوات الأولى وحدها كانت حرةً، أمَّا ما عداها فأصوات تابعة طائعة، وإذن لا معنى ولا قيمة ولا ميزة لها، ولكن عن كثرتها ينشأ المجد. كل شيء متوقف على بداية صغيرة، فالمؤلفات التي تلقاها الجمهور بعدم الرضى منذ ظهورها لن يكون لها في المستقبل حظ من القبول، والمؤلفات التي اشتهرت منذ البداية لن تزال مبجلةً، رغم أنها قد تصبح غير مفهومة، وفي هذا دلالة على أنَّ الإجماع منشَؤُه التقليد، يزول بزواله.

***

قد يُحرم مِنْ تذوُّقِ اللذة مانِحُها.

***

ينبغي أنْ يتولد الشعر من الحياة بلا كلفة، كما تخرج الشجرة والزهرة والثمرة من بطن الأرض تحت عين السماء.

***

إذا حسبنا أنَّ كاتبًا يسرق معاني لنا، فلننظر قبل أنْ ننادي بالويل إذا كانت هذه المعاني على الحقيقة لنا، لست أعني مؤلفًا بعينه، ولكني لا أحب الضجيج الذي لا طائل تحته.

أمَّا من كان كل همه الأدب والفن، فلا يعبأ بهذه الأمور قط، علمًا بأنه ليس لرجل أنْ يدعي التفكير في شيء لم يفكر فيه أحد قبله، وبأن المعاني مشاعة بين الناس، لا يصح لمفكر أنْ يقول: «هذا المعنى لي.» إلَّا كما كان يقول الأولاد المساكين الذين حدث عنهم بسكال: «هذا الكلب لي.» وبأنه لا قيمة للمعنى إلَّا بالصورة التي أُفرغ فيها، وبأن وضع المعنى القديم في صورة جديدة هو جماع الفن، بل الإبداع الوحيد الذي أوتيه الإنسان.

***

امرأة بلا صدر فراش بلا مخدة.

***

لا عزيز إلَّا ما تخشى ضياعه.

***

نحن مدينون للذين حاربوا الأوهام والتقاليد، لكن الثناء عليهم أيسر من الاقتداء بهم، لا تفتأ التقاليد في حركة مستمرة، تجتمع وتتبدد كالغيوم، وهي بطبيعتها جليلة، ثم تبدو بغيضةً، أمَّا الذين لا يؤمنون بخرافة عصرهم، بل ينظرون محدقين فيما لا يجرؤ العامة على النظر فيه، فهم نفر قليل.

***

لا يجيد المرء الحديث عمن يحب إلَّا متى فقده، وما فن الشاعر إلَّا جمع الذكريات ومناداة الأخيلة.

***

كل الترقيات بطيئة مشكوك فيها، قد تتبعها حركات رجعية، وهو الأغلب. إنَّ السير إلى نظام أفضل من النظام الحاضر محفوف بالريب والعقبات؛ لأن القوى الكثيرة العظيمة التي تقيد الإنسان بماضيه تحبب إليه ضلالات هذا الماضي وأوهامه وخرافاته وفظاعاته، كأنما هي ضمانات ثمينة للأمان والسلامة. يهول المرء كل جديد نافع، فهو مقلد حذرًا من سوء العقبى، لا يجرؤ على الخروج من الكنف المتداعي الذي أوى إليه آباؤه، والذي يهمُّ أنْ ينقض عليه.

***

إنَّ الوعود تكلف أقل من الهدايا، لكنها تساوي أكثر، ولن يعطي امرؤ قط بقدر ما يعطي من آمال.

***

لكل صورة شعرية معانٍ عدة، فأي معنًى وجدته كان عندك معناها الحقيقي.

***

بي حبُّ العقل لا التعصب له، إنَّ العقل يهدينا وينير طريقنا، لكنك إذا جعلته إلهًا أعماك وأغراك بارتكاب الجرائم.

***

يثور المرء إذا غُلب، أمَّا الغالبون فلا يكونون عصاةً ثائرين.

***

ليس بكافٍ ألَّا تضيق ذرعًا بكل الأديان، بل يجب أيضًا أنْ تجلها؛ اعتقاد أنها مقدسة جميعًا، متساوية فيما بينها بحسن نيات المتدينين بها، كالسهام المرسلة من أمكنة مختلفة إلى غاية واحدة تجتمع في صدر الله.

***

الأديان كالحرباء تتلون ألوان القطر الذي تهبطه، كذلك فإن النظام الأخلاقي الواحد لكل جيل، وبه قوام وحدة الجيل، لا يفتأ يتبدل بتبدل العادات، فهو أوضحُ صورةٍ لها، وكأنه ظلها المتضخم على الجدار.

***

مرت على هذا الدين اليهودي المسيحي قرون كثيرة ملأى بالأهواء والشهوات الإنسانية، وبالأحقاد والمودات الدنيوية، وتوالت عليه حضارات عديدة؛ إمَّا بربرية وإمَّا رقيقة، متشددة خشنة، ومنعمة مترفة، مفرطة في التعصب، ومتساهلة، وضيعة ساذجة ورفيعة فخمة، وحضارات زراع ورعاة، وجند وتجار وصناع، وأخرى أريستوقراطية وديمقراطية، كلها توالت عليه حتى أصبح موطأ الأكناف، ذلك أنه لا فعل للأديان في الآداب والعادات، بل إنَّ هذه تكيف الأديان.

***

من طبع الحكماء الحقيقيين أنْ يُغضِبوا سائر الناس.

***

لا يختلف أعلمنا عن أجهلنا إلَّا بمقدرته المكتسبة على التلهي بكثير من الضلالات المعقدة.

***

ليس بجائز أنْ يكون العالم الحقيقي غير متواضع، فهو كلما خطا خطوةً رأى طول الطريق أمامه.

***

العلم معصوم، لكن العلماء يخطئون دائمًا.

***

لا ينبغي أنْ يختلط العلم والدين، كما أنه لا يختلط النسبي والمطلق، والمتناهي واللامتناهي، والظل والنور.

***

لا يزدري العلم إلَّا من يزدري العقل، ولا يزدري العقل إلَّا من يزدري الإنسان، ومن ازدرى الإنسان أغضب الله.

***

ليست السيادة في الأمة، بل في العلم، فإن خطأ يمسي يكرره ست وثلاثون مليون لسان لن يصبح صوابًا. لقد أظهرت الجماعات على الأغلب استعدادًا للعبودة يفوق حد الوصف، والضعف يعظم في الضعاف بنسبة كثرة عددهم، وهذه الجماعات منذ كانت جامدةً قاصرةً، لا تظهر شيئًا من البأس إلَّا متى أوشكت أنْ تموت جوعًا.

***

لم يضر العلم الدين في زمن من الأزمان، قد يثبت العلم أنَّ هذه العقيدة الدينية خطأ محض، دون أنْ ينقص من جراء ذلك عدد الذين يعملون على مقتضاها.

***

في العلوم خير كثير؛ إنها تمنع الناس من التفكير.

***

ليست العيون والحواس كلها إلَّا رسل الضلالات، وبريد الأكاذيب، فهي تخدعنا أكثر مما تعلمنا، ولا تجيئنا إلَّا بصور غير ثابتة سريعة الزوال، كذلك فإن الحقيقة تغيب عنا؛ لما كانت الحقيقة جزء من أصلها الأزلي، فهي مثله غير منظورة.

***

الشمس إله، لكنه شديد الحرارة، لم يمكنه البقاء في صورة البشر، فاتخذ شكلًا كرويًّا، هو إله مستدير.

***

النعيم في العذاب، ويَعرف هذا من أحب.

***

مجاهرتي بآرائي لذة غالية الثمن، ولكنها لذة عظيمة، فلن أعفَّ عنها.

***

بعض النساء أفضل من بعض الرجال، وبعض الرجال أقل فضلًا من بعض النساء، هذا ناشئ عن أنَّ الجنسين غير مختلفين أو منفصلين بقدر ما هو شائع معروف، بل يوجد في كثير من النساء شيء من الرجل، وفي كثير من الرجال شيء من المرأة.

***

تتألف عواطفنا من آلاف الأشياء الحقيرة التي تغيب عنا، وقد يتعلق مصير هذه النفس الخالدة بنفخة ضعيفة لا تكاد تلوي قذاةً ضئيلةً. نحن ألعوبة الرياح.

***

كلما نظر المرء وسمع وأحس أملى شيئًا منه، فهو مائت رويدًا رويدًا، أليست الحياة كما نحياها في هذه الدنيا وفاةً دائمة ننفق فيها كل يوم جزءًا من كمية الحياة التي أُودعت فينا؟!

***

لم يوجد الإنسان ليعلم ولا ليفهم، وليس على شيء مما يقتضيه هذا. إنَّ دماغه أضخم من دماغ الغورللا وأكثر تلافيف، ولكن لا فرق جوهري بينهما، ليست أسمى أفكارنا وأوسع أنظمتنا الفلسفية إلَّا امتدادات مضخمة لما يتضمنه رأس القردة من آراء. يسلينا ويفتننا ما زاد من معرفتنا بالكون على معرفة الكلب، ولكن هذا شيء يسير، بل إنَّ أوهامنا لتكثر كلما كثرت معارفنا.

***

كل ما في الإنسان سر من الأسرار، ولا سبيل إلى معرفة ما كان خارجًا عن الإنسان؛ هذا هو العلم الإنساني.

***

في إشراكنا بالحقيقة الدائمة الطلقة، هذه الحقيقة الناقصة المؤقتة التي يدعونها «العلم» كفر وجحود. لقد نشأ عن جنون البشر بأن يشبهوا بين الحقيقة والظاهر، وبين الجسد والروح، كثير من الآراء الباطلة الضارة التي كشف بها مداح هذا العصر عن عجزهم المتهور.

***

لو كان الخطأ يظهر للناس جميعًا لما أخطأ أحد، فإن عن الحس العام تنشأ الأحكام الباطلة كلها؛ هو الذي يعلمنا أنَّ الأرض ثابتة، وأنَّ الشمس تدور حولها، وأنَّ الذين يقطنون الأقطار المتقابلة «أنتيبود» يمشون رءوسهم إلى أسفل، حذار من الحس العام، فإن باسمه ارتكبت كل الحماقات وكل الجرائم.

***

يتألم الإنسان إمَّا لحرمانه مما يعتقد أنه خير، وإمَّا لخوفه من فقدانه إذا كان مالكًا له، وإمَّا لأنه مصاب بما يعتقد أنه شر، انزعوا من صدره هذه الاعتقادات؛ تزيلوا الشرور والآلام.

***

علمت أنَّ استحضار الأرواح دين لا ينبغي أنْ تحرم النفوس منه، هو وهمٌ لكن فيه عزاء وسلوى.

***

إنَّ المذهب الروحاني وسيلة إلى معالجة الأدواء، لا يصح إهمالها في حالة الطب الحاضرة.

***

إنَّ ما يسمونه فن الخطط الحربية هو في الحقيقة عين ما تمارسه شركة كوك: اجتياز الأنهار على الجسور، وقطع الجبال بسلوك الفجاج. أمَّا القواعد المتبعة في الحروب فصبيانية لا يكترث لها كبار القواد الذين يوسعون المجال للحظ، وإنْ كانوا له منكرين، يقوم فنهم بخلق أوهام تكون عونًا لهم في المعارك، فيهون عليهم مثلًا أنْ يغلبوا إذا أوجدوا اعتقادًا بأنهم لا غالب لهم، ولا تكسب المعركة صفات الدقة والانتظام التي توهم وجود إرادة عليا إلَّا على الخريطة.

***

للجبر والهندسة أسلوبهما كما للموسيقى والشعر، وبالأسلوب الجليل يُستدل على النبوغ في العلوم، كما يُستدل به على النبوغ في الفنون.

***

ليس الأبد على الأموات بطويل.

***

لا يسيطر الإنسان على الزمان، والزمان هو الحياة عينها، إلَّا متى قسمه ساعات فدقائق فثوانٍ، أعني متى جزأه أجزاءً متناسبة على قصر الحياة الإنسانية.

***

هل بقيت رذيلةً منذ عصر الكهوف ووحيد القرن لم يستنبطها الإنسان؟ لقد تخيل الوحش الآدمي كل شيء قبل أنْ يتسع خياله.

***

الحياة بحد ذاتها نكبة، نكبة مستمرة؛ إذ لا سبيل إلى ظهورها إلَّا في وسط غير ثابت، وشرط وجودها بالأصل هو عدم استقرار القوى التي تحدثها، كذلك فإن حياة الشعب كحياة الفرد تهدمٌ دائم، وسلسلة انهيارات وتفش للمكاره والجرائم لا نهاية له. هذا وطننا أجمل وطن، ولكن لا بقاء له إلَّا بتجدد شدائده وتكرر أغلاطه، في الحياة الإتلاف وفي العمل الإضرار.

***

الحياة! أتريد أنْ أعرِّفها لك علميًّا؟ هي مجهول يلوذ بالفرار.

***

تكون الحياة جديرةً بأن يحياها المرء في حالات خاصة، الحياة نور ضئيل بين ظلمتين غير متناهيتين، بل هي حظنا من الألوهية، والإنسان ما عاش، فهو شبيه بالآلهة.

***

عبثًا نوقن بباطل الحياة، ونطل على هاوية العدم، فقد تكفي زهرة لغمر الهاوية.

***

كل ذي حياة غذاء لمن يجيء بعده، والعربي الذي يبني كوخه برخام هياكل تدمر أعقل من كل حفظة المتاحف في لندن وباريس ومونيخ.

***

ليس في شرور الحياة ما هو أشد إيلامًا من زوال الأشياء حولك كافةً.

***

العادات والأفكار والعقائد والمشاعر جميعًا في تبدُّلٍ دائم، وكل جيل يجيء بأنماط وأهواء جديدة. إنَّ في الزوال المستمر الذي يطرأ على كل الصور وعلى كل المعاني خير ملهاة في هذه الحياة، كما أنه أعظم مدعاة حزن فيها.

***

لا تبدو الحياة قصيرةً إلَّا لأنا نقيسها دون روية على آمالنا الجنونية، كلنا كعجوز القصة لا يزال عنده جناح يضيفه إلى القصر الذي شاده.

***

الحياة خيانة مستمرة.

***

ينبغي لتكون الحياة عظيمةً وليملأ فراغها، أنْ يوضع فيها الماضي والمستقبل. ينبغي أنْ تكون آثارنا الشعرية والفنية في تكريم الذين ماتوا، وفي التفكير بالذين سيولدون، هكذا نشترك فيما كان، وفيما هو كائن، وفيما سيكون.

***

كل شيء يزول لكن الحياة باقية، فالحياة، الحياة يجب أنْ نحب في صورها التي لا تفتأ متجددةً.

***

للصغائر في الحياة مقام عظيم.

***

تكاد تتألف البشرية كلها من الموتى، وما أقل الأحياء بجنب الأموات الذين لا يحصون، إذن فما هذه الحياة التي هي أقصر من حافظة البشر القصيرة؟

***

كأني بالناس اليوم يعتقدون أنَّ الحياة شيء لا يعدله سواه، على أنَّ الطبيعة تعلمنا أنه ليس أخس منها ولا أحقر. لقد كانت البشرية في الماضي أقل انفعالًا بالعواطف؛ كان الرجل يرى حياته ثمينةً بلا حد، ولكن لم تكن لحياة غيره قيمة عنده، كان الناس يومذاك أقرب إلى الطبيعة، فإنما وُجدنا ليأكل بعضنا بعضًا، لكن النوع صار إلى الضعف والوهن والرياء، فالإنسان يأكل لحم أخيه بالمداراة والخديعة، وفيما يفترس أحدنا الآخر ننادي على رءوس الملأ إنَّ الحياة مقدسة، ولا نجرؤ على الإقرار بأن الحياة قتل مستحر.

***

قد تكون الحياة كما نراها في هذه الدنيا وعلى الوجه الذي نفهمها؛ أعني الحياة العضوية التي يحياها الحيوان والإنسان، عارضًا خاصًّا بهذا العالم الصغير الذي ندعوه «الأرض» ليس إلَّا، وقد يكون هذا الكوكب فسد وتعفن، فكل ما نراه فيه — ونحن أيضًا — آثار الداء الذي أفسد الثمرة الخبيثة. إن معنى الكون يغيب بالكلية، وما يدريك لعلنا جراثيم يمجها نظامه.

***

ليس الشر في أنْ يعمر الإنسان طويلًا، بل في أنْ يرى حوله كل شيء يزول؛ الأم والزوج والبنون؛ تلك كنوز تجمعها الطبيعة، وتبددها بعدم اكتراث محزن، فإذا نحن في النهاية لم نحبب ولم نضم إلى صدرنا إلَّا أشباحًا، ولكن لله، ما أرق بعض هذه الأشباح وما أحبها!

***

أليست المدن كتبًا، كتبًا مزينةً بالرسوم، نرى فيها الأجداد؟!

***

الإرادة وهمٌ ناشئ عن جهلنا بالعلل التي تكرهنا على أنْ نريد. ليس ما يريد فينا «نحن»، بل أنظمة من الحجيرات الناشطة نشاطًا معجزًا، لا نعرفها ولا تعرفنا، ولا يعرف بعضها بعضًا، لكن بها قوامنا، هي تحدث بحركتها الدائمة مجاري لا تُحصى، سميناها الأهواء والأفكار والآلام، والمسرات والمخاوف والشهوات والإرادة، نحسب أنا أسياد نفسنا، لكن قطرة من الكحول تهيج هذه العناصر التي بها نحس ونريد، ثم لا تلبث أنْ تخدرها.

***

لا يعلم أحدنا أهو أساء إلى أبناء آدم أم أحسن. يجب أنْ نعبدهم دون أنْ نجتهد لفهمهم. إنَّ حكمتهم سر من الأسرار (خواطر الكلب ريكه).

***

إنَّ عملًا ضُربت من أجله عمل سيئ، وعملًا أُنعم عليك بالملاطفة والطعام من أجله عمل حسن (خواطر الكلب ريكه).

***

اجتاز دلوٌ فيه ماء الصالون ذات يوم، وكان مثقوبًا فبلل الأرض، أظن أنَّ هذا الدلو الوسخ قد عُوقب بجلد أليته (خواطر الكلب ريكه).

***

يوجد في السوق عجلات تجرها الخيل؛ إنها رهيبة. ويوجد عجلات تمشي وحدها نافخة بقوة؛ هذه بطنها مملوء عداوة. لا أحب الرجال الذين يلبسون خرقًا مرقعةً، ولا الذين يحملون السلال على رءوسهم، ولا الذين يدفعون البراميل أمامهم، أحب الأولاد الذين يفر بعضهم من بعض، ويبحث بعضهم عن بعض، ويتراكضون صارخين في الأزقة. إنَّ الدنيا مملوءة بالأشياء الخصيمة الرهيبة (خواطر الكلب ريكه).

***

يزهد المرء في الإبانة عن عواطفه إذا كانت الألفاظ ستضعفها كثيرًا.

***

من يقدر على أنْ يحل عقد العلل والمعلومات؟ من يقدر على أنْ يفاخر إذا قام بعمل، قائلًا أنا عالم بما أنا صانع؟

***

هل يوجد تاريخ منصف، بل ما التاريخ؟ هو تمثيل الحوادث الماضية بالكتابة، ولكن ما الحادث؟ أهو أي حادث؟ كلا، هو حادث جدير بأن يُذكر. كيف يحكم المؤرخ على الحادث بأنه جدير أم غير جدير بالذكر؟ يحكم المؤرخ اعتباطًا بفعل ذائقته وطبعه ورأيه؛ أي بصفته فنانًا، ذلك أنَّ الحوادث ليست بطبيعتها على نوعين؛ الحوادث التاريخية والحوادث غير التاريخية، ثم إنَّ الحادث شيء عويص مركب، فهل ينقل المؤرخ الحوادث كما هي في تركيبها؟ هذا مستحيل، فإنه يعرضها مجردةً من كل الخصائص التي تقوم بها، ناقصةً مشوهةً مختلفةً عن حقيقتها، أمَّا علاقات الحوادث فيما بينها، فالأفضل ألَّا نذكر عنها شيئًا، إذا كان الحادث الذي يسمى حادثًا تاريخيًّا ناشئًا — وهو الأقرب إلى التصديق — عن حادث أو عن بضعة حوادث غير تاريخية، إذن مجهولة، فكيف يستطيع المؤرخ أنْ يعين الصلة بين هذه الحوادث في تسلسلها؟ وإني لأفترض فيما أقوله الآن أنَّ المؤرخ ينظر في شهادات صحيحة ثابتة، على حين أنه بالحقيقة مخدوع في أكثر الأحوال، وأنه لا يثق بهذا الشاهد أو بذاك إلَّا لدواعٍ عاطفية. ليس التاريخ بعلم، بل هو فن، ولا ينجح فيه إلَّا صاحب المخيلة.

***

ينسخ المؤرخون بعضهم عن بعض، فيكفون أنفسهم العناء، ولا يُتهمون بالغرور، اقتدِ بهم ولا تكن مبتكرًا، فإن المؤرخ المبتكر موضع ريبة واحتقار واشمئزاز عند الناس كافة.

***

كان البشر في الماضي — كما نعرفهم اليوم — خيارًا وسطًا، وشرارًا وسطًا.

***

قد يوجد في عالم مجهول مخلوقات هي شرٌّ من الإنسان، هذا جائز، وإنْ كنت إلى عدم التصديق به أميل، لكن الثابت أنهم يقطنون إذا وُجدوا في أقاليم محرومة من النور، وإذا كانوا يحترقون، فبالجليد الذي يحدث آلامًا لاذعةً لا بالنيران الشريفة بين بنات الكواكب المضطرمة. هم معذبون؛ لأنهم أخباث ولأن الخبث داء، ولكن لا يصح أنْ يعذبوا إلَّا بالقشب.

***

إنَّ أبيقور والقديس فرنسوا داسيز، هما في نظري أفضل الأصدقاء الذين لقيتهم الإنسانية المعذبة في سيرها على غير هدًى، لقد أطلق أبيقور النفوس من مخاوفها الباطلة، وعلمها أنْ تقيس فكرة السعادة على طبيعتها المسكينة وقواها الضعيفة، أمَّا الرجل الصالح فرنسوا داسيز الذي كان أرق قلبًا وأدق إحساسًا، فقد هدى النفوس سبيل التنعم بالحلم الباطن، وأوصاها أنْ تتغذى به، فتفيض مسرةً في مهاوي وحدة مسحورة، كان كلاهما صالحًا محسنًا؛ الأول لقضائه على الأوهام المخيبة، والآخر لخلقه أوهامًا لا يقظة منها.

***

إنَّ للوهم الذي يدوم صفات الحقيقة، ولن يكون مخدوعًا أو مغبونًا من لا يقع في الخيبة.

***

لا تدوم الممالك بحكمة بعض الوزراء ورجاحة عقولهم، بل بحاجة الملايين من الناس الذين يحترفون لكسب معاشهم ضروب الحرف الدنيئة كالصناعة والتجارة والزراعة والجندية والملاحة، فإن هذه الصغائر هي التي تؤلف ما يدعونه بعظمة الشعوب، وليس فيها للأمير ووزرائه أدنى نصيب.

***

الدولة كالجسد الإنساني، ليست كل وظائفها شريفة، بل إنَّ منها ما يجب إخفاؤه عن الأنظار، وقد تكون هذه الوظائف أوجبها ولا غنى عنها.

***

يجب أنْ تقول بما يقوله الجمهور إذا كنت لا تستطيع أنْ تفكر مثل تفكيره، فإن بوحدة العقائد قوة الشعوب.

***

لا يمكن أنْ يُحكم الشعب الواحد في الزمن الواحد إلَّا على صورة واحدة؛ لأن الشعوب أجسام تتوقف وظائفها على تركيب أجزائها وحالة أعضائها؛ أي على الأرض وسكانها، لا على الحكومات التي تخلع على الأمم كالثياب المحكمة على جسم الأفراد.

***

ما الوطن؟ هو نهر يجرى، شواطئه أبدًا متبدلة، ومياهه متجددة.

***

على باريس مهمة، هي أن تعلم الدنيا، فإن من حجارة أرض باريس الحجارة التي طالما ثارت لنصرة العدل والحرية، تفجرت الحقائق المعزية المنقذة.

***

في مالية الشعوب منابع خفية يغيب عن علماء الاقتصاد علمها، فإن أمة مفلسة لقادرة على أن تعيش خمسمائة عام بابتزاز الأموال وهضم الحقوق. وكيف السبيل إلى معرفة ما قد يجهز به فقر شعب عظيم حماته وجنوده من المدافع والبنادق، والخبز الرديء، والأحذية الرديئة والتبن والشعير؟

***

إن المعارضة شر مدرسة يتعلم فيها رجال الحكم كيف يحكمون؛ لهذا نرى عقلاء الساسة الذين بلغوا إلى المناصب العالية من سبيل المعارضة يعنون في حكمهم باتباع نقيض القواعد التي كانوا يجاهرون بها من قبل، فإن الضرورات التي خضع لها السلف تسيطر على الخلف أيضًا، ولا يأتي هؤلاء بجديد إلَّا قلة خبرتهم.

***

ليس النظام العام إلَّا تعديًا منظمًا.

***

إنَّ سياسة الاستعمار هي أحدث مظاهر البربرية، أو إذا شئت فهي حد المدنية الأخير، لا أفرق بين هذين اللفظين؛ لأن مدلولهما واحد، وليس ما يسميه الناس مدنيةً إلَّا عادات العصر الحاضر وآدابه، وما يسمونه بربريةً هي أحوال العصور الغابرة، فالعادات الحاضرة سوف تُدعى بربريةً متى أصبحت عادات الماضي.

لا مناص الآن من الإقرار بأن من عاداتنا وآدابنا أنْ تقضي الشعوب القوية على الشعوب الضعيفة، وهذا أصل في الشرائع الدولية، وأساس في السياسة الاستعمارية، ولكن لننظر هل كان في الفتوح البعيدة منافع للأمم؟ لا أرى ذلك، ماذا أفادت إسبانيا من المكسيك والبيرو؟ وماذا أفادت البرتغال من البرازيل؟ وماذا أفادت هولاندة من بتافيا؟

إنَّ المستعمرات على أنواع؛ فمستعمرات تستقبل مساكين الأوروبيين بأرض قفر جدباء، ترعى العهد وتظل على الولاء ما كانت فقيرةً، فإذا أثرت انفصلت عن قاعدة المملكة واستقلت بأمورها، ومستعمرات لا تصلح للسكن، ولكن تُؤخذ منها مواد أولية، وتُحمل إليها سلع جاهزة، فبديهي أنَّ هذه لا تغني حاكميها، بل المتاجرين فيها، وهي إلَّا ما ندر لا تساوي ما تكلفه، ثم لا تفتأ تعرض الحكومة المستعمرة للنكبات الحربية.

***

ليست حياة الشعوب إلَّا سلسلة من المكاره والجرائم والحماقات.

***

كلما تقدمت في السن ازداد يقيني بأنه لا يوجد مجرمون، ولا يوجد إلَّا بؤساء مساكين.

***

الحماقة هي قابلية السعادة، فيها الرضى الكلي، وهو رأس الخيرات في مجتمع متمدن.

***

خير لك أنْ تكون أحمق مثل كل الناس من أنْ يكون لك عقل ليس كعقل أحد.

***

كان لا يؤمن بحسن أثر العقوبات في النفوس، يائسًا من جعل السجن مدرسة فضيلة، لا يرى في تعذيب الخلق إصلاحًا لهم، فكان يكفي أولئك المساكين مضاضة الآلام ما وجد إليه سبيلًا.

***

لولا السخرية لكانت الدنيا غابةً لا طير فيها، السخرية مسرة التفكير وبهجة الحكمة.

***

من يدري ما تولده الألاعيب في نفوس الأطفال من أحلام؟

***

نحن أطفال مقضيٌّ علينا أنْ نظل أطفالًا إلى الأبد، لا نفتأ نعدو وراء ألاعيب جديدة.

***

الحقيقة هي أنَّ الحرب من لوازم الطبيعة الإنسانية، وأنه يتعذر تصور شعوب لا يحارب بعضها بعضًا، أعني لا يكونون قتلةً منها بين محرقي القرى، كذلك يتعذر تصور ملك أو أمير ليس بمغتصب، وإنَّ قليلًا؛ لئلا يزدري ويلام على زهده في المجد أشد اللوم. الحرب إذن ضرورية للإنسان، بل هي ألزم لطبعه من السلم الذي لا يكون إلَّا فترةً أو هدنةً؛ لذلك كنا نرى الملوك والأمراء يقذفون جيوشهم بعضها ببعض لشر العلل وأتفه الأعذار، فيتوسلون إلى الحرب بشرفهم، ويا لله ما أدقه وأسرع انفعاله! يكفي نفخة ضعيفة لإحداث لطخة لا تُغسل إلَّا بدم عشرة، أو عشرين، أو ثلاثين، أو مائة ألف رجل، على نسبة عدد السكان، ومهما أطلنا الروية فلن نفهم كيف يُغسل شرف الأمير بدم هؤلاء المساكين، ولكننا نعلم أنَّ هذه الألفاظ خلو من المعنى، وأنَّ الناس يقدمون على الموت غير وجلين من أجل ألفاظ، وثمة ما هو أعجب، فإن الأمير يصيب فخرًا عظيمًا من سرقة ولاية، وإذا كان التعدي الذي يأتيه فرد جريء جزاؤه الموت، فهو أمر ممدوح إذا قام به الملك بعون جنوده المرتزقة، مظهرين فظاعةً لا مثيل لها.

***

كل تبدُّل مادي يتبعه تبدُّل معنوي؛ لأن الآداب والعادات مرتبطة بالبيئة، وبديهي أنَّ التبديل الذي يحدثه الإنسان في أرضه هو أبلغ وأحسن نظامًا من التبديلات التي تحدثها سائر الحيوانات، إذن فلماذا لا تعمل البشرية على تهذيب طبيعتها كي تجعلها مسالمةً؟ لماذا لا توفق ذات يوم إلى القضاء على تنازع البقاء، أو بالأقل إلى تنظيمه؟ لماذا لا تنسخ شريعة القتل؟ ليس بعجيب أنْ نرجو من الكيمياء كثيرًا، ولكني لا أجزم بشيء، فمن الممكن أنْ يستمر النوع الإنساني على سويدائه وهوسه وجنونه؛ حتى يحين فناؤه المحزن في الجليد والظلمات، ولعل هذا العالم مركب على الشر بلا أملٍ في شفائه.

***

يندر أنْ يثري من اتخذ التنبُّؤَ بالمستقبل مهنة، فإن الناس لا يلبثون أنْ يعرفوا كذبه وخداعه فيبغضوه بغضًا شديدًا، ولكن يجب أنْ يكون بغضنا إياه أشد لو كان صادقًا في نبوءاته، فإن حياة المرء إذا عرف ما سيحدث له تصبح عبثًا لا يُطاق حمله، وويلًا لا يُصبر عليه، فهو يكتشف شرورًا مستقبلةً تؤلمه قبل وقوعها، ولا ينعم بالخيرات الحاضرة؛ لأنه يرى نهايتها. إنَّ الجهل شرط لا غنى عنه في سعادة البشر، ومن المسلم أنهم على الأغلب يوفون هذا الشرط حقه، فنحن نكاد نجهل من نفسنا كل شيء، ولا نعلم من غيرنا شيئًا، في الجهل طمأنينتنا، وفي الكذب سعادتنا.

***

الحسن في الشبيبة هو أنها قادرة على أنْ تعجب بالأشياء دون أنْ تفهم لها معنًى، لكن المرء إذا تقدم في السن أراد أنْ يدرك علاقات الأشياء، فهو إذن يرمي بنفسه في الضيق.

***

في الغريزة وحدها الحقيقة، فيها وحدها اليقين الذي قُدر للبشر أنْ يبلغوا إليه في هذه الحياة الوهمية، ومن عقله يجني المرء ثلاثة أرباع الشرور التي عرفها الإنسان.

يقول شيخنا كوندياك: إنَّ أذكى الناس هو أيضًا أعظمهم قابليةً للخطأ.

***

يجب على الرجل المستقيم أنْ ينقد الأقدار ثمن ما يشتري منها.

***

إذا حركت مبدأً وجدت شيئًا تحته، فعلمت أنه ليس بمبدأ.

***

أحسب أنَّ ست سنوات أو سبعًا يُعنى المرء فيها بثقافته الأدبية تمنح فكره إذا كان حسن القبول نبلًا وظرفًا وجمالًا، لا تُكتسب بوسائل أخرى.

***

الفلسفة والأدب هما «ألف ليلة وليلة» الغرب.

***

لو لم يكن إلَّا الشر في الدنيا لما رأيناه، كالليل لا يكون له اسم لو أنَّ النهار لا يطلع.

***

المهم في التضحية هو التضحية بحد ذاتها، إذا كان ما تضحي نفسك لأجله وهمًا؛ فإن تضحيتك حقيقة لا ريب فيها، وهذه الحقيقة هي أنفس حلية يزين الإنسان بها خصاصته المعنوية.

***

إنَّ الحكمة ترفع العبد فوق سيده، بل ماذا أقول؟ فإن العبد الفاضل لأسمى من الآلهة أيضًا؛ لأنه إذا كان مساويًا لهم في الحكمة، فهو يفضلهم بجمال الجهود التي يبذلها في عروجه إلى تلك المرتبة العالية.

***

أكثر الذين يصيبون نُجْحًا في هذه الدنيا فالبلهاء، والأذكياء حمقى لأنهم لا يتوصلون إلى شيء.

***

يجب أنْ نأذن لهؤلاء البشر المساكين ألَّا يطابقوا دائمًا أقوالهم على عواطفهم، بل يجب ألَّا نضيق ذرعًا إذا كان لكل واحد منا فلسفتان أو ثلاث في وقت معًا، فليس ما يحمل على الاعتقاد بأن مذهبًا واحدًا فيه كل الصواب إلَّا إذا كنت واضع ذلك المذهب، ولا يُغتفر التعصب أو التحيز إلَّا لمخترع أو لواضع، وكما أنَّ في القطر الواسع أقاليم مختلفةً جدًّا، فكذلك في العقل الواسع كثير من المناقضات، والحقيقة هي أنَّ النفوس المنزهة عن كل «لا منطق» تخيفني، فأنا لا أستطيع تصور أنها لا تخطئ قط، وأخشى لذلك أنْ تخطئ دائمًا، على حين أنَّ المرء الذي لا يدعي «المنطق» قد يهتدي إلى الحقيقة بعد أنْ يكون أضاعها، سيعترض عليَّ دفاعًا عن المنطقيين بأنه يوجد في آخر كل قياس حقيقة، كما يوجد عينٌ أو ظفر في طرف الذنب الذي وعد به «فورنيه» البشر يوم يكتملون وتتناسب أعضاؤهم، ولكن يبقى للعقول المتعرجة المترددة فضل بأنهم يسلون غيرهم بالأخطاء والضلالات التي تسليهم أنفسهم.

يا لسعد من كانت له مثل عولس رحلة جميلة! إذا كان الطريق مزدهرًا فلا تسل إلى أين يوصل، هذه نصيحة أسديكها غير مبالٍ بالحكمة السائرة، مصغيًا إلى صوت حكمة أسمى: كل الغايات محجوبة عن الإنسان. سألت عن طريقي أولئك الذين ادعوا معرفة جغرافية المجهول جميعًا، أعني رجال الدين والعلم والسحرة والفلاسفة، فلم يستطع واحد منهم إرشادي إلى السبيل الأقوم؛ لذلك اخترت هذا الطريق الذي تظله أغصان غضة مشتبكة تحت السماء الضاحكة الضحيانة، تقودني عاطفة الجمال، ومن ذا الذي وُفق إلى خير من هذا الدليل؟

***

الهندسة أصل في كل شيء، بل هي فيه كالهيكل العظمي في الحيوان. إنَّ العالم المرئي يحجبها، ولكنها في لعب الصور اللامتناهية، التي يتجلى الكون فيها لنفسنا الحائرة، تسيطر بسننها الثابتة على المادة النائمة والمادة اليقظى، على البلور والإنسان والأرض والنجوم، هي مسيطرة على جمال الغواني، وائتلاف الموسيقى وأوزان الشعر، وانتظام الأفكار، هي مقياس كل شيء، فيها الحركة وفيها الاستقرار، ما أسعد الذين يتبعون في عمر طويل حُسنَ نظام صورها، ويكتشفون خصائصها التي لن تزول!

***

يولد الأطفال متدينين، ألم ترَ أنهم يعبدون ألاعيبهم، ويسألون ألاعيبهم ما سألت البشرية آلهتها منذ الأزل: المسرة والنسيان، والكشف عن المناسبات الحفية وسر الوجود؟! إنَّ الألاعيب كالآلهة تبعث الرعب والحب على السواء، أليست الألاعيب التي كان يسميها صبايا الإغريق «بنات الماء» كالعذارى الإلهيات لتلك الطفولة الأولى، والشياطين التي تخرج من العلاب؟ أليست ترمز مثل غورغونة اليونان وبلعزبوت النصارى عن اتحاد البشاعة المنظورة بالشر الباطن؟! لا يُنكَر أنَّ الأطفال قد يجاوزون الحد مع آلهتهم، ولكن ألم يشتم الكبار أسماء آلهتهم أيضًا؟ إنَّ الأطفال يحطمون ألاعيبهم، ولكن أي رموز لم تحطمها الإنسانية؟ إنَّ الطفل كالرجل لا يفتأ يبدل مُثُلَه العليا، ولن تزال آلهته غير كاملة؛ لأنها صادرة عنه بالضرورة.

***

قوام الوطن معابد الآلهة وقبور الأجداد، وأنت مواطني بوحدة الذكريات والأماني.

***

لا تولد الوطنية بغضًا إلَّا في العقول المحدودة، والقلوب العنيفة التي تضيق ذرعًا بفهم التضامن الإنساني، فلا تدرك أنَّ مصير طائفة من الناس متصل في هذه الدنيا بمصير الناس أجمعين.

***

ليس الشر في أنك تحيا، بل في علمك أنك تحيا، الشر هو في المعرفة والإرادة.

***

إنَّ الرجوع إلى العلم في التمييز بين الحادثات الطبيعية والحادثات الخارقة لكالتسليم بأنه الحكم المعصوم في هذه الدنيا: لا نكران أنَّ للعلم وحده في عصرنا أنْ يفصل بين الرشد والضلال، وأنه لا يصل إلى المعرفة شيء إلَّا بعد تحقيقه وبإذنه، وأنه لا يعترض على حكمه إلَّا لديه، ولكن من الجهة الأخرى لا يجب أنْ تُستدعى كل الحادثات إلى محكمته على صورة واحدة لا تبديل لها، فقد تكون ثمة حادثات فريدة نادرة دقيقة، إذا ظلَّ العلم «الرسمي» ينتظرها في لجانه لم تجئ إليه قط، وهنا يبدو لي ما في تدليل أرنست رنان من خطر في مراميه إنْ لم يكن في أصله، فهو يذهب إذا لم يحترز منه إلى ردِّ كل ما لا يُحصل عليه في المختبر، والعلماء ميالون بالطبع إلى إنكار الحادثات المفردة، التي لا تدخل في دائرة ناموس معروف، فأنا أخشى أنْ ينتهي بهم الأمر إلى رفض الظهورات غير المألوفة، والظهورات الخارقة على السواء، بقولهم: «هذا لم يُرَ مثله من قبل.» إذا كانت المعجزات مخالفاتٍ لنواميس الطبيعة فليس يعلم أحد ما هي؛ لأنه لا أحد يعرف نواميس الطبيعة. لم يشهد فيلسوف معجزةً في زمن، بل هو عاجز عن أنْ يشهد ذلك، فلو اجتمع كل صانعي الأعاجيب حوله وعرضوا لأنظاره أعجب الظهورات لأضاعوا وقتهم؛ لأنه إذ ينظر إليها لا يهتم إلَّا بالبحث عن الناموس الذي يصح إدخالها فيه، فإذا لم يوفق إلى كشفه اكتفى بأن يقول: «إنَّ مجاميعنا الطبيعية والكيميوية ناقصة جدًّا.» لهذا نقول إنه لم تحصل معجزة قط، أو إذا حصلت معجزة، فليس في الإمكان أنْ نحيط علمًا بذلك — النتيجة على كلتا الحالتين واحدة — لأنا نجهل الطبيعة، وإذن نجهل ما ليس في الطبيعة.

***

لا ينبغي أنْ نقول: «لم يقم على المعجزات دليل، فإذن لا وجود لها.» لأن المؤمنين قد يدعونك حينئذ إلى تحقيق أكمل، والحقيقة هي أنَّ المعجزة لا يصح أنْ تثبت لا اليوم ولا غدًا؛ لأن إثباتها هو كتقديم نتيجة مبتسرة أو سابقة لأوانها، في أقصى ضميرنا ما ينبئنا بأن كل ما يكنه صدر الطبيعة مطابق لنواميسها المعروفة أو المجهولة، بَيْدَ أنَّ المرء إذا قدر على إسكات هذا الصوت في باطنه، فلن يستطيع أنْ يقول: «هذا الحادث هو في خارج حدود الطبيعة.» لأن استكشافنا لن يصل إلى تلك الحدود، وإذا كان الأصل في المعجزة ألَّا تقع تحت معيار المعرفة، فالدين الذي يثبتها يسند دعواه إلى شاهد لا يمكن إمساكه، ولن يحضر إلى آخر الدهر.

***

إنَّ المعجزة نظرية صبيانية تزول متى بدأ الفكر يتمثل الكون تمثلًا منظمًا، وقد كانت حكمة الإغريق لا تطيق شيئًا من هذا القبيل، فكان بقراط يقول في حديثه عن داء الصراع: «يسمون هذا الداء بالداء الإلهي، ولكن الأمراض كلها إلهية وتأتي من الآلهة.» فهو يتكلم بصفته فيلسوفًا ماديًّا، لكن العقل البشري أضعف اليوم يقينًا وأقل تثبتًا، ولا يغضبني أحد كالقائلين: «نحن لا نؤمن بالمعجزات؛ لأنه لم يقم على إحداهن دليل.»

***

… لن نفتأ نحب هؤلاء الميامين الذين ترسل شفاههم إلى آذاننا تلك السلاسل الذهبية التي حدثت عنها أساطير الغاليين. لن نفتأ نُقاد بحسن القول وفصاحة اللسان.

***

لا شيء في الدنيا أجل من الألم.

***

لا ينبغي لك أنْ تسأل المرأة كل شيء، وخذ اللذة حيث تجدها.

***

السيئ في الرغبات، حتى في أبسطها، هو أنها تخضعنا للغير وتجعلنا غير مستقلين.

***

… كل مصائبنا باطنة ونحن مسببوها، نحسب خطأً أنها تأتينا من الخارج، ولكننا نكونها في باطننا من نفس مادتنا.

***

لا شيء في ذاته مشرف أو معيب، عادل أو ظالم، مستحب أو مستكره، حسن أو سيئ، فإن رأيك هو الذي يهب الأشياء صفاتها، كالملح في الطعام.

***

ما التاريخ؟ مجموعة أقاصيص أخلاقية، أو مزيج من الحوادث والخطب البليغة حسبما يكون المؤرخ فيلسوفًا أو واعظًا، قد توجد فيه قطع بيانية جميلة، ولكن لا ينبغي أنْ نلتمس فيه الحقيقة؛ لأن الحقيقة هي في إظهار ما بين الأشياء من نسب لازمة، ولا سبيل إلى إثبات هذه النسب؛ لأن المؤرخ عاجز عن اتباع سلسلة العلل والمعلولات، انظر! كلما كانت علة الحادث التاريخي من حادث غير تاريخي، فإن علم التاريخ لا يراها، ولما كان بين الحوادث التاريخية والحوادث اللاتاريخية صلة مكينة، فينتج عن هذا أنَّ الحوادث لا تتسلسل في التواريخ تسلسلًا طبيعيًّا، بل ترتبط بروابط بيانية صنعية، ليس إلَّا، كذلك لا يعزب عن فكرك أنَّ المؤرخين يميزون بين الحوادث التي تدخل في التاريخ، والحوادث التي لا تدخل فيه إلَّا اعتباطًا، ليس التاريخ إذن بعلم؛ لأنه مقضيٌّ عليه، بعيب في طبيعته، أنْ يلزمه غموض الكذب، وأنْ يعوزه السياق والاتصال اللذان لا معرفة حقيقية بدونهما، كذلك لا يمكن أنْ تستخرج من أخبار الأمم وسيرها أقل دلالة يرجم بها عن مستقبلها. ولما كانت خاصة العلوم التنبؤ والإخبار عن الحوادث الآتية كما هو مشاهد في الألواح التي تعين فيها بالحساب الآهلة ومد البحر وجزره والكسوفات قبل وقوعها، فقد أثبتنا أنَّ التاريخ ليس بعلم؛ لأن الثورات والحروب لا تضبط بحساب.

***

علامَ تؤلف تاريخًا؛ إذ ليس عليك إلَّا أنْ تنسخ من أشهر كتب التاريخ كما هي العادة؟ إنْ كان عندك فكر جديد ورأي خاص، أو كنت تظهر الناس والأشياء من وجهةٍ غير مألوفة، فإنك إذن تباغت القارئ، والقارئ لا يحب أنْ يباغَت، هو لا يلتمس في التواريخ إلَّا الحماقات التي يعرفها، فإذا اجتهدت لتعليمه كانت ثمرة جهدك أنك حقرته في عين نفسه، فأغضبته، لا تحاول إنارة فكره وإلَّا صرخ قائلًا: إنك تسفه عقائده.

***

… وهل الحياة ذاتها بريئة البراءة كلها؟ هل يستطيع أفضلنا أنْ يهنئ نفسه وهو يسلم الروح على أنه لم يسئ إلى أحد من الناس؟ هل نعلم ما تكلفه الكلمة تخرج اليوم من أفواهنا ما قد تكلف رجلًا مجهولًا من أَتراح وآلام؟ هل نعلم إذ نرسل السهم المجنح أيَّ كبد سيصيب في سيره المقدور؟ ألم يقل الذي جاء إلى هذه الدنيا لينزل ملكوت السماء ذات يوم وهو في جزع النبوة: «أتيتكم بالسيف لا بالسلام؟!»

ومع ذلك، فهو لم يعلم تنازع البقاء ولا ضلالة الحرية الإنسانية، فأي نبي بعد هذا النبي يستطيع أنْ يضمن لنا أنَّ «السلام» الذي يبشر به لن يكون ملطخًا بالدماء؟ كلا، كلا! ليست الحياة بريئةً، ولا يحيا المرء إلَّا بافتراس الحياة والتفكير، وهو أيضًا فعلٌ من الأفعال، له نصيب من القساوة الملازمة لكل فعل، لا يوجد فكرة مسالمة قط، وكل فلسفة يُراد أنْ تسود فهي حبلى بالخصومات والمظالم والشرور.

***

التغيير شرط جوهري في الحياة، والمدن كالناس تبقى ما زالت متغيرةً متطورةً.

***

نحن إذ زينا ملذاتنا جوَّدنا أيضًا آلامنا.

***

كلما تقدمت في السن، ازددت يقينًا بأن أندر مظاهر الشجاعة هي الشجاعة الفكرية.

***

وظيفة القاضي الجليلة هي أنْ يضمن لكلٍّ ما يخصه؛ للغني غناه وللفقير فقره.

***

إنَّ الأقيسة المنطقية لتحار أمام البداهة، ويمكن القول: إنَّ من المستطاع إثبات كل شيء خلا ما نحسُّ أنه حق، أمَّا إذا عرض لنا موضوع عويص، فالتدليل الآخذ بعضه برقاب بعض، لا يدل إلَّا على لباقة الفكر وشدة العارضة.

***

أثمن الجوائز ما يوليك شرفًا دون منفعة.

***

ليست طاعة الكاهن والجندي خلوًّا من روعة الجمال.

***

ما الغرامة وعقوبة الإعدام إنْ لم تكونا السرقة والقتل يرتكبهما المجتمع بدقة جليلة؟ ألا ترى أنَّ قضاءنا في خيلائه وجبروته لا يؤدي إلَّا إلى عار مجازاة الشر بالشر، والبأساء بالبأساء، فيضاعف — لحفظ التوازن والانتظام — هذه الجنح والجرائم؟

***

إذا كان يخيل لنا في مهزلة هذه الحياة الجديرة بالإشفاق أنَّ الملوك يأمرون والشعوب يطيعون، فهو خيال ووهم باطل، الحقيقة أنهم مساقون جميعًا — على السواء — بقوة غير منظورة.

***

بأي حق يُنزِل الآلهة الخالدون رجل الخير والصلاح إلى دركات الثواب؟ إنَّ جزاء الخير هو في عمل الخير نفسه، وليس في خارج الفضيلة ثمن جدير بها، فلندع للنفوس الحقيرة خوف العقاب وأمل الثواب؛ لتأييد شجاعتهم الدنيئة، ولا نحبب في الفضيلة إلَّا الفضيلة عينها.

***

إنَّ الماضي كالمستقبل مغيَّب عنَّا، نحن نعيش بين ظلمتين كثيفتين، في نسيان ما كان، وفي الريب مما سيكون، ومع ذلك، فإن الفضول يدفعنا إلى معرفة علل الأشياء، والقلق يغرينا بالنظر في مقدرات العالم والإنسان.

***

لا نضيع شيئًا من الماضي، فإن من الماضي يُصنع المستقبل.

***

الأهواء خصيمات الطمأنينة، هذا مسلم، ولكن لولاها لم يكن في الدنيا لا صناعات ولا فنون.

***

للهوى كل الحقوق؛ لأنه يقتحم كل المخاطر والعقوبات، وليس هو بمنافٍ للآداب مهما ينتج من الشرور؛ لأنه يحمل في نفسه جزاءه الرهيب.

***

لقد كنت على الدوام مؤثرًا جنون الأهواء على ما في خلو البال أو عدم الاكتراث من تعقل.

***

الأهواء لا ينبغي أنْ نطعن فيها، فإن كل ما يعمل في الدنيا من الجلائل هو صنع يدها.

***

إنَّ الفقير الذي لا رغبات له يملك أعظم الكنوز؛ هو مالك نفسه، أمَّا الغني ذو المطامع فليس إلَّا عبدًا شقيًّا.

***

لا جمال في الدنيا إلَّا جمال الأهواء، ولا نصيب لها من العقل، وأجملها أيضًا أبعدها عن الصواب وهو العشق. هل كان في رأس روميو وجوليت ذرة من العقل؟ ولكن لله ما أحبهما إلى النفس، يوجد هوًى أقرب إلى الصواب من سائر الأهواء وهو البخل، ولكن لله ما أشنعه وما أكرهه! كان دكنز يقول: «لا يسليني إلَّا المجانين.» فيا لشقاء من لا يشبه في بعض الأحيان دون كيشوت! فيحسب طواحين الهواء جبابرةً يحاربون، لقد كان دون كيشوت العجيب ساحر ذاته، فرفع الطبيعة وساواها بنفسه الكبيرة.

ومن كان كذلك، فليس مخدوعًا ولا مغبونًا، إنما المخدوعون الذين لا يرون أمامهم شيئًا جميلًا أو شيئًا جليلًا.

***

لولا الحب لجهلنا الحد الذي يبلغ إليه صبر البشر وشجاعتهم.

***

إنَّ الحرب اليوم هي عار الإنسانية، وكانت من قبل فخرها، لقد أوجبتها الضرورة على الممالك، فكانت مربية النوع البشري الكبرى، فيها مارس أبناء آدم الفضائل التي تُشاد عليها الحضارات، وتدعم بها قواعدها؛ علمتهم الصبر والحزم، والاستهانة بالمخاطر، ومجد التضحية، ويوم دحرج الرعيان قطع الحجارة الضخمة ليبنوا منها سورًا يحامون وراءه عن نسائهم وثيرانهم، أُنشئ أول مجتمع إنساني وضُمن ترقي الصناعات، وهذا الخير العظيم الذي ننعم به؛ أعني الوطن أو المدينة، أو ذلك الشيء الجليل الذي عبده الرومان ورفعوه فوق الآلهة، إنما هو ابن الحرب.

كانت أول مدينة سورًا حصينًا، وفي هذا المهد الخشن الدامي تغذت الشرائع القدسية، والصناعات الجميلة، والعلوم والحكمة؛ لذلك أراد الإله الحق أنْ يُدعى إله الجيوش.

… ولكن ليست الحرب في مجتمعنا الحاضر إلَّا داءً وراثيًّا، أو رجعةً فاسقةً إلى الحياة البربرية أو حماقةً مجرمةً، فإن أمراء هذا العصر، ولا سيما الملك المتوفى، قد وسمت جباههم بالعار على أنهم جعلوا الحرب لعبةً يتلهى بها رجال البلاط، ويحزنني التفكير بأننا لن نشهد ختام هذه المجازر المجمع عليها.

أمَّا المستقبل، المستقبل الذي لا يُسبر غَوْره، فَأْذن لي يا بني أن أتمثله أقرب إلى روح العدل والوداعة الذي يكنه فؤادي، فالمستقبل خير موضع نضع فيه أحلامنا؛ فيه يبني الحكيم، كما في «الأوتوبيا» أو مملكة الخيال، وأود أنْ أعتقد أنَّ البشر سيعرفون أخيرًا الفضائل الهادئة، فإني لأجد علامة السلام العام البعيدة في ذات تكاثر التسليح وتعاظمه، إنَّ الجيوش لا تفتأ في ازدياد عَددًا وعُددًا، وستقع ذات يوم في مهاويها السحيقة شعوبٌ برمتها، وحينئذٍ يموت الوحش بداء الشبم، وينفجر لفرط السمن.

***

لم يبقَ لنا إلَّا إجلال الماضي دينًا، وفي هذا الدين صلة العقول المجددة بعضها ببعض.

***

ينعم المرء إذ يعيش بمخيلته في الماضي نعيم الشعراء، ولكن فلنعلم أنَّ سحر الماضي ليس إلَّا من أحلامنا، وأنَّ العصور الغابرة التي ننشق عرفها بلذة، كان لها في جدَّتها ما لكل الأشياء التي تجري في وسطها الحياة الإنسانية، من طعم عادي داعٍ إلى الحزن.

***

كبار الشعراء هم لكل الناس، أمَّا صغارهم فأحق بالغبطة أيضًا؛ لأن شعرهم لذة للمترفين الذين لا يقنعون بما يقنع به العامة.

***

لا يلبث الرجل الذي ينظر في أعماله بعين العقل أنْ يرى أنَّ ما خلص منها وتنزه عن الشوائب قليل جدًّا. ينبغي أنْ تكون كاهنًا أو جنديًّا لتجهل مخاوف الشك وتنجو من جزعه.

***

لا نعجب بأنفسنا ولا نحسب أننا خيار، فنحن لسنا خيارًا، وإذا نظرنا إلى ذواتنا فلنكشف عن وجهنا الحقيقي، فهو خشن فظ كوجه آبائنا، وأمَّا ولنا عليهم فضلُ ماضٍ أبعد وتقليدٍ أطول من ماضيهم وتقليدهم، فلنعرف بالأقل استمرار جهلنا ودوامه.

***

ليس ما يحدث في نفوسنا أبلغ أثر وأبقاه، كائنات حقيقية بل كائنات خيالية.

***

لا مسرة إلَّا في الوهم، ولا طمأنينة إلَّا في الجهل.

***

أمَّا والقانون موضوع لحماية المجتمع، فلا يمكن أنْ يكون أقرب إلى معنى العدل من المجتمع نفسه، وما دام المجتمع قائمًا على الظلم، فستظل القوانين عاملةً على حماية الظلم وتأييده.

… ثم إنَّ هذه القوانين على الأغلب عتيقة، لا تمثل ظلامةً حاضرةً، بل ظلامةً غابرةً، وإذن أخشن وأشد قسوة هي صروح عصر السوء لا تزال قائمةً في زمن أرق وأحلم.

***

ما كان الجبن قط دليل التعقل.

***

تقول المدينة الصغيرة للمسافرين الذين يتأملونها من أعالي الأكمة: «انظروا إني عجوز، ولكنني جميلة، لقد طرَّز أبنائي البررة ثوبي بالقلاع والقباب والقصور والبروج، أغذي أبنائي بين ذراعيَّ، فإذا قضوا أشغالهم انصرفوا بعضهم إثر بعض؛ ليناموا عند قدمي، تحت العشب الذي يرتعيه الخرفان، يمضي أبنائي ويموتون، ولكنني أبقى لحفظ ذكراهم، فكأني حافظتهم؛ لذلك هم مدينون لي بكل شيء؛ لأن الإنسان ليس إنسانًا إلَّا لأنه يُذكر، لقد مزقت الحروب ثوبي وخرقت صدري، وأُصبت بجراح زعموا أنها مميتة، لكنني ما زلت حيَّةً؛ لأني رجوت، فتعلموا مني هذا الرجاء القدسي الذي ينجي الوطن، انظروا إلى هذه العين الجارية وهذا المستشفى، وهذه السوق التي أورثها الآباء أبناءهم، اعملوا لأولادكم كما عمل والدوكم لكم، إنَّ كل حجر من حجارتي يوليكم نعمةً، ويعلمكم واجبًا، انظروا إلى كاتدرائيتي، انظروا إلى ملجئي، انظروا إلى مستشفاي، وكرموا الماضي، ولكن فكروا أيضًا في المستقبل، فيعلم أبناؤكم أي جواهر حليتم بها، إذ أتى دوركم ثوبي الحجري.»

***

كلمتا «الحقيقة» و«العدل» يكفي ألَّا تحددهما لتفهم معناهما الصحيح، إنَّ في هاتين الكلمتين بحد ذاتهما لجمالًا يضيء ونورًا سماويًّا.

***

لا يستطيع أحد أنْ يجزم بأن المذهب الذي تبدو في النتائج الأولى أضراره ومساويه، لن يكون في الغد نافعًا كثير الخيرات، فكل الأفكار التي يقوم المجتمع عليها اليوم كانت ضارةً متلفةً قبل أنْ تصبح واقيةً محسنةً، وباسم المصالح الاجتماعية التي يتوسل بها المسيو برونتيار حُوربت في الماضي مبادئ التساهل والإنسانية زمنًا طويلًا.

***

يجمل بنا أنْ نرد العدل البشري إلى مبدئه الحقيقي؛ أعني مصلحة الأفراد المادية، وأن نعرِّيه من زخرف الفلسفة العالية التي يترداها رياءً باطلًا وفخفخةً فارغةً.

***

كل ما فكر فيه امرؤ، واعتقده في حياته القصيرة، هو جزء من هذه الحقيقة اللامتناهية، وكما أنه يدخل كثير من الأقذار فيما يدعونه «العالم»؛ أعني الترتيب والانتظام والنظافة، فكذلك حِكم المجانين والأشرار، وهم الأغلبية، مستمدة من «الحقيقة» الكلية التي هي مطلقة دائمة إلهية.

***

قلما يسئمني الذين لا يتكلفون، بل يظهرون كما هم في حقيقتهم، وقد يسلونني.

***

المجد كالحسناء لا يمنح نفسه إلَّا لخاطب.

***

لا أنكر أنَّ الحرية رأس الخيرات للأمة، ولكن كلما تقدمت في السن ازددت يقينًا بأنه لا يضمن الحرية للأفراد إلَّا حكومة قوية، إني تقلدت خلال أربعين سنةً أعلى مناصب الدولة، فعلمني الاختبار الطويل أنَّ الشعب متى كانت حكومته ضعيفة ظُلم واضطهد؛ لهذا فإن أولئك الخطابيين الذين يعملون لإضعاف السلطان يرتكبون أشنع الجرائم، وإذا كان الملك المطلق يصرف إرادته أحيانًا إلى وجوه الشر، فإن من المستحيلات تقرير أمر من أمور الدولة بناءً على اتفاق المجموع، وقبل أنْ يغمر السلم الروماني العالم بأسره، لم تسعد الأمم إلَّا في عهد المستبدين الأذكياء.

***

كان الرئيس غريفي موفور العقل، فألغى عقوبة الإعدام بالفعل، فلم تُنفذ في عهده قط، ليت الذين خلفوه اقتدوا به، فإن أمان الأفراد في المجتمع الحاضر لا يقوم على خوف العقاب، وبعد فقد نسخت شريعة القتل في ظهراني فريق من الأمم الأوروبية، فلم نرَ أنَّ الجرائم فيها زادت على جرائم البلدان التي احتفظت بهذه الفعلة الشنعاء، بل إنَّ عقوبة الإعدام في هذه البلاد نفسها سائرة إلى الاضمحلال، لا حول لها ولا فعل، كأنها أضاعت أصلها الذي تصدر عنه. إنَّ مبدأَي العدل والحق اللذين كانا في الماضي يسقطان رءوس الخلق بأبهةٍ وجلال، قد تزعزعت اليوم أركانهما بسطوة المبادئ الأخلاقية الجديدة التي نشأت عن تقدم العلوم الطبيعية، فأمَّا ونحن نرى رأي العين عقوبة الموت تموت، فمن الحكمة أنْ ندعها تموت.

***

متى يشتبك البيض بالصفر أو بالسود، يجدوا أنفسهم مكرهين على إبادتهم؛ إذ لا يغلب المتوحشون إلَّا بتوحش بالغ الإتقان، وهذا هو الحد الذي تنتهي عنده المشاريع الاستعمارية كلها.

***

لا مراء في أنه ستقع أيضًا حروب كثيرة؛ فإن الغرائز الوحشية والأطماع الفطرية والكبرياء والجوع التي أقلقت العالم خلال عصور متطاولة ستستمر على إقلاقه أيضًا، وهذه الكتل البشرية الكبرى الآخذة اليوم في التألف، لم تجد بعد قاعدتها، ولم توفق إلى توازنها، كذلك فإن تداخل الشعوب بعضها في بعض لم ينتظم الانتظام الكافي لضمان الرفاه العام بحرية المبادلات ويسرها، كما أنَّ الإنسان لم يصبح بعد محترمًا في نظر الإنسان، ولم تتساوَ أجزاء البشرية في دنوها من روح الاشتراك والتعاون؛ لتكون جميعًا كالحجيرات والأعضاء في الجسد الواحد، وليس بمقدر حتى لأحدثنا سنًّا أنْ يشهد ختام عهد السلاح، بَيْدَ أنَّ تلك الأيام السعيدة التي لن نعرفها نحن نحسُّ مجيئها، فإذا مددنا إلى عالم الغيب هذا الخط الذي نرى بدايته، كان في وسعنا أنْ نرى مواصلات أوفر وأكمل بين الأمم والشعوب، وشعورًا أعم وأقوى بالتضامن الإنساني، وتنظيمًا أفضل للعمل، وبالنهاية قيام «الدول المتحدة» في العالم بأسره.

وسيتحقق السلم العام ذات يوم، لا لأن البشر يصبحون خيرًا مما كانوا — هذا لم يؤذن لنا أنْ نرجوه — بل لأن نظامًا جديدًا للأشياء، وعلمًا جديدًا، وضرورات اقتصادية جديدة ستلزمهم بحالة السلام، كما كانت ضرورات الحياة في الماضي ترميهم في حالة الحرب وتبقيهم فيها.

***

يلوح لي أنَّ الإنسان إنما يشقى لإفراطه في إجلال نفسه وفي الثقة بالناس، فلو كان رأيه في الطبيعة البشرية أصح وأقرب للتواضع، لأصبح في أحكامه على نفسه وعلى الناس أرق وأحلم.

***

إنَّ مجتمعنا — وا أسفاه — مملوء صيادلة يخافون المخيلة، هم في ضلال؛ لأن المخيلة هي التي تبذر بأكاذيبها بذور الجمال والفضيلة في هذه الدنيا، ولا يكون المرء عظيمًا إلَّا بها، فيا أيها الأمهات لا تخشيْنَ أنْ تضلَّ المخيلة أبناءكن؛ فإنها على الضد من ذلك تقيهم الخطايا الدنيئة والأغلاط السهلة.

***

يمكن أنْ نعرِّف الإنسان هكذا: الإنسان حيوان ذو بندقية. هب له بذلةً جميلة وأمل المضي إلى الحرب يطبْ نفسًا؛ لهذا جعلنا الجندية أشرف المهن، وهو الصواب من جهة أنها أعرقها في القدم؛ لأن أبناء آدم الأولين تقاتلوا أولًا.

والجندية ملائمة للطبيعة الإنسانية من جهة أنَّ الإنسان في الجيش لا يفكر مطلقًا، ومن البين أننا لم نُخلق لنفكر، فالتفكير داء خاص ببعض الناس، إذا عمَّ كان منذرًا بفناء النوع.

ويعيش الجنود جماعةً، والإنسان حيوان اجتماعي، ويلبسون ملابس زرقاء بيضاء، وزرقاء حمراء، ويتزينون بالحرير والريش، مما يجعل لهم على البنات فضل الديك على الدجاجة.

والجنود في الحرب يطمعون في السلب والسبي، والإنسان سراق شهواني، مخرب محب للمجد، بالطبع، إنَّ حب المجد هذا هو الذي يهيب بقومنا الفرنسيس خاصَّةً إلى حمل السلاح، وحسبك لتتيقن من ذلك أنْ تقرأ التواريخ.

***

نظرت مليًّا في فلسفة القانون، فعلمت أنَّ العدل الاجتماعي بتمامه يقوم على قاعدتين؛ أولاهما: أنَّ السرقة محرمة، وثانيتهما: أنَّ ثمرة السرقة مقدسة. هذان هما المبدآن اللذان يكفلان للأفراد السلامة، وللدولة الأمن والنظام، فإذا جُحد أحدهما أو أغفل انهار البناء كله.

وضع هذان المبدآن في فجر التاريخ يوم تقدم الرئيس رجاله، وهو مكتسٍ جلد دب، مسلح بفأس من الصوان، متقلد خنجرًا من نحاس، فدخلوا السور حيث تركوا أولاد القبيلة مع قطعان النساء والوعول، عادوا يسوقون أبناء القبيلة المجاورة وبناتها، ويحملون الحجارة الساقطة من السماء، الثمينة لأن منها تُصنع السيوف التي لا تنثني، فوقف الرئيس على مرتفع من الأرض في وسط الحمى، وقال: غنمت هؤلاء العبيد وهذا الحديد من القوم الضعاف اللئام، فهم لي، ومن مدَّ إلى عبيدي وحديدي يدًا، أهويت على رأسه بهذا الفأس.

وهذا هو أصل القوانين، روحها عريق في القدم والبربرية، والعدل يُطمئن كل الناس؛ لأنه يحمي كل المظالم.

***

لا أدري فرقًا عظيمًا بين الكل واللاشيء، ويبدو لي أنَّ اللسان عاجز عن التمييز بينهما، إنَّ اللانهاية تشبه العدم شبهًا تامًّا، فكلاهما يستحيل تصوره، ورأيي أنَّ الكمال يكلف ثمنًا غاليًا، فهو إنما يُشرى بالوجود، ويجب على من شاء أنْ يوصف به أنْ يضيع وجوده، تلك بلية لم يسلم منها الله نفسه منذ خطر للفلاسفة أنْ يجعلوه كاملًا.

فإذا كنا بعد هذا لا نعلم ما العدم، فنحن نجهل أيضًا ما الوجود، ونحن بالجملة لا نعلم شيئًا، يقولون: إنَّ من المستحيل أنْ يتفاهم البشر، أمَّا أنا فأقول من المستحيل — رغم ضجيج المجادلات — ألَّا يتفقوا في النهاية، متى دفنوا جنبًا لجنب تحت ركام المناقضات التي يجمعونها من أقدم الأزمنة حتى بنوا منها جبلًا فوق جبل.

***

ليس الموقف أو الحادث في القصص لمن يوفق إليه أولًا، بل لمن يثبته بقوة في حافظة البشر.

يحسب أدباء العصر أنَّ الفكر أو المعنى مما يصح أنْ يكون ملكًا لواحد دون سائر الناس، وهذا حسبان لم تعرف العصور الحالية له مثيلًا؛ لأن السرقة الأدبية لم تكن يومذاك مثلها في هذه الأيام، ويبدو لي أنَّ الرأي القديم في هذا الصدد خير من الرأي الحديث؛ لتجرده وسموه وموافقته لمصالح جمهورية الآداب، فالكاتب الذي لا يأخذ من غيره إلَّا ما كان حسنًا مفيدًا، ويختار ويحسن الاختيار، هو رجل فاضل مستقيم.

***

سذاجة الفلاسفة لا يُسبر غَوْرها.

***

يقال: إنَّ الفلاسفة الذين يبحثون عن المبادئ والعلل، هم كالفيلة التي إذا مشت لم تضع على الأرض القدم الثانية إلَّا متى ثبتت القدم الأولى.

***

حقٌّ لكل عالم، بل فرضٌ عليه، إذا كان عنده رأي في هذا الكون أنْ يبديه مهما يكن رأيه، وعلى من حسب أنه يعرف الحقيقة أنْ يذيعها، فإن هذا مما توجبه كرامة العقل البشري، ولكنَّ آراءنا في الطبيعة ليست إذا رددناها إلى أصولها؛ لا كثيرة العدد ولا حسنة التنوع، فالإنسان منذ قدر على التفكير لا يفتأ يدور في دائرة من النظريات واحدة، لقد أُثير الخلاف والجدل حول حرية الفكر، وسيظلان مُثارَيْن، إلا أن حقوق الفكر فوق كل شيء، وأجلُّ مفاخر المرء أنْ يجرؤ على إبداء كل الآراء، أمَّا السيرة في الحياة، فلا ينبغي أنْ تكون متوقفةً على مذاهب الفلاسفة المجردة.

***

إنَّ رجلًا وحده لشيء يسير، وإنْ يكن رجلًا عظيمًا، لا يعلم الناس جيدًا هذه الحقيقة، وهي أنَّ الكاتب مهما يكن مطبوعًا فهو يستعير أكثر مما يخترع، ليست اللغة التي يكتب بها ملكًا له، ولم يخلق القالب الذي يصب فيه فكره من الموشح إلى الرواية التمثيلية فالقصة، وهو أيضًا لا يملك نحوَه ولا عروضه، بل ماذا أقول؟ إنَّ نفس معانيه وأفكاره تُلقى إليه من كل ناحية، لقد أُعطي الألوان هبةً، وهو لا يعطي إلَّا دقائقها التي لا أنكر أنها جد ثمينة في بعض الأحيان، ليكن لنا إذن من جودة العقل ما يكفي للإقرار بأن مؤلفاتنا ليست لنا بتمامها، أجل، إنها تنمو فينا، ولكن جذورها محجوبة في الأرض الخصيبة التي تغذيه؛ لنقرَّ بأنا مدينون للناس جميعًا بالشيء الكثير، وبأن الجمهور الذي نزف إليه مؤلفاتنا هو شريكنا فيها.

***

إنَّ أمراض النفس والجسد تهب أحيانًا المبتلين بها قوًى لا يملكها الأصحاء، والحقيقة أنَّ الصحة الجيدة والصحة الرديئة لا وجود لهما، فليس ثمة إلَّا حالات للأعضاء مختلفة، لقد درست الأمراض درسًا وافيًا أدى بي إلى اعتبارها الصور اللازمة للحياة، وإني لأجد في دراستها لذةً تربو على لذة محاربتها، فإن منها ما لا يستطيع المرء أنْ يراه إلَّا معجبًا مأخوذًا به، كتلك التي تخفي تحت عوارض الاختلال انتظامًا عميقًا، ومن المؤكد أنَّ حمَّى الربع شيء جميل، كذلك قد تكون أمراض الجسد دواعي إلى إثارة قوى النفس وإعلائها فجأةً.

***

لست أظن سوءًا؛ لأني أعتقد أنَّ البشر عاجزون عن إتيان الشر والخير على السواء، بل لا وجود للخير والشر إلَّا في رأي الناس، والعاقل من اتبع في أعماله العرف والعادة، ليس إلَّا.

***

إنَّ المرأة لا تجلب للرجال اللذة، بل الحزن والقلق والهموم السود، والحب علة آلامنا اللاذعة، اسمع أيها الغريب، إني ذهبت في صباي إلى تريزين من أعمال الأرغوليد، فرأيت فيها آسةً لا مثيل لها في العظم، ملأت أوراقها وخزات لا يحصيها العد، وإليك ما يقوله أهل البلد في شأنها: زعموا أنَّ الملكة فيدر لما أحبت هيبوليت كانت تقضي سحابة يومها مضطجعةً في برج الوجد، تحت هذه الشجرة الباقية إلى يومنا هذا، فكانت في سأمها المميت تأخذ الدبوس الذهب الذي يمسك شعرها الأشقر، وتخز به أوراق الشجرة ذات الحب العاطر، وهكذا أثخنت الأوراق كلها وخزًا، وبعد أنْ أضلت فيدر ذلك الفتى البريء الذي كانت تلح عليه بهواها الحرام، ماتت كما تعلم شر ميتة، اختلت في مقصورة العرس، وشنقت نفسها بزنارها المذهب معلقًا بمسمار من العاج، وبمشيئة الآلهة ظلت الآسة التي شهدت الفاجعة تحمل أوراقها الجديدة وخزات الدبوس، لقد قطفت إحدى هذه الأوراق ووضعتها على وسادة مضجعي؛ لتحذرني على الدوام عواقب الاستسلام لجنون الحب، ولتثبتني على مذهب أستاذي أبيقور الإلهي الذي يعلِّم أنَّ الشهوة مخوفة، ولكن الحقيقة هي أنَّ الحب داء في الكبد، ولا يأمن أحد قط أنْ يصيبه الداء.

***

لماذا تريدون أنْ يعامل الغني الفقراء بغير ما يعامل الأغنياء والقادرين؟ إنه يفي الدَّيْن الذي لهم عليه، وإذا لم يكن لهم شيء فهو لا يؤديهم شيئًا، هذه هي الاستقامة بعينها.

إذا كان مستقيمًا فليعامل الفقراء على هذه الصورة، ولكن لا تقل: إنَّ الأغنياء ليسوا مدينين للفقراء بشيء، فإنك لن تجد غنيًّا واحدًا يقول هذا القول، غاية ما في الأمر أنَّ الشكوك تحوم حول مقدار الدَّيْن، ولا يرغب الأغنياء في الخروج من هذه الشكوك؛ لأنهم يؤثرون البقاء في حالة الإبهام؛ يعلم الغني أنه مدين، لكنه لا يعلم مقدار الدَّيْن، فهو يؤدي حينًا بعد حين دفعةً صغيرةً على الحساب، هذا هو الإحسان، وهو في مصلحة الأغنياء.

***

إنَّ ما تحرمني الشيخوخة منه — إذا شئت أنْ تعلمه — هو ما تحرم منه جميع الذين يمسهم سوءها، تصرف عني عين الرضى من التي هي نعيم البشر والآلهة، أجل، إنَّ هذه لم تخصني بحظوةٍ عظيمة، بَيْدَ أنها أنعمت عليَّ لحبي إياها برؤية جمال الأشياء، والتمتع بالملاذ الوحيدة التي تجعل حمل الحياة في الطاقة البشرية، ولكن هذه الآلهة، وا أسفي! لا تعرف الشيوخ.

***

للمتوحشين عادة لا أستنكرها، وهي أنهم يصعدون شيوخ القبيلة إلى شجرة، ثم يهزون بجزعها، فمن لم يجد منهم قوةً على الاستمساك بغصنه فسقط، قتلوه.

***

يشكرون الله على أنه خلق هذه الدنيا، ثم يشكرونه على أنه خلق الدنيا الآخرة التي تُرد فيها مظالم تلك وتصلح مساويها.

***

إنَّ المبادئ الاجتماعية لأسرع تبدلًا من آراء الفلاسفة، كذلك هي لا تقوم على أساس مكين، فلا يكاد الفكر يلامسها حتى ينقضَّ بنيانها.

***

يتبادل البشر القبلات من عهد بعيد جدًّا، فيا للعجب ألَّا يزال أيضًا في الحب أسرار مجهولة، والعشاق يعلمون من ذلك أكثر مما يعلم المنجمون.

***

كل ما تدركه الحواس ممقوت، في أصغر حبة رمل خطر عظيم، كل شيء يغوينا، وليست المرأة إلَّا مجموعة كل الغوايات المبددة في النسيم الخفيف، والأرض المزهرة والمياه الصافية، طوبى لمن كانت نفسه إناءً مختومًا! طوبى لمن قدر على أنْ يخرس لسانه، ويعمي عينيه، ويصم أذنيه، فلا يعرف من الدنيا شيئًا ليصل إلى معرفة الله.

***

لينظر جبابرة الأرض إلى مواطئ أقدامهم، لينظروا إلى الشعوب التي يقهرونها والمبادئ التي يزدرونها، فإن من ثمة سوف تخرج القوة التي تصرعهم.

***

تتعاون الشعوب القوية على إقرار النظام وإنماء الثروة في العالم، أمَّا الشعوب الضعيفة، كالترك والصين، فهي علة دائمة للقلاقل والشرور.

***

إنَّ الأدلة على حرية الإنسان قليلة جدًّا؛ حتى إني لتأخذني الرجفة كلما فكرت في الأحكام التي يعاقب بها القضاء على أعمال يغيب عنا مبدَؤُها وسياقها وسببها على السواء، وليس للإرادة فيها نصيب يُذكر، بل يأتيها المرء أحيانًا دون معرفة.

***

ماذا يجدي أنَّ العدل في القوانين إذا لم يكن في القلوب؟ وإذا كانت القلوب مؤذية فهل يجدي أنَّ العدل في القانون؟! لا تقولوا: «نسن شرائع عادلة ونعطي كل واحد حقه.» فلا رجل عادل، ولسنا نعلم ما ينفع الناس؛ نحن نجهل على السواء ما هو حسن لهم، وما هو سيئ، وكل مرة أَحب فيها الأمراء ورءوس الجمهورية العدل كانوا سببًا في هلاك كثير من الناس.

لا تعطوا المساح الشرير مقياسًا وبركارًا؛ لئلا يقسم بالمقاييس العادلة قسمًا غير عادلة، ثم يقول: «انظروا إني أحمل المقياس والقاعدة والبركار، فأنا إذن مساح جيد.» ما دام البشر قساةً بخلاء، فهم يضعون القسوة والظلم في أرق الشرائع وأعدلها، وينهبون إخوانهم بألفاظ الحب والعطف، فعبثًا تكشفون لهم عن كلمة المحبة وشريعة الرفق.

لا تعارضوا شريعةً بشريعة، ولا تنصبوا ألواح الرخام أو النحاس في وجه الإنسان، فإن ما كُتب على ألواح القانون مكتوب بأحرفٍ من الدماء.

***

من العسير على الأغنياء، سواء في ذلك اليهود أم النصارى، أنْ يكونوا منصفين، ولكن متى أصبحت الشرائع عادلةً يصبح الناس عادلين، وهؤلاء الاشتراكيون والأحرار يهيئون المستقبل منذ الآن بمحاربة الاستبداد، وبث كراهة الحرب، وحب النوع الإنساني في ظهراني الشعوب، يمكننا اليوم أنْ نعمل قليلًا من الخير، وهذا وحده ما يجعلنا إذا متنا نموت لا يائسين ولا غضابًا، وإنْ يكن من المؤكد أنَّا لن نشهد فوز آرائنا.

***

يقوم المجتمع الإنساني على أساس مقدس من البخل والقسوة.

***

جاء أوريبيدس وجعل مقدرات الإنسان في الإنسان نفسه، وعين بواعث أعماله، وكان أول من أظهر جمال تلك الأمراض النفسانية، التي لا أشك في أنها أجمل وأثمن من الصحة، وأعني الأهواء.

***

لا يعرف المرء عدم التبصر إلَّا من قِبل أهوائه.

***

إنَّ الهوى الشديد لا يدع لصاحبه برهة راحة، وهذه هي حسنته وفضيلته، إنَّ كل شيء هو خيرٌ من أنْ ترى أنك تحيا.

***

هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء صغار لا شأن لهم في نفسك، ولكن أعطهم شيئًا واحدًا يعوزهم يصبحوا حسانًا، ويأخذوا بلبك، ليعرفوا الحب، وليكن في قلوبهم شعورًا صادقًا وعاطفة بليغة تلقي بعضهم بين ذراعي بعض، فهم إذن لا صغار ولا مزدرون، بل هم على الضد من ذلك، يجذبون نفسك، وإذا مروا بنا قلنا: «إنَّ هؤلاء لسعداء، لقد أنزلوا السماءَ على الأرض، إنَّ أحدهم في عين صاحبه صورة الكمال الحية، إنهم يضعون اللانهاية في برهة، ويحققون الله في هذه الدنيا، ينبغي أنْ نغبطهم حتى على آلامهم؛ لأنها تتضمن من المسرات أكثر مما تتضمنه سعادة سائر الناس.»

***

الفكر شيء مخوف، إذن فلا نعجب من أنَّ البشر يخشونه بالفطرة، لقد قاد إبليس نفسه إلى العصيان، ومع ذلك فقد كان إبليس من أبناء الله، هو الحامض الذي يحل الكون بحيث إنه إذا أخذ الناس جميعًا يفكرون في وقت معًا، فإن هذا الكون يصير إلى العدم، ولكن هذه النكبة ليست مما يُخشى وقوعه.

***

التفكير داء وبيل.

***

إنَّ الذين لا يفكرون إلَّا قليلًا، أو لا يفكرون مطلقًا، يقضون حوائجهم على أحسن حال في هذه الدنيا والآخرة، أمَّا الكثيرو التفكير فهم أبدًا مهددون بالخسران روحًا وجسدًا لكثرة ما في الفكر من خباثة.

***

ماذا تكون بوادي الحياة لولا سراب أفكارنا الساطع؟

***

إنَّ أفعالنا ليست منا تمامًا، بل هي للأقدار أكثر مما هي لنا، نحن نُعطاها جاهزة ولا نستحقها دائمًا.

***

الجهل شرط لازم، لا أقول في السعادة، بل في الوجود نفسه، لو كنا نعلم كل شيء إذن لما استطعنا الصبر على الحياة مقدار ساعة، فإن العواطف التي تجعل الحياة هنيئةً أو بالأقل محتملة، تتولد عن أكذوبة وتتغذى بالأوهام.

ولو أنَّ رجلًا سما إلى مقام الألوهية، فأمسك الحقيقة، الحقيقة الواحدة الكلية وتركها تسقط من يده، لاضمحل الكون فجأةً، وتبدد الوجود كالظل، فإن الحقيقة الإلهية كالحساب الأخير، قادرة على أنْ تجعل الكون هباءً منثورًا.

***

يأتي حينٌ يصبح فيه التطلع خطيئةً، وقد لزم الشيطان دائمًا جانب العلماء.

***

سآمة الشعراء سآمة مذهبة، فلا تفرطوا في الرثاء لهم، إنَّ الذين يغنون قادرون على أنْ يسحروا يأسهم، ولا سحر أقوى من سحر الكلام، والشعراء كالأطفال يعزون أنفسهم بالصور.

***

العمل يجعل الحياة سعيدةً أحيانًا، ومحتملةً دائمًا.

***

من قال جيران، فكأنه قال أعداء، انظر إلى هذا الحقل الذي يتصل بحقلي؛ هو لِأبغض الناس عندي، ويأتي بعده في البغض أبناء القرية التي تتسلق المنحدر الآخر من الوادي عند تلك الغابة، لا يوجد في هذا الوادي الصغير سوى تلك القرية وقريتنا، وكلما التقى صبياننا وصبيانهم تبادلوا الضرب والشتيمة.

***

أعرف بنيةً بلغت تسعًا من السنين هي أحكم من الحكماء، قالت لي منذ هنيهة: «إنا نرى في الكتب ما ليس بوسعنا أنْ نراه بالفعل، إمَّا لأنه بعيد جدًّا، وإمَّا لأنه في الماضي، لكن ما نراه في الكتب لا نراه جيدًا، ونراه بشكل محزن، إذن لا ينبغي للصغار أنْ يقرءوا في الكتب. يوجد أشياء كثيرة جديرة بأن يروها ولم يروها؛ البحيرات والجبال والأنهار، والمدن والأرياف والبحر ومراكبه، والسماء وكواكبها.»

أنا من رأيها تمامًا، نحن نعيش ساعةً من الزمن، فلماذا نحمل أنفسنا كل هذه الأعباء؟! علامَ نتعلم كثيرًا إذ نحن موقنون بأنا لن نعلم شيئًا؟ نحن نعيش في الكتب أكثر مما ينبغي، وفي الطبيعة دون الكفاية، فنشبه ذلك الأبله بلينوس الأصغر الذي كان يدرس أحد خطباء الإغريق، بينما كان بركان فيزوف يدفن على مرأى منه خمس مدن تحت الرماد.

***

كلما فكرت في الحياة الإنسانية، ازددت يقينًا بأنه ينبغي أنْ نُشهِد عليها شاهدَيْن، أو نقاضيها إلى قاضيَيْن؛ هما السخرية والشفقة، كما كان المصريون يحاكمون موتاهم إلى الإلهة إيزيس والإلهة نفتيس. السخرية والشفقة ناصحتان أمينتان؛ الأولى تحبب إلينا الحياة بابتسامها، والأخرى تجعلها مقدسةً ببكائها، وليست السخرية التي أعنيها قاسيةً ولا موجعةً، كما أنها لا تستهزئ بالحب ولا بالجمال، هي رفيقة سمحة، تهدئ بضحكها ثورة الغضب، وتعلمنا أنْ نسخر من الأشرار والحمقى الذين نبغضهم لولاها، والبغض ضعف يشيننا.

***

إنَّ تأثيرات النور والهواء الخفية — أعني ألوف الآلام التي تنشأ عن الطبيعة بأسرها — هي جزية تؤديها الخلائق الحساسة التي تلتمس مسراتها في الصور والألوان.

***

في الشعوب المتمدنة بربرية خاصة تزيد عما تخيله البرابرة أجمعين، فإن العلَّامة الجنائي شرٌّ من شر المتوحشين، ومحب الإنسانية الحديث يخترع ضروبًا من التعذيب لم تعرفها فارس والصين، كان جلاد الفرس يميت السجناء جوعًا، فوجب أنْ يأتي محب الإنسانية ليتخيل قتلهم بالعزلة، وهذا هو بعينه «الجيش المنفرد» الذي لا تقاس بفظاعته فظاعة قط، لكن المبتلى به لحسن طالعه، يضيع رشده فيخلصه الجنون من الشعور بآلامه.

ويتوسلون إلى تبرير هذا المقت بزعمهم أنه يجب إبعاد المحكوم عليه من آثار السوء التي يحدثها فيه أمثاله، وجعله في حالة لا يستطيع معها اقتراف الموبقات والجرائم، إنَّ الذين يدللون هكذا هم حمقى إلى حدٍّ لا يسعنا معه أنْ نقول إنهم منافقون.

***

حينما يقول امرؤ: إنَّ الحياة حسنة، أو يقول: إنها سيئة، فهو يقول ما لا معنى له البتة، يجب أن نقول: إنها حسنة سيئة معًا؛ لأننا نستمد منها، منها وحدها، فكرة الحسن والسيئ، والحقيقة أنَّ الحياة لذيذة كريهة، فتانة مخوفة، حلوة مرة، وأنها كل شيء مثلها مثل الطيلسان في أقصوصة فلوريان؛ أحدهم يراها حمراء، ويراها الآخر زرقاء، وكلاهما يراها كما هي بالفعل؛ لأنها حمراء وزرقاء وفيها كل الألوان، وهذا من شأنه أنْ يوفق بيننا جميعًا، وأنْ يصلح بين الفلاسفة الذين يمزق بعضهم بعضًا، ولكن في فطرتنا أنْ نريد إكراه سائر الناس على أنْ يشعروا ويفكروا مثل شعورنا وتفكيرنا، وألَّا نأذن لجارنا أنْ يكون فرحًا إذا كنا نحن محزونين.

***

إنَّ شرور الناس تأتيهم من أوهامهم وتقاليدهم، كما تدب العناكب والعقارب من ظلمة الأقبية ورطوبة الجنائن، فمن الحسن أنْ نُعمل المكنسة بمثل خبط العشواء في كل هذه الزوايا، ومن الحسن أيضًا أنْ نضرب جدران القبور والجنينة بالمعول حينًا بعد حين، فإن هذا من شأنه أنْ يرهب الهوام، وأنْ يمهد للتخريبات اللازمة.

***

هذه مدينة مجيدة نبيلة، لكن النبالة ليست موزعةً بين سكانها جميعًا، بل محصورة في فريق قليل منهم، بَيْدَ أنَّ المدينة كلها والأمة كلها إنما تقوم ببعض أفرادها الذين يفكرون تفكيرًا أقوى وأصح من تفكير الآخرين، ولا يُعدُّ ما بقي شيئًا مذكورًا، إنَّ ما نسميه روح الأمة لا يُتوصل إلى وجدان ذاته إلَّا في أقليات تدق على الأبصار، وما أقل الأفراد الذين يجرءون على التملص من مخاوف العامة، ويكشفون بأيديهم الحجاب عن وجهِ الحقيقة!

***

عواقب الحرب لا يحصيها حساب، تلقيت من صديقي الفاضل ويليام هاريسون رسالةً ينبئني فيها أنَّ العلم الفرنسي أصبح مزدريًا بإنكلترة منذ سنة ١٨٧١، وأنَّ العلماء في جامعات أكسفورد كمبريدج ودوبلن يتظاهرون بإغفال «الموجز في علم الآثار» الذي وضعه موريس رينووار، رغم أنه أنفع للطلاب من أي كتاب آخر في موضوعه، ولكنهم لا يريدون أنْ يدرسوا في مدرسة المغلوبين، زاعمين أنه يجب للوثوق بأقوال أحد العلماء في خواص الفن الأيجي وأصول الخرافة الإغريقية، أنْ يكون ذلك العالم من أمة تحسن صبَّ المدافع، فأمَّا والمرشال مكماهون قد غُلب في «سدان» سنة ١٨٧٠، والجنرال شانزي أضاع تلك السنة أيضًا جيشه في ولاية المين، فهذا صديقنا موريس رينووار تصده أكسفورد سنة ١٨٩٧ أقبح صدٍّ، ولا تعبأ بمؤلفه القيم، هذه نتيجة بطيئة غير مباشرة، ولكن مؤكدة من نتائج الحرب.

كذلك لا سبيل إلى إنكار أنَّ على قائم السيف يتوقف مصير الآداب والفنون.

***

قبل أنْ تغضب ألا يسعك أنْ تحاول فهم ما يُقال؟

***

ليست مناقضاتنا أبعد ما فينا عن الحقيقة.

***

لم يعوزني قط لأتمتع بالأشياء أنْ أكون مالكًا لها.

***

الحياة هي الشهوة، وحسبما نخال الشهوة حلوة أم مرة، نحكم بأن الحياة سعيدة أم شقية.

***

يسأم المرء كل شيء إلَّا فهم كُنه الأشياء.

***

كنت في السادسة لما ابتُليت بهذا التطلع العظيم، الذي أصبح عذاب حياتي ونعيمها على السواء، ووقف نفسي على نشدان ما ليس لنفسٍ أنْ تدركه.

***

يقامر المقامر كما يعشق العاشق، ويشرب السكير بالضرورة، على العمياء، مدفوعًا بقوةٍ لا تُقاوم. يوجد أناس كُتب عليهم القمار مثلما يوجد أناس كُتب عليهم الحب. مَن الذي اخترع حكاية ذينك النوتيين اللذين مسهما شيطان القمار؟ لقد غرقا ولم ينجوَا من الموت بعد أشد المخاطر هولًا، إلَّا لأنهما امتطيا ظهر حوت، ولكن ما كادا يأخذان مكانهما حتى تناولا النرد، وشرعا يلعبان، كل مقامر هو أحد هذين النوتيين، ومن الثابت أنَّ في القمار ما يهيج أعصاب كل جريء مقدام، فليست باللذة الخسيسة لذة تجربة الأقدار، وليس بنعيم لا سكر فيه نعيم الذين يذوقون في لحظة طعمَ شهور وأعوام، بل طعم حياة كاملة ملأى بالخوف والرجاء.

كنت دون العاشرة يوم تلا علينا المسيو غربينه — أستاذنا في الصف التاسع — حكاية «الإنسان والجني»، ولكن ما زلت أذكرها كأحسن مما لو سمعتها أمس: يعطي الجني أحد الصبية كبة خيطان، ويقول له: هذا الخيط هو خيط أيامك، خذه! وكلما أردت أنْ تنقضي الأيام، فاجذب الخيط، فإن الأيام تمر بعجلة إذا حللت الخيط معجلًا، وبتؤدة إذا حللته متئدًا، فإن لم تمس الخيط قط بقيت من حياتك في الساعة التي أنت فيها، فأخذ الصبي الخيط وجذبه ليصير رجلًا، ثم ليتزوج الخطيبة التي يهواها، ثم ليرى بنيه يترعرعون، ثم ليحرز الثروة الطائلة والرتب السنية، ثم ليجتاز الهموم وينجو من الأحزان والأسقام التي وفدت عليه مع السن، وأخيرًا يا حسرتنا! لينهي شيخوخةً ثقيلةً ناصبةً، وهكذا عاش الصبي منذ جاءه الجني أربعة أشهر وستة أيام.

وهل القمار إلَّا فن يستحضر به المرء في لحظةٍ كل الحوادث والتقلبات، التي لا يرسلها القدر عادةً إلَّا في ساعات كثيرة أو في عدة سنين؟ وهل هو إلَّا فن يجمع به المرء في لحظة كل الانفعالات المبددة في أعمار الناس الطويلة؟ هل هو إلَّا وسيلة يحيا بها المرء في بضع دقائق الحياة كلها؟ هل القمار إلَّا خيط ذلك الجني؟ القمار جلادٌ بين الإنسان والقدر، أو صراع يعقوب والملك، أو عهد الدكتور فاوست مع الشيطان، يقامر الإنسان على المال، والمال هو الإمكان اللامتناهي في متناول يده، فرب ورقة تُسحب أو كرة تدحرج، قادرة على أنْ تعطي المقامر الحدائق والجنائن، والحقول والغابات، والقصور المصعدة بروجها في السماء، أجل، إنَّ في هذه الكرة الراكضة هكتارات من الأرض الخصيبة، وسطوحًا من الصفاح تنعكس مداخنها المنقوشة على مياه اللوار، فيها كنوز الفن وآيات الذوق، فيها أنفس الجواهر، وأجمل أجسام النساء، بل فيها أيضًا القلوب التي كنا نحسبها لا تُشرى، وكل الأوسمة وكل المناصب العالية، فيها كل ما في الدنيا من نعمة ومن سلطان، ماذا أقول؟ فإن فيها ما هو خير من كل ذلك؛ فيها الحلم به.

وتريدون ألَّا يقامر الإنسان؟ لو أنَّ القمار لا يعطينا إلَّا آمالًا بلا حدٍّ، ولا يرينا إلَّا ابتسام عينيه الخضراوين لما جُننا به حبًّا، لكن له أظافر من الماس، هو هائل يعطي إذا شاء هواه البؤس والعار أيضًا، ولذلك عبده الناس.

إنَّ جاذبية الخطر لفي قرارة كل هوًى شديد، لا لذة عظيمة بلا دوار، والنعيم الممزوج بالخوف يسكر، وهل أخوف من القمار؟ إنه يعطي ويسلب، وليست دواعيه دواعينا، ولا يعنيه ما يعنينا، هو أبكم أعمى أصم، هو القادر على كل شيء، هو رب من الأرباب.

هو إله له عابدون، وله أولياؤه الذين يحبونه من أجل ذاته لا من أجل وعده ونواله؛ يعبدونه وإن ضربهم، وإذا أفقرهم دون شفقة نسبوا الذنب إلى أنفسهم لا إليه، وقالوا: إنا لعبنا خطأً.

يتهمون أنفسهم، ولكن لا يكفرون.

***

يقدر المرء، بل يجب عليه أنْ يقول كل شيء إذا علم كيف يقول كل شيء، وإنَّ في سماع اعترافٍ صادق الصدق كله لذةً لا توصف، ولكننا لم نسمع منذ وُجد الناس اعترافًا كهذا، لم يقل واحد منهم كل شيء، لا ذلك الغيور القديس أوغسطينوس الذي لم يكن أكبر همه إظهار نفسه عاريةً كما هي، بل إفحام الزنادقة، ولا هذا المسكين روسو العظيم الذي كان جنونه يدفعه إلى الافتراء على نفسه كذبًا.

***

وُجد التعصب في كل عصر، ما من دين إلَّا كان له شيعته المتعصبون، وبنا جميعًا ميل إلى العبادة، كل شيء فيما نحبه يبدو لنا حسنًا، ويسوءنا لو يدلنا دالٌّ على نقيصة في أوثاننا، إنَّ الناس ليجدون مشقةً كبرى في إحلال قليل من النقد والتمحيص في أصول عقائدهم ومصدر إيمانهم، ولو كانوا يكثرون النظر في المبادئ لما آمنوا بشيء.

***

ليست الكرة الأرضية إلَّا حبة رمل في بادية العوالم اللامتناهية، ولكن إذا لم يوجد الألم إلَّا في هذه الكرة، فهي إذن أعظم من الكون بأسره، وهي إذن كل شيء، وليس ما بقي شيئًا؛ إذ لن يوجد فيما عداها فضيلة ولا نبوغ، وهل النبوغ إلَّا فن لرقية الألم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤