محمد عبد المطلب

١٨٧٠–١٩٣١
figure

هو الشاعر البدوي البليغ، والمجاهد الوطني الصميم، محمد عبد المطلب، وُلِد سنة ١٨٧٠ ببلدة «باصونة» من قُرى مديرية جرجا لأبوَين عربيَّين مصريَّين من سلالة قبيلة جهينة إحدى قبائل جزيرة العرب، وكان والده رجلًا صالحًا متفقِّهًا، فأرسل ابنه إلى الأزهر وتلقَّى فيه العلم نحو سبع سنين، ثم انتقل إلى «دار العلوم» ومكث بها أربع سنوات، وتخرَّج منها عالمًا أديبًا، وتولَّى التدريس في مدارس الحكومة، واختير مدرِّسًا بمدرسة «القضاء الشرعي»، ثم مدرِّسًا في «دار العلوم»، ونضج علمه، واكتمل شعره وأدبه، فصار من فطاحل الشعراء الذين يُشار إليهم بالبنان، ولما شبَّت ثورة سنة ١٩١٩ ساهَم فيها بشعره وأدبه وجهاده، وخلَّد حوادثها بقصائده الغُر، وكان حجة في الأدب واللغة، وشعره يجمع بين البلاغة والجزالة وروعة الأسلوب، وبلغ في مكانته الشعرية منزلة فطاحل الشعراء المتقدمين، وكانت الروح الوطنية الدفَّاقة تتجلى في معظم أشعاره وقصائده، وله في هذه الناحية إنتاج ضخم يصلح في ذاته أن يكون ديوانًا مجتمِعًا من الشعر الوطني، وقد ظل على إنتاجه الشعري إلى أن أدركَته الوفاة سنة ١٩٣١.

روحه الوطنية

إن أحسن وصف لروحه الوطنية ومساهمته في الجهاد وخاصة في ثورة سنة ١٩١٩ ما قاله في رثائه صديقَه وزميله الشاعر محمد الهراوي؛ إذ يقول عن «جهاده الوطني»:

فذاك وإن جدَّت خطوبٌ وأجلبَت
فإنك للجُلَّى وللحادث الجِدِّ
تُخاطِر والجندُ المدجَّج مُحدِق
وتمضى وصوت «الموزريَّات» كالرعدِ
فتبكي وتستبكي العيون على الحِمى
وتعدو على العادي عليه وتستعدي
وتخطب حتى تستشير وتنثني
وقد حمِيَت آنافُ قومك من وقدِ
وما هالَك الجندُ الذي كان مُحدِقًا
ونفسك من فرط الحمية في جُندِ
نزلت عن النفس الكريمة فديةً
إلى الوطن العاني كذلك مَن يفدي

مصر أثناء الحرب العالمية الأولى

١٩١٤–١٩١٨

قال من قصيدة له يصف ما عانَته مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، وينعى على الإنجليز بَغيَهم وعدوانهم وإعلانهم الحماية في ديسمبر سنة ١٩١٤، ويندِّد بفظائع السلطة العسكرية البريطانية في سِنِي الحرب:

وعادت رياض النيل نارًا جحيمُها
يُشبُّ لغير الخائن المتملِّقِ
فكم سيِّد بين الغيابات حتفُه
وآخر بالأصفاد والسوط مُرهَقِ١
ترى أدمع النُّعمى بناعم جسمه
نجيعَ دمٍ من جلده المتمزِّقِ
يقضِّي الليالي بين ظلم وظلمة
طريدَ الكرى في جوفِ أغبرَ مُطبِقِ
وتُمسي نَجِي الحزن جارة بيته
سواد الدجى بالمدمع المُترقرِقِ
وفي حجرها لو أبصروا ذو تمائم
يكلِّمها بالعين من غيرِ مَنطقِ
إذا فزعت في الخدر من هول ما ترى
فلا راحمًا تلقى ولا عطفَ مُشفِقِ
ودارةِ عزٍّ أوحشت من أنيسها
وما كان فيها من جلال ورَونقِ
تحمَّل أهلوها على غير موعد
وبانوا على حكم الزمان المفرِّقِ
يُنادي لسان الحال من شُرُفاتها
«قفوا ودِّعونا قبل وشكِ التفرقِ»
ولم يُنسِها التوديعُ موقفَ شامت
يقلِّب في الغادين أجفانَ مُحنَقِ
وما ملَّهم فيها ثواءٌ وإنما
نجَوا بالنوى من ظُلمِ أرعنَ أحمقِ
يُناديه فينا قائدَ الجيش٢ قومُه
وما قادهم إلا إلى شرِّ مأزقِ
تعسَّف بالأحكام غيرَ موفَّق
وما ظالم في حكمه بموفَّقِ
فكم ساقَ من مصرٍ إلى الموت فتيةً
زهاها الصِّبا في عنفوان وريِّقِ٣
جموعٌ كآجال النعام تلفُّها
يدُ القهر للآجال من كلِّ مُنعِقِ٤
له عُصَب في غَورها وصعيدها
تخيَّر أبناء الشباب وتنتقي٥
ففي كل إقليم حجولُ مقيِّدٍ
لغير عَصيٍّ أو حبالُ مربِّقِ٦
وفي كلِّ وادٍ منهمُ سوطُ مُعجِل
يهدِّد بالتنكيل كل معوِّقِ
ومن لم يسُقه السوط والسيف ساقه
إلى حيث شاءوا جهدُ عيشٍ مرمِّقِ٧

يوم إعلان الحماية

وقال عن إعلان الحماية في ديسمبر سنة ١٩١٤:

بلاءٌ على القُطرَين أغطش ليله
ضحى يومِ نحسٍ بالخطوب مئوَّقِ٨
دجَت يومَ إعلان «الحماية» شمسُه
فيا لك من يوم على مصر أورقِ٩
به لقحَت سود الليالي فليته
قضى في بطون الغيب لم يتخلَّقِ
قضَينا به يوم المدلَّه بالأسى
وبتنا على ليل السليم المؤرَّقِ١٠
عشيةَ يدعو «مكسويل»١١ سَرَاتها
لعيدَين يوم الجمع يومِ التفرقِ
يبوِّئ عرشَ النيل من شاء جانفًا١٢
فننشُده والخَطب بالخطب يلتقي
«رويدكِ حتى تنظري عمَّ تنجلي
غيابة هذا العارض المتألِّقِ»
فمن دون عرش النيل كلُّ مدرَّب
كميٍّ متى يُرعِد له الهول يُبرِقِ
بصير بأسباب الردى غَرب سيفه
لبوس المنايا بين هامٍ ومَفرقِ
ثوَت نفسه من بأسه في مِجنَّة١٣
متى يدنُ منها طائفُ الموت يُصعَقِ

نقض العهود والمواثيق

وقال يُهاجِم الإنجليز وينعى عليهم نقضهم للعهود والمواثيق:

فسائِل بنا أعلاجَ «لندن» هل وفَوا
بعهدٍ لنا بين الأنام ومَوثقِ
لدى فتنةٍ لم يُغنِ عن مصر عندها
حميةُ حامٍ أو تقيَّة مُتقي
جرت عَممًا لم تُبقِ أرضًا أمينةً
ولا بلدًا بنَّاؤها لم يحرَّقِ
ثلاثين عامًا لا ترى مصر منهمُ
سوى صلَفِ المستكبِر المتعزِّقِ١٤
ثلاثين عامًا لم تَشِم برقَ راحة
ولا طيبِ مُخضرٍّ من العيش غَيدقِ١٥
ثلاثين عامًا بين يأس وحسرة
وهول زمان بالحوادث مِتأَقِ١٦
إذا ودَّعت «عامًا» من الجور أبقعًا
تفيء إلى عام من البؤس أبلقِ
ثلاثين عامًا بالهوان تسومها
سفاهةُ غارٍ في المكايد مُغرِقِ
يرى نفسه فوق القوانين بيننا
متى ما نذكِّره القوانينَ يحنقِ
يُبيح غدًا ما حرَّم اليوم بالهوى
لغير الهوى في حكمه لم يوفَّقِ
إلاهة جبَّار وإمرة خاطل
وتدبير أعمى في الحكومة أحمقِ
إذا ما شكَوناهم عميدًا فأمرُنا
لأعلم منه بالنكاية أحذقِ
«يقرِّب خوَّانًا ويرفع جاهلًا
ويُسعِد أشقاها ويشقى به التَّقي»
إذا ما مضى هذا أتى ذاك بعده
على النهج لم يعدل ولم يترفقِ

إفساد التعليم

وقال يذكر إفسادهم التعليمَ والدَّور المشئوم الذي قام به دنلوب في هذا الصدد:

وبالعلم سَل «دنلوبهم»١٧ لمَ لم يدع
ذوَاقًا من العرفان للمتذوِّقِ
هو الجهل فينا حشَدَته لحكمة
يدُ الله تنكيلًا بشعبٍ مدوَّقِ١٨
رَمَتنا به حُمًّى أصابت بلاده
تطايَر عنها كلُّ فَدمٍ حبلَّقِ١٩
فحلَّ بنا فيمن تمرَّق منهمُ
فيا عجبًا للسارب المتمرِّقِ
ولو وزنوا في غير مصر مقامَه
لَأرخصه في السوم كلُّ مدنِّقِ
فأصبح داءً في المعارف قاتلًا
يسدِّد فيها كلَّ سهمٍ مفوَّقِ
فواهًا على تلك العقول التي ثوَت
بكفَّيه في لحدٍ من الجهل ضيِّقِ
ثلاثين عامًا يسكب النيل حسرةً
على العلم دمعَ الواله المتشوِّقِ
وما وردوا من عذبه غيرَ لامع
من الآل في بيدائها متريِّقِ
ولولاه كانت مصر بالعلم روضة
تلألأُ بالأنوار للمتأنِّقِ
أ«دنلوب» ما تلك المباني رفيعةً
متى ما تسامَق هامُها النجم تسمقِ
وما العلم أن يعلو رتاجٌ وقبة
على فدَنٍ بالأرجوان مزوَّقِ
أ«دنلوب» هل أرضيتَ قومك غايةً
أم العَير٢٠ إن يبعُد به الشَّوط ينفقِ

ثورة سنة ١٩١٩

وله قصائد غرَّاء في ثورة سنة ١٩١٩ أرَّخ فيها جهاد المصريين والمصريات وفظائع الإنجليز في قمع الثورة.

حضارة مصر ومجدها

قال من قصيدة له أنشدها سنة ١٩١٩ في الاحتفال بعيد النيروز يُشيد بحضارة مصر ومَجدها وفضلها على العالم:

فلا يا ابنة البيت الذي عند بابه
تخرُّ ملوك العالمين إذا مرُّوا
رويدكِ إنَّا في العُلا يوم ننتمي
كلانا أبوه النيل أو أمه مصرُ
لنا ذروة المَجد الذي تحت ظله
تناسلَت الأحقاب واعتمل الدهرُ
لنا آية الأهرام يتلو قديمَها
حديثُ الليالي فهي في فمها ذِكرُ
ملأنا بها لوحَ الوجود مَناقبًا
إذا ما خلا عصرٌ تلاه بها عصرُ
وللعلم من آثارنا في جبالنا
على الدهر آياتٌ بها ينطق الصخرُ
وللمُلك منا كلُّ أروعَ نظَّمت
على تاجه الأفلاكُ والأنجم الزهرُ
ومنَّا الذي ساق الأساطيل شُرَّعًا
على البحر يستحيي لصولتها البحرُ
إذا جهلوا «مينا» و«خوفو» و«كفرعًا»
فليس «برمسيس» على مُلكه نُكرُ
وإن أنكروا مُلك «ابن يعقوب» بيننا
ﻓ «موسى» على ما أنكروا شاهدٌ برُّ
لنا كلُّ ما في الأرض من مدنية
بها تعمر الأمصار والبلد القَفرُ

•••

جزى الله مصرًا ما جزى أهلَ نعمة
على الناس يَعيا دونها العدُّ والحَصرُ
فكم كشفَت من ظلمةٍ «عينُ شمسها»
فما ثَم سهلٌ لا يُضيء ولا وعرُ
لنا في الورى حقُّ المعلِّم لو رعَوا
لنا ذمةً والدهر شيمتُه الغدرُ
فهل يُنكِر اليونان أنَّا هُداتهم
إلى حكمةٍ في العالمين بها بزُّوا
وهل نسي الرومان للنيل أنعمًا
بما ورثوا منها سما لهم الفخر
فنحن الأُلى قد أورثوا كلَّ أمة
من الفضل ما يغنى به الحمد والشكرُ
إذا اعتزَّ قومٌ بالجديد سمَت بنا
مكارم في طي الزمان لها نَشرُ

الوحدة بين العنصرَين

وقال يُشيد بالوحدة بين عنصرَي الأمة:

بنَينا على آداب عيسى وأحمد
منازلَ عزٍّ دونها يقع النَّسرُ
فنحن على الإنجيل والذِّكر أمةٌ
يؤيِّدها الإنجيل بالحق والذكرُ
لنا كل ما في مصر والحق قائم
تؤيِّده الآيات والحُجَج الغرُّ
فلن يستطيع الدهر تفريق بَيننا
وإن جرَّ قوم بالسعاية ما جرُّوا
«كلانا على دينٍ به هو مؤمن
ولكن خِذلان البلاد هو الكفرُ»
إذا ما دعت مصرُ ابنَها نهض ابنُها
لنجدتها سيَّان مرقس أو عمرو
ترى ذِكرَ مصرٍ في الهياكل قُربةً
وفي صلوات المسلمين لها ذِكرُ
فلا يحسبنَّ الناس أنَّا تزلزلت
بنا قَدمٌ أو مسَّ وحدَتنا الضرُّ
ألم ترَنا في كل عيد وموسم
حليفَي ولاءٍ لا جفاءٌ ولا هجرُ
إذا كان عيد الفطر فالكل مُفطِر
يهلِّل بالبشرى ويزهو به البِشرُ
وإن جاء بالنيروز يومٌ تزاحمَت
عليهم به الأفراح وانتعش القطرُ
فيا عيدَ أهل النيل عِد أهلَك المُنى
تجلَّى منارُ الحق وانبلج الفجرُ
وصافِح بشعبَيك السعادة مُقبِلًا
بمصر على الأفراح وليَقلُ الشعرُ:
تلاقَت أمانينا على غير غاية
وسارت بنا الآمال يقدُمها النصرُ

ثورة الأمة سنة ١٩١٩

ومن قصيدة أخرى أنشدها في حفلة لعقائل السيدات في مسرح برنتانيا سنة ١٩١٩:

مصرُ أمي فداءُ أمي حياتي
سلمَت أمُّنا من العادياتِ٢١
يا رياح الحياة في مصر هُبِّي
روِّحينا بطِيب ريَّا الحياةِ
يا سماء الحياة في مصر جُودي
أنفُسًا فوق نيلها صادياتِ٢٢
ما لأمِّ الأمصار حمَّلها الدهـ
ـر صنوف الآلام والمُوجِعاتِ؟
ما رعى ذمةً لها يوم كانت
زينةً في عصوره الخالياتِ
إن تناسَت قديمَ مصر ليالٍ
أنكرت صالحاتها الباقياتِ
فاسألوهن عن حديثٍ حديث
لِبَنيها عدُّوه في المعجزاتِ
دهشَ الناسُ يومَ قِيل صحَت مصـ
ـرُ وكانت في غفلة وسُباتِ
إذ لقينا الخطوبَ وهي شِدادٌ
فتولَّت جموعُها مُدبِراتِ
وركِبنا متن الزمان ذَلولًا
فمضَينا لغايةِ الغاياتِ
بين شِيب بالحزم تحدو شبابًا
صادقي العزم ثاقبي النظراتِ

دور المرأة في الثورة

وقال يُشيد بدور المرأة في الثورة:

وغوانٍ سمعنَ داعيَ مصر
بين تلك القصور والغرفاتِ
أفزعَتهنَّ حادثات الليالي
في بَنيهنَّ بالردى رامياتِ
فترامَينَ من وراء خدور
كنَّ فيها البدورَ مُختدِراتِ٢٣
سافراتٍ ولسنَ أهل سفور
حاسراتٍ من شدة الحسراتِ
وكتبنَ الوفاء للنيل عهدًا
في قلوبٍ بحبه دامياتِ
وتواصَين لا يضيِّعن دِينًا
أو يعطِّلن سنةَ المؤمناتِ
إيهِ لله سعيُكنَّ جميلًا
يا بنات الأنجاب والمُنجِباتِ
ظلموا النيل يوم عدُّوا بنات النِّـ
ـيل جهلًا في زُمرةِ الجاهلاتِ
زعموهن بالحِجاب عن العلـ
ـم ونور العِرفان مُحتجِباتِ
بنتُ مصر كالشمسِ يحجبها الليـ
ـل وراء الآفاق والظلماتِ
وهي في أفقها ضياءٌ ونور
ساطع في بدورها النيِّراتِ
أو هي المسك ينفُذ العَرفُ عنه
من وراء الأستار والحجراتِ
عرفت كيف يكبُر المرء طفلًا
كيف يقفو أباه في المَكرماتِ
أبصرَت مَنبتَ المحامد فيه
فتولَّته بالتُّقى والأناةِ
وغذَته المجد الذي ورِثته
عن كرام الآباء والأمهاتِ
يا ابنة النيل أنتِ للنيل ذخرٌ
خالدٌ في آثاره الخالداتِ

وثبة مصر

ومن قصيدة له سنة ١٩٢٠ يصف وثبة مصر:

تكلَّم وادي النيل فليسمع الدهرُ
وأملى على الأيام فليكتب الشِّعرُ!
فحسبُ العوادي نَهمةُ النيل زاجرًا
وحسب الليالي أن يُقال صحَت مصرُ٢٤
صحَت بعدما أزرى بها الصبرُ والأنى٢٥
ويا ربما أذرى بصاحبه الصبرُ
لعمرُك ما صبرُ الأبي مهانةً
ولكنَّ صمت اللَّيث يعقبه الزأرُ
فلا تحسبوا أنَّا ونَينا عن العُلا
ولا زهدَت فينا مَناقبنا الغرُّ
ولا أنكرَتنا شمسُ جيل ولا انطوى
لنا علَم بين الدهور ولا ذكرُ
وفي الناس من شابت قرونٌ «وأعصرٌ»
وهم في بطون الغيب عرفانُهم نكرُ
وهل مصر إلا آية أزليةٌ
مقدَّسة والنيلُ في لوحها سطرُ
تفلَّقت الأجيال حول وجودنا
ونحن الجبال الشمُّ والزهَرُ النضرُ
لئن كان ماضينا فخارًا فإنما
بحاضرنا تعلو المحامد والفخرُ
وقفنا لرَيب الدهر حتى تغلَّلت
مضاربُه وانشقَّ عن ليله الفجرُ
حرامٌ علينا أن نعيش أذلةً
وذو الذل أولى ما يكون به القبرُ!

فظائع الإنجليز في قمع الثورة

وقال حين اشتد عدوان الإنجليز في قمع الثورة سنة ١٩١٩ وفتكوا في طريقهم ببعض القُرى كالعزيزية والبدرشين:

يا مصرُ ما بال الأسى لك حالا
لو أن مفجوعًا يردُّ سؤالا
ظلم الزمانُ بنيَّ في أحداثه
وعدا عليهم بالخطوب وَصالا
يا ناشري علَمَ السلام ألم ترَوا
للسِّلم في أرجاء مصر مجالا؟
ما العدل؟ ما حريةُ الأمم التي
سارت رسائلكم بها أرسالا؟
ما عهد «ولسُن»٢٦ أين ولسن هل درى
أنَّا بمصر نكابِد الأهوالا؟
أمنَ العدالةِ عنده أن يُبتلى
شعبٌ يريد بأرضه استقلالا؟
سفراءَ «ولسن» هل لكم أن تُبلغوا
عن مصرَ صوتًا بالشكاة تَعالى؟
صرخاتُ أهل النيل من أحلافكم
طار الزمان لوقعها إجفالا
أضحت شعوب الأرض في بحبوحة
يتفيئون من السلام ظلالا
وهمُ أحقُّ العالمين بوِرده
صفوًا وشربِ رحيقِه سَلسالا
لكنهم سِيموا الردى فتوارَدوا
شِرَع٢٧ المنايا مُسرِعين عِجالا
تَعِسوا بحُكم الإنجليز وطالما اعـ
ـتمدوا عليه وخادعوا الآمالا
ما بال أبناء الحضارة أوغلوا
في أرض مصر نِكايةً ونكالا
وثبوا على القطرَين وثبةَ قاهر
هتكَ الستور ومزَّق الأوصالا
نزلوا بأرض النيل مَنزلَ غادرٍ
نصب الخداعَ حبائلًا وحِبالا
حلفوا لأهل الأرض حلفةَ فاجرٍ
لبِس المُسوح مُرائيًا مُحتالا
أن يبسطوا ظل الحضارة فوقه
ويعلِّموا من أهله الجهَّالا
حتى إذا ملكوا أزمَّة أمره
ساموا بَنيه الضَّيم والإذلالا
واستنزفوا ثمرات مصر كأنما
خُلِقت لهم ثمراتها أنفالا
فإذا بدا وجه الخداع وأشرقت
شمس العدالة في الورى تتلالا
نَغَضوا٢٨رءوسهمُ لِغيلة أمة
خُلِقت تعافُ الغادرَ المُغتالا

شجاعة المصريات في الثورة

وقال في هذه القصيدة يصف شجاعة النساء المصريات في مقاومة الإنجليز:

تلك العقائل يرتمين مع الظُّبا
مُستقبلاتٍ للردى استقبالا
تُغضي عيون بَني البلاد مهابةً
من حولهن وتنحني إجلالا
وأرى ابن لندن نحوهن مصوِّبًا
بِيضَ الظبا مُتوثبًا مُجتالا
يا ابن اللكيعة٢٩ إنهنَّ عقائلٌ
يَفدين من فتكاتك الأنجالا
يا ابن اللكيعة إنهنَّ عقائلٌ
يسألنَ حقًّا لا يُرِدنَ قتالا
يا ابن اللكيعة ما حمَلنَ صوارمًا
لبَني أبيك ولا دعَون نِزالا
أبناؤهن إذا الأصول تقارَعت
كانوا الكرام وكنتم الأنذالا
يا ابن اللكيعة تلك سُبَّتك التي
صدع المُقطمَ خزيُها فأمالا
وا رَحمتاه لقرية مفجوعة
والليلُ يُرخي فوقها أسدالا
محزونةٍ خبَأ القضاءُ لأهلها
تحت الظلام وقيعةً ونكالا
من غادةٍ غالَ البُغاة عَفافها
فبكى الحِجاب عفافها المُغتالا
ومصونة في الخدر طار بلبِّها
صيحات كلب في الحظيرة جالا
ماذا أرى؟ جنٌّ أحاط بمضجعي
أم تلك أحلامٌ تمرُّ خيالا؟
ما هذه الجلَباتُ؟ لا أدري لها
معنًى ولست أعي لهنَّ مقالا
أنا لست نائمة وهذي جِنة٣٠
تدنو كأعجاز النخيل طِوالا
ويلاه! ما لأبي عليٍّ نائمًا؟
والبيت من وقع الحوافر زالا
أعليُّ نادِ أباك، لا، أنا خائفٌ
يا أمُّ لا تتكلمي؟ لا لا لا
هذي جنود الإنجليز رأيتها
ﺑ «البدرشين» تقتِّل الأطفالا
صاحوا بصحن البيت صيحةَ فاتكٍ
عاتٍ يرى النفس الحرام جلالا
فإذا متاع البيت يُنهَب بينهم
وقد استحلوا نهبه استحلالا
ولرُبَّ دارٍ بالقنابل أصبحت
قبرًا تضمَّن نسوةً وعيالا
وأبٍ تُحيط به هنالك صِبيةٌ
تبكي عليه وتُكثِر الإعوالا
ظُلمًا تَشول به القنابل فهو في
جو السماء مع القشاعم شالا٣١
يا ربِّ إن الإنجليز تعمَّدوا
إرهاق مصر سفاهةً وضلالا
يا ربِّ مصرُ بك استجارَ ضعيفُها
في عَبرةٍ تُذري الدموع سِجالا
فأذِق عدوَّك سوءَ ما مكروا به
واجعل عواقبه عليه وَبالا

يُخاطِب مؤتمر الصلح بباريس سنة ١٩١٩

ومن قصيدة له أنشأها حين اعتُقل سعد زغلول لأول مرة في أوائل سنة ١٩١٩، يذكُر الثورة ويُعاتِب مؤتمر الصلح في إهماله مَطالب مصر:

يا دماء الشباب تجري على الأر
ض جِسادًا٣٢ به ثرى مصرَ يُطلى
ما لباريس لا ترى أهل مصر
بين أهل السلام للعدل أهلا؟
كلُّ شعب له بمؤتمر الصلـ
ـحِ نصير من البعوث ومَولى
ليت شعري فهل أتاه كتابٌ
أو تلقَّى من جانب النيل رُسلا؟
أو درى أننا نُراد اختلاسًا
في بياض النهار والشمس تُجلى
سفراءَ الملوك ضجةُ مصر
حولكم من زمازم٣٣ الرعد أعلى
كم رفعنا إليكمُ في شكاة
حُجةً كالصباح أو هي أجلى
وسألناكم البلاغ فلم نسـ
ـمع جوابًا يردُّ في الغِمد نصلا
إن للنيل ذمة وعهودًا
هي دَينٌ عليكمُ ليس يَبلى
لو حقَنتُم تلك الدماء اللواتي
أهرقَتها بنادقُ القوم سَيلا
كان سهلًا عليكمُ أن تصونوا
أنفُسًا وِردُها الردى كان سهلا

يندِّد بفظائع الإنجليز في إخماد الثورة

وقال في هذه القصيدة موجِّهًا حديثه إلى المارشال أللنبي الذي عهدت إليه بريطانيا قمع الثورة:

أيها القائد المُدِل علينا
قاتلَ اللهُ من علينا أدلَّا
صلفٌ بين أهل مصر وعُجبٌ
كان هذا بأرض «بلجيك»٣٤ أولى
صلفٌ جدَّ في مواطن هزل
فإذا جدَّ جِدُّها عاد هزلا
علِم الناس أن مصر بلادٌ
لم تكُن للحروب والسيف قبلا
منعَتها الأيامُ حمل المواضي٣٥
وهي زينُ السيوف هزًّا وحملا
فلمَ الكبرياء بين أناس
تركتهم حوادث الدهر عُزلا؟
أيها القائد الذي حيَّر السيـ
ـفَ بدار الأمان شيمًا٣٦ وسلَّا
علِّم الخيل كيف تختال في غيـ
ـرِ بلادٍ لم تُجرِ للحرب خيلا
إنما يحمد المَخيلةَ٣٧ يومٌ
أشرف الموت فوقه أو أطلَّا
ما لمصرٍ تُجزى جزاء سِنِمَّا
ر لديكم وبالدنية تُبلى
وأراكم لولا بنُوها سُقِيتم
من حياض المنون علًّا ونهلا
سائلوا الشام هل بغير بَنينا
جُبتُم الوعرَ من فلسطين سَهلا
أو مددتُم بغير أبناء مصر
في بلاد العراق للفوز حبلا
إبلُ مصر وأتنها٣٨ تعرف الفضـ
ـل عليكم لا تُنكِر العُجم فضلا
«لو درى النيل ما سيلقى بنوه
حرَّم الأرض غيرةً أن تُغِلا»
كم ظفرتم منه بما عجز «التا
ميز» عنه وناء بالعبء حملا
كلَّ عامٍ تُجبى إليه حبوبٌ
تفضخ الجاريات وزنًا وكيلا٣٩
وقناطير من نضارٍ يُوافيـ
ـكم بها القطن كلَّ عامٍ أهلَّا
نِعمٌ لو أردتموهنَّ شكرًا
ما وفَيتم منها القليل الأقلَّا
ما جهلتم لمصر فيها صنيعًا
إن تقولوا قد يُنكَر الفضلُ جهلا
أنسِيتُم لمصر ما منحتكم
من هِباتٍ ما جاوزت بعدُ حولا
أم نسيتم أبناءها يفتكُ المو
تُ بهم في الوغى وباءً وقتلا

وختمها بقوله:

معشرَ الإنجليز مصرُ لأهليـ
ـها ومَن ظن غير ذلك ضلَّا
معشرَ الإنجليز مصرُ استقلت
وجديرٌ بالنيل أن يستقلا

يُخاطِب مؤتمر الصلح أيضًا ويُنادي بالاستمرار في الكفاح

ومن قصيدة أخرى له سنة ١٩١٩ يُخاطِب مؤتمر الصلح بباريس، ويُنذِر بالاستمرار في الكفاح إذا لم تُجَب مَطالب مصر:

أباريس إن كانت لضيفٍ كرامة
لديك فضيفُ النيل أبلغ من يُثني
أباريس إن تُدني العدالة وافدًا
عليكِ فأهل النيل أكرم من تُدني
أباريس كم للنيل عندكِ من يدٍ
تناقَلها التاريخ قرنًا إلى قرنِ
ومِن شُكرِها أن تعرفوا حق أهله
وألا تَسوموا «وفدَه» صفقةَ الغبنِ
حرامٌ عليكم أن يُراق له دمٌ
حرامٌ وأنتم قادرون على الحقنِ
فيا أمراء الغرب دعوة مُسمِع
يُصرِّح في رفع الشكاة ولا يكني
سلُوا حِلفَكم عما جرى في ديارنا
وما جرحوا مما يَشين وما يُضني
وما هذه الغارات يعلو صريخها
مُؤججةً هذي تروع وذي تُفني
وما هذه الأجساد في كل بلدة
مصرَّعةً فوق التراب بلا دفنِ
إذا طفح الخزَّان من دم أهله
فثَم دمٌ في الثغر يُربي على الخَزنِ
نرى الحرب فيما بينكم جفَّ عودها
فما بالها في مصر ناضرةَ الغصنِ؟
على غيرِ ما ذنبٍ جنَينا فما لنا
نُسام الدنايا لم نُحارِب ولم نجنِ
فيا عجبًا شعبٌ يُساق بأرضه
أسيرًا إلى دار المَذلة والسجنِ

•••

ملوكَ الورى لن يتركَ النيل حقه
ولو مزَّقونا بالمُثقَّفة اللُّدنِ٤٠
ملوكَ الورى لن يترك النيل حقه
ولو طحنوه بالمقذَّفة الدُّكنِ٤١
ظنَّنا بهم خيرًا من الدهر حقبةً
فكانت قصارانا بهم خيبةُ الظنِّ
صبرنا وأشهدنا الأنام عليهمُ
إلى أن رمَونا بالمهانة والجبنِ
ثلاثين عامًا بعدها سبعةٌ خلَت
طوالَ الليالي السود حالكةَ الدجنِ
عواصفُ بأس يُنشِد النيل تحتها
نقمتُ الرضا حتى على ضاحكِ المُزنِ
سقَونا بها مرًّا من العيش آجنًا
ويا ليتهم لم يُرهِقوا الناس بالمنِّ
فإن تُنصِفوا أبناء مصر فمِنَّة
لكم أبدًا نُثني عليها بما نُثني
وإلا ردَدناها عليهم كريهةً
وللدهر شأنٌ لا يُقاس على شأنِ

رثاؤه لمحمد فريد

ولما جاء نعي الزعيم محمد فريد في منفاه (نوفمبر ١٩١٩) — وكانت مصر في إبان الثورة — رثاه بقصيدةٍ مؤثِّرةٍ تفيض وطنيةً وبلاغة، قال:

سلُوا جفنَ عيني ما له بات ينزفُ
وعهدي به إن سُمتُه الدمعَ يأنفُ
ويا رُبَّ همٍّ يملك النفس بالأسى
ويعدو على العين الجمود فتذرفُ
وما أنا! ما دمعي! وفي مصر أنَّة
بها الطير نوحٌ والغمائم وُكَّفُ٤٢
بكَينَ غريبًا طوَّح البَينُ دارَه
فلا العَود مأمول ولا الدار تُعرَفُ

•••

وما أنكرَت مصر ابنها فنبَت به
ولكنه دهرٌ على الحرِّ يُجنِفُ٤٣
ثوى غربةً بعد المعاد قرارُها
فيا طول ما يستشرف المتشوِّفُ
وكنَّا حسِبنا شُقة البَين تنطوي
فيأوي إلى مِرباعه المتصيِّفُ٤٤
وأطمعَنا في الملتقى لمعُ بارقٍ
من السِّلم في ليل الحوادث يخطفُ
فلم نرَ سلمًا ينتهي النأي عندها
بناءٍ ولا حتمَ الردى يتخلَّف

•••

بعينَيَّ مَن نادى مُناديه للنوى
فودَّع لا يأنى ولا يتوقَّفُ
يُدافِع آلامًا تياسَرنَ قلبَه
لها حُرَقٌ تُدمي القلوب فتنطفُ
ففي قلبه مما دهى النيلَ زفرةٌ
يكاد لها من تحته البحر ينشفُ
وفي عينه من لوعة البَين عَبرة
يُكفكِفها كِبرًا فلا تتكفكفُ
وفي نفسه عُتبى على البلد الذي
قسا أهلُه جهلًا عليه وأجنفوا
برمتِ بنا يا مصر لا عن جناية
يُعنِّي عليها جارم أو يعنِّفُ
وكيف تناسَت مصر حُسنَ بلائنا
إذ الدهر ألوى والحوادث تعصفُ
مواقفنا يا أمُّ فيك شهودُها
تؤيِّدنا يوم العتاب وتُنصِفُ
رويدك نفسًا أنكرَت فِعل قومها
بذي حدَب يُقسى عليه فيرأفُ
على رغم قومي ما لقيتُ وإنما
هو الدهر في أحكامه يتعسَّفُ

•••

سلامٌ على قومي وداعًا بني أبي
وللنيل ما ألقى وما أتكلفُ
ويا موقفَ التوديع هل تُسعِد المُنى
فيجمعنا يومٌ بمصر وموقفُ
أخاف المنايا أن يكنَّ رواصدًا
وما ليَ من أسبابها أتخوَّفُ
تحدِّثني طيرٌ جرَينَ بوارحًا
بأن المطايا بي إلى الموت تزحفُ
ويحزنني وِردُ المنايا ولم تزَل
بلاديَ تحبو في الإسار وترسفُ
حرامٌ علينا أرضها وسماؤها
أليَّةَ٤٥ مَن لا يمتري حين يحلفُ
ويا فُلكُ باسم الله مَجراكِ أقلعي
فإما الردى أو يُنصِف النيلَ مُنصِفُ
فما كان إلا أن طوى البحر والثرى
وحجَّبه سترٌ من الغيب مُسجَفُ٤٦
فدون تلاقينا ليالٍ وأشهرٌ
وبين ديارينا جبال وصَفصفُ٤٧

•••

هنالك ألقى في بني الغرب رحله
على همَّةٍ مِن همِّها الدهرُ يكلفُ
بعيد المراميَ لا تُهدِّ صفاتِه
عوادٍ إذا صبَّت على «الألب»٤٨ تحرفُ
تقذَّفه في زاخر اليأس همةٌ
جديرٌ بها الليث الهصور المقذَّفُ
«وهيهات أن يخشى أخو الحق قوةً
سوى الحق أو يعنو لبأسٍ فيضعفُ»
ثوى في بلاد الغرب بالنيل عاتبًا
وفي الغرب للعاني مرادٌ ومألفٌ
يصرِّف أحداث الليالي غواشمًا
وأنيابها من شدة البأس تصرفُ
فطَورًا تراه في «جنيف» لباسُه
على القرِّ أسمال به يتلففُ
إذا صفرَت من ذات دنياه كفُّه
تجلَّد لا يشكو ولا يتأفَّفُ
ويأوي إلى بيتٍ وطيءٍ عمادُه
وفي مصر يبكيه البناء المطنَّفُ
ويكنفه من فِتية النيل أنجمٌ
بهم نعتلي هامَ الفَخار ونشرفُ
إذا احتدمت للبأس نارٌ فعَلهَمٌ٤٩
على البأس ماضٍ ذو غرارين مُرهَفِ
وإن ذُكِر المجد القديم فإنما
بذِكرهمُ تلهو القِيان وتعزفُ
إذا ما انتمى قومٌ لدُنيا جدودِهم
نمَتهم لعُلياها مَعدٌّ وخِندفُ٥٠
وإن ذكروا أبناء فرعون رجَّعت
مَناقبَهم وُرقٌ من الفخر هُتَّفُ

•••

فيا مُسمِع الأحرار من كل أمة
مُنى قومه والحُر للحر يُنصِفُ
لقد فجع «الفسطاطَ» فيك وأهلَه
من الغرب ناعٍ قام باسمك يهتفُ
لقد فجعونا فيك يومَ تتابَعت
رسائلهم بالمُوجِعات وأرجفوا
فيا ويحَ يومٍ قال فيه غريبها
على فُرشِ البلوى ببرلين مُدنَفُ
بروحيَ إذ جاء الأطباء خُشَّعًا
وقاموا بأكناف السرير وطوَّفوا
يعلِّله بالقول منهم مبشِّر
وتبكي له منهم قلوب وترجفُ
تجوَّفه الداءُ العضال وهل نجا
من الموت مُضنًى داؤه يتجوفُ
قضى الله أن يُسقى «فريد» بأرضنا
كئوسًا بالاستسقاء للنفس تخطفُ
يعز على «برلين» أن يغلب الردى
عليك بَنيها والردى ليس يُصرَفُ
أطباءَه لو يستطيع فداءَه
بنو مصر غالوا في الفداء وأسرفوا
قليلٌ عليه لو يفدِّيه قومه
بما جمعوا من تالد أو تطرَّفوا
فليتَ اللياليَ سالمت فيه أمةً
براها الأسى من بعده والتلهفُ
عرفنا له برَّ الوفي بعهدها
إذا خان قومٌ عهدَ مصر فلم يفُوا
أفاض عليها نفسه بعد ماله
ومالَ بهم عنها متاعٌ وزخرفُ
ولولا رجالٌ مؤمنون نجَوا بها
لَراحت بها ريحٌ من الغدر زفزفُ٥١

يندِّد بالفرقة والانقسام، ويدعو إلى الوحدة

وحين حدث الانشقاق في الوفد سنة ١٩٢١ وقام الخلاف بين سعد وعدلي، وانقسمت الأمة تبعًا لذلك، نظم قصيدةً يندِّد فيها بالفُرقة والانقسام، ويدعو إلى توحيد الصفوف، قال فيها:

كنَّا أشقاء الإخاء فما لنا
صِرنا بني العلَّات والأخيافِ؟٥٢
بالأمس كان إخاؤنا مثلًا وكنَّا
زينة الخلطاء والألَّافِ
كنا إمامَ المشرقَين سبيلُنا
قصدٌ ومشرعنا نميرٌ صافي
يترسمون على الحياة طريقنا
للحق في الإيضاع والإيجافِ
فإذا بنا جارت هوادي رَكبِنا
عن منهج الآباء والأسلافِ
عبثَت بوحدتنا الخطوبُ وأعملت
في غَرس أيدينا يدُ الإتلافِ
والخصم يحجل بيننا للشر في
ثوبَين ثوبِ مُوافقٍ ومُنافي
متنمِّرٌ يُغري العداوة بيننا
بالكيد والتفريق والإرجافِ
أوَليس فيما قد مضى من عِبرة
لبَني أبي والأمر ليس بخافي؟
أوَلم يرَوا أو يسمعوا نُذرَ الردى
تطوي إلينا لُجَّة الرجَّافِ٥٣
هذي تلوِّح من بعيد وتلك تر
مينا به في لهجةِ الأجلافِ٥٤
جعلوا صحافتهم مَظاهرَ كيدهم
فتزاوَرت جنفًا عن الإنصافِ
صحفٌ يضيع الحق في ألوانها
صورًا يزيد بها على الآلافِ
الحق فيها كل ما شاء الهوى
حُكمٌ نؤيِّده بلا استئنافِ
فليعتبر قومي كفى ما قد جرى
من ذات خُلفٍ بيننا وتنافي
لا تُوجِعوا تلك القلوبَ فحسبُها
جامٌ أصاب من الزمان الجافي
عشرٌ كواملُ في الخلاف فهل بها
من ذلك الداء المبرِّح شافي
شربَت من الأيام كل مرنَّق
من كل مر بالخطوب زُعافِ
أبَني أبي رُدوا القلوب إلى الهدى
وتنبَّهوا فالدهر ليس بغافي
الوفد منا والحكومة بعضنا
هذا أخو هذا بغيرِ خلافِ
والشر غايته البوار ومَن أبى
فالله للشعب المروَّع كافي
١  يريد بالغيابات السجون والمنفى.
٢  يريد قائد جيش الاحتلال.
٣  الريق: أول الشباب.
٤  آجال: أي القطيع. والمنعق: مِن نعقَ الراعي غنمه إذا زجرها.
٥  يريد بالغور الوجه البحري. وتخير: أي تتخير.
٦  الحجول: القيود. وربق: أي شد.
٧  المرمق: من يشبع جوعًا ويُمسِك رمقًا.
٨  أغطش ليله: أظلمه. ومئوق اسم مفعول فعلُه أوَّق، يقال: أوَّقه: أي حمَّله المشقة.
٩  الأورق: الذي لونه إلى الرماد؛ يريد أنه مُغبرٌّ بالخطوب.
١٠  المدلَّه: الذاهل.
١١  الجنرال مكسويل: قائد القوات البريطانية حين إعلان الحماية.
١٢  جانفًا: أي ظالمًا.
١٣  المجنة: الترس.
١٤  المتعزق: العَسِر الخُلق.
١٥  الغيدق: الرخص الناعم.
١٦  متأق: أي مملوء.
١٧  المستر دنلوب وكان سكرتيرًا عامًّا ثم مستشارًا لوزارة المعارف والمسئول الأول عن انحطاط التعليم في عهد الاحتلال.
١٨  المدوق: المهزول.
١٩  الفدم: الأحمق. والحبلق: الصغير القصير.
٢٠  العير: الحمار. وينفق: يهلك ويموت.
٢١  العاديات: الأحداث والنوائب.
٢٢  صاديات: عطشى.
٢٣  مختدرات: مستترات في خدورهن.
٢٤  النهمة: الصوت.
٢٥  الأنى: الأناة.
٢٦  ويلسن: الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية. ويريد بعهده مبادئه المشهورة التي أعلنها عند دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى وأساسها احترام حرية الشعوب واستقلالها.
٢٧  شرع: جمع شرعة وهي المَورد.
٢٨  نغضوا رءوسهم: حرَّكوها وهزُّوها.
٢٩  اللكيعة: اللئيمة.
٣٠  جنة: جن.
٣١  تشول: تعلو. والقشاعم: النسور.
٣٢  الجساد (بالكسر): الزعفران.
٣٣  الزمازم: جمع زمزمة، وهي الصوت البعيد المدوِّي.
٣٤  يُشير إلى هزيمة الحلفاء أمام الزحف الألماني في بلجيكا إبان الحرب العالمية الأولى.
٣٥  المواضي: السيوف.
٣٦  الشيم: إغماد السيف.
٣٧  المخيلة: الكِبْر.
٣٨  الأتن: الحمير. والعجم: البهائم …
٣٩  الجاريات: السفن. وتفضخها: تكسرها لثقلها وكثرتها.
٤٠  يريد بالمثقفة اللدن الرماح المقوَّمة.
٤١  يريد بالمقذفة الرصاص والقنابل. والدكن: ما تضرب إلى السواد.
٤٢  وكف: مُرسَلات بمائها.
٤٣  أجنف: جار وعدا.
٤٤  المرباع: المكان ينبت في الربيع. والمتصيف: المصطاف.
٤٥  الألية: القسم.
٤٦  أسجف الستر: أرسله.
٤٧  الصفصف: الفلاة.
٤٨  جبال الألب المشهورة.
٤٩  العلهم: الضخم الشديد.
٥٠  معد وخندف: حيَّان من العرب. يريد أن أصولهم عريقة في النسب والشرف.
٥١  زفزف: شديدة الهبوب في دوام.
٥٢  العلات: جمع عَلة، وهي الضرة. والأخياف: الذين أمُّهم واحدة وآباؤهم شتى.
٥٣  الرجاف: البحر؛ سُمِّي به لاضطرابه.
٥٤  الأجلاف: جمع جلف، وهو الرجل الجافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤