محمود سامي البارودي

١٨٤٠–١٩٠٤
figure

محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المُحدَثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المُتقدِّمين، فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود.

وُلِد سنة ١٨٤٠، وهو ابن حسن بك حسني من ضباط المدفعية في الجيش المصري، وحفيد عبد الله الجركسي أحد الكشاف في عهد محمد علي، وسُمي البارودي نسبة إلى إيتاي البارود التي كان أحد أجداده الأمير مراد البارودي مُلتزِمًا لها في عهد الالتزام.

وقد تلقَّى العلم أول ما تلقَّاه على أيدي أساتذة خصوصيين في سراي والده بغيط العدة (القريبة من باب الخلق) والمعروفة بسراي البارودي، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره انتظم في المدرسة الحربية، وتخرَّج منها سنة ١٨٥٥، والتحق بخدمة الجيش المصري، وأخذ يترقى حتى بلغ رتبة أميرالاي، وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة ١٨٦٦؛ إذ كان ضابطًا في الجيش الذي أنفذته مصر لإخماد تلك الثورة وانتصر على الثوار في مواقع عدة.

ولما شبَّت الحرب بين تركيا والروسيا سنة ١٨٧٧ أنفذت مصر جيشًا لنجدة تركيا كان البارودي من ضباطه، وأبلى في الحرب بلاءً حسنًا، وصقلَت المعارك مواهبه الشعرية، ولما عاد إلى مصر رُقِي إلى رتبة اللواء، وعُيِّن مديرًا للشرقية، وكان محافظًا للعاصمة حين ألَّف شريف باشا وزارته الثانية سنة ١٨٧٩ في أوائل عهد الخديو توفيق، فاختاره فيها وزيرًا للمعارف والأوقاف، واشترك في حوادث الثورة العرابية، وكان من زعمائها المُشار إليهم بالبنان، وتولَّى رئاسة وزارة الثورة سنة ١٨٨٢، ثم كانت الهزيمة، ونُفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سرنديب)، وظل في منفاه نيفًا وسبعة عشر عامًا، وأسبغ عليه النفي سمات التضحية والبطولة.١

الحنين إلى الوطن

كانت حياة زعماء الثورة العرابية في منفاهم حياة ألم وحزن؛ إذ انقطعت صلتهم بالناس، وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشُّقة بينهم وبين أهليهم ومُواطنيهم، ولم يكترث لهم أحد، ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب)، وجادت قريحة البارودي بشعر مُؤثِّر في الحنين إلى الوطن، والحزن على فراقه، مما يُعَد آية في البلاغة، وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.

قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:

محا البَين ما أبقت عيون المَها منِّي
فشِبتُ ولم أقضِ اللُّبانة من سنِّي
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شدَّ ما ألقاه في الدهر من غبنِ

إلى أن قال:

ولما وقفنا للوداع وأسبلَت
مَدامعنا فوق الترائب كالمزنِ
أهبتُ بصبري أن يعود فبزَّني
وناديتُ حِلمي أن يثوب فلم يُغنِ
وما هي إلا خطوة ثم أقلعَت
بنا عن خطوط الحي أجنحةُ السفنِ
فكم مهجةٍ من زفرة الشوق في لظًى
وكم مُقلةٍ من غزرة الدمع في دجنِ
وما كنت جرَّبت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضي من الحزنِ
ولكنني راجعت حلمي وردَّني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفنِ
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعت نفسي على فائتٍ سنِّي

الصبر على الشدائد

وتجلَّت في منفاه صفاته العالية من الشَّمم، وعلو النفس، واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء، وصبر وإيمان، وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية.

قال وهو في سرنديب (سيلان):

لم أقترف زِلة تقضي عليَّ بما
أصبحت فيه فماذا الويل والحرَبُ؟
فهل دفاعيَ عن ديني وعن وطني
ذنبٌ أُدان به ظلمًا وأغتربُ؟
فلا يظن بيَ الحُساد مَندمة
فإنني صابر في الله مُحتسِبُ
أثريتُ مجدًا فلم أعبأ بما سلبَت
أيدي الحوادث مني فهو مُكتسَبُ
لا يخفض البؤس نفسًا وهي عالية
ولا يشيد بذِكر الخامل النشَبُ٢

وقال مُشيرًا إلى مُصادَرة أملاكه:

يا ناصر الحق على الباطلِ
خُذ لي بحقي من يدَي ماطلي
أخرَجني عما حوته يدي
من كسبيَ الحر بلا ناطلِ٣
من غير ما ذنب سوى منطق
ذي رونق كالصارم القاطلِ٤
«فإن أكن جُرِّدت من ثروتي
ففضل ربي حلية العاطلِ»

وقال من قصيدة أخرى في مقاومة الظلم والصمود في المِحَن والخطوب:

إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطَت
عليه فلا يأسف إذا ضاع مَجدُهُ
ومَن ذل خوف الموت كانت حياته
أضر عليه من حِمام يؤدُّهُ
وأقتَلُ داءٍ رؤية العين ظالمًا
يُسيء ويُتلى في المحافل حمدُهُ
علامَ يعيش المرء في الدهر خاملًا
أيفرح في الدنيا بيوم يَعدُّهُ؟
عَفاءٌ على الدنيا إذا المرء لم يعش
بها بطلًا يحمي الحقيقةَ شدُّهُ

وقال في هذا المعنى:

أمطري لؤلؤًا جبالَ «سرنديـ
ـب» وفيضي آبارَ «تكرور» تبرا
أنا إن عِشت لست أعدم قوتًا
وإذا مت لست أعدم قبرا
هِمَّتي همة الملوك ونفسي
نفس حُر ترى المذلة كفرا

ومن قوله في الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد:

فيا دموع القَطر سيلي دمًا
ويا بنات الأيك نُوحي معي
وأنت يا نسمة «وادي» الغضا
مُرِّي بريَّاك على مربعي
وأنت يا عصفورة المُنحنى
بالله غنِّي طربًا واسجعي
وأنت يا عين إذا لم تفي
بذمة الدمع فلا تهجعي
أبيت أرعى النجم في سُدفة
ضل بها الصبح فلم يطلعِ

•••

فهل إلى الأشواق من غاية
أم هل إلى الأوطان من مَرجعِ؟
لا تأسَ يا قلبُ على ما مضى
لا بد للمحنة من مَقطعِ

يتمنى أن يرى مصر

وقال في منفاه يتمنى أن يرى مصر:

يا حبذا جرعةٌ من ماء محنية
وضجعةٌ فوق برد الرمل بالقاعِ٥
ونسمةٌ كشميم الخلد قد حملَت
ريَّا الأزاهر من مِيثٍ وأجراعِ٦
يا هل أراني بذاك الحي مُجتمِعًا
بأهل وديَ من قومي وأشياعي؟

وقال في هذا المعنى:

أبيت حزينًا في «سرنديب» ساهرًا
طوال الليالي والخَلِيون هُجَّدُ
إذا خطرَت من نحو «حلوان» نسمة
نزَت بين قلبي شعلةٌ تتوقدُ
شبابٌ وإخوانٌ رُزئتُ ودادهم
وكل امرئ في الدهر يشقى ويسعد!

ومن قصيدة له في هذا المعنى قالها في منفاه يتشوق إلى الوطن:

هل من طبيبٍ لداء الحب أو راقي
يشفي عليلًا أخا حزن وإيراقِ٧
قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقًا
حتى جرى البَين فاستولى على الباقي

وفيها يقول:

يا روضة النيل لا مسَّتْك بائقة
ولا عدَتك سماءٌ ذات إغداقِ٨
ولا برحتِ من الأوراق في حُلَل
من سندس عبقري الوشي برَّاقِ
يا حبذا نسمٌ من جوها عَبِقٌ
يسري على جدول بالماء دفَّاقِ
مَرعى جيادي ومأوى جيرتي وحِمَى
قومي ومَنبت آدابي وأعراقي
أصبو إليها على بُعدٍ ويُعجِبني
أني أعيش بها في ثوب إملاقِ
وكيف أنسى ديارًا قد تركتُ بها
أهلًا كرامًا لهم ودي وإشفاقي

•••

فيا بريدَ الصَّبا٩ بلِّغ ذوي رحمي
أني مُقيم على عهدي وميثاقي
وأنتَ يا طائرًا يبكي على فنَن
نفسي فداؤك من ساقٍ على ساقِ
أذكرتَني ما مضى والشمل مُجتمِع
بمصر والحربُ لم تنهض على ساقِ

وقال أيضا في منفاه:

رُدوا عليَّ الصِّبا من عصريَ الخالي
وهل يعود سوادُ اللِّمة البالي؟
ماضٍ من العيش ما لاحت مخايله
في صفحة الفكر إلا هاج بلبالي
أدهى المصائب غدر قبله ثقة
وأقبح الظلم صدٌّ بعد إقبالِ

•••

لا عيب فيَّ سوى حريةٍ ملكَت
أعِنَّتي عن قبول الذل بالمالِ
قلبي سليم ونفسي حُرة ويدي
مأمونة ولساني غير ختَّالِ
بلوتُ دهري فما أحمدتُ سيرته
في سابق من لياليه ولا تالي
حلبتُ شطرَيه من يسر ومَعسرة
وذقت طعمَيه من خصب وإمحالِ
لم يبقَ لي أرَبٌ في الدهر أطلبه
إلا صحابة حر صادق الخالِ
وأين أُدرِك ما أبغيه من وطر
والصدق في الدهر أعيا كل مُحتالِ؟

•••

لا في «سرنديب» لي إلفٌ أُجاذِبه
فضل الحديث ولا خِل فيرعى لي
أبِيتُ مُنفرِدًا في رأس شاهقة
مثل القطاميِّ فوق المَربأ العالي
إذا تلفَّتُّ لم أُبصِر سوى صور
في الذهن يرسمها نقَّاش آمالي

•••

علامَ أجزع والأيام تشهد لي
بصدق ما كان من وسمي وإغفالي
راجعتُ فهرس آثاري فما لمحت
بصيرتي فيه ما يُزري بأعمالي
فكيف يُنكِر قومي فضل بادرتي
وقد سرَت حِكَمي فيهم وأمثالي
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به
وإن غدوتُ كريم العم والخالِ
ولي من الشعر آيات مُفصَّلة
تلوح في وجنة الأيام كالخالِ
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته
ويهتدي بسناها كل قوَّالِ
فانظر لقولي تجد نفسي مُصوَّرة
في صفحتَيه فقولي خط تمثالي
ولا تغرَّنْك في الدنيا مُشاكَلة
بين الأنام فليس النبع كالصالِ
إن ابن آدم لولا عقله شبحٌ
مُركَّب من عظام ذات أوصالِ

ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر:

خليليَّ هذا الشوق لا شك قاتلي
فميلا إلى «المقياس» إن خِفتما فقدي
ففي ذلك «الوادي» الذي أنبتَ الهوى
شفائيَ من سقَمي وبرئيَ من وجدي

وقال في هذا المعنى:

طال شوقي إلى الديار ولكن
أين من «مصر» مَن أقام «بكندى»١٠
حبذا «النيل» حين يجري فيُبدي
رونق السيف واهتزاز الفِرندِ
تنثني الغصون في حافتَيه
كالعذارى يسحبن وشي الفِرندِ
قلَّدَتها يد الغمام عقودًا
هي أبهى من كل عقد وبندِ
كيف لا تهتف الحمام عليه
وهي تسقي به سلافة قندِ
كلما صوَّرَته نفسي لعيني
قدح الشوق في الفؤاد بزندِ

الحنين إلى الأهل والولد

وقال في منفاه وقد رأى في المنام ابنته الوسطى:

تأوَّب١١ طيفٌ من «سميرة» زائرٌ
وما الطيف إلا ما تُريه الخواطرُ
طوى سُدفة١٢ الظلماء والليل ضاربٌ
بأرواقه والنجم بالأفق حائرُ
فيا لك من طيفٍ ألمَّ ودونه
مُحيط من البحر الجنوبيِّ زاخرُ
تخطَّى إليَّ الأرض وَجدًا وما له
سوى نزوَات الشوق حادٍ وزاجرُ
ألمَّ ولم يلبث وسار وليته
أقام ولو طالت عليَّ الدياجرُ
تحمَّل أهوالَ الظلام مُخاطِرًا
وعهدي بمن جادت به لا تُخاطِرُ
«خماسية»١٣ لم تدرِ ما الليل والسُّرى
ولم تنحسر عن صفحتَيها الستائرُ
فيا بُعدَ ما بيني وبين أحِبَّتي
ويا قربَ ما التفَّت عليه الضمائر!
ولولا أماني النفس وهي حياتها
لما طار لي فوق البسيطة طائرُ
«فإن تكن الأيام فرَّقن بيننا
فكل امرئ يومًا إلى الله صائرُ»

إلى أن قال:

فلا يشمت الأعداء بي فلربما
وصلتُ لما أرجوه مما أُحاذِرُ
فقد يستقيم الأمر بعد اعوجاجه
وتنهض بالمرء الجدودُ العواثرُ
ولي أمل في الله تحيا به المُنى
ويُشرِق وجه الظن والخَطبُ كاشرُ
«إذا المرء لم يركن إلى الله في الذي
يُحاذِره من دهره فهو خاسرُ»
وإن هو لم يصبر على ما أصابه
فليس له في معرض الحق ناصرُ
ومن لم يذُق حلو الزمان ومُره
فما هو إلا طائش اللُّب نافرُ
عليَّ طِلابُ العز من مُستقِره
ولا ذنب لي إن عارضَتني المقادرُ

إلى أن قال:

فإن كنتُ قد أصبحت فَل١٤ رزية
تقاسَمها في الأهل بادٍ وحاضرُ
فكم بطلٍ فلَّ الزمان شَباته
وكم سيدٍ دارت عليه الدوائرُ
فسوف يبين الحق يومًا لناظر
وتَنزو١٥ بعَوراء الحقود السرائرُ
«وما هي إلا غمرة ثم تنجلي
غيابتها والله مَن شاء ناصرُ»
فقد حاطني في ظلمة الحبس بعدما
ترامت بأفلاذ القلوب الحناجرُ

•••

فهملًا بَني الدنيا علينا فإننا
إلى غاية تَنفتُّ فيها المرائرُ
تطول بها الأنفاس بُهرًا١٦ وتلتوي
على فلكة الساقين فيها المآزرُ
هنالك يعلو الحق والحقُّ واضح
ويسفُل كعب الزور والزورُ عاثرُ
وعما قليلٍ ينتهي الأمر كله
فما أول إلا ويتلوه آخرُ

يُشيد بعظمة الأهرام

قال يصف «الأهرام» ويُشيد بعظمتها:

سل «الجيزة» الفيحاء عن «هرمَي» مصرِ
لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردَّا صولة الدهر عنهما
ومن عجَبٍ أن يغلبا صولة الدهرِ
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا
لبانيهما بين البرية بالفخرِ
فكم أُممٍ في الدهر بادت وأعصُرٍ
خلَت وهما أعجوبة العين والفكرِ
تلوح لآثار العقول عليهما
أساطير لا تنفك تُتلى إلى الحشرِ
رموز لو استطلعتَ مكنون سرها
لأبصرتَ مجموع الخلائق في سطرِ
فما من بناء كان أو هو كائن
يُدانيهما عند التأمل والخبرِ

وختمها بقوله:

فيا نسمات الفجر أدِّي تحيتي
إلى ذلك البرج المُطِل على النهرِ
ويا لمعات البرق إن جُزتِ بالحِمى
فصُوبي عليها بالنثار من القَطرِ
عليها سلام من فؤاد مُتيَّم
بها لا بربات القلائد والشذرِ١٧
ولا برحَت في الدهر وهي خوالد
خلودَ الدراري والأوابد من شعري

شعر القتال

ومن قصيدة له في وصف إحدى المعارك التي خاضها، ويبدو منها مبلغ شجاعته وصبره على أهوال القتال:

ولما تداعى القوم واشتبك القنا
ودارت كما تهوى على قطبها الحربُ
وزُيِّن للناس الفرار من الردى
وماجت صدور الخيل والتهب الضربُ
ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا
سُقينا بكأس لا يُفيق لها شربُ
صبرتُ لها حتى تجلَّت سماؤها
وإني صبور إن ألمَّ بيَ الخَطبُ

الفساد في عهد إسماعيل

وقال من قصيدة يصف سوء الحُكم وظلم الحكام في عهد إسماعيل، وينصح قومه بالمطالبة بحقوقهم والمبادرة بإصلاح شئونهم قبل أن تسوء العقبى، وهي من شعره السياسي الوطني الرائع:

قامت به من رجال السوء طائفة
أدهى على النفس من بؤسٍ على ثكلِ
من كل وغد يكاد الدست يدفعه
بغضًا ويلفظه الديوان من مللِ
ذلَّت بهم مصر بعد العز واضطربت
قواعد الملك حتى ظل في خللِ

إلى أن قال:

فبادِروا الأمر قبل الغوث وانتزِعوا
شكالة الريث فالدنيا مع العجلِ
وطالِبوا بحقوق أصبحت غرضًا
لكل مُنتزِع سهمًا ومُختتِلِ
حتى تعود سماء الأمن ضاحية
ويرفل العدل في ضافٍ من الحللِ

الجيش والدستور

وقال في أوائل عهد الخديو توفيق يدعو إلى الشورى وتقوية الجيش:

أمران ما اجتمعا لقائد أمة
إلا جنى بهما ثمار السؤددِ
«جمعٌ» يكون الأمر فيما بينهمُ
«شورى» وجند للعدو بمرصدِ

يندد بالدسائس

وقال من قصيدة يشكو فيها من الدسائس التي كانت تُحاك حوله:

نقموا عليَّ حَمِيتي فتألَّبوا
حزبًا عليَّ وأجمعوا ما أجمعوا
وسعَوا بفِريتهم فلما صادفوا
سمعًا يميل إلى المَلام توسَّعوا
لا عيب فيَّ سوى حمية ماجد
والسيف يغلبه المُضاء فيقطعُ

يحث على الاعتدال، ويستنكر الذل

قال في هذا المعنى:

إذا شئتَ أن تحيا سعيدًا فلا تكن
لدودًا ولا تدفع يد اللين بالقسرِ
ولا تحتقر ذا فاقة فلربما
لقيتَ به شهمًا يبرُّ على المُثري
فرُب فقير يملأ القلب حكمة
ورُب غني لا يريش ولا يبري١٨
وكُن وسطًا لا مُشرئبًّا إلى السُّها
ولا قانعًا يبغي التزلف للصُّفر١٩
فأحمد أخلاق الفتى ما تكافأت
بمنزلةٍ بين التواضع والكبرِ
ولا تعترف بالذل في طلب الغنى
فإن الغنى في الذل شر من الفقر

العودة إلى الوطن

وقد عاد إلى الوطن سنة ١٩٠٠ بعد أن فقد نور عينَيه في منفاه، فاستقبل مصر بقصيدته التي مطلعها:

أبابلُ مَرأى العين أم هذه مصر
فإني أرى فيها عيونًا هي السِّحرُ؟
فإن يكُ موسى أبطل السحر مرة
فذلك عصر المعجزات وذا عصرُ

إلى أن قال:

وإني امرؤ تأبى ليَ الضَّيمَ صولة
مواقعها في كل مُعترَك حمرُ
أبيٌّ على الحدثان لا يستفزني
عظيم ولا يأوي إلى ساحتي ذعرُ

عبرة الحوادث

ومن قصيدة له قالها بعد عودته من المنفى تفيض توجعًا لحالة البلاد بعد أن جثم الاحتلال على صدرها، وقد تذكَّر عندما مر بقصر الجزيرة أيام إسماعيل حين كان في أوج سلطانه، وما انتهى إليه أمره من خلع وخسران، وتذكَّر أخطاءه التي كان لها أثرها في التمهيد للاحتلال، فلم يترحم على عهده، ونظم هذه القصيدة مُعتبِرًا ومُذكِّرًا، وهي من آيات الشعر في العظة والاعتبار، قال:

هل بالحِمى عن سرير الملك من يزعُ؟
هيهات قد ذهب المتبوع والتبعُ!
هذي «الجزيرة» فانظر هل ترى أحدًا
ينأى به الخوف أو يدنو به الطمعُ؟
أضحت خلاءً وكانت قبلُ منزلة
للملك منها لوفد العز مرتبعُ
فلا مُجيب يرد القول عن نبأ
ولا سميع إذا ناديت يستمعُ
كانت منازل أملاك إذا صدعوا
بالأمر كادت قلوب الناس تنصدعُ
عاثوا بها حقبة حتى إذا نهضت
طير الحوادث من أوكارها وقعوا
لو أنهم علموا مقدار ما فغرت
يد الحوادث ما شادوا ولا رفعوا
دارت عليهم رحا الأيام فانشعبوا
أيدي سبًا وتخلَّت عنهم الشيعُ
كانت لهم عصبٌ يستدفعون بها
كيد العدو فما ضروا ولا نفعوا

•••

أين المعاقل بل أين الجحافل بل
أين المناصل والخطية الشرعُ؟
لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت
أحداثه أو يقي من شر ما يقعُ
«زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم
ولا تعطلت الأعياد والجمعُ»
والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر
وإنما صفوه بين الورى لمعُ
لو كان للمرء فكر في عواقبه
ما شاب أخلاقَه حرص ولا طمعُ
وكيف يُدرِك ما في الغيب من حدث
من لم يزل بغرور العيش ينخدعُ
دهر يغر وآمال تسر وأعـ
ـمار تمر وأيام لها خدعُ
يسعى الفتى لأمور قد تضر به
وليس يعلم ما يأتي وما يدعُ

•••

يا أيها السادر المُزوَر من صلف
مهلًا فإنك بالأيام مُنخدِعُ
دع ما يريب وخذ فيما خُلقَت له
لعل قلبك بالإيمان ينتفعُ
إن الحياة لثوب سوف تخلعه
وكل ثوب إذا ما رث ينخلعُ

وظل البارودي بعد عودته من المنفى في عزلة عن الناس، لا يجتمع إلا بالصفوة المختارة من الأدباء والحافظين لعهده، إلى أن كانت وفاته سنة ١٩٠٤، فخلَّف مجدًا لا يبلى على الزمان.

١  راجع ترجمته تفصيلًا في كتابنا «الثورة العرابية، والاحتلال الإنجليزي».
٢  النشب: المال والعقار.
٣  الناطل: الشيء القليل.
٤  القاطل: القاطع.
٥  المحنية: ما انحنى من الأرض.
٦  الميث: جمع ميثاء الأرض اللينة.
٧  الراقي: اسم فاعل من رقاه يرقيه؛ أي عوَّذه فهو راقٍ.
٨  البائقة: الداهية والبلية. ولا عدتك: أي لا تجاوزَتك.
٩  الصبا بالفتح: ريح معروفة.
١٠  كندى: مدينة صغيرة في جزيرة سيلان (سرنديب).
١١  تأوب: أي أتى ليلًا.
١٢  السدفة: الستر.
١٣  أي بنت خمس سنوات.
١٤  فل: أي مُنهزِم.
١٥  تنزو: تطمح، يقال: نزا به قلبه؛ طمح.
١٦  بهرًا بالضم: تتابع الأنفاس من الإعياء في اللسان.
١٧  الشذر: صغار اللؤلؤ.
١٨  أي لا ينفع ولا يضر.
١٩  القانع هنا: السائل المُتذلِّل. والصُّفر: الذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤