إسماعيل صبري

١٨٥٤–١٩٢٣
figure

شاعر بطبعه وسليقته، وطنيٌّ بفطرته وحسن سريرته، أدرك عهد الاحتلال في إبان قوته وسطوته، فتحرَّكت شاعريته، تُجاهِد الاستعمار، وتُمجِّد معاني الوطنية، وتُخلِّدها في قصائد غُر تُشبِه أن تكون تغاريد من نبع القلب الصافي وفيض الإحساس المُرهَف والذوق الرفيع.

كان شاعرًا رقيقًا مُجيدًا، عميق الوجدان، مُقلًّا في شعره، مُحتاطًا في نشر ما تجود به قريحته، كان عَلمًا من أعلام الطبقة الأولى من شعراء العصر الحديث، وثانيهم بعد البارودي.

ولد سنة ١٨٥٤ بمدينة القاهرة، والتحق بمدرسة المبتديان سنة ١٨٦٦، ثم بمدرستَي التجهيزية والإدارة (الحقوق)، وأتم دراسته بمصر سنة ١٨٧٤، ثم أُلحِق بالبعثة المصرية إلى فرنسا، ونال شهادة الليسانس في الحقوق من كلية «إكس» سنة ١٨٧٨، ولما عاد إلى مصر التحق بالمناصب القضائية حتى عُيِّن وكيلًا لوزارة الحقانية (العدل) سنة ١٨٩٩، واعتزل الخدمة في سنة ١٩٠٧.

ظهرت مواهبه الشعرية منذ نعومة أظفاره، وظلَّت تنمو وتزدهر طول حياته، وكانت شاعريته ووطنيته عنوان مجده وموضع فخاره.

كان مُعاصِروه يُلقِّبونه «شيخ الشعراء»، واعترف له بذلك زملاؤه شوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب ونسيم وغيرهم، وإنك لتلمح تقدير شوقي لزعامته من قوله في رثائه:

أيامَ أمرَحُ في غبارك ناشئًا
نهج المهار على غبار خصافِ١
أتعلَّم الغايات كيف تُرام في
مضمار فضل أو مجال قوافِ

ومن قول حافظ في رثائه أيضًا:

لقد كنت أغشاه في داره
وناديه فيها زها وازدهَرْ
وأعرض شعري على مسمع
لطيف يُحِس نبو الوترْ

تتجلى في شعره القومي روح الحب الخالص للوطن، والشجو الحزين على مآسيه، والاستمساك بالعزة والكرامة، والشمم والإباء، ولقد عبَّر بأرقِّ القصائد عن شعور مواطنيه، وترجم عن آمالهم وآلامهم.

كانت وطنيته عميقة الجذور، عاش حياته لم يزُر إنجليزيًّا قط، ولم يذهب يومًا إلى الوكالة البريطانية، في حين أنها كانت مع الأسف مقصد الكبراء والعظماء في ذلك العهد، وطالما استماله اللورد كرومر إلى زيارته ليكسبه إلى صف المُناصِرين للاحتلال، فاستعصم وأبى، ولما قيل له لعلك لو فعلت كنت اليوم رئيسًا للوزارة، قال: وماذا تُفيدني رئاسة الوزارة غير إغضاب ضميري وإرضاء ذوي المطامع وأصدقاء الجاه؟٢

كان صديقًا صدوقًا للزعيم مصطفى كامل، أيَّده في جهاده منذ الساعة الأولى، ولم يكن يكتم مناصرته إياه في أي منصب تولاه.

كان محافظًا للإسكندرية سنة ١٨٩٦–١٨٩٩، وأراد مصطفى كامل أن يُلقي بها خطبة من خُطبه الوطنية الكبرى، فأوعزت إليه الحكومة أن يمنع إقامة الاجتماع الذي أُعِد لإلقاء الخطبة، بحجة المحافظة على الأمن والنظام، فأبى صبري على الحكومة ما أرادت، ورخَّص بإقامة الاجتماع، وصارَح الحكومة بأنه مسئول عن الأمن والنظام، وألقى مصطفى كامل خطبته.

ولما عُيِّن وكيلًا لوزارة الحقانية (العدل) في نوفمبر سنة ١٨٩٩ ظل على مودته لمصطفى، وكان في غالب الأيام يخرج من الوزارة ويُعرِّج بدار اللواء المُقابِلة لها ليزور صاحب اللواء ويقضي معه الوقت الطويل، ولم يمنعه منصبه من المجاهرة بصداقته له ومناصرته إياه في الوقت الذي كان الكبراء من الموظفين وغيرهم يخشون عواقب الاتصال به، وإلى ذلك يُشير شوقي في رثائه لإسماعيل صبري إذ يقول:

ويحَ الشباب وقد تخطَّر بينهم
هل مُتِّعوا بتمسح وطوافِ؟
لو عاش قدوتهم ورب «لوائهم»
نكس «اللواء» لثابت وقَّافِ
فلكَم سقاه الود حين وداده
جرَبٌ لأهل الحكم والأشرافِ

دعوته إلى الدستور

وإنك لتجد في شعر إسماعيل صبري انسجامًا مع سياسة مصطفى كامل، وتمجيدًا للوطنية، ومُناصَرة للأمة في جهادها للحرية والاستقلال.

قال في قصيدة وجَّهها إلى الخديو عباس حلمي الثاني يوم عيد جلوسه سنة ١٩٠٨ يدعو إلى الدستور:

سدِّد سهام الرأي ﺑ «الشورى» يُحِط
بك منه في ظُلَم الحوادث فَيلقُ
واسبق به واضرب به وافتح به
ما شئت من باب أمامك يُغلَقُ

حادثة دنشواي

وقال فيها يُصوِّر حادثة دنشواي، ويصف فظائع الإنجليز فيها، والعفو الذي أصدره الخديو عن مسجونيها:

وأقَلتَ عثرةَ قريةٍ حكَم الهوى
في أهلها وقضى قضاءً أخرقُ
إن أنَّ فيها بائس مما به
أو رنَّ جاوَبه هناك مُطوَّقُ٣
وارحمتا لجُناتهم ماذا جنوا؟
وقضاتهم٤ ما عاقهم أن يتقوا؟
ما زال يُقذي كل عين ما رأوا
فيها ويُؤذي كل سمع ما لقوا
حتى حكمتَ فجاء حكمك آية
للناس طيَّ صحيفة تتألقُ
نزلت تُرفرِف حول كاتب نصها
زمرًا ملائكةُ الرضا وتُحلِّقُ
شكرَتك مصر على سلامة بعضها
شكرًا يُغرِّب في الورى ويُشرِّق
ذكرَت لك الصفح الجميل ولم تزَل
ترمي إلى أمر أجل وترمقُ٥
قانون «دنشاواي» ذاك صحيفة
تُتلى فترتاع القلوب وتخفقُ
هل يُرتجى صفو ويهدأ خاطر
والموت حول نصوصها يترقرقُ؟
ومَضاجع القوم النيام أواهلٌ
بمُعذَّب يُردى وآخر يُرهَقُ
لن تبلغ الجرحى شفاءً كاملًا
ما دام جارحها المُهنَّد يبرقُ
فاحكم بغير العنف واكسر سيفه
فالحلم أجمل والمكارم أليقُ

رثاؤه لمصطفى كامل

وقد جزع لوفاة مصطفى كامل جزعًا شديدًا، وشيَّع جثمانه إلى مرقده الأخير (يوم ١١ فبراير سنة ١٩٠٨)، ووقف على قبره يُلقي قصيدته في وداعه، ولم يكَد يُلقي البيت الأول منها وهو:

أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا
هدَدتَ القُوى إذ قمتَ بالأمس ناعيا

حتى ظهر عليه التأثر الشديد والإعياء، ولم يستطع أن يُتِم القصيدة، وقد ألقاها في حفلة تأبينه، وتدل هذه القصيدة على مبلغ حبه له وإخلاصه لصداقته، وإعجابه به، وشدة حزنه عليه؛ فجاءت آية في بلاغة الرثاء، ورقة التعبير عن الحزن والألم، وكأن كل بيت فيها دمعة وفاء تذرفها عين الصديق على صديقه الحميم. قال:

أجل أنا من أرضاك خلًّا مُوافيا
ويُرضيك في الباكين لو كنت واعيا
وقلبيَ ذاك المَورد العذب لم يزَل
كما ذقت منه الحب والود صافيا
سوى أنه يعتاده الحزن كلما
رآك عن الحوض المُهدَّد نائيا
ويعثر في بعض الخطوب إذا مشى
إلى بعض ما يهوى فيرجع داميا
وإن رامه سرب المسرات لم يجد
محلًّا به من لاعج الهم خاليا
ألا علِّلاني بالتعازي وأقنِعا
فؤاديَ أن يرضى بهن تعازيا
وإلا أعيناني على النوح والبُكا
فشأنكما شأني وما بكما بيا
وما نافعي أن تبكيا غير أنني
أُحِب دموع البِر والمرء وافيا

•••

أيا «مصطفى» تالله نومك رابَنا
أمثلك يرضى أن ينام اللياليا؟
تكلَّم فإن القوم حولك أطرقوا
وقُل يا خطيب الحي رأيك عاليا
لقد أوشكت من طول صمت وهجرة
تخالك أعواد المنابر فانيا
وتبكيك لولا أن فيها بقية
تُعلِّلها من ذلك الصوت داويا
فهل ألِفَت ما بين جفنَيك والكرى
مُحالَفةٌ أم قد أمِنتَ الأعاديا؟

•••

فقدناك فقدانَ الكمي سلاحه
وساري الدياجي كوكب القطب هاديا
وبتنا وقد باتت رفاتك في الثرى
سقاها الحيا٦ نستبطئ الدمع هاميا
ولولا تراث من أمانيك عندنا
كريمٌ بكينا إذ بكينا الأمانيا
طواك الردى طيَّ الكتاب تضمَّنَت
صحائفه من كل فخر معانيا
مضاءٌ إذا البيض انتمت لأصولها
غضِبْنا إذا سمَّاك قوم يمانيا
ورأيٌ يُجلِّي اليأس واليأس ضارب
على الأفق ليلًا فاحم اللون داجيا
إذا ما تقاضَينا ولم تكُ بيننا
ذكرناهما حتى نُجيد التقاضيا
فليتك إذ أعييتَ كل مُساجِل
قنعت فلم تُعيِ الطبيب المُداويا
وليتك إذ ناضلتَ عن مصر لم تُفِض
مع الحبر قلبًا يعلم الله غاليا

•••

لقد ضاع إخلاص الطبيب وحذقه
سدًى فبكى الفخر الذي كان راجيا
ولم تنتهز تلك العقاقير فرصة
ترى الناس فيها فضل «بقراط» باديا
نُحيِّيك سيفًا بات في الترب مُغمَدًا
تقلَّده فيما مضى الحق ماضيا

مواساته لجرحى الحرب

ولقد كان له شعر حماسي يملأ القلوب أملًا وشجاعة.

قال من قصيدة له مُخاطِبًا الأمير عمر طوسون يشكره على مواساته جرحى الحرب:

وكم تعهَّدتَ جرحى من أسودِ وغًى
إن يكشِر الدهر عن أحداثه كشروا
مُستنجِدًا من بني مصر إلى شمم
إذا رأوا ثلمة في حوضهم جبَروا
مُستهيمًا هاميًا و«النيل» في وجل
من أن تجود به أيمانكم حذرُ

الوحدة بين العنصرين

وقال داعيًا إلى الوحدة الوطنية بين عنصرَي الأمة:

عينيَّ فيك اليوم قبطيَّة
تروي الأسى عن مسلم مُوجَعِ
ويأخذ البِر وآي الوفا
عن الكتاب الطيِّب المشرعِ

ومن قصيدة له حين اشتد الخلاف بين المسلمين والأقباط سنة ١٩١١ يدعو إلى الوحدة الوطنية:

خفِّفوا من صياحكم ليس في مصـ
ـر لأبناء مصر من أعداءِ
دين عيسى فيكم ودين أخيه
أحمد يأمرانِنا بالإخاءِ
مصر أنتم ونحن إلا إذا قا
مت بتفريقنا دواعي الشقاءِ
مصر ملكٌ لنا إذا ما تماسَكــ
ـنا وإلا فمصر للغرباءِ!

تنديده بصنائع الاحتلال

وقال في نوفمبر سنة ١٩٠٨ يُندِّد بسياسة مصطفى فهمي حين سقطت وزارته وكان مُواليًا للاحتلال خاضعًا له:

عجبتُ لهم قالوا سقطتَ ومن يكن
مكانك يأمنْ من سقوط ويسلمُ
فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى
وحرَّمتَ خوف الذل ما لم يُحرَّمِ
فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة
على الصخر لم تُصدَع ولم تتحطمِ٧

في الإباء وعزة النفس

ومن قوله في الإباء وعزة النفس، والزراية بالمُتكبِّرين:

أيها التائه٨ المُدِل علينا
ويكَ قُل لي: من أنت؟ إني نسيتُ
لو فرشتَ الطريق درًّا لأخطو
فوقه نحو داركم ما رضيتُ
أنا أغنى من أن يُقال فلان
وفلان تزاورا ما حييتُ!

وقال في الاستمساك بالكرامة:

لَكسرةٌ من رغيف خبز
تُؤدَم بالملح والكرامةِ
أشهى إلى الحُر من طعام
يُختَم بالشهد والملامةِ

يستنكر تعدد الزوجات

وقال يذم تعدد الزوجات:

يا من تزوَّج باثنتين ألا اتئدْ
ألقيتَ نفسك ظالمًا في الهاويه
ما العدل بين الضرتَين بممكن
لو كنت تعدل ما أخذت الثانيه!

التوحيد والحرية

وله في تمجيد التوحيد والحرية كلمات بليغة وإن لم تكن شعرًا إلا أنها تُشبِهه في النغم والرنين وقوة الأثر، وهي من الشعر المنثور البليغ. قال:

أُحِب التوحيد في ثلاثة: الله، والمبدأ، والمرأة.
وأحب الحرية في ثلاثة:
حرية المرأة في ظل زوجها،
وحرية الرجل تحت راية الوطن،
وحرية الوطن في ظل الله.

تنديده بالظلم والاستعمار

قال في قصيدة له يُخاطِب «الدواة»:

وإذا الظُّلم والظلام استعانا
يومَ نحس بأجهل الجاهلينا
واستمَدا من الشرور مدادًا
فاجعليه في قسمة الظالمينا

إلى أن قال:

وإذا كان فيك نقطة سوء
كُوِّنت من خيانة تكوينا
«فاجعليها قسط الذين استباحوا
في السياسات حرمة الأضعفينا!»

تنديده بالمستعمرين

قال ينعى على إيطاليا عدوانها على طرابلس (ليبيا) سنة ١٩١١ ويُندِّد بما في فعلتها من الغدر ونقض العهود والمواثيق:

بعضَ هذا الجفاء والعدوانِ
راقبي الله أمةَ الطليانِ!
قد ملأتِ الفضاء غدرًا وجهلًا
وتسنَّمتِ غارب الطغيانِ
وبعثت السفين ترمي طرابلـ
ـس بحرب مشبوبة النيرانِ
تخرق البحر والمواثيق والعهـ
ـد جهارًا وذمة الجيرانِ
سيَّرَتها أضغان قوم لقوم
سَلِموا من دناءة الأضغانِ٩
من رآها تجري توهَّم أن الـ
ـقوم همُّوا للثأر للأوطانِ
لا وربِّ الأسطول ما حمل الأسـ
ـطول جيشًا إلى حِمَى الحبشانِ١٠
إن قوم الطليان أحرص من أن
يُفضَحوا مرتَين في ميدانِ

الامتيازات الأجنبية

وقال في هذه القصيدة يُشير إلى الامتيازات الأجنبية التي منحَتها الدول الشرقية للأوروبيين، فقابلوها بالغدر والعقوق، واتخذوها وسيلة للعدوان على هذه الدول:

ويحَهم ما لصنعِهم أبطر القو
م فعقُّوا ما كان من إحسانِ؟
ولماذا تمخَّض السلم عن حر
بٍ لظاها يشوي الوجوه عوانِ؟
منحٌ قد بُذِرن في شرِّ أيدٍ
كنَّ مذ كنَّ من منبت الكفرانِ
هكذا فلتكُ المروءات في عصـ
ـر البهاليل من بني الرومانِ!

القوة سياج الاستقلال

وقال فيها يدعو إلى التسلح بالقوة للدفاع عن الذمار وصد مطامع الاستعمار، ويُحذِّر أمم الشرق من غدر الدول الاستعمارية وعدوانها وتبييتها الشر تحت ستار الود والصداقة:

لا يثقْ بعضنا ببعض وهذا
ما أعد الإنسان للإنسانِ
إن تُسلِّم على الغريب فسلِّم
في ظلال السيوف والمرانِ١١
ربما أصبح العناق صراعًا
في زمان الآداب والعرفانِ١٢

التغني بعظمة مصر

وله قصيدة خالدة يتغنى فيها بعظمة مصر ومفاخرها، ويستحث مصر الحديثة على إحياء مجدها، قالها سنة ١٩٠٩ على لسان فرعون مصر يُخاطِب قومه ويبعث فيهم روح العمل لبناء مجد الدولة. قال:

لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني
إذا ونى يوم تحصيل العلا واني

إلى أن قال:

«لا تقربوا «النيل» إن لم تعملوا عملًا
فماؤه العذب لم يُخلَق لكسلانِ»
رِدُوا المجرة كدًّا دون مورده
أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآنِ
وابنوا كما بنَت الأجيال قبلكمُ
لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسانِ
لا تتركوا مُستحيلًا في استحالته
حتى يُميط لكم عن وجه إمكانِ
مقالة هبطَت من عرش قائلها
على مناكب أبطال وشجعانِ
مادت لها الأرض من ذعر ودان لها
ما في المقطم من صخر وصوانِ
يبنون ما تقف الأجيال حائرة
أمامه بين إعجاب وإذعان
من كل ما لم يلد فكر ولا فتحَت
على نظائره في الكون عينانِ
ويُشبِهون إذا طاروا إلى عمل
جِنًّا تطير بأمر من «سليمانِ»

•••

«أهرامهم» تلك، حيِّ الفن مُتخِذًا
من الصخور بروجًا فوق كيوانِ
قد مر دهر عليها وهي ساخرة
بما يُضعضِع من صرح وإيوانِ
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
ما يأخذ النمل من أركان نهلانِ
جاءت إليها وفود الأرض قاطبة
تسعى اشتياقًا إلى ما خلَّد الفاني
فصغَّرَت كل موجود ضخامتُها
وغض بنيانها من كل بنيانِ
وعاد منكر فضل القوم مُعترِفًا
يُثني على القوم في سر وإعلانِ
تلك الهياكل في الأمصار شاهدة
بأنهم أهل سبق، أهل إمعانِ
إذا أقام عليهم شاهدًا حجرٌ
في هيكل قامت الأخرى ببرهانِ
كأنما هيَ والأقوام خاشعة
أمامها صُحُف من عالم ثاني
تستقبل العينَ في أثنائها صور
نصيحة الرمز دارت حول جدرانِ
لو أنها أُعطيَت صوتًا لكان له
صدًى يُروِّع صم الإنس والجانِ

وختمها بقوله:

أين الأُلى سجَّلوا في الصخر سيرتهم
وصغَّروا كل ذي ملك وسلطانِ
بادوا وبادت على آثارهم دول
وأُدرِجوا طيَّ أخبار وأكفانِ
وخلَّفوا بعدهم حربًا مُخلَّدة
في الكون ما بين أحجار وأزمانِ
وزُحزِحوا عن بقايا مجدهم وسطًا
عليهم العلم ذاك الجاهل الجاني
ويل له هتك الأستار مُقتحِمًا
جلال أكرم آثار وأعيانِ
لَلجهل أرجح منه في جهالته
إذا هما وُزِنا يومًا بميزانِ

إلى شوقي في منفاه

وكان على ود صميم مع شوقي، وحينما نُفي شوقي من مصر خلال الحرب العالمية الأولى ظل على صلته به، وكان شوقي قد أرسل إليه من منفاه بالأندلس سنة ١٩١٧ بيتَين من قصيدة له مشهورة،١٣ قال فيهما:
يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا
بعد الهدوء ويهمي من مآقينا١٤
لما ترقرق في دمع السماء دمًا
هاج البُكا فخضَبْنا الأرض باكينا!

فأجابه صبري بهذه الأبيات:

يا وامض البرق كم نبَّهتَ من شجَنٍ
في أضلعٍ ذهلَت عن دائها حينا
فالماء في مُقَل، والنار في مُهَج
قد حار بينهما أمر المُحِبينا
لولا تذكُّر أيام لنا سلفت
ما بات يبكي دمًا في الحي باكينا
يا آل وديَ عودوا لا عدمتكمُ
وشاهدوا ويحكم فعل النوى فينا
يا نسمة ضمخَت أذيالَها سحَرًا
أزهارُ أندلس هبِّي بوادينا١٥

وقد عاش إسماعيل صبري كريم الخُلق، صادقًا عيوفًا، أبيًّا وفيًّا لوطنه وأصدقائه، مُعتزًّا بكرامته، صريحًا مُحبًّا للحق، بعيدًا عن الزهو والخيلاء، وظل على هذه الأخلاق الفاضلة إلى أن تُوفي في ٢١ مارس سنة ١٩٢٣ بعد مرض طويل، وخلَّف كنوزًا من الشعر والوطنية، والفضائل النفسية، أضفَت على اسمه هالة من المجد والخلود.

١  المهار: جمع مهرة. وخصاف: فرس مشهور في العرب.
٢  ذكر هذه الواقعة الأستاذ أحمد الزين في مقدمته لديوان إسماعيل صبري ص٣٢.
٣  المطوَّق: السجين.
٤  قضاتهم: أي قضاة المحكمة المخصوصة التي حكمت عليهم.
٥  يريد الدستور.
٦  المطر.
٧  أي أن مصطفى فهمي كان في منزلة دانية لا يُؤلِمه السقوط منها، بحيث لو أسقطوا زجاجة من ذلك المكان المُنخفِض لم تنكسر!
٨  التائه: المُتكبِّر من التِّيه بكسر التاء.
٩  يريد بالذين سلموا من دناءة الأضغان العرب وهم المُعتدى عليهم في هذه الحرب.
١٠  يُشير بهذا البيت والذي يليه إلى هزيمة الطليان أمام الأحباش في معركة عدوة المشهورة سنة ١٨٩٦ ويُعيِّرهم بالسكوت عن الأخذ بثأرهم في هذه المعركة.
١١  يريد بالمران الرماح؛ أي القوة المسلحة.
١٢  في هذا البيت يتهكم بالدول الأوروبية وما تنطوي عليه من الغدر ونقض العهود في عصر المدنية والعلوم والآداب.
١٣  سيرد ذكرها في الحديث عن شوقي.
١٤  يريد شوقي أن البرق قد اقتبس اشتعاله من نار جوانحه وتخيَّل أن ما يهمي به البرق من المطر مُشتَق من دموعه.
١٥  يُخاطِب صبري نسمة الأندلس التي عطَّرَتها أزهاره ويعيش في جوفها شوقي ويُناجيها أن تهبَّ عليه في مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤