إيفون الصغيرة

مترجمة

ماتت وكأنها لم تمت، ليس على وجهها أثر واحدٌ من آثار الآلام التي قاستها في مرضها، يحسبها الرائي نائمةً نومًا هادئًا لذيذًا، ويخيل إليه أنه يسمع صوت أنفاسها المترددة، ويرى هبوط صدرها وارتفاعه.

أين صفرة الموت ونحوله؟ أين آلام النزع وشدائده؟ أين الغضون التي خلفتها الأوجاع فوق جبينها، والدوائر الزرقاء التي رسمتها حول جفنيها؟

لقد مات كل ذلك بموتها، فعاد لها رونقها وبهاؤها، وأصبحت كأنما قد خلقت الساعة ولما تنبعث الروح في جسدها.

بهذا الوجه الجميل المشرق كانت جالسةً منذ أيام قلائل أمام المدفأة باسمةً مطمئنة تلاعب هرتها، وبهذا الفم الأرجواني القاني كانت تغني أمام قفص عصفورها أنشودة السعادة والحياة، وبهاتين اليدين البيضاوين اللينتين كانت تقطف أزهار الربيع وتقدمها هدية إلى أبيها الشيخ، أما اليوم فقد انقضى ذلك كله؛ لأن حياتها قد انقضت.

آخر كلمةٍ نطقت بها قبل موتها: «سأموت الساعة فائتوني بعصفوري أودعه!» فأتوها بقفص عصفورها وعلقوه بقائم سريرها، فظلت تنظر إليه باسمه متطلقةً، وظل العصفور يلعب ويغرد تغريدًا شجيًّا، وهو لا يعلم أنه ينشد فوق رأسها أنشودة الموت.

وهنا وقف الشيخ الذي تبناها بجانب فراشها واجمًا حزينًا، مشرَّد اللب، ذاهل العقل، ومد يده إلى يدها الضعيفة الواهية التي كانت بالأمس عكاز شيخوخته، وسند حياته، فأخذها ووضعها على صدره، كأنما يريد أن يمد حياتها بتلك البقية الباقية في قلبه من الحياة لتعيش من بعده ولو ساعة واحدة حتى لا يراها تموت بين يديه. وظل على حاله تلك هنيهة، ثم التفت فجأة إلى أصدقائه وقال لهم: ها هي ذي الحرارة قد بدأت تدب في جسمها شيئًا فشيئًا، فنظروا إليه آسفين محزونين، ثم نكسوا أبصارهم، وأسبلوا مدامعهم، فظل يدير بينهم عيونًا حائرةً، ويتنقل بنظراته هاهنا وهاهنا، كأنما يسألهم المعونة على أمره، ومن ذا الذي يعين على القدر، أو يعترض سهم المنية القاتل دون رميته؟

وما هي إلا لحظة حتى شعر أن يدها تجذب يده، فانتفض وحنا عليها، فطوقته بذراعيها الضعيفتين وضمته ضمةً كانت فيها نفسها.

إنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت إيفون الصغيرة! ماتت الطفلة الوديعة الجميلة! ماتت الفتاة الرزينة الصابرة! في سبيل الله نجمٌ تلألأ في سماء الحياة لحظة ثم هوى، وغصنٌ أزهر في روض المنى ساعةً ثم ذوى، وقدح من البلور لم تكد تلمسه الشفاه حتى انكسر، وعقدٌ من اللؤلؤ لم ينتظم في سمطه حتى انتثر.

هذه الغرف التي طالما أنارتها بابتساماتها حتى في الساعة التي تختفي فيها جميع الابتسامات، والحديقة التي كانت تقضي فيها كل يومٍ بضع ساعاتٍ من ليلها أو نهارها تلاعب أطيارها، وتقطف أزهارها، وتتعهد أشجارها، والمماشي التي كانت تخطر على حصبائها فيصيرها شعاع خديها ياقوتًا ومرجانًا، قد خلت جميعها منها، وهيهات أن يسعدها الحظ برؤيتها بعد اليوم.

كانت إيفون جميلة الخلق، طيبة النفس، نقية الضمير، تحب الأحياء جميعهم، ناطقهم وصامتهم، فلا تبذل من ودها لهرتها المريضة أقل مما تبذل منه لأبيها الشيخ العجوز. ولا تتودد إلى الشيوخ الفانين أصدقاء أبيها وسجرائه أكثر مما تتودد إلى وافد غريب يهبط قريتها للمرة الأولى في حياته. وما عَلِموها قط اختلفت مع فتًى أو فتاة من تلاميذ مدرستها؛ لأنها كانت تستهوي الطيب منهم بلطفها وأدبها، والخبيث بعفوها وصفحها.

وهي وإن لم تكن تعلم أنها لقيطةٌ فإن من كان ينظر في عينيها ويرى ذبولهما وانكسارهما ولمعانهما الذي يشبه لمعان الدمع الرقراق، يخيل إليه أنها قد ألهمت ما كتمه الناس عنها، وأنها كانت تعلم أنها لا تعيش في بيت أبيها بوصاية جدِّها كما كانوا يقولون لها، بل في بيت محسن كريم لا يعرف من تاريخها ولا من أمر ميلادها شيئًا. وكانت لا تزال تتراءى بين شفتيها ابتسامة حلوة هي الرقية التي كانت تفتح بها أقفال القلوب، ثم تنزل فيما تشاء منها المنزلة التي تريدها. ولم تكن ابتسامتها ابتسامة التصنع والتكلف التي يرثها أكثر الفتيات عن أمهاتهن، بل ابتسامة الحب والإخلاص والحنو والعطف.

لذلك عجل الموت إليها؛ لأن سكان السماء لا يستطيعون أن يعيشوا طويلًا على ظهر الأرض.

دقت أجراس الكنيسة تنعاها فلم تسمعها، ولو سمعتها لاهتزت لها في سريرها؛ شوقًا ولهفة كما كان شأنها في حياتها. ثم جاءت ساعة الدفن فحملوها على أيديهم ومشوا بها حتى وصلوا إلى الكنيسة فوضعوا نعشها في ركنٍ من أركانها، ثم اجتمعوا حولها يودعونها الوداع الأخير. فبكاها الشيوخ الذين كانوا يحبونها ويأنسون بها، والفتيان والفتيات من تلاميذ مدرستها، والنساء اللواتي كن يحببنها من أجل حبها أبناءهن. وبكاها أكثر من هؤلاء جميعًا ذلك الشيخ المسكين؛ لأنها كانت كل دنياه، فخسرها في ساعة واحدة.

وظل كثيرٌ من الوقوف يردد ذكراها، فيقول أحدهم: طالما رأيتها في هذا الركن نفسه جالسةً وحدها وبيدها الكتاب المقدس تتلو آياته. ويقول الآخر: لقد دخلت الكنيسة ليلةً فرأيتها هائمةً وحدها في الظلام الحالك تحت هذه الأقبية، فعجبت لصلاحها وتقواها. وتقول امرأة: لقد عثرت ابنتي يومًا من الأيام في منصرفها من مدرستها ببعض الأحجار عثرة برحت بها، فاحتملتها على ظهرها حتى جاءت بها إلى المنزل. وتقول أخرى: لقد كنت أراها تمر كل يوم بجارتنا فلانة المسكينة فتعطيها رغيفًا من طعامها، ثم تستمر أدراجها إلى مدرستها.

وهكذا ظل كل منهم يذكر ما يعرف عنها حتى حانت ساعة الدفن، فعلت الأصوات بالبكاء، ثم غَيَّبُوها في قبرها وحثَوا عليها التراب، وكان الليل قد أظلَّ المكان بجناحيه وساد فيه سكون موحش رهيب، فانصرفوا مطرقين واجمين يقولون:

وا رحمتاه لها، لقد خرجت من الدنيا غريبةً كما وفدت إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤