الوجهاء

جرى بيني وبين أحد الوجهاء المصريين الحديث الآتي:

الكاتب : ما هذه الطبقة التي تكسو وجهك فتحجب منه ما يحجب صفحة السماء، من السحب السوداء؟
الوجيه : إن بين جنبي همًّا يعتلج، وكمدًا يذهب باللب ويطير بشظايا القلب، ونارًا من الحزن متأججة مضطرمة، دخانها هذا الذي تراه.
الكاتب : أحق ما تقول وأنت الرجل السعيد بحظه المغتبط بعيشه، قصر غمدان، وخورنق النعمان، وحور وولدان، وظل ظليل، ونسيمٌ عليل، وخزائن تموج بالذهب موج التنور باللهب، ذلك إلى ما أسبغ الله عليك من صحة البدن وسلامة الحواس! وأمدك به من الجاه العريض، والكلمة النافذة والشفاعة المقبولة؟ فليت شعري ما شكاتك بعد ذلك؟
الوجيه : أشكو الفقر الباطن في الغنى الظاهر، والشقاء المقبل في السعد المدبر، وإني لأرى في السماء غمامة دكناء توشك أن تنفجر بالصاعقة الكبرى، والكارثة العظمى.
الكاتب : ما كنت أحسب أنَّ الشقاء يمر لك ببالٍ بعدما أعطاك الدهر عهدًا مكتوبًا بتلك الأحرف الذهبية؛ ألا يسدد سهمه إليك، ولا يدور دورته عليك.
الوجيه : متى كان للدهر عهدٌ يوثق به أو ذمامٌ يعتمد عليه؟ فالناس في يده كالكرة ذات الألوان في يد الصبي، يديرها فترى الأسود في مكان الأبيض، والأبيض في موضع الأسود، وكذلك بقية الألوان تعلو أسافلها وتسفل أعاليها، ودورة السعود والنحوس أسرع في عمر الدهر من لمح الطرف، ولفتة الجيد.
الكاتب : هل لك أن تحدثني من أي منفذٍ نفذ الدهر إليك، وما عهدتك شاربًا ولا عاهرًا، ولا مقامرًا ولا مستهترًا؟ وما للدهر مدخل يتسرب منه إلى خزائن الأغنياء غير هذا المدخل!
الوجيه : أين يذهب بك أيها الصديق؟ وهل يؤتى الأغنياء في هذا البلد إلا من طريق المجد الباطل والسمعة الكاذبة؟ وهل يكب العظماء على وجوههم، ويلصق بالرغام معاطسهم إلا الشغف بنظرة الأمير، ولفتة الوزير، وزورة المدير؟ وأنت تعلم أنَّ رجلًا مثلي لا يمكن أن يكون له مطمعٌ في المجد الصحيح، فلست بصاحب علم فأفخر به، ولا صاحب قلمٍ فأمتَّ بما يمتُّ به أصحاب الأقلام من خدمة المجتمع الإنسانيِّ وتهذيبه، فلم يبقَ أمامي غير هذا المجد الكاذب، وهو مجد القربى من الحكام والعمال، ولا سبيل إليه إلا ببذل ثمنٍ غالٍ تقصر عنه خزائن قارون وكنوز ركفلر، وقد أنفقت فوق الطاقة ووراء الفاقة في بناء القصور نزلًا للحكام، وغرس البساتين منازه لهم، وإعداد الفرش والآنية لمآدبهم وولائمهم، فلما نضب معين الذهب، وعيت الأرض أن تثمر فوق ما تثمر، لجأت إلى مصرفٍ من المصارف المالية فأثقلني بالديون، وأرهقني بالطلب، ففزعت منه إلى آخر ثم إلى آخر، فكنت كناقش الشوكة بالشوكة، أو غاسل الدم بالدم. ولو كشف لك من أمري ما كشف لي منه لعلمت أن جميع ما كنت أملك من أطيانٍ وعقار، ودورٍ وقصورٍ لم يبقَ لي منه إلا تلك الأرقام السوداء المسطورة في جرائد الصيارف، وهأنذا اليوم طريد المصارف والغرماء، وغريم القضاءين: قضاء الأرض، وقضاء السماء.
وذلك كل ما يستفيد الوجيه من وجاهته، قبحها الله وقبح كل ما تأتي به، فلا تحسد الوجيه على مظهره الكاذب وزخرفه الباطل، ولا تنفس عليه بؤسه الكامن وشقاءه الخفي، فهو أتعس خلق الله وأكثرهم همًّا وأثقلهم مئونةً، وأخسرهم حاضرًا ومستقبلًا؛ يكون عنده من الضياع أو العمائر جملةٌ لا تثمر له من المال أكثر مما يسع ترفيه نفسه وتربية أولاده وصلة رحمه فيسميه الناس وجيهًا. والوجاهة كلمة صغيرة معناها في نظر الناس كبير، كانمأ هي عندهم من جوامع الكلم. فالوجيه في اصطلاحهم هو الرجل الذي يمد لكل غريب نزل بلده مائدة، ويسبغ العطاء على كل عابر سبيل مر بحيه. ويشترك في جميع الجرائد والمجلات وإن كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب. ويبتاع تذاكر حفلات الجمعيات الخيرية على اختلاف ألوانها وأشكالها وإن كان لا ينتفع بواحدة منها. ويشترك في جمعية الرفق بالحيوان، وجمعيات الرفق بالإنسان، ويبتاع المؤلفات الحديثة التي يكلفه المدير أو المأمور بابتياعها وإن كانت في علم الأرتماطيقي أو علم المنطق وكان هو عمدة أو شيخ بلد، ولا تتم شروط الوجاهة عنده فيأخذ منها بالحظ الأوفر إلا إذا بذل للحكومة المعونة الكبرى في مشاريعه من بناء المستشفيات والمدارس والكتاتيب وأمثال ذلك، مما تضربه الحكومة علينا ضرب الجزية على أهل الذمة في سالف الأزمان، والتي لا فرق بينها وبين خراج الأطيان وعشور النخيل وعوائد الأملاك.
الكاتب : إنها تبرعات ومبرات لا إجبار فيها ولا إلزام، فالحكومة لا تشهر عليكم سلاحًا، ولا تعد لكم سجنًا، وكل ما في الأمر أنَّ رجالها يخطبون فيكم ويدعونكم إلى هذه الأعمال الصالحة بالحكمة والموعظة الحسنة.
الوجيه : لا أزال أكرر القول: إنَّ رجال الحكومة يضربون علينا ضرائب ليست في شرع ولا قانون، والوجيه في الحقيقة كالعبد في اصطلاح علماء التوحيد، مجبور باطنًا مختار ظاهرًا. أما الظاهر: فهو ما ترونه من إقامة المحافل وخطابة الخطباء، والتلطف في الطلب، وشكر المحسن على إحسانه. وأما الباطن: فهو أنَّ الوجيه منا — كما علمت — مفلس من جميع أنواع المجد إلا مجد الزلفى عند الحكام، والحكام يعرفون ذلك منه فيدخلون عليه من بابه، ولا يفتحون له باب القربى منهم إلا على مقدار ما يفتح من أبواب خزائنه لهم، فمنا من يزوره المدير أو المفتش؛ لأنه وهاب الآلاف، أو المأمور؛ لأنه من أصحاب المئات، ومن لا يزوره أحدٌ منهم ولا ينهض له إذا أقبل، ولا يشيعه إذا انصرف؛ لأنه لا يلبي دعوة، ولا يحضر مجمعًا، ولا يكتب رقمًا في قائمة اكتتاب، فلا يلبث أن يسلس قياده، ويصحب عناده. هذا هو الاستبداد الخفي الذي ترغم الحكومة به أنف الوجهاء من غير أن تشهر عليهم سلاحًا أو تعد لهم سجنًا، ولكنها تبلغ به في شهر واحد ما كانت تعجز عنه حكومة السجن والكرباج و«الوير كور» و«البطانطا» والعوائد الشخصية في عدة أعوام. ولقد راجعت صحيفة حسابي في هذا العام — عام الأزمة والجدب — فوجدت أني دفعت خراج الأطيان مرتين، ولا أعلم كم أدفعه في السنة الآتية.
الكاتب : هب أن الأمر صحيح كما تقول، فالحكومة لا تودع هذا المال خزائنها، ولا تقضي به غرضًا من أغراضها الخاصة، وإنما تنفقه فيما ينفع الأمة في تربيتها وتهذيبها، وتقدمها وارتقائها.
الوجيه : ذلك ما يجب أن تنفق عليه الحكومة من خزائنها التي تملأ من أموال الأمة لهذه الأغراض التي نذكرها، ولكنها تضن بمالٍ هي في حاجة إليه لإصلاح السودان وبناء العمائر وتشييد القصور، وترقية كبار الموظفين، خصوصًا الأجانب منهم، وإقرار عيون السياح الأوروبيين بالمناظر البهيجة والمشاهد الجميلة، فلا ترى لها بدًّا من حمل تلك الحمالات على أعناقنا بلا رحمة ولا شفقة ولا نظر إلى ما نتكبده في هذا السبيل مما يذيب الشحم، ويعرق العظم، وليتها كانت تتدرج في الطلب وتهادن فيه فتدارك في ذلك سياسة الحكومات السالفة المعروفة باستبدادها وإرهاقها، فقد حكي عن أحد رؤسائها أنه علم أنَّ أحد المديرين سلب أهالي مديريته المال دفعة واحدة، وأنهم ضاقوا به ذرعًا، فأحضره في مجلسه وأمر أن تنزع من لحيته شعرات متفرقة، فما أبه لذلك ولا احتفل، ثم أمر أن تنتزع من رأسه خصلة من الشعر مرة واحدة فصرخ وتألم، فقال له: هكذا يجب أن يكون أخذ الأموال من الرعية، متفرقًا تحتمله، لا مجتمعًا تتألم له.
الكاتب : حسبك من ذلك ثواب الله وأجره على إحسانك وَبَذْلِكَ المال في سبيله، ولَلآخرةُ خيرٌ وأبقى.
الوجيه : من أين يأتيني الثواب والأجر؟ وهل يثاب المرء إلا على قدر نيته وإخلاصه في عمله؟ وإني أعترف لك عني وعن جميع الوجهاء أمثالي بما عرفت من أحوالهم، ومارست من طباعهم، أننا لا نريد من بذل ما نبذل إلا رضا الحاكم والتودد إليه، وموافاة رغبته لاستكمال أسباب الوجاهة مرة، وقضاء المآرب والحاجات أخرى. ووالله لقد أفسد علينا هؤلاء القوم بخطتهم هذه غرائزانا وسجايانا، وعودونا من الرياء في الإحسان والنفاق في المعاملة خطة قست معها قلوبنا، واستحجرت أفئدتنا، حتى إن أحدنا لا يكاد يحسن بالدرهم الواحد إلى جاره البائس الفقير إلا أمام قاضٍ فطن وشهود عدول. وحتى زهد فينا الفقراء، ولوت المساكين وجوهها عن أبوابنا، وجفانا ذوو الرحم والأقرباء، وأصبحت قصورنا في نظرهم قبورًا يستدرون لها الرحمات، لا مناهل يرجون منها الصدقات، وأقفرت «مضايفنا» إلا من عربدة المطربشين، ورطانة المبرنطين، فمن أين لثواب الله أن يعرف طريقنا عافاك الله؟
الكاتب : أتغضبك كلمة الحق إن قلتها لك أيها الصديق؟
الوجيه : قل ما تشاء فقد ملأ الهم ما بين جوانحي فاستحجر قلبي حتى ما يغضبني حق ولا باطل.
الكاتب : أعجب ما رأيت من أمرك في حديثك معي أنك تعرف الحق وتتنكر له كأنك لا تعرفه، وتمد يدك إلى الصواب حتى تكاد تلمسه ثم تعجز عنه، فقد زعمت أن مجد القربى من أولياء الأمر باطل، ولقد أصبت فيما تقول، فما شأنك به؟ وما نهوضك إليه؟ وما لك واللصوق بأمر أنت تعلم قلة جدواه، وسوء مغبته؟ ولقد كان لك طريق مختصر إلى المجد الصحيح والشرف الصميم، لو كنت أكبر منك همةً، وأصح رأيًا، وأقوى عزيمةً. فمجد الكرم ليس بأقل شأنًا من مجد السيف والقلم، ولا أرى أنك كنت تنفق في سبيله إلا بعض ما أنفقت في هذا المجد الكاذب، وما كان يصيبك في الأول من الشقاء ما أصابك في الثاني؛ فالكريم معانٌ على أمره، مباركٌ له في عيشه متى صح له معنى الكرم، وكانت الرحمة غريزة من غرائزه تسوقه إلى تفقد الضعفاء ومواساة الفقراء، من حيث لا يبتغي على ذلك أجرًا سوى ما وعد الله به المحسنين من حسن المثوبة والأجر، ورفع الذكرى في الآخرة والأولى. ولكنكم بخلتم بأموال الأمة عليها واحتجنتموها من دونها، وأبت لكم همتكم الضعيفة أن يكون لكم — كما لأمثالكم في الأمم الأخرى — آثارٌ في بناء المدارس والملاجئ والمستشفيات تسمى بأسمائكم، وتسجل في صحيفة أعمالكم، فتنالون بها ما تريدون من مجد الدنيا والآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بأن سلط عليكم من يعبث بعقولكم، ويلعب بأهوائكم، ويرغمكم على الإحسان إرغامًا، من حيث له الغنم وعليكم الغرم، فلا ذكرًا حصلتم ولا مالًا حفظتم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤