المؤتمر الإسلامي

سرني منظر ذلك الرجل العظيم، والداعي الكريم، وهو قادمٌ إلى مصر يجتاز التخوم، ويتخطى البلدان، ويطوي الغبراء طي الكواكب الخضراء، يقوده الأمل، ويسوقه الرجاء، وبين جنبيه همهٌ عالية، ونفس كبيرة، وقلب مشيع، وفؤاد في الأفئدة كالنسر في الطيور، يحلق في جو الإسلام تحليق من يحاول أن يظلله بجناحيه.

سرني منظره، وإن لم أره، وهو قائمٌ بين جماعة المسلمين يحاول أن يرأب صدعهم، ويلم شعثهم، ويجمع كلمتهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويدعو إلى الله تعالى دعوة النبوة الأولى، إلا أن تلك عربيةٌ تدعو الأعجمية، وهذه أعجميةٌ تدعو العربية الفصحى.

هنا ذكرت الإسلام ومجده، والإسلام وجنده، والإسلام ودولته، والإسلام وصولته، وذكرت أبا بكر وهو يقاتل أهل الردة ويقول: والله لو منعوني عقال بعيرٍ لقاتلتهم عليه. وذكرت عمر وهو واقف في مرابض المدينة في حَمارَّةِ القيظ يستقبل شبحًا أسود يرفعه الآل ويخفضه، ويطويه الأديم وينشره، حتى اقترب منه فتبينه فإذا هو أعرابيٌّ قادمٌ من سواد العراق، فجعل يسايره وهو راجل والأعرابي راكب لا يعرفه، ويسأله ما فعل الله بسعد وجنده، فيحدثه القادم عن فتح القادسية والمدائن، وما أفاء الله به على المسلمين من عرش كسرى وذخائره، وتراث مرازبته ودهاقينه، وعمر لاهٍ عن نفسه سرورًا بما سمع، وفرحًا بما تم. وذكرت صلاح الدين وهو يقود الجحفل اللجب والجيش العرمرم، إلى حيث يستنقذ الثغور، ويستخلص الأمصار، ويخوض جمرة الحرب المتأججة ليفتدي بنفسه أجسامًا إن لم تلتهمها النيران فكأن قد. وذكرت محمدًا الفاتح وهو يلعب بكرة الأرض لعب الصبي بكرته، ويخترق بسفائن البحر رمال القفر، حتى نزل بالقسطنطينية نزول القضاء من السماء، وسجد في معبد «أيا صوفيا» سجدة الشكر لله على نعمته وحسن توفيقه. وذكرت صقر قريشٍ وقد طار من الشرق إلى الغرب فأنشأ وحده دولةً خضعت لها أفريقيا وبعض أوروبا. وذكرت مع أبطال الحرب أبطال السلم، فذكرت عمر بن عبد العزيز وعدله، والمأمون وفضله، والغزالي وحكمته، وابن رشد وفلسفته، ومعاوية وسياسته، وعبد الملك وكياسته. وذكرت مدارس بغداد، وبخارى، والإسكندرية، والقاهرة، وغرناطة، وأشبيلية، وقرطبة. وذكرت مترجمي كتب إقليدس وبطليموس وأرسطو، وواضعي علوم الجبر والمقابلة والكيمياء. وذكرت مخترعي البندول والبوصلة «بيت الإبرة» والساعة الدقاقة التي أهداها الرشيد إلى «شارلمان» ملك فرنسا، ففزع منها سامعوها فزعًا شديدًا وسموها شيطانًا رجيمًا، أو آلةً سحرية، أو مكيدة عربية … إلى كثيرٍ من أمثال هذه الآثار العربية، والمفاخر الإسلامية.

ثم ذكرت الإسلام إذ ضربه الدهر بضرباته ورماه بنكباته، أصبح أثرًا من الآثار، وخبرًا من الأخبار، وعليلًا حار فيه أطباؤه، وملَّه عواده، وظل مترجحًا بين داهيتين، ومضطربًا بين غايتين، إما أن يموت موتةً أبديةً وبالله العياذ، أو يحيا حياة مادية، لا حياة أدبية، وينهض جامعة تجارية، لا جامعة دينية، ما دامت المادة قاعدة الحكومات، وما دامت الحكومات عدوة الأديان، وما دامت الأديان لا تستطيع التحليق إلا في فضاءٍ من الحرية لا ينتهي البصر فيه إلى مدى؛ لذلك أحزنني عند سماع خطبة الخطيب ما يحزن الأشيب من ذكرى الشباب إذا عثر بين أوراقه البالية على رسائل الحب، وأناشيد الغرام، وأمضني ما يمض العاشق المفارق إذا مر بالآثار وأطلال الديار فرأى النؤي والأحجار، وموقد النار، ومجال الخيول، ومجر الذيول، فذكر ما كان ناسيًا، وهاج من وجده ما كان كامنًا، فبكى واستعبر.

وود بجدع الأنف لو عاد عهدها
وعاد له فيها مصيف ومربع

ليست الجاهلية الأولى بأحوج إلى الإصلاح الديني من الجاهلية الأخرى، بل ربما كانت هذه أحوج من تلك إليه.

كانت الجاهلية الأولى تعبد الأوثان لتقربها إلى الله زلفى، وجاهليتنا تعبد الأحجار والأشجار، والأحياء والأموات، والأبواب والكوى، والقواعد والأساطين تبركًا، أو تقربًا، لفظان مترادفان، مختلفان لفظًا متفقان معنًى، ومن ظن غير ذلك فقد خدع نفسه.

كانت الجاهلية الأولى متفرقةً قبائل وشعوبًا، وجاهليتنا متفرقة منازل وبيوتًا، بل آحادًا وأفرادًا، فلا تراحم ولا تواصل، ولا تعارف ولا تعاطف حتى بين الأخ وأخيه، والأب وبنيه.

كانت جاهليتهم تسفك الدماء في طلاب الأوتار، وجاهليتنا تسفكها في سبيل السرقات وقضاء الشهوات، وكان أفظع ما في جرائمهم وأد البنات، فصار أخف ما في جرائمنا الانتحار، وكان بعضهم يبغي على بعضٍ بسرقة ماله، أو استياق ماشيته، ففعلنا مثل ما فعلوا، وفوق ما فعلوا، ثم فضلناهم بعد ذلك بتزوير الأوراق، وتحريف الصكوك، وتقليد الأختام، والبراعة في النصب والاحتيال، يكاد يستوي في ذلك العالم والجاهل، والشريف الهاشمي والفلاح القروي.

وليتنا إذ أخذنا جاهليتهم أخذناها كما هي رذائل وفضائل فيهون على المصلحين أمرها، ولكنا أسأنا الاختيار، فلنا خرافاتهم الدينية وأدواؤهم الاجتماعية، وليس لنا كرمهم ووفاؤهم، وغيرتهم وحميتهم، وعزتهم ومنعتهم، فكيف لا يكون الأمر خطيرًا؟ وكيف لا تكون الجاهلية الأخرى أحوج إلى دعوة كدعوة النبوة من الجاهلية الأولى؟

نبئني عن الإسلام أين مستقره ومكانه؟ وأين مسلكه ومضطربه؟ وفي أي موطنٍ من المواطن حل، ومعهدٍ من المعاهد نزل؟ أفي الحانات والمواخير التي يغص بها الفضاء، وتئن منها الأرض والسماء، والتي ينتهك فيها المسلمون حرمات دينهم بلا خجل ولا حياء، كأنما هم يشربون الماء الزلال، ويغشون البضع الحلال؟ ولقد هان عليهم أمر نفسهم حتى لو وجدوا بينهم من يرى التقيَّة في عمله، أو الاحتشام في أمره، سموه جبانًا جامدًا، أو متكلفًا باردًا، كل ذلك على مرأًى ومسمعٍ من الحكومة الإسلامية، والمعاهد الدينية، والقضاءين الشرعي والنظامي؟

أم في حوانيت الباعة حيث الغش الفاضح والغبن الفاحش مزخرفًا بالأقوال الكاذبة والأيمان الباطلة؟

أم في مجالس الأحكام حيث للدينار الأحمر السلطان الأكبر على سلطان العدل وسلطان الذمة وسلطان الشرائع، اللهم إلا ما كان من تلك الألواح المكتوبة فيها «العدل أساس الملك.» أو «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»؟

أم في المساجد حيث يعتقد المصلون أنه لو كان بين الصلاة والصلاة مائة عام، وكانت تلك الأعوام مملوءة بالآثام والجرائم، والمفاسد والمظالم لكفت تلك الحركات — التي يسمونها صلواتٍ، ويحسبونها حسنات — لغفران تلك السيئات؟

أم في معاهد الدين حيث يتلقى المتعلمون الدين جسمًا بلا روح، وعلمًا بلا عمل، كأنما يتلهون بدراسة إحدى الشرائع الداثرة، أو أحد الأديان الغابرة، وحيث يتلقون كشكولًا عجيبًا وخلقًا غريبًا من الأكاذيب والترهات، فلا تكاد تسمع من أفواههم إلا حديثًا موضوعًا، أو قولًا مصنوعًا، أو خرافةً تاريخية، أو بدعةً دينية، وحيث يقضون حياتهم في المناظرات والمجادلات، والتحاسد والتباغض، والتقاطع والتدابر، وهي بعينها الأخلاق والرذائل التي ما جاءت الأديان إلا لمحاربتها والقضاء عليها، فهم يهدمون من حيث يظنون أنهم يبنون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا؟

أم في مجالس المتصوفة حيث الألعاب الجمبازية، والحركات البهلوانية والسرقات باسم العادات، وانتهاك الحرمات بعنوان البركات؟

إن أراد المصلحون لأنفسهم نجاحًا، وللإسلام صلاحًا، فليبدءوا عملهم بتهذيب العقائد الدينية، وتربية النشء الحديث تربيةً إسلامية لا تربية مادية؛ أي أنهم يدخلون إلى الإصلاح من باب الدين لا من باب الفلسفة، حتى يجمعوا للمسلمين بين صلاح حالهم ومآلهم، ودنياهم وآخرتهم، وحتى يكون الدين هو الزاجر والمؤدب، والمعلم والمهذب، فالإسلام وإن كان دين العقل والفطرة، والتهذيب والإصلاح، إلا أن الخطر كل الخطر على المسلمين أن يكون في نظرهم تابعًا للعقل، وأن يكون العقل هو الحكم بينهم وبينه. والخير كل الخير في أن يكون الدين حاكمًا والعقل مفسرًا ومبينًا. فإذا تم ذلك للمصلحين بالرفق والأناة والحكمة والسياسة فقد تم لهم كل شيء، وتم للمسلمين ما يريدونه من الجامعتين الدينية والسياسية، كما تم لهم ذلك في العهد الأول من هذا الباب نفسه، وفي هذه الجادة المستقيمة، فهل يستطيع دعاة الإصلاح في الجاهلية الحاضرة أن يكونوا كدعاته في الجاهلية الأولى؟ وهل يستطيعون أن يخلصوا لله في عملهم جادين مثابرين، لا تأخذهم فيه هوادةٌ، ولا عنه سِنةٌ، وألا يرى أحدهم لنفسه على أخيه فضلًا إلا بالإيمان والتقوى، وأن يرى كل منهم نفسه بمنزلة المجاهد في سبيل الله، يتحمل الأذى ويستسهل الوعر، ويحتمل الكريهة، ولا يجعل لليأس إلى قلبه سبيلا، ولا للهوان على نفسه سلطانًا؟

هل يستطيع المصلحون أن يكونوا كذلك ليصلحوا في الآخرين ما أصلح المصلحون في الأولين؟ «لست أدري ولا المنجم يدري»:

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله فاعل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤