الأجواء

ما زلت مذ حدثت تلك الحادثة الكبرى التي رجف لها قلب مصر، وسالت لها دموع الفضيلة حزنًا وأسًى، وتحدث المتحدثون عن أولئك الفتيات الساقطات اللواتي يعشن في تلك السجون العميقة التي يسمونها بيوتًا عيش البؤس والفاقة، أعجب لهن ولأمرهن، وأقول في نفسي: ليت شعري لم يرضين لأنفسهن هذه الحياة الشقية النكدة التي لا يجدن فيها علالةً من العيش يتعللن بها عما فقدن من شرفهن وكرامتهن، ولم يصطبرن على ظلم ذلك الرجل الجبار الذي يستبد بهن، ويستأثر بجميع شئونهن ومصالحهن، ويسوقهن بين يديه سوق الراعي ماشيته؟ ولم لا يهربن من وجهه ويذهبن في مذاهب الأرض حيث شئن يطلبن لأنفسهن الحياة في جو مطلق؟ والأجواء الحرة المطلقة كثيرة، وأسباب العيش فيها متنوعة، وما على وجه الأرض جوٌّ أسوأ من جوِّهنَّ الذي يعشن فيه فيخفنَ أن يصرنَ إليه. ولم أصدق ما يقوله بعض الناس في تأويل ذلك من أنَّ ذلك الرجل الجبار قد ضرب حولهن نطاقًا من بأسه وقوته فلا سبيل لهن إلى اختراقه، ففي البلد حكومة نظامية لا تسمح بقيام حكومة أخرى بجانبها. أو أنه وضع في أعناقهن أغلالًا من الديون وليس في وسعهن أن يبرحن مكانهن حتى يؤدينها، فإن من لا يبالي بحق الله ولا حق عرضه لا يبالي بحقوق الناس. ولم أزل في حيرتي هذه حتى قرأت بالأمس قصةً وقفت منها على سر هذا الخُلق الغريب في النساء، فأنا أروي لك خلاصتها لتقف منها على مثل ما وقفت.

•••

توفيت زوج أحد الدوقات العظام في فرنسا فحزن عليها حزنًا شديدًا؛ لأنها كانت أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه. فكان يروح عن نفسه بالاختلاف إلى الأندية الخاصة والعامة حتى ملها وسئمها. فمر بخاطره يومًا من الأيام أن يزور حي «مونمارتر»، وهو القرارة التي تنصب فيها جميع قاذورات باريس الاجتماعية وفضلاتها، فظل سائرًا بمركبته يستطرق من زقاقٍ إلى زقاقٍ ومن معبرٍ إلى معبر حتى وقف بباب خانٍ في زقاقٍ مظلم مهجورٍ سمع من داخله ضوضاء عظيمةً تكاد تتصدع لها أركانه، فانحدر إليه وأطل من بابه فوقع نظره على طوائف كثيرةٍ من الصناع والعمال والغوغاء والمتبطلين والمتشردين وأشباه اللصوص والمجرمين، ما بين قائم وقاعد، وصائحٍ وهاتفٍ، وممسكٍ قدحه بيده يجرع منه الجرعات الكبار ويصرخ صراخ المجانين، ولابطٍ بالأرض قد بلغ منه السكر مبلغه فكبه على وجهه، وراقصٍ يوقع حركات قدميه على نغمة شبَّابةٍ ينفخ فيها آخر. وقد عقدت الأبخرة المتصاعدة في سماء الحان سحبًا متكاثفةً يرى الرائي من خلالها بعد لَأْيٍ مائدةً خشبيةً مستديرةً في وسط المكان ترقص عليها فتاة بائسةٌ عارية الثياب إلا قليلًا، وتنثر على الناس نثاراتٍ من الورق الرقيق الملون، والناس من حولها طائرون بها فرحًا، يداورونها، ويعابثونها، ويخاطبونها بأقبح ما خاطب به أحدٌ أحدًا. وربما مد بعضهم إليهم يده فجذبها من ثوبها جذبًا شديدًا حتى يكاد يزلقها من مكانها، أو دفعها في صدرها بعصاه فآلمها، وهي تبتسم مرة وتقطب أخرى. فلم يدرِ الرجل أهو في مارستان من مارستانات المجانين، أم في حظيرةٍ من حظائر الوحوش الضارية، ولكنه رأى على كل حال منظرًا غريبًا لم يرَ مثله قط، وسكن إليه، وكذلك الملول، يعجبه كل ما يطرد عن نفسه عادية الملل ولو كان منظر الجحيم. فانتبذ في الحال مكانًا قصيًّا، وجلس إلى مائدةٍ منفردة، وألقى نظره على تلك الفتاة الراقصة فإذا هي رائعة الجمال، إلا أنه جمال مبعثر مذال، كما يعثر العاثر باللؤلؤة الثمينة بين القمامات المجتمعة. فلا زال ناظرًا إليها لا يقلع حتى فرغت من رقصتها، ونزلت تدور بعينها علَّها تجد من يدعوها إلى لقمةٍ تسد جوعتها، أو كأسٍ تبلُّ بها غلتها، حتى مرت على مقربة من الدوق، فدعاها للجلوس معه، فاستطيرت فرحًا وسرورًا؛ لأنها لم ترَ قبل اليوم زائرًا مثله في فخامة هيئته، وجلال منظره.

وأخذ يتحدث إليها ويسائلها عن نفسها، فعلم أنها تكابد أشد ما كابد امرؤٌ قط في حياته من بؤسٍ وشقاء، وقد سمع في صوتها نغمةً تختلف بعض الاختلاف عن تلك النغمة الفاجرة الوقحة التي يسمعها السامعون من أفواه النساء الفاجرات، فوقع في نفسه أنه إن أنقذ تلك الفتاة المسكينة المتألمة من بؤسها وشقائها فقد أحسن إليها وإلى الإنسانية إحسانًا عظيمًا. فسألها ألها بأحدٍ من الناس صلة من زواج أو مخالَّةٍ؟ فأطرقت برأسها وأجابت أن لا، فعرض عليها رأيه الذي رآه لها، فاستطارت به فرحًا وسرورًا، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى كانت بجانبه في مركبته بها فسار إلى منزله.

وهناك تغير من شأنها كل شيءٍ، فأصبحت تلك الفتاة البائسة المسكينة الضاوية الصفراء ذات الأسمال البالية، والقبعة القذرة، والحذاء المرقع، سيدة فخمةً يتلألأ وجهها بنور العزة والكرامة، وتسيل على أعطافها مخائل النعمة والرفاهية، حتى ظن كثير من الناس أنها من ذوات الشأن في الحياة، وأنَّ الدوق يوشك أن يتزوج منها.

وكان الدوق يعيش وحده في قصره لا يعاشر إلا خدمه، ولا يختلف إليه إلا القليل من أصدقائه من حين إلى حين؛ لأنه كان منقطعًا لا زوج له ولا ولد، ولا قريب ولا نسيب، فكانت «مارسيل» ملهاته التي يتلَّهى بها في وحدته، وأنسه الذي يأنس به في وحشته. وكانت هي سيدة المنزل والآمرة الناهية فيه، لا ينازعها في ذلك منازع. وظل الأمر بينهما على ذلك شهورًا عدة.

وكانا يخرجان أصيل كل يوم في مركبتهما إلى ضاحية المدينة يرتاضان في غاباتها وبساتينها ساعة أو ساعتين ثم يعودان، فإنهما لعائدان ليلةً من الليالي من متنزههما إذ مرت بهما المركبة على مقربة من حي «مونمارتر» فاقترحت عليه «مارسيل» أن يمرا بذلك الحي ليلهوا بمناظره الغريبة، ومشاهده العجيبة، فأذعن لرغبتها. وظلا سائرين يخترقان شوارعه وأزقَّته حتى بلغا الحان الذي وجدها فيه، فطلبت إليه أن يأذن لها بدخوله لترى ما حل بأصحابه وزائريه من بعدها، فلم يرَ في ذلك بأسًا، ودخل معها، فوجداه على هيئته التي تركاه عليها. واتجها إلى بعض الموائد المنفردة فجلسا إليها، فما وقع نظر الناس على مارسيل حتى هاجوا هياجًا عظيمًا، وهتفوا لها هتافًا شديدًا، وأقبلوا عليها يحيونها ويعتنقونها، وهي تبسم لهم، وتعطف عليهم، وتطرب لنغمات أحاديثهم الوحشية المزعجة، ثم لم يلبثوا أن جذبوها من مكانها، وأصعدوها إلى المائدة لترقص لهم، فكأنما ثارت في نفسها ثائرة الطرب القديم، فرقصت وافتنت في رقصها ما شاءت، حتى أتمت دورها، ثم نزلت وودعتهم وداعًا لطيفًا وانصرفت هي والدوق.

وهنا بدأت تشعر بمللٍ شديدٍ من حياتها الحاضرة التي تحياها في قصر الدوق، حتى أصبح يخيل إليها أنَّ هذا القصر الذي تعيش فيه إنما هو سجن، وأنَّ هذا الرجل الذي يحبها ويكرمها وينزل على حكمها في جميع ما تحب وتشتهي إنما هو سجانها، وأنَّ هذا السكون الذي يحيط بها إنما هو سكون الموت الذي يخيم في فضاء القبور. فكانت إذا خلت بنفسها تراءى لها في فضاء خيالها منظر الحان ومنظر زائريه، وموقفها فوق المائدة الخشبية بين جماعة الأشرار والغوغاء وهم يجاذبونها ثوبها، ويشدون يدها، ويصبون عليها فضلات كئوسهم، فتطرب لتلك الحياة الهائجة الثائرة، وتحن إليها حنين العاشق المفارق. ولم تزل هذه الفكرة تنمو في نفسها شيئًا فشيئًا حتى أخذت مكانها من قلبها، فعزمت على الفرار بنفسها والعودة إلى عيشتها الأولى، فنهضت من فراشها ذات ليلةٍ والقصر ساكن هادئ قد هجع كل من فيه، فخلعت أثوابها وحلاها وألقتها على بعض المقاعد، وارتدت بدلًا منها أثوابها الأولى التي جاءت بها، وكانت لا تزال ملقاةً في بعض الغرف، وتسللت من باب القصر من حيث لا يشعر أحدٌ بمكانها، وأخذت سبيلها إلى حي مونمارتر.

وهكذا قضي عليها أن تشقى، بل هي التي قضت بنفسها على نفسها.

ولقد كان أسف الرجل عظيمًا جدًّا حينما تفقدها في صباح اليوم الثاني فلم يجدها، خصوصًا عندما رأى ثيابها وحلاها ملقاةً على بعض المقاعد وعلم أنها هي التي آثرت الفرار واختارته لنفسها، فبكاها كثيرًا، وعادت له وحشته التي كان يعالجها من قبل.

ومر على ذلك عام وبعض عام، وبينما هو مقبلٌ على قصره في ليلةٍ من الليالي إذ لمح على عتبة الباب امرأةً مسكينة تئن وتتوجع، وتحاول أن تمد يدها إلى حلقة الباب لتطرقه فلا تستطيع، فدنا منها ليتبينها فإذا هي مارسيل، أو هي شبحٌ متهافتٌ باقٍ منها. فلما أحست به مدَّت ذراعيها إليه وقالت له بصوتٍ خافتٍ ضعيف: اغفر لي ذنبي يا مولاي! فدهش لمنظرها دهشةً شديدةً، ورق لحالتها، فأمر الخدم بحملها إلى القصر، فحملوها إلى غرفتها التي كانت تنام فيها، وهي في حالة من البؤس والشقاء تذيب الأكباد، وتستذرف الدموع. ثم جلس إليها يسائلها عن شأنها، فقالت: إنها مريضةٌ مدنفة منذ شهورٍ عدةٍ، وإنها قد عجزت عن أن تجد سبيلًا إلى علاجها من دائها لفقرها وفاقتها، فما زال المرض يأخذ منها مأخذه حتى مزق صدرها تمزيقًا، فلم تجد بدًّا من أن تأتي إليه لتستغفره من ذنبها وتسأله أن يعينها على أمرها؛ لأنها لا تعرف في الدنيا لها راحمًا سواه. فسألها لمَّ فرت من قصره، وما الذي كانت تنقمه منه؟ فقالت: لا أعلم، وإنما هو قدرٌ قدره الله ولا حيلة لامرئ فيما قدره وقضاه. فسألها أين كانت تعيش بعد فرارها، قالت: في المكان الذي أنقذتني منه، فأبيت لشقوتي وبلائي إلا أن أعود إليه لتنفذ فيَّ إرادة الله. فرثى لحالها، وأمر باستدعاء الطبيب لينظر في أمرها، فلم يستطع الطبيب أن يصنع شيئًا؛ لأنه جاء بعد فوات الأوان، وما أصبح الصباح حتى صعدت روحها إلى خالقها، وخلَّفت للدوق حسرةً فوق حسرته الأولى بوفاة زوجته، فلم ينتفع بحياته طويلًا بعد ذلك.

لكل جوٍّ من الأجواء رائحةٌ خاصةٌ به يألفها أصحابه ويستنيمون إليها. فَحُولُوا أيها الرجال بين نسائكم وبين تلك الأجواء الخبيثة، ولا تقولوا إنهن سيجزعن منها ويهجرنها حين يستنشقن رائحتها، فالرائحة الخبيثة لا يتألم منها إلا البعيد عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤