أهناءٌ أم عزاء؟

فارق مصر على أَثَرِ الدستور العثمانيِّ كثيرٌ من فضلاء السوريين بعدما عمروا هذه البلاد بفضائلهم ومآثرهم، وصيَّرُوها جنةً زاخرةً بالعلوم والآداب، ولقَّنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعدما كانوا فينا سفراءَ خيرٍ بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية، يأخذون من كمال الأولى ليتمموا ما نقص من الأخرى، وبعدما علَّموا المصريَّ كيف ينشط للعمل، وكيف يَجِدُّ في سبيل العيش، وكيف يثبت ويتجلَّد في معركة الحياة.

قضوا بيننا تلك البرهة من الزمان يحسنون إلينا فنسيء إليهم، ويعطفون علينا فنسميهم تارةً دُخَلَاءَ وأخرى ثُقلاء، كأنما كنا نحسب أنهم قومٌ من شُذَّاذِ الآفاق أو نفايات الأمم، جاءوا إلينا يصادروننا في أرزاقنا، ويتطفَّلون على موائدنا. ولو أنصفناهم لعرفناهم وعرفنا أنَّ أكثرهم من بيوتات المجد والشرف، وإنما ضاقت بهم حكومة الاستبداد ذرعًا، وكذلك شأن كل حكومةٍ مستبدةٍ مع أحرار النفوس وأباة الضَّيْمِ، فأحرجت صدورهم، وضيقت عليهم مذاهبهم، ففروا من الظلم تاركين وراءهم شرفًا ينعاهم، ومجدًا يبكي عليهم، ونزلوا بيننا ضيوفًا كرامًا، وأساتذةً كبارًا، فما أحسنا ضيافتهم ولا شكرنا لهم نعمتهم.

وبعد … فقد مضى ذلك الزمن بخيره أو شره، وأصبحنا اليوم كلما ذكرناهم خفقت أفئدتنا مخافةَ أن يلحق باقيهم بماضيهم، فلا نعلم أنشكر للدستور أنْ فَرَّجَ عنهم كربتهم وأمَّنهم على أنفسهم وردَّهم إلى أوطانهم؟ أم نَنْقِمُ منه أن كان سببًا في حرماننا منهم بعد أُنسنَا بهم، واغتباطنا بحسن عشرتهم وجميل مودتهم؟ ولا ندري هل نحن بين يدي هذا النظام العثمانيِّ الجديد في هناءٍ أم عزاء؟

فيا أيها القوم المودِّعُونَ، والكِرَامُ الكاتبون:

اذكرونا مِثْلَ ذكرانا لَكُمْ
رُبَّ ذكرى قرَّبت مَن نزحا
واذكروا صبًّا إذا غَنَّى بكم
شرب الدمع وعاف القَدَحَا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤