العَبَرات

كنت أغبط نفسي على التَّجَلُّدِ والصبر، وأحسبني قادرًا على الاستمساك في كل رُزْءٍ مهما جلَّ شأنه وعَظُمَ وقعه، فلما مات مصطفى كامل علمتُ أنَّ من الرزايا ما لا يُطاق تجرعه، ولا يستطاع احتماله.

كلَّ يوم نرى الموت، ولا نزال نَعُدُّ الموت غريبًا، هيهات! لا غرابة في الموت، ولكن الغريب موت الغريب.

كل يوم تمر بنا قوافل الموتى فلا نأبه لها، وأكبر نصيبها منا الحوقلة والاسترجاع، فلما مرت قافلة مصطفى كامل، دهشنا وجزعنا؛ لأنه كان غريبًا في حياته، فَأَحْرَى أن يكون غريبًا في مماته.

مات مصطفى كامل فعرفنا الموت، وما كنا نعرفه قبل ذلك؛ لأننا ما كنا نرى إلا أمواتًا يُنْقَلُونَ من ظهر الأرض إلى باطنها، أمَّا مصطفى كامل فكان حيًّا حياةً حقيقية، فكان موته كذلك.

لا يحسب الكاتبون أنهم صنعوا شيئًا إذا بذلوا لذلك الفقيد العظيم قطرةً من الدمع، أو قطرةً من المداد، فإنه كان يبذل لهم ماء حياته قطرةً قطرةً حتى أفناه ومضى لسبيله، فشتان ما بين صنيعهم وصنيعه!

أين قطرات الدموع التي يريح بها الباكون أنفسَهم، أو قطرات المداد التي يُرَصِّعُ بها الكتاب أقلامهم، من قطرات الحياة التي أراقها مصطفى كامل في سبيل وطنه وأمته؟!

كان مصطفى كامل سراجًا كبير الشعلة، وكلُّ سراجٍ تكبر شعلته يفرغ زيته وشيكًا، وتحترق ذبالته فينطفئ نوره.

كان مصطفى كامل نَشِطًا سريع الحركة، فقطع جسر الحياة في لحظة واحدة.

كان الوطنيون قبل اليوم يتكلمون، فلما جاء مصطفى كامل علَّمهم كيف يصيحون، فلما صاحوا وأسمعوا عرفوا أنَّ آذان السياسة لا يخترقها إلا الصوت الجَهْوَرِيُّ، ولولاه ما كانوا يعرفون.

كان الوطنيون يحتقرون أنفسهم ويسيئون الظن بها، فلا يصدِّقون أنَّ تربة مصر تُنبت أمثالَ فولتير وهوجو وغاريبالدي وواشنطون، فلما نبغ بينهم مصطفى كامل عرفوا أنَّ تربة مصر لا تختلف كثيرًا عن تربة أوروبا لو تعهدها الزارعون.

كان لمصطفى كامل أنامل أشبهَ شيءٍ بريشة الموسيقار يضرب بها على أوتار القلوب، وكأنما كان بينه وبينها سلكٌ كهربائيٌّ، فهي تتحرك بحركته، وتسكن بسكونه.

ما كان مصطفى كامل أذكى الناس، ولا أعلم الناس، ولا أعقل الناس، ولكنه كان أشجع الناس، كان يفكر فيقتنع، فيصمم، فيمضي، فلا ينثني حتى الموت. كان يُخطئ أحيانًا في اتخاذ الوسائل إلى آماله، ولكنه ما كان يتمهَّل كثيرًا ليتبين أيَّ طريقٍ يأخذ، ولا أيَّ مسلكٍ يسلك. مخافة أن تفتر هِمَّتُه بين الأخذ والرد، فيكون خطؤه في قعوده أكثر من خطئه في جهاده.

كان له منافسون يرمونه بالخفَّة والطيش، ويقولون له: إنك مخطئٌ أو مضرٌّ، أو غير محسنٍ، أو غير عظيم، فما كان يصدق من ذلك شيئًا، كأنما كان ينظر بعين الغيب إلى هذا اليوم الذي اتفق فيه أصدقاؤه وأعداؤه وخصومه وأولياؤه أنه رجل عظيم.

ما كان مصطفى كامل من الأغنياء، ولا من بيت المُلْكِ، وما كان آمرًا ولا ناهيًا، ولا رافعًا ولا خافضًا، ولكنه لقي من إجلال الناس لموته وإعظامهم لمصيبته ما لم يلقَ واحدٌ من هؤلاء، ولا فضل لهم في ذلك عليه، فهو الذي عَلَّمَهم كيف يحترمون العقول، وَيُجِلُّونَ المناقب والمزايا.

فيا أيها القارئ الكريم، إن كان لك وَلَدٌ تحب أن تجعله رجلًا، فاجعل بين يديه حياة مصطفى كامل ليتعلم منها الشجاعة والإقدام.

ويا أيها المصري، كن أحرص الناس على وطنيتك، ولا تبغِ بها بدلًا من عرض الدنيا وزخرفها، فإنك إن فعلت كنت مصطفى كامل.

ويا أيها الإنسان، أقدم على عظائم الأمور ولا تلتفت يمنةً ولا يسرة، واخترق بسيف شجاعتك صفوف المعترضين والمنتقدين والمتهكمين، فإنهم سيعترفون بفضلك ويُسَمُّونك عظيمًا، كما سَمَّوا مصطفى كامل.

ويا أيها الراحل المودَّع، إنَّ بين جنبيَّ لوعةً تعتلج لفراقك لا أعرف سبيلًا إلى التعبير عنها إلا القلم.

هأنذا أعالج القلم علاجًا شديدًا على أن يسعفني بحاجتي، وهأنذا أقلبه ظهرًا لبطن وأكثر من استمداده وأضغط به على القرطاس ضغطًا شديدًا، فلا أراه يغني عني شيئًا.

خطر لي أنَّ الحزن في سويداء القلب، وأنه بعيد الغور لا تبلغ إليه هذه الأداة القصيرة التي في يدي فاستبدلت بها أداةً أطول منها، فكان حكمها حكم سابقتها.

إذن كيف أعبر عن وجدي عليك أيها الفقيد الكريم، وقد خرس القلم وعي اللسان؟! الآن عرفت السبيل، ووصلت إلى ما أريد.

أنت الآن في عالم الأرواح وقد انكشف لك كل شيءٍ من أسرار القلوب ودخائل الصدور، ولا بدَّ أن يكون قد انكشف لك ما يُكِنُّ قلبي من الوجد عليك، فما حاجتي بعد ذلك إلى ترجمة القلم أو تعبير اللسان.

أيها الراحل المودع: طبتَ حيًّا وميتًا، خَدَمْتَ أُمَّتَكَ في حَياتِكَ وبعد مماتك، لولا حياتك ما نَمَتِ العاطفة الوطنية في نفوس المصريين، ولولا مماتك ما عرف العالم بأجمعه أنَّ الأمة المصرية — على اختلاف مشاربها ومذاهبها — تجمعها كلمةٌ واحدة، وهي حب الوطن، وحب رجاله العاملين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤