على سرير الموت

مررت منذ سنواتٍ على باب منزلٍ في أحد أزقة القاهرة، فرأيت حوله مجتمعًا حافلًا تصطك فيه الأقدام بالأقدام، وتمتزج فيه الأنفاس بالأنفاس، وقد تخلله قومٌ من رجال الشرطة، وسمعت قائلًا يقول: «قبح الله الانتحار!» وآخر يقول: «أحسبه شابًّا غريبًا لأني لم أرَ عينًا تدمع عليه.» فعرفت مجمل القصة، وأنَّ في هذا المنزل شابًا غريبًا منتحرًا، وأنَّ هذا الحادث سبب هذا الاجتماع.

لم أقنع بالإجمال، فأحببت معرفة التفصيل، فحاولت الدخول إلى المنزل فما استطعت، فتريثت حتى جاء ضابطٌ أعرفه من ضباط البوليس، فدخلت معه. وهنالك رأيت على سرير الموت شابًّا في نحو العشرين من عمره، رقيق الجسم، أصفر اللون، لم تستطع يد الموت أن تمحو كل آثار جماله، بل بقيت منه بعد الموت بقيةٌ كتلك البقية من الرائحة العطرة التي يستنشقها الإنسان في الزهرة الذابلة.

اهتم الضابط بملابسه، لعله يجد فيها ما يدل عليه أو على سبب انتحاره، واهتم الطبيب بالميت ليعرف علة موته، وجلست بجانبه جِلسة الكئيب المحزون أفكر في مصيبته، وأندب شبابه وجماله، فلمحت حول السرير أوراقًا منثورة، فجمعتها ووضعتها في محفظتي من حيث لا يشعر الضابط ولا الطبيب.

قرر الطبيب أنه منتحر بشرب سائلٍ سامٍّ، وقرر الضابط نقل جثته إلى المستشفى، فنُقلت وانفض الجمع المزدحم، ثم لم أعد أعلم بعد ذلك من أمره شيئًا.

خلوت بنفسي والأوراق فنثرتها فرأيتها مجموعة خواطر عاشق تناول كأس الحب بيده، فارتشف منها الجرعة الأولى فوجدها حلوة المذاق، فاستمر في شأنه يشرب ولا يرفع الكأس عن فمه، فلم يشعر بالمرارة المتجددة في الجرعات الأخرى حتى أتى على آخر جرعة، فإذا هي السم الناقع الذي قتله وذهب بحياته.

قرأت تلك المفكرات فبكيت بكاءً رحمت نفسي منه، ثم طويتها وألقيت بها في بطون الأعوام وبين ودائع الأيام.

وبينا أنا أقلب أوراقي ليلة أمس إذ عثرت بها في ملفٍّ صغير قد اصفر لونه لتقادم العهد عليه كما يصفر الكفن حول الجثة البالية، فشعرت برعدةٍ تتمشى في أعضائي حينما تخليت أنها في هذا السفط شبح كاتبها في ذلك القبر.

ثم عدت إلى نفسي، فنشرتها للمرة الثانية، وأعدت قراءتها، فرأيت قلب العشق مرسومًا فيها رسمًا صحيحًا في حالي سعادته وشقائه، وهأنذا أنشرها في الناس لتكون عبرةً يعتبر بها المخاطرون بقلوبهم في هذا السبيل، سبيل الحب القاتل.

١

رأيتها فأحببتها، وما كنت أعرف الحب من قبلها.

كان قلبي في ظلامٍ حالك لا يرى حتى نفسه، فلما أشرق فيه الحب أشرقت فيه شمسٌ ساطعةٌ منيرة، لها من الشمس نورها وجمالها، وليس لها منها حرارتها ولذعاتها.

كنت أشعر كأن قلبي في صحراء هذه الحياة وحيدٌ موحشٌ لا يعرف القلوب، أو يعرفها ثم ينكرها. فلما أحببت رأيت بجانب قلبي قلبًا لاصقًا به يخفق لخفقانه ويتحرك بحركته، فكنت أجد بين جوانحي من السرور والهناء واللذة والاغتباط ما لو قسم على القلوب جميعها ما خالطها حزنٌ ولا مسها ألم.

كنت أسمع باسم السعادة ولا أفهم معناها، غير أني كنت أسمعهم إذا ذكروها ذكروا بجانبها القصر والحديقة، والفضة والذهب، والسلطة والجاه، والشهرة والصيت، فلما أحببت اعتقدت ألا سعادة غير الحب، وأيقنت أنَّ الناس جميعًا يطلبون سعادة الأجسام لا سعادة الأرواح، فمثلهم كمثل الدفين المكفن بالحرير والديباج، وباطنه مسرح الدود، ومرتع الهوام والحشرات.

٢

أحببتها قبل أن أعرفها، أو أعرف شأنًا من شئونها سوى أنها تحبني، فكأني ما منحتها قلبي إلا لأنها منحتني قلبها، وهو ثمنٌ قليلٌ في جانب هذه المنحة الغالية التي ما كنت أحدث نفسي بها، ولا كانت تستطيع أن تمثلها في عيني خواطر الأماني، ولا سوانح الأحلام. عشت دهرًا طويلًا بين أقوامٍ لا يعنيهم أمري، ولا يهمهم شأني، وذقت من آلام الحياة وشقاء العيش ما لا يستطيع أن يحتمله بشرٌ، فسمعت من يسألني: كيف حالك؟ ومن يقول لي: ما أشد جزعي لمصابك! ومن يتباكى رحمةً بي وحنانًا عليَّ، ولكن لم أرَ بجانبي عينًا تدمع ولا قلبًا يخفق.

رأيت من يحب جمالي كما يحب تمثالًا متقن الصنع، ورأيت من يحب مالي كما يحبه في كيسه أو خزانته، ورأيت من يعجب بحديثي كما يعجب بروايةٍ بديعةٍ، ولكن لم أرَ في حياتي من يحبني.

أما اليوم، فقد وجدت بجانبي القلب الذي يخفق لأجلي، والعين التي تدمع عليَّ، والنفس التي تحبني لا لشيءٍ سواي، فقليلٌ لها مني أن أمنحها حياتي، فكيف أبخل عليها بقلبي؟

٣

خلوت بها للمرة الأولى، فحدثتني نفسي أن أمد يدي إلى يدها، فأضعها على صدري، لأطفئ بها غلتي، فما لمستها حتى نظرت إليَّ نظرة العاتب اللائم، وقالت: كن رجلًا في حبك، واترك الطفولة لغيرك، إن كنت تحبني لنفسي، فهأنتذا قد ملكتها عليَّ، وأحرزتها دوني حتى لا أعرف لي فيها مأربًا، وإن كنت تحبني لهذه الصورة الجثمانية، فما أضعف همتك، وما أصغر نفسك!

أتذرف دمعك، وتسهر ليلك، وتذيب حبة قلبك من أجل عظمةٍ تلمسها، أو جلدةٍ تلثمها؟!

أنت شريفٌ في نفسك، فكن شريفًا في حبك، واعلم أني ما أحببت غير نفسك فلا تحب غير نفسي.

وما وصلت من حديثها إلى هذا الحد، حتى رأيتني قد صغرت في عين نفسي، وتمنيت أن لو عجل إليَّ أجلي قبل أن يمر هذا الخاطر الفاسد في ذهني، ثم استوهبتها ذنبي فوهبته لي، وما عدت من بعدها إلى مثلها.

٤

الآن عرفت مبلغ عظتها، وفضل هدايتها، ومقدار ما يبلغه الحب الشريف من النفس، فهأنذا أشعر كأن نفسي المرآة التي يغشاها الصدأ، وكأن الحب صيقل يصقلها، فيجلو صفحتها شيئًا فشيئًا.

كنت أحمل بين جوانحي لأعدائي ضغنًا وحقدًا، فأصبحت لا أشعر بما كنت أشعر به من قبل؛ لأن الحب ملك عليَّ قلبي واستخلصه لنفسه، فلم يترك فيه مجالًا لشيءٍ سواه.

كنت ضيق الصدر إن مسني ضرٌّ، سريع الغضب إن فاتني مأربٌ، فأصبحت فسيح رقعة الحلم، لا يستفزني غضبٌ، ولا يحرجني محرج؛ لأني قنعت بسعادة الحب، فأغفلت بجانبها جميع أنواع السعادة.

كنت شديد القسوة، متحجر القلب، لا أعطف على بائسٍ، ولا أحنو على ضعيفٍ، فأصبحت أشعر بالمصيبة أراها تصيب غيري، وأتألم لبؤس البائسين وحزن المحزونين؛ لأن الحب أشرق في قلبي فملأه نورًا، فارتفع ذلك الستار الذي كان مسبلًا بينه وبين القلوب.

وبالجملة كنت وحشًا ضاريًا أعيا العالمين رياضته، فصرت بين يدي الحب الشريف إنسانًا شريفًا، وملكًا كريمًا.

٥

خرجت بها الليلة إلى شاطئ النهر، وكان الماء رائقًا والسماء صافية، وفي كل منهما نجوم وكواكب تتلألأ في صفحته، فاختلط علينا الأمر حتى ما نفرق بين الأصل والمرآة، ولا ندري أين مكان الماء من مكان السماء.

فمشينا طويلًا لا يكلم أحدنا صاحبه، كأن سكون الليل سرى إلى أفئدتنا، وملأ ما بين جوانحنا، فأمسكنا عن الحديث هيبةً وإجلالًا.

وكنت أشعر في تلك الساعة بخفَّةٍ في جسمي، وصفاء في نفسي حتى كان يخيل إليَّ أني لو شئت أن أطير عن وجه الأرض لطرت بغير جناحٍ، وأني أستطيع أن أخترق بنظري حجاب السماء، وأنفذ إلى الملأِ الأعلى، فأرى هنالك ما هو محجوبٌ عن نظر الناس أجمعين. وحتى صرت أتمنى أن يضل النجم سبيله فلا يهتدي إلى أفقه، وأن يتلفع الليل بردائه فلا يعثر به فجره، وأن تستمر مشيتنا هذه ما ضل النجم، وما دام الظلام. فالتفت إليها وسألتها هل تشعر بالسعادة التي أشعر بها؟

قالت: لا؛ لأني أعرف من شئون الأيام وأطوارها غير ما تعرف؛ ولأني لا أنظر إلى الدنيا بالعين التي تنظر بها إليها.

أنت سعيدٌ بالأمل، وأنا شقيةٌ بالحقيقة الواقعة.

إنك سعيدٌ؛ لأنك تظن أن سعادتك دائمةٌ لا انقطاع لها، وأنا شقية لآني أتوقع في كل ساعةٍ زوالها وفناءها.

إن استطعت أن تقف الشمس في كبد السماء، وأن تحول بين الأرض ودورانها، وأن تمنع الساكن أن يتحرك والمتحرك أن يسكن، فاضمن لنفسك استمرار السعادة وبقاءها.

وهنا أَمْسَكت عن الكلام، وأطرقت برأسها طويلًا، فرأيت مدامعها تنحدر من مقلتيها كأنها عِقْدٌ وهَى سِلْكُه، فانتثرت حبَّاته، فبكيت لبكائها، وقلت: «لم تبكين؟» قالت: «من خوف الفراق.» قلت: «فراق الحياة أو فراق الممات؟» قالت: «لا أريد فراق الحياة، فليس في هذه الكائنات من ناطقها وصامتها ما يمنعني من الوصول إليك ما دام يجمعني وإيَّاك عالم واحد، أنا لا أخاف إلا فِرَاق الموت.» قلت: «هل لك أن نتعاهد أن نعيش معًا ونموت معًا؟» فتعاهدنا ثم عدنا على أعقابنا، والليل يشمر أذياله للفرار من وجه النهار، ثم افترقنا على ميعاد، وذهب كلٌّ منَّا لسبيله.

٦

ألا يستطيع هذا الدهر الغادر أن ينام ساعةً واحدة عن هذا الإنسان؟

ألا يستطيع أن يسقيه كأسًا لا يخالطها كدرٌ ولا يمازجها شقاء؟

ألا يستطيع أن يمنعه السعادة ما دام يمنحها اليوم ليسلبها غدًا؟

إنَّ الإنسان لا يعجز عن احتمال الشقاء الدائم، ولكنه يعجز عن احتمال السعادة المسلوبة.

يقولون: إنَّ الأمل حياة الإنسان، وما يقتل الإنسان إلا الأمل، فليتني ما سعدت؛ لأنني ما شقيت إلا بسعادتي، وليتني ما أمَّلْت؛ لأن اليأس القاتل ما جاء إلا من طريق الأمل الباطل، ماتت الفتاة التي كانت شمس حياتي، وأشعة آمالي، وينبوع سعادتي وهنائي.

ماتت الفتاة التي كانت ملء الدنيا بهاءً وجمالًا، فمات بموتها كل حيٍّ في هذا الوجود.

أرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء، وأرى الطير صامتةً لا تغرد، والغصون ساكنةً لا تتحرك، وأرى النجوم آفلةً، والزهور ذابلة، والطبيعة واجمةً حزينة لا يفتر ثغرها، ولا يتلألأ جمالها، وأرى الدنيا كأنها عادت إلى عصرها الأول لا يسكنها إنسان، ولا يخطر بها حيوان، وكأنني فيها آدمها يندب جنته، ويشكو وحدته.

أيها الدهر الغادر! إن غلبتني عليها فلن تغلبني على نفسي، لك أن تُخرج من الدنيا من تشاء، وليس لك أن ترد إليها من يخرج منها.

ويا أيتها النفس الهائمة في سمائها! لا تجزعي ولا تعجلي، فوالله لأفين بعهدك، ولأُذهبن عما قليل وحشتك، وليكونن عهدنا في مستقبلنا كعهدنا في ماضينا، فما تعارفنا في العالم الأول إلا بأرواحنا، فلنكن كذلك في العالم الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤