دمعة على الأدب

مات بالأمس إمام الشعر البارودي، وإمام النثر محمد عبده، فجزعنا ما جزعنا، وسكبنا عليهما من الدموع ما سكبنا، ثم كفكفنا من تلك الدموع، وخفضنا من زفرات الضلوع، حينما سمعنا قول القائل: إنَّ في الباقي عزاءً عن الفاني، وإنَّ في الأبناء خلفًا من الآباء، ولقد كر على عهدهما الشهر بعد الشهر، والدهر إثر الدهر، والأدب جاثٍ في مكمنه جاثمٌ، لم يبعث من مرقده بعدما قبرناه، ولم ينشر من قبره بعدما واريناه، فتساءلنا: أين الباقي الذي يزعمون، والخلف الذي يذكرون؟

أين فطاحل اللغة الأدبية لا السياسية، وأرباب الأقلام العربية لا الأعجمية؟ عذرنا المويلحي الكبير واليازجي؛ لأنهما ماتا ولحقا بصاحبيهما، فهل مات شوقي، وحافظ والبكري، والمويلحي الصغير؟ ما مات منهم أحد، وإنما كانت حياة الرجلين حياة الصناعتين، وكان لوجودهما سرٌ من الأسرار ينبعث في الألسنة فيطلقها، والأقلام فيجريها، وكانت منزلتهما من الأحياء منزلة الأم من مصابيح الكهرباء، تشتعل المصابيح بتيارها وتضيء بأسرارها، فإذا فرغت مادتها وانقضى أجلها عم الظلام واشتد الحلك، والمصابيح كما هي جسم بلا روح، ولفظٌ بلا معنى.

أما شوقي فقد طار في جوٍّ غير هذا الجو، وهام في وادٍ غير ذلك الوادي، وما زالت تعبث به الأنواء حتى أغرقته في شبرٍ من الماء! وأما حافظ فقد انقضت حياته النثرية قبل انقضاء البؤساء، أما حياته الشعرية، فلم يبقَ منها غير نظم المقالات السياسية من العام إلى العام، وأين هذه القيثارة البسيطة ذات اللحن الواحد من ذلك العود الأجوف الرنان الذي كنا نسمع منه مختلف الألحان وأفانين الأشجان؟ وأما البكري والمويلحي، فقد قضيا حق التأليف هذا بصهاريجه، وذاك بفتراته، ثم لحقا بالسابقين، ومضيا على أثر الماضين.

أين سكانك لا أين لهم
أحجازًا أوطنوها أم شآما؟

أين الروضة الغناء التي كنا نتفيأ ظلالها، ونهصر أغصانها، ونقطف ما شئنا من ورودها ورياحينها؟ وأين البلابل التي كانت تتنقل بين أشجارها، فتطرب بالأغاريد، وتستهوي بالأناشيد؟

فاسألنها واجعل بكاك جوابًا
تجد الدمع سائلا ومجيبا

أنا لا أعجب لشيءٍ عجبي لهؤلاء الأدباء، يحزنون فلا يبكون، ويطربون فلا يضحكون، ويتألمون بلا أنين، ويعشقون بغير حنين.

أيطرب البلبل فيغرد، ويشجى الحمام فينوح، ويطرب الشاعر ويشجى الكاتب فلا ينطق لسانهما ولا يهتز قلمهما؟!

لما أسنَّ عمر بن أبي ربيعة ورأى أن الغزل والتصابي غير لائقٍ بشيبه ووقاره عزم على هجره، فما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وغلب على أمره كما يغلب المرء على غرائزه وسجاياه؛ فاحتال لذلك بأن حلف ألا يقول بيتًا من الشعر إلا أعتق رقبة، فشكا إليه رجلٌ حبًّا برح به، فحن واهتاج، ونظم أبياتًا في شأن الرجل ووجده، ثم أعتق عن كل بيت رقبة.

فهل نذر أدباؤنا ما نذر عمر بن أبي ربيعة، وهم في شرخ الشباب وإبان الفتوة؟ إن كانوا فعلوا ذلك، فأسأل الله لهم قصةً كقصة عمر تهيج أشجانهم فتحنث أيمانهم، والأمة كفيلةٌ لهم بوفاء النذور، وكفارات الأيمان:

وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوقٌ حين يلقى العاشقينا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤