التماثيل

جاءني الكتاب الآتي من حضرة الكاتب الفاضل محرر جريدة «ثمرات الفنون» ببيروت، وقد ناشدني الله أن أنشره بنصه، فلم أر بدًّا من تلبية طلبه، وها هو ذا:

سيدي المنشئ الفاضل

أحييك بتحية الإسلام، وأبثك الشكر والثناء على ما تزين به صدر «المؤيد» الأعز من أبكار الأفكار، ونفائس الآثار، مما يتلقاه أبناء هذا الثغر بالارتياح والابتهاج، حتى إننا حلينا جيد الثمرات بعدة من هاتيك الدراري اللامعات، فجزاك الله عنا جزاء الخادم لأمته، المحب لوطنه، الغيور على دينه، وزادك همة ونشاطًا في هذا السبيل، سبيل الإصلاح والهداية.

ما كتبت إليك هذه الكلمات بقصد الإدلال على فضلك والاعتراف بخدمتك، فإن نفثات قلمك تدل على أنك من ذوي الأخلاق الفاضلة، والنفوس الكبيرة الذين لا تغرهم أمثال هذه الزخارف الباطلة، فضلًا عن أنك غنيٌّ بنفسك عن كل مدحٍ وثناء، وإنما كتبت إليك لألفت نظرك الكريم إلى أمر كان له عندنا أثر سيئ في نفوس المسلمين قاطبة، وهو عزم المصريين على نصب تمثالٍ لفقيد مصر مصطفى كامل باشا رحمه الله، كأن إخواننا المصريين أصبحوا أغنياء عن كل مشروع علمي أو أدبيٍّ أو اجتماعيٍّ، فلم يبقَ بين أيديهم ما ينفقون فيه أموالهم إلا أمثال هذه المشاريع التافهة، أو كأنهم لا يعلمون أنها محرمةٌ في دينهم — دين الإسلام — أو كأنه صار من المحتم اللازم علينا أن نقلد الأوروبيين في كل ما يعملون شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا — كما قال عليه الصلاة والسلام — جحر ضبٍّ لدخلناه، أو شربوا نخبًا لشربناه، أو صنعوا صنمًا لصنعناه، كل ذلك يدل أصرح دلالةٍ على أنَّ الجمود ما برح مستحكمًا فينا؛ لأن التقليد الأعمى شأن العاجز الضعيف الذي لا يدري بماذا فاقه القوي القادر، فهو يقلده في جميع حركاته وسكناته، ظنًّا منه أنها سر قوته وقدرته.

لو أقام المصريون لكل عاملٍ بينهم تمثالًا لعادت مصر إلى عهدها الأول في زمن الفراعنة حيث في كل بقعةٍ هيكل وتمثال، وظني أن لو كان المرحوم مصطفى كامل باشا حيًّا، لما رضي عن مشروعٍ كهذا يمس الأمة المصرية في وطنيتها ودينها.

فناشدتك الله يا سيدي أن تنشر كلماتي هذه بنصها على صفحات المؤيد الأغر، فإن اليراع عندنا مغلولٌ، إلى درجةٍ ألف معها الخمول، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

محرر ثمرات الفنون
أحمد حسن طباره
هذا نص كتابه، وقد كتبت إليه الرد الآتي:

حضرة الكاتب الفاضل

قرأت كتابك، فهبَّت عليَّ من بين سطوره نسمةٌ شرقية، تمر بي الساعات والأيام، والأشهر والأعوام في مصر أترقب هبوبها، فلا أجد إليها سبيلًا.

كتبت إليَّ كلمة كان في استطاعتك أن تكتبها في جريدتك، ولكن حال بينك وبين ذلك ظنٌّ قام في نفسك أنَّ اللسان في مصر أطلق منه في بيروت، وأنك واجدٌ في بلدنا ما لا تجد في بلدك من حرية الفكر وسعة الصدر، وليتك تعلم يا سيدي أنَّ كلمتك هذه لم يستطع أن ينطق بها في مصر غير رجلين، فكان نصيب أحدهما السب، والآخر الضرب.

ليتك تعلم ذلك، فلا تبالغ في حسن ظنك بحرية الأقلام في مصر؛ فإنها حرية موهومةٌ لا يغتر بها من يعرف حقيقة الحرية، ومن يعتبرها بنتائجها وآثارها لا بزخارفها وتهاويلها.

نعم لا توجد في مصر شكائم في أفواه الناطقين، ولا جوامع في أيدي الكاتبين، ولكن محكمة الرأي العام فيها محكمة وجدانية أكثر منها قانونية، فهي إما أن تبرئ المتهم فتعلو به إلى مدار الأفلاك، أو تدينه فتهوي به إلى مقر الأسماك.

إنَّ كثيرًا من عقلاء الرجال في مصر يهابون التصريح بالحقائق التي يعلمون أنها نافعة لأمتهم أكثر مما يهاب الكتاب في سوريا الشكائم والأغلال؛ ذلك لأن الرأي العام هنا متهورٌ في مذاهبه ومراميه، ظالمٌ في أحكامه لم يخطُ إلى اليوم الخطوة الأولى في احترام الآراء، وإجلال الأفكار وإنزالها المنازل التي تستحقها.

إنَّ منظر العقلاء في مصر منظرٌ محزن مؤثرٌ يبعث الرحمة، ويستمطر العبرة. إنهم يعالجون من العامة فوق ما يعالج طبيب البيمارستان من مرضاه. إنهم يعانون من مجاراة الجاهلين في جهالاتهم، وكتمان الحقائق التي تغلي في صدورهم غليان الماء في المرجل، ما يرنق صفاء العيش، ويشوه وجه الحياة، إنهم في حيرة لا يجدون إلى الخلاص منها سبيلًا، إن نطقوا بكلمة إصلاحٍ في الدين سماهم الجاهلون كفارًا، أو في السياسة سموهم خونة، وإن سكتوا أغضبوا الله وأغضبوا الحق، فهم بين هذا وذاك كهاربٍ من سبع مفترس لم يجد أمامه إلا الماء، فالهلاك إن أحجم، والغرق إن أقدم.

ربما تقول: إنَّ الصحافة في مصر تملك زمام الرأي العام، فكيف تعجز عن حبس تيارة وكسر شرته وقيادته إلى رشده وهداه؟

والجواب على ذلك أنَّ الصحافة المصرية ناقصةٌ نقصًا كبيرًا، ومشتملة على عيوب ورذائل لو تجردت منها لبلغت الغاية التي تريدها من تعليم الشعب وتهذيبه، وتقويم المعوج من ميوله ومذاهبه.

الكُتَّابُ في مصر ثلاثة: جاهلٌ لا يميز بين ما ينفع أمته وما يضرها، وعاقلٌ يهاب مصادرة الرأي العام في مألوفاته ومعهوداته، فيسكت مغلوبًا على أمره، ومنافقٌ يعرف الحقيقة ويعبث بها. فمن أيِّ واحد من هؤلاء الثلاثة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!

وأكبر هؤلاء الثلاثة جرمًا، وأشدهم ضررًا، وأسوأهم أثرًا، ذلك الكاتب المنافق الذي هو أشبه شيءٍ بالنائحة التي تسدل على وجهها نقابًا تتباكى من ورائه لتستبكي اللواتي يردن البكاء من النساء، وما في جفنها — يعلم الله — قطرةٌ من الدمع، ولا في قلبها لاعجٌ من الحزن، ولكن هكذا قدر لها أن يجري رزقها من بين العبرات والزفرات، وإن شئت فقل: إنه كشاعر القهوات يسرد على السامعين قصص الوقائع والحروب بين الأبطال الخياليين حتى يثير عواطفهم، ويهيج أحقادهم، فإذا قسمهم على أنفسهم وضرب بعضهم ببعضٍ خلص من بينهم إلى منزله فرحًا مغتبطًا برنين الدراهم في كيسه، وقد ترك وراءه أولئك البسطاء أسرى الهموم والأحزان، قتلى الضغائن والأحقاد.

الكاتب العاقل يخدم عواطف الأمة بتنميتها وتهذيبها، وتحويل تيارها إلى الخطة المثلى، أما الكاتب المنافق فإنه يستخدمها لنفسه وإن أفسدها على أصحابها.

ولقد دخلت مرةً على بعضٍ الكتِّابِ، فعتبت عليه أنه يكتب غير ما يعتقد، ويقول غير ما يعلم، وقلت: «إنَّ خطتك هذه مضرةٌ بالأمة التي أنت أحد قادتها، وإنك قد سلكت في مذهبك هذا سبيلًا ما كنا نعرفه لك قبل اليوم، فقد عهدناك تصدع بالحق، لا تبالي أغضب الناس أم رضوا، وتجهر به، وإن لم تجد أذنًا واعيةً أو صدرًا رحيبًا.» فأطرق طويلًا ثم رفع رأسه، وأحسب أني رأيت قطرة من الدمع تترقرق في عينيه، وقال: «والله ما سلكت هذا السبيل وأنا أعلم أن فيه رضا الله أو رضا الحق، ولكني امرؤ لا أعرف لنفسي صناعةً غير صناعة القلم — قبحها الله وقبح كل ما تأتي به — وكنت أحسبني أستطيع أن أجمع فيها بين شرف النفس، ورغد العيش، فخاب ما أملت، إذ رأيت نفسي كسفينةٍ ماخرةٍ في بحر زاخر من شعبٍ قاصر يطلب مني ما يلذه لا ما يفيده، ويتقاضاني ما يعجبه لا ما ينفعه، فطفقت أرتئي بين أن أرضي الحقيقة فأهلك جوعًا، أو أرضي الأمة فأعيش سعيدًا، فغلبني حب الحياة على أمري، فلم أرَ بدًّا من الدخول على الأمة من ذينك البابين المعروفين: باب الوطنية، وباب الدين، فاصطنعتهما لنفسي بعدما كنت أصطنع نفسي لهما، فرغد عيشي، وحسن حالي، وأصبحت لا يكدر عليَّ صفائي غير الأسف على الحقيقة الضائعة.»

هذه الأمة المصرية أيها الكاتب الفاضل، وهذه صحافتها، وهذا مبلغ الرأي العام فيها، وهذا موقف العقلاء بين يديه، فهل تظن بعد ذلك أنَّ كاتبًا يستطيع أن يقول للأمة ما لا تهوى، أو يجرؤ على التصريح بحقيقةٍ يعتقدها بين هذا الشعب الهائج، وتلك الصحافة المتملقة؟

إنَّ كثيرًا من عقلاء مصر ينكرون — كما تنكر أنت — نصب تمثالٍ للمرحوم مصطفى كامل باشا، لا لصفته الشخصية، فإنه ممن يستحقون الإجلال والإعظام؛ بل لأنه مسلمٌ شرقيٌّ والأمة التي تريد نصب تمثالٍ له مسلمةٌ شرقية كذلك، فإسلامها يحرم عليها نصب التماثيل، وشرقيتها تنعى عليها هذا الإسفاف في تقليد الغربيين في جميع عاداتهم ومألوفاتهم، في حين يترفعون عن الاعتراف باستحسان شيءٍ من عاداتنا وصفاتنا فضلًا عن الأخذ بها أو محاكاتها.

إنَّ نصب الغربيين التماثيل لنوابغ الرجال فلسفةٌ تاريخية أرادوا بها تمثيل التاريخ اليوناني القديم، وإنزال عظمائهم ونوابغهم منزلة الآلهة وأنصاف الآلهة في ذلك التاريخ، أي إنها عادةٌ منحوتة من الديانات الوثنية، فهل يجمل بنا معشر المسلمين أمة محمد هادم الأصنام وكاسر الأوثان، أن نحفل بعادةٍ هذا منشؤها، وتلك غايتها، وأن نستقبل بصدرٍ رحبٍ نصب التماثيل في بلدٍ هي بقعة الإسلام، وباب البيت الحرام، ومعهد الأزهر الشريف، ومدفن الصحابة والتابعين، والأئمة المطهرين؟!

أيجمل بنا أن نتخذ هذه العادات الوثنية في عصر ندعو فيه إلى الإصلاح الإسلامي، ونحارب العوائد الخرافية الداخلة في الدين لنرجع به إلى عصره الأول، عصر السلف الصالح حيث لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله؟!

على أنه إن كان الغرض من نصب التمثال للرجل العظيم تخليد ذكره واستبقاء صورته مرتسمةً في أذهان الأجيال المستقبلة حتى لا تنساه، فإن جميع رجال الإسلام — من علماء الدين إلى علماء الفنون — لا تزال محفوظةً بين الجوانح مآثرهم ومفاخرهم، مذكورةً على الألسنة أسماؤهم وألقابهم، ولا نعرف لواحدٍ منهم صورة مرسومة أو تمثالًا قائمًا.

إن كان في أعمال الرجل وآثاره ما يضمن له بقاء ذكره في صدور الأجيال، ومستقبل القرون، فلا حاجة به إلى تمثالٍ يخلد ذكره، أوْ لا، فمن المغالطة التاريخية الاحتيال على بقاء ذكره بنصب تمثاله.

إنَّ المسلمين لم يألفوا قبل اليوم أن يعتبروا نصب التمثال للرجل عنوان عظمته، أو جائزة أدبية يكافأ بها على عمله، أي إنه لا يوجد فيهم من إذا رأى تمثالًا قائمًا يقول: «ليتني أنفع أمتي أو أخدم وطني فينصب لي بعد موتي تمثال كهذا التمثال!» فإذن لا يمكن أن يكون نصب التماثيل في البلاد الإسلامية داعية الجد والاجتهاد في الأعمال، أو باعثًا على التشبه بعظماء الرجال.

إنَّ للرجل العظيم بعد موته جلالًا في القلوب لا يذهب به إلا نصب تمثاله على قارعة الطريق تحت نظرات الرجال والنساء والأطفال، والأذكياء والأغبياء، ومن يعرف قيمة الرجال، ومن يجهل فائدة التمثال، ومن لا يرى فرقًا بينه وبين الصور الخشبية المنصوبة في حوانيت التجار.

وغاية ما يستنتجه السواد الأعظم عند رؤية تمثالٍ لأحد عظماء الرجال معرفة صورته الظاهرية، وأنه طويل أو قصير، ونحيف أو بدين، وهي اعتبارات لا يعتد بها في رجولة الرجل، ولا علاقة بينها وبين علمه وجهله، وذكائه وغباوته، وجبنه وشجاعته، وإنما تظهر رجولة الرجل واضحةً مفهومة حتى للبلداء والأغبياء في ثمرات عقله، ونتائج أعماله، وفي مكرمةٍ يخلدها، أو مدرسة يشيدها، أو كتب يؤلفها، أو عقول يثقفها.

هذه — أيها الأخ الفاضل — آراء كثيرٍ من عقلاء المسلمين في مصر يتحدثون بها في مجالسهم، ولا ينشرونها في الصحف مخافة أن تلتصق بهم تهمة الخيانة للوطن، وهي الكلمة التي يتسلح بها الكتاب المنافقون في مصر ليحاربوا بها كل من خالفهم في رأيهم أو نازعهم حرفتهم، كما كان يصنع رجال الإكليروس في العصور الوسطى في استخدام تهمة الكفر للفتك بأعدائهم، والانتقام من خصومهم، والله أعلم بالخيانة أين مكانها، وفي أي قلب مستقرها!

أحسن أثرٍ يقام لفقيد الوطن أن تنشأ باسمه مدرسةٌ تربي فيها الناشئة الحديثة تحت رعاية الحزب الوطني — على ما كان يحب الفقيد أن يكون عليه النشء الحديث في المعارف والأخلاق والآداب الدينية، والمذاهب الوطنية — وينتخب لها معلمون متدينون مخلصون لله والوطن، يستطيعون أن يقدموا للأمة في كل عامٍ رجالًا، يكون كل واحد منهم صورةً حية من صورة الفقيد، وتمثالًا أنفع من تماثيل البرنز والأحجار.

هذا ما أراه، أكتبه إليك، وأملي ضعيفٌ أن يحقق الله رجائي فيه، ولكنها الحقيقة لا بدَّ من الجهر بها، والسلام عليك ورحمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤