الفصل العاشر

الظهور الأخير لرجل الساعة الآلي

١

لا بد أن السؤال سيبقى مطروحًا دائمًا للتكهنات الفضولية، وهو سؤال يتعلق بالإجراء الذي ربما يكون قد اتخذه الطبيب ألينجهام وجريج معًا لو تمكَّنا من متابعة فحص رجل الساعة الآلي فحصًا شاملًا؛ فقد تمكَّن هذا الأخير من الهرب من حبسه في قبو الفحم في أثناء مناقشاتهما.

في الواقع، لم يكن من المتوقع أن يبقى مكانه فترة طويلة جدًّا. كما أشار جريج، فإن مثل هذه الآلية الدقيقة جدًّا تحتاج إلى اهتمام مستمر، وكان من المرجح دائمًا أن يحدث ما هو غير متوقع. لا بد أن هناك حركة تلقائية متجذِّرة فيه عميقًا قد حرَّرته تدريجيًّا من نومه؛ وبعد الاستيقاظ، لا شك أن جدران القبو القذرة قد أثارت اشمئزازه. لم يكن متوقعًا أن ينجح الطبيب، في ظل سرعته وذُعره، في إتقان تعقيدات الساعة. ما فعله هو إحداث حالة مؤقتة من السكون، انتهت بمرور الوقت. كان يجب أن يوضع في الاعتبار أيضًا، أنه على الرغم من أن رجل الساعة الآلي يعتمد على الضبط كي يتمكن من العمل بطريقة صحيحة، كان واضحًا جدًّا أنه يمكنه التصرف بطريقة مستقلة وخاطئة تمامًا.

الحقيقة هي أن الطبيب ألينجهام لم يتمكن من استجماع شجاعته لإجراء فحصٍ آخر لرجل الساعة الآلي؛ وسمح لنفسه بالافتراض بأنه لن تكون هناك تطورات فورية. وبقدر ما كان ممكنًا، سمح لنفسه بتلك الراحة الضرورية جدًّا، وأصرَّ على أن يشاركه جريج ذلك. لم يكن رجل الساعة الآلي ما كان يأمله أو يخافه كلٌّ منهما تمامًا. من وجهة نظر ألينجهام، على وجه الخصوص، لم يكن ذلك الكابوس اللاإنساني هو الذي أوحت به تصرفاته في البداية. صحيح أنه كان لا يزال وحشًا لا يمكن تخيله وكشفًا رهيبًا، إلا أنه منذ اكتشاف التعليمات المطبوعة، أصبح من الممكن النظر إليه بشيء من الطمأنينة. كان رجل الساعة الآلي شيئًا متخيَّلًا أتى من المستقبل، لكنه لم يكن يمثِّل المستقبل بأكمله.

والآن بعد أن اختفى، هناك احتمال قوي أنه لن يعود أبدًا، وأن شخصيته وكل ما يتعلق به سيذوبان من ذاكرة الإنسان أو يتبلوران في شكل أسطورة. بدا ذلك مآلًا مشروعًا للواقعة، وهو المآل الذي قَبِله الطبيب ألينجهام في نهاية المطاف. كان لهذه الزيارة، مثل غيرها من المعجزات المزعومة في الماضي، دلالة، وكانت الدلالة أكثر أهمية من المعجزة نفسها. بدا للطبيب ألينجهام أن اكتشاف دلالة رجل الساعة الآلي مهمة تستحق أعلى قدرات الإنسان.

ربما يُنظر إلى استنتاج الطبيب بأنه تعبير دقيق عن شخصيته. فمن الطبيعي أن يؤدي تأثير كشف منافٍ للعقل كهذا في عقل فاقد الهِمة ومشكِّك إلى إثارة نوع من الدفاع الغاضب عن كل ما كان عليه الإنسان في الماضي، ورفض لا يقل شدة لذلك الاحتمال الغريب للمستقبل الذي قدَّمه رجل الساعة الآلي للمشاهد العادي. من ناحية أخرى، قد يُعذَر جريج في اندفاعه بسبب حداثة سنِّه. وقد باءت محاولته لإقناع رئيس تحرير مجلة «وايد وورلد» بنشر قصته، المستندة إلى أحداث حقيقية، بفشل ذريع. رغم عدم التشكيك في مهارته السردية، فقد نُصح بتعديل القصة، وإضافة القليل من الفكاهة قبل تقديمها إلى مجلة لا تكفل مصداقية قصصها الطويلة. وبما أن ذلك كان أدنى من كرامة جريج، ولم يجد أي شخص آخر يأخذه على مَحمَل الجِد، فقد انغلق على نفسه كالمحار، وفي الوقت المناسب ليتجنَّب الشكوك من أصدقائه. ولم يكن بعد انقضاء سنوات عديدة، وبعد خوض العديد من التجارب في هذا العالم المليء بالحقائق الصعبة والجهود المضنية، إلا أن شارك الطبيب وجهة نظره في رجل الساعة الآلي، وقدَّر ذكراه كأسطورة ثريَّة بالدلالات.

٢

في إحدى الأمسيات، جلس آرثر ويذرز وروز لوماس معًا على دَرجهما المفضَّل يتحدثان بهمسٍ منخفض. تأخَّر الغسق الصيفي، وكان الهواء من حولهما هادئًا إلى درجة أنه بين كلماتهما الهامسة اللطيفة، كان في مقدورهما سماع حديث الحشرات العديدة في العشب عند قدمَيهما. لم يكن هناك الكثير من المقاطعات. إلى درجة أن الناس الذين يمرُّون من ذلك الطريق في المساء اعتادوا رؤيتهما في ذلك الموضع، وكاد يصبح تقليدًا عبورهم الدَّرج دون إزعاج العاشقَين. هناك طرق أيضًا للجلوس على الدَّرج دون إزعاج المارة الذين كانوا يعبرونه من حين لآخر.

هذا المساء كان هناك عامل أو اثنان بوجوه حمراء متجعدة، جائعان ومتعبان للغاية إلى درجة لم تكن لتمكِّنهما من إطلاق أي تعليق. ثم جاءت السيدة فلاك تسرع حاملةً حقيبتها السوداء (وكان عليهما النزول لأنها لم تعُد شابة كما كانت)، وبعدها بقليل جاء الكاهن، بابتسامته الودودة، وسأل عن موعد الزفاف. كان يتطلع بشوق إلى عقد قرانهما.

ولكن لم يحِن الوقت بعدُ. كان هذا هو العبء الذي تحمَّلته همساتهما الخفيضة. لم يكن ذلك ممكنًا في ظل دخل آرثر الحالي، وكان أقل يقينًا من أي وقت مضى بشأن اعتباره تراكميًّا أو حتى دائمًا. كانت روز تعي ذلك. بالنسبة إلى عقلها الريفي، من الرائع أن يتمكَّن آرثر من جمع هذا العدد الكبير من الأرقام خلال يوم واحد، حتى لو لم يكن الناتج دائمًا يلقَى استحسان المسئولين في البنك. كان عليهما الانتظار.

قال آرثر في النهاية: «إنها مسئولية كبيرة. أعني إذا كنا سنتزوج. قد أعود إلى البيت في أي يوم بلا عمل.»

اعترضت روز: «لن أكترث، ولكنني لن أتحمَّل أن تشعر بهذا حيال الأمر. سنُضطر إلى الانتظار.»

علَّق آرثر، بعد فترة طويلة من الصمت: «أتساءل لماذا لست ذكيًّا.» جذبته روز بغضبٍ نحوها.

«أوه، بالطبع أنت ذكي. تأمَّل الأشياء التي تقولها. تأمَّل الأفكار التي تفكر بها! لم أعرف ذلك قَط.»

وعلى الرغم من أنه هز رأسه بقوة، كان يتأمَّل داخله ذلك الجزء من عقله حيث توجد كل الأمور التي تتألف من معرفة غير مرتبطة تمامًا بالشئون العملية للحياة، ولكنها مفيدة جدًّا لغرض العيش.

اعترف آرثر بتفكيرٍ عميق: «لديَّ أفكار. أعتقد أنني في الواقع مَن يمكنكِ أن تُسميه، نوعًا ما، شخصًا مثقفًا.»

قالت روز دون أدنى أثر لعدم الاحترام: «بالتأكيد. الكتب التي تقرؤها!»

واصل آرثر بتواضع: «بالطبع، أنا مجرد هاوٍ. ولكنني أحب الكتب بالفعل، وأستطيع عادةً أن أفهم ما يقصده الكاتب … إلى حدٍّ ما.»

حدَّق بشدة إلى جُندَب، بدا أنه يفكر في إمكانية إقدامه على قفزة كبيرة؛ لأن ساقَيه الخلفيتَين الكبيرتَين كانتا مشدودتَين، ومستشعراته الطويلة تداعب الهواء. «أحيانًا أعتقد أن الأشخاص الذين يكتبون الكتب يجب أن يكونوا مثلي بعض الشيء … نوعًا ما. يبدو أنهم يحبون الأشياء نفسها التي أحبها. هناك الكثير عن الجمال في معظم الكتب، وأنا أحب الجمال، ألَا تحبينه أنتِ أيضًا؟»

همست روز متسائلةً عن قصده بالضبط: «بلى.»

قفز الجُندَب، وهبط بخبطة واضحة جدًّا، عند قدمَيهما تقريبًا. نظر كلاهما إليه دون أن يفكرا فيه على الإطلاق. لكنَّ مجيئه تسبَّب في لحظة صمت.

أكمل آرثر: «في الكتب التي قرأتها، عادةً يكون هناك شخص ربما يعتبره المرء عديم الجدوى في أي شيء، ومع ذلك يكون شخصًا جيدًا جدًّا.»

قالت روز، التي لم تكن معرفتها بالأدب واسعة: «الأبطال.»

«أحيانًا. يكونون أشخاصًا لا يفهمهم الآخرون. هذا لأنهم يحبون الجمال أكثر من أي شيء آخر، ولا يهتم الكثير من الناس حقًّا بالجمال. فلا يفكرون فيه إلا عندما يرَون غروب الشمس، أو ينظرون إلى الصور. إذا كنت تستطيع أن تنسى الجمال، فأنت بخير. لن يعتقد أحد أنك غريب. ولن تواجهك أي صعوبات.»

بدت الإيماءة الخفيفة لجسد روز، وتنهدها الذي بالكاد سمعه آرثر، كأنها تشير إلى أن الأمور أصبحت أعمق من قدرتها على الاستيعاب. قفز الجُندَب مرة أخرى، وهذه المرة هبط على الدَّرج، حيث بقي فترة طويلة، كأنه يتساءل عن أي تشويه لعقله الطبيعي جعله يختار مكانًا قاحلًا كهذا للهبوط. خلال التوقف الطويل، لم ترَ روز التعبير المليء بالحيرة على وجه آرثر.

قال فجأة: «ولكنهم دائمًا يتزوجون. أعني الأشخاص في الكتب. دائمًا يتزوجون في النهاية.»

«أوه يا آرثر!» رفعت يدها لتجذب رأسه المتردد للحظة. «أوه يا آرثر، سنتزوج يومًا ما.»

همس: «أنتِ جميلة جدًّا. أنتِ رائعة الجمال.»

«أوه، هل أنا كذلك؟ هل تعتقد ذلك؟ أنا سعيدة جدًّا … أنا آسفة جدًّا.»

انهمرت دموعها، على نحوٍ غير قابل للتفسير، حتى لآرثر، الذي كان يعتقد أنه يفهم الكثير مما يصعب فهمه. أطلق مشاعره دون أدنى معرفة حقيقية بعمقها، أو ما أثارته في روز.

بكت قائلةً: «لا أستطيع تحمُّل ألَّا أكون لك. هذا شيء قاسٍ. يجب تدبير الأمور. لا بد أن يفهم الناس.»

عاد آرثر إلى رشده مصدومًا. همس وهما يحتضنان بأذرع مرتجفة: «إنهم لا يفهمون. لو فهموا، لكانوا مثلنا.»

ثم تذكر نتيجة محتمَلة للبحث عن الجمال.

وأضاف بهمس وجدية: «بالإضافة إلى ذلك، هناك الأطفال.»

٣

على الطريق الذي يصل بين بابتشيرش وجريت وايميرينج، كان هناك شخصان يمشيان ببطء، وبدا عليهما أنهما قد دخلا في صمتٍ محرج بعد نقاش طويل. كانت خطواتهما تقودهما تدريجيًّا نحو الدَّرج الذي جلس عليه آرثر وروز.

قال الطبيب أخيرًا: «تعليقكِ الأخير جرح مشاعري.»

قالت ليليان بحزم: «لقد قصدت ذلك. أردت أن أجرح مشاعرك. إنها فرصتنا الوحيدة.»

سأل الطبيب، مدركًا غباءه الذكوري: «فرصتنا في ماذا؟»

«في أن نحب بطريقة ما. أوه، ألَا تفهم؟ أريد أن أهتم بك، لكنك تجعل ذلك مستحيلًا. ستستهزئ بالأشياء المقدسة بالنسبة إليَّ. لسانك الساخر يدمر كل شيء. كما قلت للتو. أحب أن يكون أصدقائي مرحين؛ لكن حبيبي يجب أن يكون جادًّا.»

قال الطبيب متوسلًا: «لكنني لا أستطيع فعل شيء حيال ذلك. إذا سلبتِ مني حس الدعابة، فسأخاف مما تبقى مني. فلن يتبقى لي شيء سوى فوضى مروعة.»

قالت ليليان: «لأنك تخاف من الحياة. الرجال ضحكوا عبر العصور، أما النساء فبكين وعِشن. لا أستطيع مشاركتك عالمك المليء بالافتراضات والقواعد المبهمة. بالنسبة إليَّ، الحب فوضى، ارتباك مُحبَّب … فوضى إلهية. إنه الخلق نفسه، عملية غامضة تبدأ من الإله.»

عاد الطبيب بذاكرته إلى بداية حديثهما. قال متأملًا: «لكنكِ اعترضت على منزلي، هكذا بدأتِ النقاش. وها نحن الآن نُحلق في مكان بين النجوم.»

رفعت ليليان نظرها نحو السماء. «ليتنا نظل هناك! يُعرف الرجال بمنازلهم. والمنزل يجب أن يكون مكانًا للراحة. ليس أكثر. وبمجرد الإفراط في تفاصيله، يتحوَّل إلى سجن مع الأشغال الشاقة.»

تساءل الطبيب مستسلمًا جزئيًّا لحالتها المزاجية: «ولكن إلى أي نتيجة يقودنا كل هذا؟ لماذا لا نجعل بعض الأشياء دائمة وجيدة بقدر الإمكان؟»

«لأنها ليست سوى أجزاء منا، مجرد إضافات إلى الكائن البشري، قِطع إضافية من الدماغ. نكتشف ذلك ببطء. الإنسانية لا تجرؤ على أن تكون دائمة، إلا في أساسياتها، وكل الأساسيات لها علاقة بالحياة والوجود. فقط فكِّر فيما سيحدث إذا سرى الدم في عروقك دائمًا؟»

قال الطبيب متحدثًا عن معرفة، وليس عن اقتناع بالرمزية: «الموت.»

أكملت ليليان بنبرة انتصار: «حسنًا إذن، أليس كل هذا التملك، كل هذا السعي لامتلاك الأشياء والاحتفاظ بها، نوعًا من الموت يبدأ من الأطراف؟ ألن يكون فظيعًا إذا لم يتغير الجسم البشري، إذا ثبتنا على حالنا بطريقة ما، إذا توقَّفنا عن التقدم في السن أو فقدان الشعر أو الإصابة بالإنفلونزا؟»

توقف الطبيب عن السير قليلًا. كم هو غريب أن تقول ليليان ذلك! كأنها قد سمعت عن رجل الساعة الآلي!

ثم توقف كلاهما، وفي اللحظة نفسها رأيا روز وآرثر يجلسان على الدَّرج.

همست ليليان: «دعنا نرجع»، واستدارا وعادا أدراجهما. أغلق مشهد العاشقَين شفاههما. كافح الطبيب ألينجهام لحظات مع إحساس غريب بشيء ضخم يريد أن ينفلت منه. كان أشبه بإحساس جسدي، كأن الطاقة العصبية في دماغه بدأت تتدفق على نحوٍ مستقل عن الضوابط التي عادةً ما توجهها عبر القنوات التي حفرتها المعرفة والخبرة. كانت ليليان هي التي تحدثت بعد ذلك، وهناك نبرة ألم في صوتها.

«أوه، لماذا نعيش في هذه الحيرة؟ لماذا لا يمكننا أن نكون مثلهما؟ لن نقترب أبدًا من السعادة بهذه الطريقة. لن نكون أبدًا أفضل من هذين الاثنين. كل ما في الأمر أن لدينا قليلًا من الأفكار أكثر منهما، المزيد من المعرفة بعض الشيء … وربما تكون معرفة خاطئة تمامًا.»

شرع الطبيب في الحديث، كأنه يتساءل عن مغزى الحديث برمته: «إذن لماذا …»

قالت ليليان: «أوه، انتظر، كان عليَّ أن أفصح لك عن كل شيء. عليَّ أن أتحدث عن هذه الأمور، رغم أن الحديث لا يجدي نفعًا! لم أستطع أن أتركك تعتبرني أمرًا مسلَّمًا به. ألا ترى؟ أعتقد أن كل هذا الحديث بيننا ليس سوى امتداد لعملية التزاوج المستمر عبر العصور. فأنا كالمرأة البدائية التي تهرب من رجلها.»

توقف الطبيب عن السير، وأمسك بمرفقَيها. «هل هذا يعني أنكِ كنتِ تلاعبينني طوال هذا الوقت؟»

ابتسمت ليليان، وقالت: «إنها مغازلة، لكنها لم تكن واعية حتى هذه اللحظة. بطريقة ما ذكَّرني هذان الاثنان. دائمًا ما يكون لدينا نحن النساء هذا الخوف من الأسر، وقد أصبح في هذه الأيام أكثر تعقيدًا وتوسعًا. أجل، يمنحنا التفكير حياةً أطول. كل شيء له مقدمة أكبر. لطالما كنت خائفة من بيتك الكبير الذي سيكون من الصعب الاعتناء به. ولطالما خشيت من شهر عسل يزول سريعًا، ثم ما تلبث أن تصبح رفيقًا مرحًا على مائدة الطعام، وتجعل الحياة تسير كالساعة.» ضحكت بطريقة هستيرية. «ثم ربما تشرع في التسلية بالنحت على الخشب خلال أمسيات الشتاء.»

قال الطبيب هادرًا: «ليس في حياتكِ. في أسوأ الأحوال، سأصيبك بالضجر من نِكاتي المتكررة.»

قالت ليليان: «وفي أفضل الأحوال، سأتعلم التعامل معها. وهنا يأتي دور حس الفكاهة لديَّ.»

أخذها الطبيب فجأة في أحضانه. وهمس: «لكنكِ تهتمين، أليس كذلك؟ أتوافقين على أن تعيدي إليَّ شبابي؟»

تحركت بفضول بين ذراعَيه، وعقلها ينفتح على وعي جديد.

«أوه، لم أفكر في ذلك. يا لنا من حمقى نحن الأذكياء! لم أفكر من قبلُ أن كونك عاشقًا يمكن أن يعيد إليك شبابك.»

ضحك الطبيب قائلًا: «جاهلة. الطفل الأول للمرأة دائمًا هو زوجها.»

«يا لك من شخص ويا لَعباراتك الساخرة!»

«يا لكِ من شخص ويا لَأفكاركِ!»

شاركته الضحك. وبعد لحظات، كانت لها الكلمة الأخيرة.

همست: «الخلق، لا أعتقد أنه حدث بعدُ. لا نزال في تلك الأيام السبعة والليالي السبع للخلق. الرجل لم يُخلق بعدُ، ويجب أن تساعد المرأة في خلقه.»

٤

قال رجل الساعة الآلي لنفسه، وهو يتقدم ببطء فوق تلة المرج ويقترب من الدَّرج: «يجب أن أعود. ولن يؤدي بقائي هنا إلا إلى إفساد الأمور.»

كانت لا تزال ثَمة نبرة شكوى في صوته، كما لو كان يشعر بالأسف الآن لمغادرته عالمًا مليئًا بالمخاطر والمغامرات الغريبة. بدا في مظهره شيء أكثر حيوية؛ مما يشير إلى تحسُّن في آلية عمله. قد تراه شخصية غريبة، برقبة متيبسة وخطوات متشنجة؛ لكنه لم يعُد يعاني من تلك السقطات التي كانت تميز سلوكه في البداية.

تابع حديثه إلى نفسه، وإصبعه على أنفه: «لديَّ شعور أنني إذا ضبطت نفسي على أقصى سرعة الآن، فسأنطلق مثل الرصاصة.»

لكنه لم يتعجَّل. أدار رأسه ببطء كأنه يحاول استيعاب أكبر قدر ممكن من هذا العالم الجميل، وإن كان محدودًا.

قال متأملًا: «يا له من مكان صغير رائع. يمكن للمرء أن يستمتع هنا كثيرًا، ويكون على سَجِيته. تُرى لماذا يذكِّرني هكذا بشيء ما … قبل أيام الساعة، قبل أن نعرف؟»

تنهد، وتوقف فجأة ليراقب الجالسَين معًا على الدَّرج. كانت روز نائمة في أحضان آرثر.

قال رجل الساعة الآلي، عندما تحرك آرثر قليلًا: «لا تزعج نفسك، لن أذهب في ذلك الطريق. سأعود أدراجي من حيث جئتُ.»

قال آرثر في حرج: «أوه، إذن، ألن أراكَ مرة أخرى؟»

أجاب رجل الساعة الآلي، مع التواء طفيف في شفتَيه: «ليس قبل بضعة آلاف من السنين. وربما لن تراني للأبد.»

سأل آرثر: «هل أنت أفضل الآن؟»

قال الآخر متجنبًا نظراته: «أعمل على نحوٍ جيد، إذا كان هذا ما تقصده.» ثم نظر بقوة إلى روز، وتغيرت ملامح وجهه إلى دهشة خفيفة.

سأل: «لماذا تحتضن ذلك الشخص الآخر بهذه الطريقة؟»

أجاب آرثر: «إنها حبيبتي.»

«يجب أن تشرح لي ذلك. لقد نسيت الصيغة.»

فكَّر آرثر. وهمهم: «يؤسفني أنه لا يمكنني الشرح. هذا هو ما عليه الأمر فحسب.»

أغمض رجل الساعة الآلي إحدى عينَيه ببطء، وفي الوقت نفسه بدأ صوت دوران خفيف، بعيد ومنفصل. عندما نظر آرثر إليه، لاحظ شيئًا غريبًا آخر. على سطح وجه رجل الساعة الآلي الأملس، انحدرت دمعتان ضخمتان. انزلقتا على كل وجنة في الوقت نفسه، وبالسرعة الدقيقة نفسها.

أكمل الصوت الميكانيكي، بشيء من الاهتزاز: «أتذكر الآن، كل تلك الأمور القديمة … قبل أن نصبح ثابتين، كما ترى. لكن كان عليهم التخلي عنها. كانت ستجعل الساعة معقدة جدًّا. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن ضرورية، كما ترى. فالساعة تُبقيك تعمل إلى الأبد. عملية الانقسام أصبحت من الماضي، انقسامك إلى قطعٍ صغيرة تنمو مثلك … النسل، هكذا كانوا يُسمونها.»

أدرك آرثر الفكرة بدرجة ما. قال بتردُّد: «لا يوجد أطفال.»

هزَّ رجل الساعة الآلي رأسه ببطء من جانب إلى آخر. «لا أطفال. لا حب … لا شيء سوى الاستمرار إلى الأبد، الدوران في فضاء لا نهائي ومعرفة لا تنتهي.»

نظر مباشرةً إلى آرثر. وأضاف: «والأحلام. نحن نحلم. نحلم، كما تعلم.»

همهم آرثر باهتمام: «ماذا عن هذه الأحلام؟»

أوضح رجل الساعة الآلي: «حالات الحلم هي أعلى مراحل تطور الساعات. إنها باهظة الثمن جدًّا؛ لأن عملية تصنيع الأحلام مُكلِّفة. كل شيء ملفوف على بكرة، كما ترى، ثم يُركَّب في الساعة ويُفَك. الأحلام مثل الحياة، ولكنها بالطبع ليست حقيقية. ثم توجد التسجيلات، كما ترى، التسجيلات الموسيقية. تُركَّب في الساعة أيضًا.»

تجرَّأ آرثر، وقال: «ولكن هل لديكم جميعًا ساعات؟ هل تُولَدون بها؟»

قال رجل الساعة الآلي، بنبرة بدا عليها انزعاجٌ غامض: «نحن لا نُولَد، نحن موجودون فحسب. لقد بقينا على حالنا منذ أيام الساعة الأولى.» تأمَّل لحظة، وتجعَّد جبينه بخطوطٍ منتظمة. «بالطبع، هناك الآخرون، الصانعون، كما تعلم.»

ردَّد آرثر: «الصانعون؟»

«نعم، لن تعرفهم، رغم أنكَ لستَ مختلفًا كثيرًا عنهم. الاختلاف الوحيد أنك ترتدي ملابس مثلنا، والصانعين لا يرتدون ملابس. هذا ما كان يحيرني بشأنك. النظرة في عينيك تذكِّرني بالصانعين. لقد جاءوا بعد الحروب الأخيرة. كل ذلك مكتوب في التاريخ. كان هناك الكثير من القتال والقتل والتفجير والتسميم، ثم جاء الصانعون ولم يقاتلوا. كانوا هم من اخترعوا الساعة لنا، وبعد ذلك أصبح من الضروري أن يركِّب كل رجل ساعة داخله، ثم لم يكن في حاجة إلى القتال مرة أخرى؛ لأنه يمكنه التحرك في عالم متعدد الأشكال حيث هناك متسع للجميع.»

قال آرثر: «ولكن ألم يعترض الآخرون؟»

«يعترضون على ماذا؟»

«على تركيب الساعة فيهم.»

قال رجل الساعة الآلي: «هل ستعترض على حل جميع مشكلاتك نيابةً عنك؟»

اعترف آرثر بتواضع: «أظن لا.»

أكمل الآخر: «هذا ما فعله الصانعون للإنسان. كانت الحياة قد أضحت مستحيلة، وهذه هي الطريقة العملية الوحيدة للخروج من المشكلة. كما ترى، كان الصانعون أذكياء جدًّا، وهادئين ولطفاء جدًّا. كانوا مختلفين تمامًا عن البشر العاديين. بادئ ذي بدء، كانوا حقيقيين.»

لم يستطع آرثر الامتناع عن السؤال: «ولكن ألست حقيقيًّا؟»

ردَّ رجل الساعة الآلي بحدة: «بالطبع لا، أنا مجرد اختراع.»

اعترض آرثر: «ولكنك تبدو حقيقيًّا.»

أطلق رجل الساعة الآلي قهقهةً خافتة ناشزة.

«نحن نشعر بأننا حقيقيون عند تشغيل حالات الحلم داخلنا، أو التسجيلات الموسيقية. لكنَّ الصانعين حقيقيون، ويعيشون في العالم الحقيقي. لا يُسمَح لأي رجل ساعة آلي بالعودة إلى العالم الحقيقي. الساعة تمنعنا من ذلك. كان السبب في اختراع الساعة أننا كنا مصدر إزعاج وعائقًا أمام الصانعين.»

سأل آرثر: «ولكن كيف يكون العالم الحقيقي؟»

قال رجل الساعة الآلي، وهو يرفرف بأذنَيه في يأس: «كيف لي أن أعرف؟ أنا ثابت. لا يمكنني أن أكون أي شيء سوى ما تسمح لي الساعة به. ولم يَنتَبْني الشك إلا عندما جئت إلى عالمكم. إنه مكان صغير ومبهج. ولديكم نساء.»

حبس آرثر أنفاسه. «أليس لديكم نساء؟»

«بلى. كما ترى، أبقى الصانعون جميع النساء لأنهن أكثر واقعية، ولم يرغبوا في استمرار القتال، أو العالم الذي يريده الرجال. لذا أخذ الصانعون النساء منا، وحبسونا داخل الساعات، وأعطونا العالم الذي نريده. لكنهم لم يتركوا لنا مجالًا للهرب إلى العالم الحقيقي، ولا يمكننا أن نضحك أو نبكي بطريقة طبيعية.»

اقترح آرثر: «لكنك تحاول.»

قال رجل الساعة الآلي. بحزن: «إنه مجرد عطل. بالنسبة إلينا، الضحك أو البكاء هي أعراض لخللٍ ما. عندما نضحك أو نبكي يعني ذلك أننا في حاجة إلى تزييت أو تعديل. فقد خرج شيء ما عن السيطرة. لأنه لا ضرورة في حياتنا إلى هذه الأشياء.»

انخفض صوته تدريجيًّا، وانتهى بصوتٍ ناعم، مثل صوت أجراس الأغنام التي تُسمع عن بُعد. خلال فترة الصمت الطويلة التي تلت ذلك، كان لدى آرثر الوقت لاستعادة ذلك الشعور بالشفقة على هذا الكائن الغريب الذي رافق انطباعه الأول عنه؛ لكنه الآن تحوَّل إلى تعاطفٍ عميق، مصحوبٍ بحُمى تساؤل شديدة.

شرع في الحديث، بصوتٍ يحمل نبرة بكاء مكبوتة: «ولكن هل يجب أن تكون دائمًا هكذا؟ ألا يوجد أمل لك؟»

قال رجل الساعة الآلي، وقد دوَّت الكلمة بنغمة نحاسية فارغة: «لا يوجد. نحن مصنوعون، كما ترى. بالنسبة إلينا، الخلق انتهى. كل ما يمكننا فعله هو أن نُحسِّن أنفسنا ببطء شديد، لكننا لن نتمكن أبدًا من الهروب تمامًا من هذا الجسد الميت. ولا يمكننا إلا أن نلوم أنفسنا. أعطانا الصانعون فرصتنا. إنهم كائنات ذات صبر وسماحة لا نهائيَّين. لكنهم رأَوا أننا كنا مصمِّمين على الاستمرار كما نحن؛ ولذا ابتكروا هذه الوسيلة لمنحنا ما نرغب فيه. كما ترى، كانت الحياة واديًا من الدموع، والرجال متعبين من الرحلة الطويلة. قال الصانعون إننا إذا ثابرنا فسنصل إلى النهاية، ونشهد أفراحًا لم ترَها الأرض. لكننا لم نستطع الانتظار، وفقدنا الإيمان. بدا لنا أنه إذا استطعنا التخلص من الموت والمرض، من التغيير والتحلل، فإن جميع مشكلاتنا ستنتهي. لذا فعلوا ذلك من أجلنا، وثبتنا على حالنا كما كنا، باستثناء أنه لم يعُد يعيقنا الزمان والمكان.»

توقف لحظة وصارع نوعًا غريبًا من العواطف الميكانيكية. «والآن يلاعبوننا. يضبطون ساعاتنا، ويجعلوننا نفعل كل أنواع الأشياء لمجرد التسلية. يجربون معنا جميع أنواع التجارب، ونحن لا نستطيع مساعدة أنفسنا لأننا تحت سيطرتهم؛ وإذا أرادوا يمكنهم إيقاف الساعة، وحينها لن نكون شيئًا على الإطلاق.»

قال آرثر: «ولكن هذا ليس فعلًا لطيفًا منهم.»

«أوه، إنهم لا يؤذوننا. نحن لا نشعر بأي ألم أو إزعاج، فقط إحساس باهت بالتمرد، وحتى ذلك يمكن تعديله. كما ترى، يمكن للصانعين تغييرنا بطرق لا حصر لها، ولا يوجد أي نوع من الكائنات — بدءًا من الفلاسفة العِظام وصولًا إلى شخصيات الكتب — ليس ممكنًا أن نتحوَّل إليها عن طريق لفِّ أحد عقارب الساعة. إنه أمر رائع جدًّا، كما ترى.»

رفع ذراعَيه وأسقطهما مرة أخرى بحدة.

«لن تصدق بعض الأشياء التي يمكننا فعلها. الساعة هي اختراع رائع للغاية! والاقتصاد. بعض عقارب الساعة، كما ترى، يمكن استخدامها لأغراضٍ مختلفة تمامًا. أدِرها عدة مرات وستحصل على سياسي، وأدِر أكثر قليلًا وستحصل على خبير مالي. اضغط قليلًا على أحد المصدات وسنتحدث عن تقوى البشر، واضغط بقوة أكثر ولن يصدر منا سوى التجديف. أحكِم تثبيت أحد المسامير وسنصبح إيثاريين، وأرخِه وسنصبح وحوشًا. كما ترى، قبل أجيال كان معروفًا تمامًا أفضل وأسوأ ما يمكن للإنسان أن يكون عليه؛ والصانعون يحبون أن يُسلوا أنفسهم بإعادة ذلك من جديد. لا يوجد لديهم أفضل أو أسوأ.»

قال آرثر في توسُّل: «ولكن أنت، كيف هي حياتك؟»

تدفقت الدموع مجددًا على وجنتَي رجل الساعة الآلي، هذه المرة في سلسلة من التيارات المنتظمة.

«ليس لدينا سوى أمل واحد، وحتى ذلك وهم. أحيانًا نظن أن الصانعين سيأخذوننا على محمَل الجِد في النهاية؛ ومن ثَم سيجعلون الآلية مثالية كي نصبح مثلهم. ولكن كيف يمكنهم فعل ذلك؟ كيف يمكنهم … إلا إذا … إلا إذا …»

سأل آرثر بتلهف، خائفًا من انهيارٍ أخير: «إلا إذا ماذا؟»

قال رجل الساعة الآلي مُصدرًا صوت نقر خفيفًا: «إلا إذا متنا، إلا إذا وافقنا على أن نتحطم، ونُدفن في الأرض، وننتظر حتى نتحوَّل ببطء إلى ديدان صغيرة، ثم إلى ديدان كبيرة، وبعد ذلك إلى مخلوقات زاحفة ثقيلة الحركة، وأخيرًا نعود مرة أخرى إلى وادي الدموع.» تأرجح قليلًا وإصبعه على أنفه. «ولكن ذلك سيستغرق وقتًا طويلًا جدًّا، كما تعرف. لهذا السبب اخترنا أن تكون لدينا الساعة. لم نكن صبورين. كنا متعبين من الانتظار. قال الصانعون إن علينا أن نكون صبورين، ولم نستطع أن نتحلَّى بالصبر. قالوا إن الخلق حقًّا يحدث في غمضة عين، وعلينا أن نكون صبورين.»

ردَّد آرثر: «الصبر! نعم، أعتقد أنهم كانوا على حق. يجب أن نكون صبورين. يجب أن ننتظر.»

لبضع لحظات، كافح رجل الساعة الآلي مع سلسلة من الجمل المتقطعة والكلمات غير المترابطة، وأخيرًا بدا أنه يدرك أن اللعبة قد انتهت. ختم كلامه بهمسٍ حاد: «لا أستطيع الاستمرار على هذه الحال. لم يكن من المفترض أن أحاول التحدث بهذه الطريقة. هذا يربك الآلية. لم أكن مخصصًا لهذا النوع من الأمور. يجب أن أذهب الآن.»

بدأ يتلاشى تدريجيًّا. ومدَّ آرثر يده، بأدبٍ عفوي، وذراعه اليسرى لا تزال محيطةً بروز. انحنى رجل الساعة الآلي قليلًا إلى الأمام. بدا أنه يدرك نِيَّة آرثر، ومد يدًا مهتزة. لكن حال بينهما عدة أيام.

أكد الصوت الخافت: «أوه، ألَا ترى؟»

قال آرثر رافعًا صوته: «ولكن ماذا علينا أن نفعل؟ أخبرنا بما يجب علينا فعله لتجنُّب مصيرك؟»

«لا أعرف.» بدا الصوت الرقيق كأن شخصًا يصرخ من بعيد. «كيف لي أن أعرف؟ كل شيء صعب للغاية. ولكن لا تجعلوه أكثر تعقيدًا إلى درجة لا يمكنكم فعل شيء حيالها. استمروا في الابتسامة … في الضحك … يا له من عالم صغير ومبهج للغاية.»

كان يتلاشى بسرعة.

صرخ آرثر، دون أن يعرف سبب حماسته البالغة: «عُد. يجب أن تعود وتخبرنا.»

تردَّد صدى صوته عبر الشهور: «والابالو. ووم … ووم …»

صاحت روز، وقد استيقظت فجأة: «ما هذا؟»

قال آرثر، ممسكًا بها في إحكام: «أنصتي. كوني هادئة … أريد أن أستمع إلى شيء ما.»

سمع أخيرًا، بصوتٍ رفيع ومميز: «تسعة شلنات وتسعة بنسات …» ثم حلَّ الصمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥