لغز رجل الساعة الآلي
١
بعد ساعة ونصف الساعة، تناول الطبيب ألينجهام وجريج الشاي معًا في غرفة المعيشة في منزل الطبيب. كانت المشربيَّات تُطل على الشارع الرئيسي الواسع، الذي كان مزدحمًا بالفعل بالمتنزِّهين مساء السبت. تجمَّع حشد كبير على نحوٍ غير عادي حول مدخل نُزُل بلو لايون، الذي يقع مباشرةً على الجانب الآخر، حيث سرعان ما انتشر الخبر في جميع أنحاء البلدة. انتقلت شائعات غريبة من أذن إلى أخرى حول هُوية ذلك الشخص الغريب الذي أدَّى سلوكه إلى نهاية مزعجة لمباراة الكريكيت. أولئك الذين شهدوا بالفعل هذا الحدث الغريب، فضلًا عن الطيران السريع لرجل الساعة الآلي، روَوا نسختهم الخاصة من القصة، مضيفين تفاصيل جديدة في كل مرة، ومعدِّلين في نظرياتهم المحلِّلة للموقف؛ ومن ثَم أصبح مَن سمعوا عن الحدث في النهاية أكثر رعبًا وانبهارًا من أولئك الذين شاهدوه بأم أعينهم.
جلس ألينجهام في صمت تام، يحتسي رشفة من الشاي بين الحين والآخر، ويقطع الكعك إلى مربعات صغيرة مرتَّبة دسَّها في فمه على دفعات. ومن لحظة إلى أخرى، كان يمرِّر يده على شاربه الكبير ذي اللون البُني المُصفَر، ويسحبها بعنف. كانت حالته العصبية المتوترة ناجمة جزئيًّا عن حقيقة أنه كان مضطرًّا إلى الانتظار طويلًا لتناول الشاي؛ لكنه أيضًا اختلف بشدة مع جريج في نقاشهما حول رجل الساعة الآلي. في هذه اللحظة، كان الطالب الشاب يقف عند النافذة، يراقب الحشد المتحمس خارج النُّزل. كان قد فرغ من احتساء الشاي، ولم يكن يرغب في أن يدفع بنظريَّته الخاصة حول الموقف الغامض إلى حد الشجار مع صديقه.
بعد وقوع الكارثة، كان هناك الكثير من العمل الذي يتعيَّن القيام به. تنقَّلت سيارة ألينجهام أربع مرات بين ملعب الكريكيت والمستشفى المحلي، وكان الوقت تجاوز السادسة والنصف قبل أن يُنقَل اللاعبون الأحد عشر والحَكَمان إلى هناك، وتُعالَج جروحهم ويُطلَق سراحهم. لم يكن أحد مصابًا بإصابات خطيرة، ولكن في كل حالة كان الكشط على جانب الرأس خطيرًا إلى درجة تتطلَّب العلاج. استغرق بعضهم وقتًا طويلًا لاستعادة وعيه الكامل، وكان جميعهم في حالة من الارتباك العقلي، وأدلوا برواياتٍ غير متماسكة تمامًا عن الحادثة.
كانت هناك أوقات، خلال تلك الرحلات ذهابًا وإيابًا من المستشفى وإليها، وجد فيها جريج صعوبة في منع نفسه من الانفجار ضاحكًا. كان عليه أن يعَضَّ شفته بقوة في محاولة للسيطرة على خياله الجامح. من ناحية، كان مستغربًا بالفعل أن يتمكن هذا الكائن الأخرق، بحركته الواضح عليها البطء، في لحظاتٍ معدودة، من إصابة العديد من الرجال الأصحاء والنشطاء. أما أداؤه في ضرب الكرة، على ما بدا من تفرُّده، فقد أصبح شيئًا بلا أهمية. فالسرعة اللاهثة، والهدف الذي لا يُخطأ، والقوة الهائلة خلف كل ضربة، والجرأة غير المعقولة، كلها أمور جعلت جريج يكاد يقتنع أن الأمر هزليٌّ على نحوٍ يصعب تصديقه. ولكن عندما دفع نفسه للنظر إلى الأمر بجدية، وجد أنه لم يكن هناك ما يكفي من الأدلة التي تدعم التفسير القائل بأن رجل الساعة الآلي كان مجرد مجنون خطير. فالطيران بسرعة خيالية، والقفزة من فوق الحاجز، والتسارع اللاحق في الركض إلى سرعة تتجاوز تمامًا قدرة البشر، كلها أمور أقنعت الطالب الجامعي الشاب، الذي كان متزنًا إلى حدٍّ كبير، رغم حساسيته، بأنه يجب العثور على تفسير آخر لهذا الحدث الاستثنائي.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك قصة آرثر ويذرز عن الأذنَين المرفرفتَين، والمحادثة الغريبة التي دارت بينه وبين رجل الساعة الآلي، وحركاته المتقطعة، وإظهاره المفاجئ للكفاءة الخارقة في تناقض مع سقطاته المروعة. بمجرد أن طرأت على ذهنه فكرة أصله الآلي، كان من الصعب أن يكف عن التفكير فيها. فقد أصبح شيئًا مشوِّقًا للغاية ومثيرًا للتفكير. ولولا أن حسَّ الفكاهة لدى جريج قد أثارته بشدةٍ الطبيعة الساخرة للحادثة، لشعر بالفعل أن اكتشافًا عظيمًا كان على وشك الظهور في العالم الحديث. فلم يخطر بباله من قبلُ أن الظواهر غير الطبيعية قد تظهر للبشر على شكل نوع من المُزاح. بطريقة ما، كان يتوقَّع أن تقع مثل هذه الحوادث في أجواء من الهدوء والجدية في جوف الليل. لكنَّ الحدث قد وقع في وضح النهار، وكانت تختلط فيه بالفعل لاواقعيَّته الغريبة بالتعقيد الأكثر عبثية للظروف الإنسانية البحتة.
كان ألينجهام يملك تفسيرًا لكل شيء. قال إن الضجيج العالي كان بسبب آلة ما يحملها هذا المجنون الذكي في جيبه. وجادل بأن الطيران السريع كان على الأرجح بسبب نوع من الأحذية الكهربائية. لا شيء مستحيل ما دام يمكنك تقديم بعض التفسيرات المعقولة للعقل البشري. أما السلوكيات الغريبة لرجل الساعة الآلي، وتوقفاته وانطلاقاته المفاجئة، وإيماءاته «الأنجلوسكسونية» ومشيَته المتقطعة، فقد صنَّفها كلها على أنها تندرج تحت حالة من الترنُّح الحركي المتقدم.
بينما كان الطبيب منشغلًا بتناول الشاي الذي تأخر عن موعده، عاد عقله إلى حالته المعتادة من الشك المُضطرب. أغضبته فكرة جريج بأن رجل الساعة الآلي يمثِّل لغزًا، إن لم يكن معجزة. في سن الأربعين، لا يرحب المرء بسهولة بالاكتشافات التي قد تقلب عالمه الخاص من الحقائق المقبولة، وكان ألينجهام قد توقف منذ فترة طويلة عن متابعة أحدث نتائج البحث العلمي. قبل سنواتٍ أجرى بعضَ الأبحاث المحدودة، ولكنه اكتشف أن آخرين يعملون عليها في الوقت نفسه. كانت لديه آمال، مثل جميع طلاب دفعته. فالجميع في ذلك الوقت متحمسون للإمكانات الكبيرة في علم الطب، خاصة في مجال علم الأمراض العصبية ودراسة الأمراض الناجمة عن أساليب الحياة الشديدة التعقيد. كان هناك الكثير من العمل الجيد، والكثير من إثارة الجدل غير المسئولة، وفي حالة ألينجهام، كان ثَمة شكٌّ متزايد أن الجسم البشري لم يكن يتحمَّل جيدًا الضغوط التي تفرضها الحضارة الحديثة. وتساءل آنذاك عما إذا كانت ستُجرى تجارب، يومًا ما، في سبيل تطبيق المذاهب التطورية على التقدم الفسيولوجي، لكن ذلك الأمل كان أقصر آماله أجلًا.
أسعده ترك العمل في المستشفيات لصالح ممارسة مريحة وحياة هادئة في بلدة ريفية. وقد وفَّرت له جريت وايميرينج القدر الكبير من التسلية الذي داوى الجرح الطفيف في كبريائه الناجم عن اكتشافه أنه قد بالغ في تقدير تفرُّده. في بضع سنوات، حدث الكثير مما ساعد على تأكيد نظرته الجديدة إلى نفسه ككائنٍ اجتماعي يُقدِّر وسائل الراحة في الحياة. وبالإضافة إلى ذلك، تمكَّن من الاستمرار في لعب الكريكيت. وفي الشتاء، أُقيمت حفلات لعبة البريدج، ومسرحيات الهُواة، وحفلات العشاء مع أشخاص عاديين لكنهم ممتعون، وأنشطة محلية يمكن لرجلٍ يعاني من مشكلات صحية، ومن ضِيق تعاطفه بشكلٍ ملحوظ، أن يغمر نفسه فيها دون أن يبذل جهدًا كبيرًا كي يرقى إلى المشاركة في مثل هذه المناسبات. وكان يتمتع بروح الدعابة. ولم يجد أدنى صعوبة في الحفاظ على سمعته كصانع للنِّكات الذكية الارتجالية التي تحتوي على بعض المفارقات. فقد كان في مقدوره أن يقول أشياء من قبيل: «وحدهم الذين ينجحون في الحياة هم الذين لديهم عقول، ويمكنهم نسيان ذلك»، أو «أن تكون كسولًا هو هدف الجميع، لكنَّ المجتهدين وحدهم هم مَن يحققونه.» وعندما سخرت منه سيدة شابة ظنَّت أنه قد أضاع مواهبه، وربما عبقريَّته، رد قائلًا: «العبقرية ليست سوى تراكم للأمراض المهمَلة.»
في الآونة الأخيرة، عانى من تهيُّجات غريبة لا يمكن عَزوها بسهولة لمشكلات في الكبد، وشكوك، وإحساس بأنه قد قَبِل حتمًا نسخة ثانوية من نفسه. كان من السهل على أي شخص قديم العهد به أن يلاحظ التغيير في شخصيته، والميل الواضح نحو التحفُّظ في السياسة، والنزعة الرجعية في أفكاره العامة. أصبح ثابتًا في آرائه، ويؤمن بعالمٍ مستقر. كانت آراؤه، في الواقع، تلقائيةً مثل تمارينه السويدية في الصباح وتناوله للتفاح قبل الإفطار. ولكن كانت تعوِّض ذلك زيادة طفيفة في حس الفكاهة لديه، كما كان هناك زواجه القريب من ليليان باين، الابنة الموهوبة لأحد أعضاء مجلس البلدة الأثرياء.
كانت هذه الحقيقة الأخيرة تسيطر على تفكيره في الوقت الحالي، لكنها أيضًا مصدر آخر للإزعاج. كانت ليليان مثقفة، بالإضافة إلى كونها فاتنة، وأصبحت الصفة الأولى أكثر وضوحًا كلما ازدادت علاقتهما قُربًا. فبدلًا من أن ترسل إليه الرسائل الصغيرة الساحرة لدعوته إلى تناول الشاي، أصبح الآن يتلقَّى منها المقالات الطويلة، التي كان عليه الاعتراف بأنها ممتازة حقًّا، حول المكانة الحقيقية للمرأة في الحياة الحديثة. كان مضطرًّا إلى الإشادة بها، لكن هذا النشاط الفكري لم يكن يناسب ذوقه على الإطلاق. كان يفضِّل أن تكون لدى المرأة أفكار، لكن المرأة التي تفكر كانت مصدر إزعاج له.
كل هذه الإصلاحات الصاخبة كانت تمثِّل له مجرد عدم الرغبة في الانشغال بشئون الحياة الضرورية، وهروبًا من مواجهة الشرور الحتمية، ورفضًا لقبول الحياة كمدرسة للتعلم عبر التجربة والخطأ. بالإضافة إلى ذلك، إذا تمكَّنت النساء من فكرة الكفاءة، فستكون هذه نهاية كل شيء. إذ سيتسبَّبن في فوضى «الحلم المجنون» أسوأ مما فعل الرجال. يرتكب النساء أخطاءً أقل، ويَمِلن بطبيعتهن إلى دفع كل ما يقمن به نحو نجاح عنيف وغير مريح.
الكفاءة! كم كان يكره هذه الكلمة! كانت تذكِّره بنضالاته التي حطَّمت قلبه، ليس فقط مع صعوبات علم مُرهِق، ولكن أيضًا مع تعقيدات الزمن الذي قضى فيه شبابه، ذلك الزمن الذي كان فيه جميع الشباب المثقفين يحاولون العثور على طريقة للتخلص من الشرور الاجتماعية التي كانت موجودة آنذاك، ولا تزال موجودة، في ذكرى ساخرة لجهودهم العقيمة. في تلك الأيام، كان من الصعب أن تجرؤ على الحركة في الأوساط الفكرية دون أن تكون قد وضعت حلًّا شخصيًّا للمشكلة الاجتماعية، وهو إنجاز يتطلب الكثير من القراءة الشاقة، وحضور اجتماعات الجمعية الفابية، وقدرًا لا بأس به من النشاط الفكري التطوعي.
إذا لزم الأمر، كان في إمكان المرء أن يحيي كلَّ ذلك من جديد. كم كانت الحياة مختلفة عندما تُعاش بحق على عكس التنبؤات الفطنة لشاب متشكِّك! كان هناك أساس تحت كل تلك الموجة من الاستفسار والفضول، كل ذلك القلق والضيق؛ وهو الحياة نفسها، المعروفة والمقدرة، شيء يتمسك الإنسان به بقوة متزايدة. ولكن العقل نما فتجاوز مرحلته التأملية، واستقر على التفكر الواعي في الوجود الملموس.
ثم، بصدمة حادة، صارت أفكاره موضعَ تفكر من جديد في ظرفٍ مزعج آخر، رجل الساعة الآلي السخيف هذا، الذي كان جريج يصدِّق أمره إلى درجة الاعتقاد بأنه يستحق أن يطرح قضية هذا الأمر المستحيل أمام رجل يكبره بسنوات في الخبرة والفكر العقلاني.
٢
نهض ألينجهام، ووقف خلف جريج عند النافذة. رفع الأخير رأسه قليلًا كأنه يحاول التقاط أي كلمات قد تتسرب من ضجيج الأصوات المتحمسة في الجهة المقابلة. لكن لم يكن هناك شيء واضح يمكن تمييزه.
قال ألينجهام، وهو يومئ برأسه، ويمسح شاربه بمنديل: «كما ترى، إذا سمحت للأمر أن يشغل تفكيرك، فستجد نفسك مع هؤلاء النمَّامين في البلدة. سوف يتحدثون عن هذا الأمر حتى يصبح ضجة لا تلبث أن تزول سريعًا.»
هزَّ جريج كتفَيه في صمت. وبعد قليل، نظر إلى ساعته. «تُرى هل سيعود جراي قريبًا؟» كان جراي محقق الشرطة المحلي، الذي كلَّفوه بالقبض على رجل الساعة الآلي. وقد أعاره ألينجهام سيارته لهذا الغرض.
قال الأخير: «أظن أننا لن نراه قبل منتصف الليل. حتى لو أمسك بالرجل قبل الغسق، وهو أمر بعيد الاحتمال، فسيستغرق منه الأمر ساعة أخرى تقريبًا للذهاب به إلى المصحة.»
لم يستطِع جريج أن يكتم ضحكة مفاجئة. أشعل سيجارة ليخفي ارتباكه. ومرة أخرى، تخيل هذا الشخص الطائر في الأفق. قال بثبات: «بالسرعة التي كان يسير بها، وباستثناء الحوادث، أعتقد أنه قد وصل إلى لندن الآن.»
رد ألينجهام: «سيقع حادث. تذكر ما أقوله، لن يبتعد كثيرًا.»
في تلك اللحظة، دخلت السيدة ماسترز، مدبِّرة منزل الطبيب العجوز، إلى الغرفة لتجمع أغراض الشاي. كانت امرأة ريفية، تميل إلى الحديث دون تحفُّظ، إلا عندما يرمقها الطبيب بنظره، كما حدث في هذا الموقف. لكنها في هذه المرة تجنَّبت هذا التقييد لطبيعتها؛ فلم تكن تنوي أن تحرم نفسها من نصيبها في النميمة المنتشرة في البلدة. وضعت الصينية على الطاولة، واتخذت من الزائر ذريعة لإطلاق العنان لثرثرتها.
«أوه، يا سيد جريج، يقولون إن الشيطان جاء إلى جريت وايميرينج أخيرًا. لستُ متفاجئةً لسماع ذلك، فالأمور في هذه البلدة أصبحت مروعة منذ الحرب. ذلك بسبب المسكرات والشباب الذين يفعلون ما يحلو لهم.»
سأل جريج بلطف: «هل سمعتِ أي شيء جديد؟»
قالت السيدة ماسترز، وهي ترتِّب أغراض الشاي: «فقط عن السيد وينتشيب العجوز. لقد رأى الرجل الذي أسقط لاعبي الكريكيت بالمضرب. هذا إن كان رجلًا، لكنهم يقولون …»
قاطعها ألينجهام فجأة: «أين رآه السيد وينتشيب؟»
«على الطريق من بابتشيرش يا سيدي.» خفَّفت السيدة ماسترز من حماستها أمام نظرة الطبيب المتفحصة. «مسكين السيد وينتشيب العجوز، لم يعُد شابًّا كما كان، وقد أفزعه الأمر حقًّا. يقول إنه كان يسرع الخُطى كي يصل إلى المنزل في الوقت المناسب لتناول الشاي، وفجأة مَر شيء بجانبه مرورًا خاطفًا إلى درجة أنه بالكاد لاحظه. نظر حوله، لكنه اختفى في لحظة. يعتقد أنه كان الشيطان نفسه. فقد كانت هناك نار تخرج من فمه، وكانت عيناه مثل فحمتَين حمراوَين …»
وطئ ألينجهام بقدمَيه على السجادة. «لن أستمع نهائيًّا إلى مثل هذا الكلام يا سيدة ماسترز! امرأة في مثل سنك، ومن المفترض أنها حكيمة، تستمع إلى هذا الهراء. أشعر بالعار منك.»
ارتجفت السيدة ماسترز قليلًا من توبيخه، لكنها لم تُظهِر أي دلالة على ندمها. قالت: «أنا أكرر ما يقال فحسب. وعلى حد علمي، قد يكون الشيطان. يقول الكتاب المقدس إنه سيُحرَّر لمدة ألف عام، وأنا متأكدة أنه قد يبدأ ظهوره هنا، كما قد يبدأ في أي مكان آخر. فالمكان مليء بالشرور بما يكفي.»
تمتم ألينجهام مستهزئًا: «هُراء خرافي.» وواصل تمتمته بين الحين والآخر، بينما كانت السيدة ماسترز تجمع بسرعةٍ الأكواب والصحون، وانسحبت بكرامة إلى المطبخ.
قال ألينجهام بمجرد أن أغلقت الباب: «ربما تتفق مع السيدة ماسترز، أليس كذلك؟»
ضحك جريج، وغاص في كرسي مريح. «الخرافة، في النهاية، هي شكل مشروع رغم بدائيتها من أشكال التساؤل البشري. هؤلاء الناس الطيبون يريدون أن يؤمنوا بالشيطان. وفي أول فرصة يستحضرون جلالته الشيطانية. إنهم محقُّون تمامًا. فهم يستخدمون المادة الوحيدة المتاحة في عقولهم لاستكشاف ما يلغز عليهم.»
قال ألينجهام محاولًا أن يبدو متململًا: «نوع من السحر.»
قال جريج مؤكدًا: «هذا رأيك، ولكنه يساعدهم بالفعل على فهم المستقبل، تمامًا كما أن جميع معارفنا العلمية تساعدنا على فهمه.»
قال الآخر وهو يفتح عينَيه بسرعة: «لماذا تزجُّ بالمستقبل في الأمر؟»
قال جريج، بنبرة رتيبة متعمَّدة كما لو كان يحاول إخفاء حماسته: «لأنه إذا كانت نظريتي صحيحة، فأنا أفترض أن رجل الساعة الآلي قد جاء من المستقبل.»
قال ألينجهام ضاحكًا: «إنه افتراض غير ضار.»
أراح جريج رأسه على ظهر الكرسي، ونفث دخان سيجارته. «سنتجاوز ظروف ظهوره المفاجئ من أعلى التل؛ لأنه من الواضح أنه ربما قد جاء من إحدى القرى المجاورة، على الرغم من أنني لا أظن ذلك. أنت نفسك تعترف أن طريقة اقترابه كانت مدهشة، وأنه بدا تقريبًا كأنه جاء من العدم. ولكن دعنا من ذلك. أعترف أن هناك حتى الآن قليلًا من الحقائق التي تدعم نظريتي، ولكن من الجدير بالذكر على الأقل أن أحد الأسئلة الأولى التي طرحها لم يكن عن مكانه، بل عن زمانه.»
قاطعه ألينجهام: «لا أفهمك جيدًا.»
«لقد سأل آرثر ويذرز عن أي سنة نحن. بطبيعة الحال، إذا كان قد جاء فعلًا من المستقبل، فإن أول ما يشغله هو معرفة الفترة التاريخية التي ربما قد وصل إليها عن طريق حادث ما.»
«ولكن كيف يكون قد أتى من المستقبل؟»
قال جريج بسرعة: «الزمن شيء نسبي. فالمستقبل قد حدث بالفعل تمامًا كما حدث الماضي. إنه يحدث في هذه اللحظة.»
قال ألينجهام متذمرًا: «أوه، حسنًا، قد تكون على حق في هذا. لا أعلم. أعترف أنني لست مطلعًا على هذه الأفكار المعقدة.»
استكمل جريج قائلًا بعد وقفة قصيرة: «أعتبر أن لتلك العبارة التي قالها أهميةً كبيرة. لأنه، بالطبع، إذا كان رجل الساعة الآلي حقًّا، كما اقتُرح، كائنًا نصف آلي، فإنه لا يمكن أن يكون قد جاء إلا من المستقبل. فبحسب ما أعرف، لم يصل التطور الحالي إلى مرحلة تجعلنا ندرس بجدية فكرة استحداث أجزاء ميكانيكية إلى الجسم البشري، على الرغم من أن هناك تكهنات مبدئية حول الموضوع. نحن على بُعد آلاف السنين من مثل هذا الاقتراح؛ ومن ناحية أخرى، لا يوجد سبب لعدم حدوث ذلك بالفعل خارج معرفتنا المحدودة بالمستقبل. كثيرًا ما أفكر أن مسار التقدم العلمي يقودنا ببطء، ولكن بثبات، نحو حلٍّ من هذا النوع للصعوبات الفسيولوجية. يُظهِر الجسم البشري علامات الإجهاد تحت ضغوط الحضارة المعقدة المتزايدة. قد يكون هناك حدٌّ لقدرتنا على التكيُّف، وفي هذه الحالة سيتعيَّن على البشرية أن تقرر ما إذا كانت ستغيِّر طريقة عيشها الحالية، أو أن تجد بدلًا من ذلك بعض الوسائل لدعم وظائف الجسم الطبيعية. ربما حدث ذلك، كما أقترح، بالفعل؛ يعتمد هذا كليًّا على المسار الذي اختارته البشرية. إذا استمر تطور الجانب الميكانيكي للحضارة بمعدله الحالي، فلا أرى سببًا يمنع إنسان المستقبل من إيجاد وسائل لتعزيز كفاءته باستخدام وسائل ميكانيكية تُطبَّق على وظائفه الطبيعية.»
اعتدل جريج في كرسيه، وأصبح أكثر جديةً. تململ ألينجهام دون أن يقاطعه فعليًّا.
واصل جريج: «تخيَّل آلية معقَّدة للغاية، نسخة أكثر تقدمًا للأنواع المعقدة العديدة من الآلات الحديثة المستخدَمة اليوم. لا بد أنها ستكون شيئًا دقيقًا للغاية، ولكن تأثيرها في البداية سيكون بدائيًّا بعض الشيء. يمكنني تخيله شيئًا يعمل بدقة لكن ضمن حدود معينة. قد يكون عليهم أن يضمنوا النجاح في بعض الأمور، ولو كان ذلك على حساب بعض الحركات الغريبة. سيتعيَّن عليهم التركيز على شيء واحد في المرة الواحدة. لذلك، عندما جاء رجل الساعة الآلي للعب الكريكيت، فكل ما كان يستطيع فعله هو أن يضرب الكرة. ويجب أن نعترف أنه فعل ذلك بكفاءة عالية، مهما كانت باقي أفعاله عديمة الجدوى.»
قاطعه ألينجهام باحثًا عن علبة التبغ: «ضجة فارغة. هذا كل ما هنالك.»
ردَّ جريج مبتهجًا: «أوه، لن أقبل بذلك، يجب أن نعترف بأن ما رأيناه بعد ظهر هذا اليوم كان غير طبيعي تمامًا. حتى عندما كنَّا نتحدث إليه كان لديَّ شعور قوي يغمرني بأن المُستجوَب لم يكن إنسانًا طبيعيًّا. لا أعني سلوكه فقط. كانت ملابسه غريبة اللون والشكل. وهل لاحظتَ حذاءه؟ أشياء غريبة، باهتة المظهر. كأنها مصنوعة من نوع من المعادن. وماذا عن القبعة والباروكة؟»
قال ألينجهام بحِدَّة وهو يحشو التبغ في غليونه: «كل ما في الأمر أنك تتخيَّل كل هذه الأشياء.»
«لستُ كذلك. لقد لاحظتها حقًّا. بالطبع، لم أعطِها أهمية كبيرة في ذلك الوقت، ولكن بعد ذلك، عندما كان آرثر ويذرز يروي قصته، عاد إليَّ ذلك الشعور الغريب حول هذا الغريب. وقد سيطر عليَّ. ماذا لو كان، في نهاية المطاف، رجل ساعة آليًّا فعلًا؟»
سأل ألينجهام: «ولكن ما رجل الساعة الآلي؟»
«حسنًا، بالطبع لا أستطيع شرح ذلك بالضبط، ولكن المصطلح يشرح نفسه بوضوح. اللعنة، إنه رجل ساعة آلي. يمشي ويتحدث ويتصرف بالضبط كما يمكن للمرء أن يتخيل …»
اندفع ألينجهام قائلًا: «يتخيل! نعم، يمكنك تخيل مثل هذا الشيء حقًّا. ولكنك تحاول أن تُثبِت لي أن هذا المخلوق هو شيء لا يوجد خارج مخيِّلتك، ولا يمكنه أن يوجد خارجها. هذا غير معقول.»
قال جريج برابطة جأش: «لكنك توافق على أنه ربما يكون موجودًا في المستقبل؟»
اعترف الآخر على مضض: «أوه، حسنًا، كل شيء ممكن، إذا نظرت إليه من هذا الجانب.»
«إذن، كل ما علينا فعله هو إثبات أن للمستقبل يدًا في الأمر. يجب أن يقنعنا هذا المجنون أنه ليس من عصرنا، وأنه في الواقع، وربما عن طريق وسائل ميكانيكية، ربما وجد طريقه إلى عصرٍ الناس فيه من لحم ودم. حتى الآن، نحن متفقان؛ لأنني أوافقكَ عن طِيب خاطر في رأيك أن رجل الساعة الآلي لا يمكن أن يكون له وجود في الحاضر؛ ولكني مستعدٌّ لأن أقتنع أنه اختراع وارد تمامًا في المستقبل البعيد.»
كَفَّ عن الكلام؛ لأن سيارةً وقفت في تلك اللحظة أمام النافذة، ونزل المحقق جراي في هيئته الضخمة برفقة اثنين من رجال الشرطة وصبي يبلغ من العمر ١٥ عامًا تقريبًا، الذي كان جريج والطبيب يعرفان أنه أحد سكان قرية بابتشيرش المجاوِرة.
٣
قال ألينجهام عندما دخل الجمع بخطواتٍ متعثِّرة إلى الغرفة، بعدما مسحوا أقدامهم على البساط: «حسنًا. هل من جديد؟»
قال المحقق وهو يخلع عنه قبَّعته كاشفًا عن غُرَّة من الشعر البرتقالي: «ليس هناك الكثير أيها الطبيب. لم نجد الرجل، وبقدر ما يمكنني الحُكم، ليس من المرجح أن نجده. لكننا وجدنا هاتَين.»
وضع قبعة رجل الساعة الآلي وباروكته على الطاولة. التقطهما جريج على الفور، وبدأ في تفحصهما بفضولٍ شديد.
تابع المحقق: «وهذا توم درايفر الصغير؛ لقد رأى الرجل بنفسه. هكذا وجدنا القبعة والباروكة. أخبِر السيدَين بما رأيتَ يا توم.»
كان توم درايفر شابًّا بطيء الفهم في أفضل الأحوال، لكنه بدا شديد التوتُّر بسبب المسئولية الكبيرة المُلقاة على عاتقه الآن. تقدَّم بارتباك، وهو يضم ركبتَيه معًا، ويمسك بقبعة ممزَّقة بين أصابعه المتسخة بشدة. كادت كتلة كبيرة من الشعر الأصفر المجعد تسقط على عينَيه البُنيتَين الكبيرتين، وكان وجهه طويلًا ونحيلًا.
شرع في الحديث بخجل: «رأيتُ الرجل، رأيته وأنا أسير على الطريق إلى بابتشيرش.»
قال جريج: «هل كان يسير بسرعة كبيرة؟»
«لا يا سيدي، لم يكن يمشي على الإطلاق. كان قد سقط في حفرة الجير بجانب روكس بوتم.»
انفجر ألينجهام في ضحكة هادرة عالية، لكن جريج اكتفى بالابتسام وأنصت.
قال توم، محركًا قبَّعته في قلق: «هكذا رأيته. كنتُ في عجلة من أمري بعض الشيء لأن أمي طلبت مني ألَّا أتأخر عن موعد تناول الشاي، وكنتُ قد ذهبت إلى البلدة لشراء الزبد لأنه كاد ينفد منا. عندما مررتُ بروكس بوتم — وكما تعرفون ينحني الطريق قليلًا بحدة إلى اليسار حيث تقع حفرة الجير — الأمر مربك بعض الشيء لمن لا يعرف الطريق …»
قال جريج بنفاد صبر: «نعم، استمر.»
«حسنًا، بينما كنت أتقدم، رأيت شيئًا يتحرك فوق الحفرة. في البداية ظننت أنه كلب، ولكن عندما اقتربت، رأيت ساقَين تركلان. كانتا تتحركان بسرعة كبيرة إلى درجة أنك لا تستطيع تمييز إحداهما عن الأخرى. حسنًا، ركضت نحوهما، ظنًّا مني أن شخصًا ما ربما سقط في الحفرة، وبالفعل كان هناك شخص. أمسكتُ بالساقَين، وعندما كنت على وشك سحبهما …»
قال جريج بسرعة: «هل استمرت الساقان في الركل؟»
«نعم يا سيدي، وجدت صعوبة في الإمساك بهما. وبعد ذلك، عندما كنت على وشك سحبهما، لاحظت شيئًا …»
توقف توم لحظةً وبدأ يرتجف. اصطكت أسنانه بشدة، ونظر إلى مستمعيه مستجديًا كأنه يخشى متابعة الحديث.
أمره المحقق جراي: «استمر يا توم. انطق يا فتًى. يجب أن تقول ما عندك.»
قال توم فجأة أخيرًا: «إنه … إنه … لم يكن لديه مؤخرة رأس.»
صرخ ألينجهام: «ماذا!»
قال توم وهو ينكمش مرتعدًا، ويرمق المحقق بنظرة عتاب: «أرأيت، قلت لك إن السيدَين لن يصدِّقاني. ليس من المحتمل أن يصدق أحدٌ الأمر ما لم يرَه بنفسه.»
سأل جريج بلطف: «ولكن ماذا رأيت؟ ما الذي كان يمكن رؤيته هناك؟»
جالت عينا توم في الغرفة كما لو كانتا تبحثان عن شيء. كان جريج يقف وظهره إلى المدفأة، ولكنه ابتعد عندما لاحظ أن توم يحاول النظر خلفه. أشار توم على الفور إلى الساعة التي كانت موضوعة فوق المدفأة.
قال ببطء: «كانت هناك ساعة، تشبه تلك الساعة تمامًا، لكنها أكثر تعقيدًا، إن جاز التعبير. أعني أنها كانت تحتوي على العديد من العقارب والأرقام، وكانت تدور بسرعة كبيرة. ولكن كان لها واجهة زجاجية تمامًا مثل تلك الساعة، وكانت مثبَّتة على رأسه في المكان الذي يفترض أن توجد فيه مؤخرة الرأس. كانت أشعة الشمس تنعكس عليها في البداية. لذلك لم أكن متأكدًا ما هي لفترة طويلة. ولكن عندما نظرت عن قرب، استطعت أن أرى بوضوحٍ كافٍ، وجعلني ذلك أشعر بالدُّوار يا سيدي.»
سأل جريج: «هل كان هناك ضجيج عالٍ؟»
«لا يا سيدي، ليس في ذلك الحين. لكن العقارب كانت تتحرك بسرعة كبيرة، وكان هناك نوع من الهمس كما لو كان هناك العديد من الساعات التي تعمل في الوقت نفسه، ولكن بهدوء. كنت مصدومًا إلى درجة أنني لم أعرف ماذا أفعل، ولكن بعد فترة أمسكتُ بساقَيه وحاولت سحبهما. لم يكن الأمر سهلًا؛ لأن ساقَيه كانتا تركلان طَوال الوقت، ورغم أنني ناديته، لم يسمع. أخيرًا، سحبته، ورقد على العشب، ولا يزال يركل بساقَيه. لم يحاول حتى النهوض، وأخيرًا أمسكت بكتفَيه ورفعته. وبعد ذلك، بمجرد أن أنهضته وأوقفته على قدمَيه، وقبل أن أتمكَّن من تفحُّص شكله جيدًا، انطلق بسرعة البرق. وبدأ ضجيج رهيب، مثل ضجيج الآلات، وقبل أن أتمكَّن من الالتفات، كان قد سلك الطريق المتجه إلى بابتشيرش، وغاب عن نظري. أؤكد لك يا سيدي، لقد أصابني بالذعر.»
سأل جريج، الذي كان لا يزال ممسكًا بالقبعة والباروكة: «ولكن كيف حصلت على كلتيهما؟»
أوضح توم: «رأيتهما مُلقتَين في الحفرة، لا بد أنهما سقطتا من رأسه وهو مُلقًى هناك. بالطبع، لم يكن قد سقط بعيدًا، وإلا لما كانت ساقاه قد برزتا. والأرض هناك ليست شديدة الانحدار، ولا بد أن رأسه قد عَلِق في بعض شجيرات الجولق. لكن القبعة والباروكة كانتا قد انزلقتا إلى الأسفل. بعد أن ذهب، نزلتُ والتقطتهما.»
أعطى جريج ألينجهام القبعة والباروكة، وهمس بشيء. نظر الآخر إلى داخل القبعة. كان هناك مُلصَق صغير في المنتصف، مطبوع عليه ما يأتي:
دان براذرز.
شركة عالمية لتوريد القبعات.
تأسَّست منذ أكثر من ٢٠٠٠ سنة.
للحظة، كان وجه ألينجهام مثالًا يُدرَّس في الحيرة. حاول التحدث، ولكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من إطلاق ضحكة مفاجئة. ثم حاول الضحك بصوتٍ عالٍ، واضطُر إلى التحدث بسرعة. «حسنًا، ما الذي قلته؟ الأمر كله منافٍ للعقل. أخشى أيها المحقق أن نكون قد أزعجناك بلا طائل. الحقيقة هي أن شخصًا ما قد دبَّر خدعة كبيرة.»
قاطعه جريج بحماسة: «انظر إلى الباروكة، انظر إلى الباروكة.»
نظر ألينجهام إلى الباروكة. على حافة البطانة كانت هناك بطاقة مستطيلة الشكل، مكتوب عليها بحروف ذهبية صغيرة:
دبليو كلاركسون. صانع الباروكات لصالح ذا سفينز إنترناشونال.
واصل الطبيب وهو يبلع ريقه بسرعة: «حسنًا، حسنًا، هذا ما قلته، شخص ما قد … شخص ما قد …»
توقف فجأة. كان جريج يقف ويداه خلف ظهره. هزَّ رأسه بجدية.
قال بهدوء: «لا جدوى أيها الطبيب، علينا أن نواجه الأمر.»