الفصل الرابع

آرثر ويذرز يفكر مليًّا

١

بعد تلك اللمحة الأخيرة عن رجل الساعة الآلي، والمحادثة التي تلتها مع الطبيب ألينجهام وجريج، أسرع آرثر إلى منزله لتناول الشاي. لم يكن أي قدر من الاهتمام بالأمر، مهما بدا مذهلًا له وللآخرين، قادرًا على أن يصرفه عن برنامجه المعتاد لليلة السبت. كانت روز لوماس، التي خطبها مؤخرًا، أهم ١٠٠ مرة من أي رجل ساعة آلي، وسواء أكان من الممكن أن يوجد كائن بشري يمشي ويتحدث عبر وسائل ميكانيكية أم لا؛ فقد كان ذلك أمرًا تافهًا أمام تغيير ملابسه، والاستحمام، وترتيب نفسه للوصول في الوقت المناسب لموعده معها. حالما أظهر لاعبو الكريكيت علامات القدرة على الحركة، اطمأن آرثر أنهم على قيد الحياة، فشعر أنه قادر على استئناف حياته الطبيعية.

كان يقيم في الطرف السفلي من البلدة. وكانت إقامته تشمل غرفة نوم صغيرة، يشاركها مع زميل له في العمل، ومقعدًا على طاولة الطعام مع بقية سكان المنزل. كان الشارع قذرًا للغاية، ومنزل السيدة فلاك هو المنزل الوحيد الذي تظهر فيه بعض علامات اللياقة والاحترام. كان عبارة عن بيت ريفي ذي طابقَين من الطوب الأحمر. لم يكن للمنزل حديقة أمامية، والمرء يدخل مباشرةً إلى غرفة المعيشة من الباب، الذي وُضعَت عليه لوحة نحاسية كُتب عليها:

السيدة فلاك

قابلة مُدرَّبة.

اندفع آرثر إلى داخل الغرفة متعثرًا، وألقى بقبعته المصنوعة من القش على الأريكة المهترئة التي امتدت على طول أحد الجدران، وجلس إلى الطاولة.

سألت السيدة فلاك وهي تصب له كوبًا من الشاي: «حسنًا؟ مَن الذي فاز؟»

أجاب آرثر وهو يحشو فمه بالخبز والزبد: «لا أحد. أُلغيت المباراة.»

رفع السيد فلاك، الذي كان جالسًا في كرسيِّه ذي المسندَين بجانب المدفأة، رأسَه بدهشة. كان اهتمامه بالكريكيت كبيرًا، لكن الروماتيزم المُزمِن منعه من الذهاب إلى الملعب. كان يعتمد على تقارير آرثر والصحيفة المحلية. سأل ببطء: «كيف حدث ذلك إذن؟»

ازدرد آرثر طعامه بسرعة، وحاول أن يشرح له ما حدث. ولكن، على الرغم من أن الأمر كان لا يزال حاضرًا في ذهنه، وجد صعوبة بالغة في وصف ما حدث بالضبط. كانت أفعال رجل الساعة الآلي واضحة وغير قابلة للتفسير في الوقت نفسه. كان من المستحيل تقريبًا أن يجذب انتباه أشخاص لم يشهدوا الأمر بأنفسهم ليدركوا مثل هذه الأحداث الاستثنائية. اضطُر آرثر إلى القيام بحركاتٍ مفاجئة بذراعَيه وساقَيه كي يُحدِث أثرًا مشابهًا لما كان في الموقف. وقد ركَّز بشدة على رفرفة حركة الأذنَين.

صرخت السيدة فلاك، وهي تسند ذراعَيها الحمراوَين المطويَّتَين على الطاولة: «تفضَّل يا عزيزي! غير معقول!»

اعترض زوجها قائلًا: «هذا غير معقول، إنه يمزح معكِ.»

لكن آرثر أصرَّ على تقليد رجل الساعة الآلي، دون أن يعبأ كثيرًا بما إذا كان مُشاهِداه يصدقانه أم لا. فقد كان يوفِّر على الأقل وسيلة ترفيه ممتعة. أخذ صدر السيدة فلاك الأمومي يرتفع ويهبط من الضحك. وقالت في النهاية وهي تمسح عينَيها: «إنه ممتعٌ مثل أفلام السينما.» ولكن عندما تحدَّث آرثر عن الضجيج العالي، وألمح إلى أن الأجزاء الداخلية لرجل الساعة الآلي تتألَّف من نوعٍ ما من الآلات، اعتدل السيد فلاك في جلسته، وهزَّ رأسه بجدية.

قال: «أنت تحفة فنية. هكذا أنت حقًّا»، كانت هذه هي كلمته المعتادة لأي شيء خارج عن المألوف. «لن تجعلني أصدِّق ذلك، ليس في عمري هذا.»

قال آرثر مؤكدًا: «لو رأيته، لاضطُررتَ إلى تصديقه. هذا هو ما حدث، ولا شيء آخر. إنه كما لو كان لعبة ميكانيكية دبَّت فيها الحياة. وهو مضحك جدًّا. لن تتخيَّله أبدًا.»

هزَّ السيد فلاك رأسَه مفكرًا. بعد فترة، نهض وسار إلى نهاية المِدفأة، ووضع غليونه الذي انتهى من تدخينه على الحافة، وأخذ آخر فارغًا من خلف قطعة الزينة على الرف. ثم عاد إلى مقعده، وجلس فترة طويلة والغليون الفارغ في فمه.

قال متأملًا في النهاية: «هذا ليس ممكنًا، لا يمكن لرجلٍ أن تكون له آلات داخل جسده. على الأقل، ليس في ظني.»

فرغ آرثر من احتساء الشاي، ونهض من كرسيِّه. وإدراكًا منه أن محاولاته حتى الآن لم تكن مقنعة، قضى بضع لحظات من وقته الثمين في محاولة إكمال روايته.

أوضح وهو يقلد مِشية رجل الساعة الآلي، وفي الوقت نفسه ينقر بأصابعه لمحاكاة أصوات النقر الحادة: «مشى هكذا. والضجيج! حسنًا، تعرف كيف يبدو صوت المحرك عند تشغيله. مثل ذلك، ولكن أسوأ.»

أحاطت السيدة فلاك معظم جسدها بنصف دائرة من ذراعها الحمراء. قالت: «أنت أضحوكة.» ثم نظرت إلى السيد فلاك، الذي كان جالسًا بلا حراك. «لماذا لا تضحك؟ هذا أفضل لك. أنت تأخذ كل شيء على محمَل الجِد.»

قال السيد فلاك: «لن أضحك، إلا إذا رأيتُ سببًا للضحك.» وواصل النظر بجدية إلى حركات آرثر المُتقَنة. بعد قليل، تذكَّر آرثر موعده العاجل، واختفى عبر الباب الضيق الذي يؤدي إلى الطابق العلوي.

قال السيد فلاك، في إشارة إلى زائر جريت وايميرينج الغريب: «أيًّا مَن كان، أعتقد أنه تحفة فنية نوعًا ما.»

٢

في الطابق العلوي في غرفة النوم، خلع آرثر على عجلٍ ملابسَه الرياضية، وأخذ يمشي جيئة وذهابًا في المساحة المحدودة بين الفراشَين. كم كان المكان صغيرًا، وكم هو مكتظٌّ على نحوٍ عبَثي بالأثاث! لا يمكنك التحرك بوصة واحدة دون أن تصطدم بشيء أو تُسقِط شيئًا. كانت المساحة ضيقة للغاية، ولم يكن هناك حيِّز لتأنق دقيق بقدر من التمهُّل المطلوب لإنجاز المهمة بنجاح. لم يكن عادةً يلاحظ هذه الأشياء إلا عندما يكون في عجلة من أمره، ولديه الكثير من المهام الصغيرة التي عليه إنجازها؛ حينها تتبادر إلى ذهنه هذه العقبات المحيطة، وتثير في نفسه شعورًا بالتمرُّد. كانت هناك أوقات يبدو فيها كل الأشياء مصدر إزعاج بغيضًا، وكان الكرسي العالق في طريقه يجعله يرغب في قذفه من النافذة. في اللحظات التي لا ترغب فيها في شيء سوى أن تكون على سجيَّتك، وعندما تكون أفكارك تسير في مسار لطيف ومريح، تجد نفسك مضطرًّا إلى ارتداء ملابسك أو خلعها، وللحلاقة أو الاستحمام، أو تجهيز نفسك لتقاليد الحياة وأعرافها. كان جزءٌ كبير من الحياة يُقضى في أفعالٍ تُفرَض عليك، لا لشيء إلا لأن الآخرين يتوقعون منك أن تفعل مثلهم. لم يكن ذلك مضيعة للوقت بقدر ما كان مضيعة للحياة.

انتشل بنطاله من تحت المرتبة. لقد اكتشف مؤخرًا هذا الحل البسيط ليكون بديلًا لمكبس البناطيل، مما أضاف مصدر إزعاج جديدًا إلى حياته. كان شيئًا آخر يجب تذكُّره. ابتسم مسرورًا عندما تذكَّر الظروف التي دفعت به نحو هذه العادات الدقيقة. كانت روز لوماس تحبه أن يبدو أنيقًا، وقد نجح في ذلك بطريقة ما. كان هناك الكثير من الشباب الأنيق في جريت وايميرينج، وكان آرثر ذكيًّا بما يكفي ليلاحظ الفارق بينه وبينهم في المراحل الأولى من مغازلاته. قادته مرات الرفض المبكرة إلى إدراك أن عين الحب تنظر أولًا إلى المظهر الواعد، ثم تكتشف لاحقًا الصفات الداخلية التي تبرر الاختيار الحكيم. كان آرثر يلقى رفضًا في البداية بسبب الإهمال الذي كان، إن أردنا أن نكون منصفين معه، ناتجًا عن قناعة شخصية، وإن كانت خاطئة، أكثر من كونه مجرد إهمال. كان يشعر حقًّا أن الاهتمام بالمظهر مضيعة للحياة حتى لو أمضى نصف ساعة في الشهر عند الحلاق. ليس هذا فحسب، بل كانت التجربة تحمل آثارًا بعيدة المدى من العواقب غير المريحة. فقد كنتَ تدخل إلى محل الحلاق وأنت تشعر بالتآلف مع نفسك، واعيًا بشخصيتك الفريدة؛ ثم تخرج منه شخصًا تافهًا، تفوح منه رائحة عطر ما بعد الحلاقة. كان الحلاق ينجح في تحويلك من فرد مليء بالأفكار والدوافع الأصيلة إلى غريب لا يملك فكرة مميزة في رأسه. لقد كان، في الواقع، كدليلة التي جزَّت شعر شمشون وأفقدته قوته، ولكن في هيئة رجل؛ إذ كان يسلبك خصلات شعرك بل يسبي عقلك.

كان لدى آرثر إحساس قوي بالأصالة، على الرغم من أنه آخر شخص يمكن أن يدَّعي الأصالة في أفكاره. يكره التدخُّل في أي جزء من كيانه الشخصي. في صباه، كان يشعر باضطراب من فكرة النمو. فقد بدت له عمليةً ميئوسًا منها، مجرد تمدُّد طولي، دون تحقيق مكاسب مقابلة في نواحٍ أخرى. يعتقد أن المزايا الأخرى المشكوك فيها لا تُنال إلا على حساب اختزال مُتع الطفولة. ومع مرور الوقت، اكتشف، بخالص الأسى، أن هذا صحيح، ولكنه أدرك أن في مقدوره تأخير مرحلة المراهقة على نحوٍ متعمَّد. وبذلك، لم تكن فوضاه، وعدم كفاءته، وحتى بلادته عيوبًا جوهرية بقدر ما كانت أسلحةً في حربه ضد اعتداء الزمن.

لكنَّ المسئولين في البنك الذي كان يعمل فيه اعتبروها عيوبًا خطيرة في شخصيته.

كشف الوقوع في الحب عن الأمر من زاوية مختلفة تمامًا. فقد كان من المجدي للغاية الخضوع للموضة من أجل الفوز بحب روز لوماس. لذلك قلَّد منافسيه. وتخلَّى عن جميع ربطات العنق التي تظهر بطاناتها، وقصَّر أكمام قمصانه، وتغلَّب بجهد على كراهيته الطبيعية لارتداء أفضل ملابسه، وبوجهٍ عام خضع للإشراف اليومي على الأمور الشكلية التي أصبح يراها الآن مدخلًا إلى لحظات السعادة. أما روز، فقد أُعجبت بهذا التغيير الذي أحدثه من أجلها، وكانت روز مهتمة بذلك الانفتاح لنفسه من أجلها، وسرعان ما اكتشفت مدى العمق وراء هذا المظهر الأنيق لتجد قلبها مفتونًا بسحره.

أجل، الحب جعل كل شيء مختلفًا! فتجد نفسك مستعدًّا للتعامل مع جميع الإزعاجات والإهانات من أجل ذلك الهوس العجيب. طمأنته هذه الفكرة وهو يزحف على يدَيه وركبتَيه من أجل التقاط شفرة الحلاقة الآمنة الخاصة به التي سقطت خلف خزانة الأدراج الضخمة. الحب يفسر كل شيء، سواء أكان جِدًّا أم هزلًا.

وجد شفرة الحلاقة، وغمرها في الماء البارد — نسي أن يطلب من السيدة فلاك الماء الساخن، ولم يكترث بذلك الآن — ثم بدأ بوضع رغوة الحلاقة على وجهه وهو غارق في التفكير.

كم مرة، على مدار حياته، سيكرر تلك العملية؟ كان يقف دائمًا بالطريقة نفسها، مباعدًا بين ساقَيه، ومرفقاه يمتدان كالأجنحة. يمرِّر شفرة الحلاقة على وجهه بأسلوبٍ معين، متجنبًا تلك الأماكن التي تجد صعوبةً فيها أشدُّ الشفرات حِدَّة، مستمرًّا في الضربات الميكانيكية نفسها حتى تُنجَز المهمة مجددًا. وبعد ذلك، كان يفك أجزاء شفرة الحلاقة بكدٍّ، ويمسحها بانتظام، دائمًا بالترتيب نفسه. ذلك لأنه، بمجرد أن تقرر الطريقة الصحيحة لفعل شيء ما، تعتمد تلك الطريقة للأبد.

أنهى ذلك الاكتساح الكبير الثاني للجانب الأيسر من وجهه، وانتهى عند زاوية فمه، وتبِعه بضربة سريعة إلى الأعلى، أزال بها خصلة الشعر الخشنة تحت شفته السفلى. نظر بسرعة إلى الساعة، ولاحظ أن الوقت قد تأخر كثيرًا. كانت هذه إحدى مشكلات الحياة الغريبة. فدائمًا ما تجد نفسك في مواجهة الزمن. عادة، عندما يكون عليك أن تفعل شيئًا أو تذهب إلى مكان ما، ينتابك هذا الشعور اللاهث بالعجلة والإحساس المُربِك بأن العالم ينتهي فجأة في نهاية كل ساعة، ثم يبدأ مرة أخرى على نحوٍ مختلف تمامًا. كانت الساعة، في الواقع، طاغية آخر، يسرق منك ذلك الشعور بالقدرة على الاستمرار إلى الأبد من دون تغيير. لذلك كان الناس يقولون، عندما ينظرون في ساعاتهم: «كيف حال العدو؟»

أما الشفة العلوية، فقد حل مشكلتها بعزمٍ قوي. من المهم أن يكون هذا الجزء من وجهه أملس تمامًا. دون أدنى شبهة خشونة. بدأت الدموع تترقرق في عينَيه وهو يحرث ذلك السطح الحساس. أخذ نفَسًا حادًّا، وفي تلك اللحظة من الجهد الإرادي والسعيد، أدرك مفهومًا ميتافيزيقيًّا عظيمًا.

جميع المسائل المهمة حقًّا في الحياة تندرج تحت مفهومَي الزمان والمكان، هكذا فكر في المفهومَين باعتبارهما مفهومَين محوريَّين. قرأ مؤخرًا كتابًا معقدًا، استخدم فيه المؤلف هذه المفاهيم مرارًا وتَكرارًا، ولكن بطريقة يصعب استيعابها. إلا أنه اتضح له فجأة، ولو بدرجة محدودة، ما الذي كان يقصده الكاتب تحديدًا.

وبطريقة ما، عاد إلى التفكير على الفور في رجل الساعة الآلي. أكمل بقية استعداداته على عجل، وكان الجزء الأكبر من دماغه مشغولًا بالتأمُّل في السهولة الغريبة التي يمكن بها أداء بعض المهام في الحياة دون إدراك واعٍ.

٣

«أوه، لم أجهز تمامًا بعد!»

كانت روز لوماس تقف عند النافذة المفتوحة لغرفة نومها. وكانت ذراعاها وكتفاها العارية تلمع بنعومة في ضوء الشفق. وكانت إحدى يدَيها ترفع شعرها المنسدل فوق رأسها، والأخرى تغطي صدرها بثوبها.

قال آرثر، الذي كان واقفًا عند البوابة: «حسنًا، أسرعي.»

نظرت روز بحذر حولها كأنها تتأكد من عدم وجود أحدٍ آخر في موضع يسمح له بملاحظة أعلى صدرها المكشوف. لكن الطريق كان فارغًا. سَرَّتها رؤية آرثر واقفًا هناك يدوِّر عصاه، وينظر إلى أعلى نحوها. فقررت أن تطيل لحظات انتظاره.

قالت بعد قليل: «مساء رائع.»

قال آرثر: «نعم، رائع، أسرعي.»

«أنا أُسرع بالفعل.»

«أنتِ حتى لم ترتدي ملابسكِ!»

قالت روز بإصرار من بعيد: «بل ارتديتُ، أكثر مما تعتقد. لقد ارتديت الكثير.»

تبادلا النظرات الجادة فترة طويلة دون حتى أن يحاول أحدهما «التحديق».

سألت روز: «كم نقطة أحرزت؟» كان عليها أن تكرر السؤال مرة أخرى قبل أن يتمكن من سماعه بوضوح. بالإضافة إلى ذلك، لم يستطع قطُّ أن يصدِّق أن اهتمامها بالكريكيت كان جديًّا.

اعترف: «ولا نقطة، لكنني لم أخرج من المباراة.»

فكرت روز. «هذا ليس جيدًا كإحراز النقاط.»

سمع آرثر ضجيجًا خفيفًا في مكانٍ ما خلف المنزل. قال محذرًا: «هناك شخص قادم.»

تراجعت روز بضع خطوات خافضةً رأسها.

همست: «اذهب إلى الزقاق، سآتي بعد قليل.»

أومأ آرثر بالموافقة: «حسنًا، أسرعي.»

مشى بضع ياردات في الطريق، ثم عبر بوابة صغيرة، واعتلى التل في المرج. كان الطريق الضيق ينعطف قليلًا يمينًا ويسارًا. بدأ آرثر في التفكير في الطرق بوجه عام، وفي كيفية تكوُّنها. من الواضح أن السبب يرجع إلى أن الناس كانوا دائمًا يسيرون في الاتجاه نفسه. خطوات لا تُعَد ولا تُحصى، تتبع المسار نفسه حتى يتآكل العشب. بدا الأمر غريبًا عندما تفكر فيه. لماذا لا يختار الناس طرقًا مختلفة لعبور هذا المرج بالذات؟ عندئذٍ ستكون هناك طرق لا حصر لها تمثِّل التنوع في الاختيارات. سيكون من المثير للاهتمام أن تبدأ في طريقك الخاص، وترى كم شخصًا سيتبعك، حتى لو اخترت عمدًا طريقًا متعرجًا أو غير مباشر على نحوٍ واضح. يمكنك القدوم كل يوم حتى يتشكَّل الطريق.

تسلَّق حتى قمة المرج، ثم نزل مرة أخرى إلى الوادي، وتوقف أمام دَرج صغير يتفرَّع منه سياجات تمتد على كلا الجانبَين. قرر أن ينتظر روز في هذا المكان. سيكون من الجميل أن يراها قادمة من فوق التل.

خيَّم الغسق في ذلك الوقت على المشهد. ولمعت النجوم القليلة الظاهرة بوضوحٍ فريد، وبدت معلَّقة بشكلٍ غريب في السماء الزرقاء الباهتة. انحنى للخلف، ونظر إلى أعماق السماء فوقه. كان هذا الوقت من اليوم محيرًا دائمًا. لم يكن في مقدورك تحديد اللحظة التي تتحوَّل فيها السماء حقًّا إلى مشهد المساء، ثم الليل. لكن لا بد أن هناك لحظة محدَّدة يُولَد فيها كل نجم. ربما إذا نظرت بتمعنٍ كافٍ، يمكنك أن تدرك هذه الأشياء. سيكون الأمر أشبه بمشاهدة برعم يتفتح. كان التغيير البطيء لغزًا منيعًا بالنظر إلى أن الأمور بالفعل تبدو كأنها تحدث بسرعة أكبر مما يمكنك ملاحظتها. أو بالأحرى، كأنك كنت مشغولًا جدًّا إلى درجة أنك لم تستطع ملاحظتها. كان الربيع مثالًا على ذلك. كل عام، تقرر أن تلاحظ أول تفتُّح للزهور، وأول اخضرار للأوراق؛ ولكن ما يحدث دائمًا هو أنك تستيقظ في صبيحة أحد الأيام فتجد أن تغييرًا هائلًا قد حدث، وبذلك يبدو الأمر حقًّا كما لو كان معجزة.

جلس هناك، يُدلي غليونًا فارغًا من بين أسنانه. لم يشعر برغبة في التدخين، وشعر بتسامحٍ غريب تجاه تأخُّر روز. ستأتي قريبًا.

فجأة، قطع حلمَ يقظته ضجيجٌ خافت، مألوف على نحوٍ غريب رغم بُعده. بدا أنه يصل إليه من جهة اليمين، كما لو كان شيئًا يزحف ببطء على طول خط السياج، مخفيًّا عن نظره. كان صوتًا ناعمًا، يُشبِه الخرخرة، متناسقًا ومستمرًّا. في البداية، ظنَّ أنه صوت عصفور، ولكنه لاحظ أنه متواصل أكثر من المعتاد. كان شيئًا يُصدِر صوتًا في أثناء المشي.

حبس أنفاسه، وأدار رأسه ببطء إلى اليمين. لفترة طويلة، لم يرتفع الصوت سوى قليل. ثم انتهت حالة السكون العام بسلسلة من الانفجارات المفاجئة.

بفت … بفت … بفت … بفت … بفت …

وعاد مجددًا الصوت الآخر، الخرخرة والطنين، وكان هذه المرة قريبًا جدًّا من آرثر إلى درجة أنه نهض بطريقة غريزية، وببعض الخوف، من فوق الدَّرج ونظر حوله. لكن السياجات العالية التي كانت تتأرجح على كلا الجانبَين جعلت من الصعب رؤية أي شخص قد يقترب تحت غطائها. ساد بعض الصمت. ثم سمع صوتًا مختلفًا.

طق … طق … طق … طق … طق … وهكذا، أصبح أعلى وأعلى حتى توقف في النهاية، وحلَّ محله صوتُ خطوات خفيفة وخافتة تقترب أكثر فأكثر. وكان هناك بعض الزفير القاسي قد يكون صاحبه قصد أن يتنهد، ثم صوت.

«أوه يا إلهي، إن الأمر مرهق. إنه حقًّا مرهق للغاية على نحوٍ مروِّع …»

في اللحظة التالية، ظهر رجل الساعة الآلي بالكامل حول زاوية السياج. كان يتأرجح قليلًا من جانب إلى آخر، بطريقته المعتادة، وعيناه تحدقان مباشرةً أمامه. لم يبدُ أنه لاحظ آرثر، ولم يتوقَّف حتى تنحَّى الأخير جانبًا بأدب للسماح له بالمرور. ثم لفَّ رجل الساعة الآلي رأسه ببطء، وبدا أنه يدرك بحذرٍ وجود كائن آخر. بعد رفرفة تمهيدية من أذنَيه، فتح فمه على مصراعَيه.

بدأ يتحدث بصعوبة كبيرة: «ألم ترَ قبعة وباروكة؟»

قال آرثر: «نعم» وهو ينظر إلى جبهة رجل الساعة الآلي الصلعاء، وقد لاحظ شيئًا غريبًا حول تكوين الجزء الخلفي من رأسه؛ إذ كان هناك شيء لا يستطيع رؤيته لأنهما كانا متقابلَين. أردف وهو ينظر حوله بيأس: «أنا آسف، ربما يمكننا العثور عليهما في مكان ما.»

ردَّد رجل الساعة الآلي: «في مكان ما! هذا ما يبدو لي غريبًا جدًّا! الجميع يقولون ذلك. فكرة أن يكون شيء «في مكانٍ ما»، كما تعلم. في مكان آخر عن المكان الذي تتوقع أن يكون فيه. هذا مربك للغاية.»

لجأ آرثر إلى حسِّه الفطري. قال: «ألَا تستطيع تذكُّر المكان الذي فقدتهما فيه؟»

ظهر على جبين الآخر تجعُّد طفيف يوحي بالحيرة. هزَّ رأسه مرة واحدة، وقال: «المكان. ها أنا مرة أخرى، لا أستطيع فهم تلك الفكرة. ما المكان؟ وكيف يمكن لشيء أن يكون في مكان، وليس في آخر؟» رفع يده كأنه يؤكد وجهة نظره. «الشيء إما أن يكون موجودًا وإما غير موجود. لا يمكن أن يكون في «مكان».»

قال آرثر معترضًا: «لكنه لا بد أن يكون في مكان ما. هذا أمر بديهي.»

بدا رجل الساعة الآلي مضطربًا على نحوٍ غامض. وافقه الرأي قائلًا: «نظريًّا، ما تقوله صحيح. أستطيع أن أتصوره في صورة مسألة رياضية. لكن في الواقع، هذا أمر ليس بديهيًّا على الإطلاق.»

أدار رأسه ببطء حوله، ونظر إلى الأشياء المحيطة به. «إنه عالم غريب للغاية. لا أستطيع التعود عليه على الإطلاق. أستمر بالاصطدام بأشياء، والسقوط في أشياء … أشياء ليس من المفترض أن تكون هناك.»

لم يستطع آرثر كبح فضوله الشديد لمعرفة ماهية الشيء المستدير اللامع الذي بدا كأنه هالة في الجزء الخلفي من رأس رجل الساعة الآلي. فواصل التمايل من جانب إلى آخر محاولًا رؤيته بوضوح.

سأل رجل الساعة الآلي، دون تغيير نبرة صوته: «هل تنظر إلى ساعتي؟ يجب أن أعتذر. أشعر بافتقاري إلى اللياقة.»

قال آرثر لاهثًا: «لكن ما الغرض منها؟»

قال الآخر بنبرة رتيبة: «إنها آلية التنظيم، أستمر في نسيان أنك لا تستطيع حقًّا معرفة هذه الأشياء. كما ترى، إنها تتحكم فيَّ. لكنها، بالطبع، لا تعمل على نحوٍ جيد. ذلك هو السبب في وجودي هنا، في هذا العالم الغريب. لا يمكن أن يكون هناك سبب آخر، هذا مؤكد.» بدا في حالة من الحيرة الطفولية؛ مما أيقظ شعور آرثر بالشفقة مرة أخرى، فاستمع إليه بصمت واحترام.

واصل الصوت الميكانيكي: «كما ترى، نصف الساعة فقط تقريبًا هو الذي يعمل. وذلك يفسِّر وضعي الحالي.» ساد بعض الصمت، ولم تقطعه سوى طقطقة غامضة، منتظمة ولكنها خافتة. «كنت أشعر بالإرهاق الشديد، فذهبت للخضوع للصيانة. ثم ارتكب ميكانيكي مهمِل خطأً، وبالطبع، تعطلتُ تمامًا.» استدار بسرعة وحدَّق إلى آرثر. «تعطل كل شيء. تعطل كل شيء تمامًا. وبالطبع، أنا … أنا … تدهورت، كما ترى.»

تساءل آرثر: «تدهورت!»

«نعم، تدهورت. تراجعت، إن كنت تفضِّل هذه الكلمة، تراجعت إلى الخلف ما يقرب من ثمانية آلاف سنة، على حد تقديري. وبالطبع، كل شيء مختلف.» ارتفعت ذراعاه معًا فجأة بإيماءة تعبِّر عن اليأس. «والآن أواجه كل هذه المشكلات القديمة المتعلقة بالزمان والمكان.»

عادت تأملات آرثر الأخيرة إليه، وأحدثت وميضًا في عقله. سأل: «هل هناك عالم تختلف فيه مشكلات الزمان والمكان؟»

أجاب رجل الساعة الآلي بنقرة خفيفة: «بالطبع، مختلفة تمامًا. الساعة، كما تعلم، جعلت الإنسان مستقلًّا عن الزمان والمكان. لقد حلَّت كل شيء.»

قال آرثر مستفسرًا: «لكن ماذا يحدث عندما تعمل الساعة على نحوٍ صحيح؟»

قال الآخر: «كل شيء يحدث، بالضبط كما تريده أن يحدث.»

همهم آرثر: «هذا مريح للغاية.»

«إلى حدٍّ بعيد.» وافقه رجل الساعة الآلي بإيماءة منتظمة من رأسه إلى الأعلى والأسفل. «الهدف الأسمى للإنسان هو الراحة.» دفع نفسه إلى الأمام بضع خطوات، كما لو كان ضد إرادته. «لكن وضعي الحالي، كما ترى، غير مريح للغاية.»

تحرك بسرعة، ولخيبة أمل آرثر الكبيرة، اختفى وراء زاوية السياج، فأصبح مستحيلًا رؤية أكثر من لمحة خاطفة لذلك الشيء المثير للاهتمام في الجزء الخلفي من رأسه. لكنه كان لا يزال يتحدث.

سمعه آرثر يقول، كأنه يتحدث إلى نفسه: «لا أعرف ماذا سأفعل، هذا مؤكد.»

٤

جاءت روز لوماس ببطء من فوق التل. كانت بلا قبعة، وشعرها القصير والمجعد يتطاير حول وجهها، فقد هبَّ نسيم خفيف في أعقاب الغروب. ترتدي سُترة باللون الأزرق الداكن فوق قميص نسائي من الموسلين الأبيض مع فتحة كبيرة على شكل حرف V عند الصدر. كان هناك جزء ممتد كبير من ساقها الممتلئة، تكسوه جوارب من الكشمير الأسود، بين حافة تنورتها الداكنة وبداية حذائها الطويل الذي استغرقت وقتًا طويلًا لإغلاق أزراره. كانت تمشي وذقنها مرفوع وعيناها نصف مغمضتَين، ويداها مدسوستان في جيبَي سُترتها المائلَين.

سألت بمجرد أن وقفا معًا: «مَن ذلك الشخص الذي كنتَ تتحدث إليه؟»

قال آرثر بلا مبالاة: «أوه، شخص ما فقد طريقَه.» كان يشعر بعدم الرغبة في توضيح الأمور في الوقت الحالي. رجل الساعة الآلي مُربِك. كان موضوعًا هامشيًّا مخيفًا بعض الشيء. انتاب آرثر شعورٌ بأن روز ربما ستخاف منه؛ لأنها فتاة خجولة. كان يأمل حينذاك أن يتبيَّن أن هذا الكائن الغريب مجرد خدعة مرعبة.

لذلك، لم يقُل شيئًا. بقيا بجانب الدَّرج، يتغازلان ويستقبلان صمت الليل القادم. كانا عاشقَين عاديَّين للغاية، يتصرفان بالضبط بالطريقة نفسها التي يتصرف بها الآخرون في الظروف نفسها. يتبادلان القُبلات بين الحين والآخر، ويتبادلان النظرات بجدية شديدة واهتمام بالغ. يستندان إلى الدَّرج، ويتعرضان لمقاطعاتٍ متكررة من المارَّة الذين يحرص بعضهم على إشعال غليونه في أثناء مروره. لكنهما لم يتأثَّرا بهذه الإزعاجات. لكونهما عاشقَين، فكلٌّ منهما ينتمي إلى الآخر، والعالم من حولهما ينتمي إليهما أيضًا، كأن قوانينه تُشكَّل حسب رغبتهما. لم يكن لديهما اهتمامٌ يُذكَر بأمور مثل إصلاح مجلس العموم أو الحضارة المستنيرة.

قالت روز فجأة: «أوه، يا آرثر، أريد أن أكون هكذا دائمًا، ألَا توافقني الرأي؟»

همهم آرثر: «بلى»، ثم حبس أنفاسَه فجأة. ذلك لأن أذنه قد سمعت نبضًا خفيفًا وخفقانًا من بعيد. بدا كصدًى قادم من التلال البعيدة، يُشبِه صوت «تشو تشو» يتكرر باستمرار. وبعد ذلك، أثار انتباهَه صوتٌ آخر أكثر أُلفة. كان صوت «توت توت» كصوت محرك السيارة وصوت فرملة. ثم طنين محركات السيارات المستمر وهي تصعد التلال. ربما كانوا يطاردون رجل الساعة الآلي. كان آرثر يأمل ألَّا يكون الأمر كذلك. بدا له أن مشكلات هذا الكائن الغريب سيئة بما فيه الكفاية دون أن يُضاف إليها الاضطهاد الذي يعاني منه الأشخاص الذين يمثِّل الوجود لهم لغزًا لا نهائيًّا، مليئًا بالفخاخ والمفاجآت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥