الفصل الخامس

رجل الساعة الآلي يستقصي الأمور

١

على الرغم من الإزعاجات التي عانى منها رجل الساعة الآلي نتيجة تراجعه إلى عالمٍ ذي قوانين وظواهر غريبة، فقد تمتَّع بميزة واحدة على الأقل. كانت قدرته على التنقل بسرعة هائلة على الأرض تجعل مسألة ملاحقته شِبه هزلية. بينما كانت سيارة ألينجهام تُسرِع عبر التلال المجاورة، عاد هدف المطاردة عبر طريقٍ دائري إلى جريت وايميرينج، ثم تباطأ، وبدأ في السير ذهابًا وإيابًا في الشارع الرئيسي. كان الظلام قد حل تمامًا، ولم يلحظ سوى عددٍ قليل من الأشخاص ذلك الغريبَ الذي كان يمشي متهاديًا، ويتوقف بين الحين والآخر لتفحُّص شيء أثار اهتمامه أو أعاق طريقه. لا شك أنه خلال هذه الجولات الصغيرة، تمكَّن بطريقة ما من السيطرة بشكل أفضل على خافت الصوت، بحيث أصبحت خطواته الآن صامتة. من الممكن أيضًا أن تكون قدراته قد بدأت في التكيف قليلًا مع محيطه الغريب، وأنه حاول حتمًا في ذلك الوقت فَهم بيئته. لكنه لا يزال يعاني من الانتكاسات. وحقيقة أنه عاد لارتداء قبعة وباروكة، على الرغم من أنهما لم يكونا قبعته وباروكته، في حاجة إلى تفسير.

كانت هذه الظروف هي ما تسبَّب في تأخُّر وصول راعي الكنيسة إلى الحفل الذي أقيم لدعم تمويل الكنيسة في تلك الليلة. فقد بقي منشغلًا بإعداد خطبته حتى اللحظة الأخيرة، ثم غادر على عجل مع وقفة قصيرة ليلقي نظرة على نفسه في مرآة الردهة. سار بخطواتٍ سريعة عبر الشوارع المظلمة في اتجاه قاعة فرسان الهيكل، التي تقع في الجزء السفلي من البلدة. لعل ذلك بسبب استعجاله الشديد، بالكاد لاحظ ذلك الشخص الآخر الذي كان يتقدم نحوه في خط مستقيم. انعطف قليلًا للسماح للشخص بالمرور، وواصل طريقه.

ثم توقف فجأة، مدركًا شعورًا باردًا على رأسه. قد اختفت قبعته وباروكته! عاد أدراجه مصدومًا، لكن لم يكن هناك أي أثر لهما على الرصيف. بدا الأمر غير معقول تمامًا؛ لأن الجو لم يكن به سوى النسيم الخفيف، ولم يتذكر أنه اصطدم بأي شيء. بالتأكيد لم يصطدم بالشخص الغريب. للحظة، شعر بالحيرة.

لكن الواجب تجاه رعيَّته بقي له الأولوية القصوى في ذهن القس المسئول، ولم يكن من الإنصاف أن يُعرِّض نفسه للإصابة بنزلة برد قاتلة. أسرع عائدًا إلى بيته. ولمدة ربع ساعة، فتح الأدراج، وبحث في الخزائن وفي كل مكان عن باروكة قديمة كان قد تخلَّى عنها، وقبعة جديدة لم يرتدِها من قبل. وجدهما أخيرًا ووصل، لاهثًا وغاضبًا، في منتصف العرض السينمائي الذي شكَّل الجزء الأول من الحفل.

قال لاهثًا، وهو يندس في المقعد المحجوز له بجانب زوجته: «عزيزتي، لم يكن باليد حيلة. سرق شخص ما قبعتي وباروكتي.»

قالت محتجةً: «سرقهما يا هربرت. سرقهما.»

«نعم، سرقهما. سأخبرك لاحقًا، هل هذا هو الفيلم الفلسطيني؟ أوه، نعم …»

٢

وبذلك تمكَّن رجل الساعة الآلي من إخفاء ساعته عن أنظار عالم فضولي، وزادت غرابة مظهره بإضافة باروكة كستنائية مقصوصة بدقة وقبعة كهنوتية ناعمة ومستديرة. لا بد أن إدراكاته كانت سريعة للغاية، وقد تصرف في الحال. ولم يبدُ أنه خطر بباله أن هناك قوانين في هذا العالم تمنع السرقة. ربما في العالم الذي أتى منه، لم تكن هذه القيود ضرورية، ولم تكن الحاجة إليها قد طرأت؛ حيث إن كل فرد يجري تزويده، وفقًا لقانونٍ برلماني، بتغطية مناسبة لتلك العلامة الصارخة والواضحة جدًّا لطريقة التشغيل الموجودة في الجزء الخلفي من جمجمته.

بعد هذه الحادثة بقليل، مَر رجل الساعة الآلي بأول لحظة من الإدراك الواضح حول عالم يمتد عمرًا قصيرًا.

كان قد اشتبك في عمود إنارة. لا توجد طريقة أخرى لوصف مأزقه. كان قد أراح جبينه على العمود، ثم انتهت جميع محاولاته للانفصال عنه بالفشل الذريع. كانت ساقاه تركلان في تشنُّج، وذراعاه تدوران في كل اتجاه. وصدر منه دويٌّ متقطع، مثل دوي اشتعال محرك يعمل بالبنزين. الشخص الوحيد الذي شاهد هذه الأفعال الغريبة كان الشرطي هوكينز، الذي كان يستمتع بالتدخين في هدوء تحت ظل قوس قريب.

في البداية، لم يتبادر إلى ذهن الشرطي أن الضجيج ينبع من الغريب. مدَّ رأسه إلى الأمام، متوقعًا في كل لحظة أن يرى دراجة نارية تقترب منه. توقف الضجيج فجأة، وقرر أن المركبة لا بد أنها قد دخلت إلى شارع جانبي. ثم خرج من خَلوته وربَّت على كتف رجل الساعة الآلي. لا يتحرك الأخير ويتكئ على عمود الإنارة.

قال الشرطي: «أنت، اذهب إلى المنزل، لا تضطرني إلى أخذك. هذه واحدة من لياليَّ المتساهلة، يا لك من محظوظ.»

قال رجل الساعة الآلي بصوتٍ خافت: «والابالو، ووم … ووم.»

قال الشرطي: «نعم، نعرف كل شيء عن ذلك، لكن خذ بنصيحتي واذهب إلى المنزل. ولا أريد ردودًا وقحةً أيضًا.»

أصدر رجل الساعة الآلي صوتَ صفير ناعمًا من بين أسنانه، وفرك أنفه في العمود مفكرًا.

سأل في النهاية: «ما هذا؟»

أجاب الآخر وهو ينقر بأسنانه: «عمود إنارة، ع.م.و.د. إ.ن.ا.ر.ة عمود إنارة.»

«أرى … غريب، ولكنْ عمود إنارة واحد فقط. في موطني، تنمو الأعمدة كالأشجار، كما ترى … غابات كاملة منها … مجرة من الأضواء … ضروري … لإنارة العالم المتعدد الأشكال.»

ضحك الشرطي بهدوء ومسَّد شاربه. تطورت نظريته بالتدريج حول حالة الشخص الواقف أمامه.

حاول إقناعه: «تحرك، قبل أن تحدث مشكلة. لا أريد أن أكون قاسيًا معك.»

قال رجل الساعة الآلي، دون أن يغيِّر موقعه: «انتظر، لحظة من الوضوح … أرى الأشياء كما هي … أبدأ في الفهم … عالم محدود … شيء واحد في كل مرة. الآن فقط فهمنا … مكان لكل شيء، وكل شيء في مكانه.»

علَّق الشرطي: «هذا ما أقوله دائمًا لزوجتي.»

أدار رجل الساعة الآلي رأسه بدرجة طفيفة جدًّا، ودارت إحدى عينَيه ببطء.

تابع: «أريد أن أفهم الأمور، أريد أن أفهمك أنت. حسب تقديري حتى الآن، أرى أمامي … شرطيًّا … خادمًا للقانون … شيئًا أثريًّا غريبًا … مرحلة بدائية من الحضارة … يأمر الناس في عالم محدود … يحتجز الناس … في زنزانة محدودة.»

قال الآخر موافقًا، مع لمعة تحذير في عينيه الحمراوين: «هذا عملي.»

تابع رجل الساعة الآلي: «عالم محدود … قوانين ثابتة … أبعاد محدودة … محدود في جوهره. الآن، عندما أعمل بشكلٍ صحيح، يمكنني التجوُّل في جميع الأبعاد. أي إنني بالإضافة إلى الحركة إلى الأمام والخلف، وفي هذا الطريق وفي ذاك، يمكنني أيضًا التحرُّك في س وفي ص وفي س٢ وفي ص٢.»

تجعدت زوايا عينَي الشرطي قليلًا. قال متأملًا: «بالطبع، إذا كنت ستزج بالجبر إلى النقاش، فسأُضطر إلى الانسحاب. لم تتجاوز معرفتي بالرياضيات الكسور العشرية قَط.»

قال رجل الساعة الآلي بإلحاح، وهو يكتسب مزيدًا من الطلاقة اللفظية والمرونة الفكرية مع مرور كل لحظة: «دعني أشرح لك. لنفترض أنني ضربتك بقوة. ستسقط. ستستلقي على ظهرك. ستتخذ وضعًا أفقيًّا بزاوية قائمة على وضعك العمودي الحالي.» نظر إلى أعلى نحو الشرطي الطويل. «ولكن إذا ضربتني، فسيكون لديَّ خيار آخر. يمكنني، على سبيل المثال، السقوط في منتصف الأسبوع المقبِل.»

فرك الشرطي ذقنه مفكرًا، كأنه يعتقد أن هناك احتمالًا كبيرًا لحدوث ذلك. سأل: «ماذا تعني بذلك؟»

أوضح الآخر: «قلت الأسبوع المقبل، لكي أوضح مقصدي. في الواقع، لا أصف الوقت بمثل هذه المصطلحات التعسفية. ولكن عندما يكون المرء في روما، عليه أن يتصرف كما يتصرف الرومان. ما أريد أن أوصِّله هو أنني لست قادرًا فقط على الذهاب إلى مكان ما، ولكن أيضًا إلى زمان ما.»

قاطعه الشرطي بنفاد صبر: «أنت، توقف عن هذا الهُراء، كُف عن مثل هذا الكلام. تعالَ معي.» بصق في حزم، واستعد للتحرك.

ولكن في تلك اللحظة، كما وصف الشرطي لنفسه فيما بعد، بدا له كأن ضبابًا يمر أمام عينَيه. بدت صورة الشخص المتَّكئ على عمود الإنارة أقل وضوحًا. لم يبدُ في ذلك الوقت فردًا ذا جسم على الإطلاق، بل خطوطًا ظِلية غائمة وغير واضحة. فرك الشرطي عينَيه ومد يده.

سمع صوتًا ضعيفًا وبعيدًا يقول: «حسنًا … لم أرحل بعد … لا يمكنني حقًّا الرحيل … هذا ما يزعجني للغاية. أنا لا أفهم حقًّا عالمك، كما ترى … ولا أستطيع العودة إلى عالمي. لا تكن قاسيًا معي … الأمر صعب جدًّا … كما لو كان البحر أمامي والعدو خلفي.»

صاح الشرطي مذهولًا: «ما الذي يحدث؟ ما الذي تخطط له؟ أين أنت؟»

تردَّد الصوت الضعيف خافتًا: «ها أنا ذا.» استدار الشرطي بسرعة، وأدرك كتلة غامضة نابضة، تحُوم في فتحة القوس المظلمة. كانت مثل جسم صلب تحت تأثير اهتزاز شديد. سُمع ضجيج دوران حاد.

قال الشرطي: «أنت، كُف عن هذا الهُراء. ما خدعتك الصغيرة؟» أمسكَ بالمكان الذي ظن أن الشكل الظِّلي يوجد به، وأغلقت يده على الهواء الفارغ.

قال لاهثًا: «يا إلهي، إنه شبح كبير.»

كان يتخيل أنه سمع صوتًا يعتذر بنبرة غير واضحة جدًّا. مد يده مرة أخرى عشوائيًّا محاولًا الإمساك بشيء يشبه الكتف، لكنه لم يلمس سوى الفراغ، مفرقعًا أصابعه. تمتم لنفسه: «يا إلهي، هذا لا يُحتمل. لا يقترب حتى من أن يكون معقولًا.» مد يده إلى الأمام، لكنه تعثَّر، ولتفادي السقوط، وضع يده على الجدار. وفي اللحظة التالية، قفز إلى الخلف صارخًا. كانت يده وذراعه قد اخترقتا الكيان الشبحي.

«يا إلهي، إنها أرواح، هذا مؤكد.»

قال رجل الساعة الآلي، فجأة وهو يعود إلى بِنيته المادية مرة أخرى: «لا أحد غيري. لا تخف. يجب أن أعتذر عن سلوكي الغريب. كنت أُجري تجربة. ظننت أنه في إمكاني أن أعود. قلت إنني يجب أن أعود إلى منزلي، كما تعلم. لكنني لا أستطيع الذهاب بعيدًا.» اهتز صوته قليلًا. ارتجف كوَتَر لم يُحسن العزف عليه. «أنا مخلوق مسكين ومعطوب. يجب أن تعذرني. ساعتي لا تعمل جيدًا.»

بدأ في الاهتزاز مرة أخرى، جسده كله يرتجف ويهتز. وكانت شرارات زرقاء صغيرة تتألق حول الجزء الخلفي من رأسه. رفع إحدى ساقَيه كما لو كان سيخطو خطوة إلى الأمام، ثم رفرفت أذناه بجنون، وظل بساقٍ واحدة مرفوعة في الهواء وإصبع على أنفه.

استسلم الشرطي للذعر. وتردَّد في أداء واجبه. قال متوسلًا: «كُف عن ذلك، لا يمكن أن آخذك إلى القسم على هذه الحالة. لن يصدقوني أبدًا.» خلع قبعته، وفرك جبينه الواخز. وأضاف بصوتٍ يئنُّ: «قل إنه حلم يا رفيق. كيف يمكنني العودة إلى البيت لزوجتي بقصة كهذه؟ ستقول إن هذا من تأثير شراب الجين مرة أخرى. دائمًا حظي أن أصادف شيئًا مثل هذا. عندما جاء الشبح إلى مقبرة بابتشيرش، كنت أنا أول مَن رآه، ولم يصدقني أحد. اذهب في هدوء، وسنتجاوز عن الأمر هذه المرة.»

لكن رجل الساعة الآلي لم يرُد. كان واضحًا أنه مشغول في محاولة إعادة تشغيل إحدى عملياته. وبعدئذٍ هبطت قدمه على الرصيف بضربة قوية. تلتها سلسلة من الدوي الحاد، وفي الثانية التالية تسلل بسلاسة بعيدًا.

عاد الشرطي بخطواتٍ خفية إلى مأواه تحت القوس، وعدَّل وضعيَّته بتفكير عميق، ووجد نصف سيجارة داخل جيبه الداخلي.

قال مفكرًا بصوتٍ منخفض: «إنه شراب الجين، سأُضطر إلى الإقلاع عنه. تلقيت تحذيراتٍ كافية. لقد رأيت أشياء من قبل، وسأراها مرة أخرى …»

أشعل السيجارة، ونفث سحابة من الدخان. قال لنفسه: «لم أرَه قَط، لم يحدث هذا فعلًا.»

٣

ربما كان وهج الضوء القوي المنبعِث من الباب نصف المفتوح لقاعة فرسان الهيكل هو ما جذب انتباه رجل الساعة الآلي في أثناء تجوُّله نحو الطرف السفلي من البلدة. فدخل، ووجد نفسه في بهوٍ صغير مفصول بستارة عن الجزء الرئيسي من القاعة. لا بد أنه أصدر صوتًا خافتًا عندما وطئت قدماه الألواح الخشبية العارية؛ لأن الستارة سُحبت بسرعة إلى الخلف، وتقدم الكاهن، الذي كان يشغل منصب المشرف الرئيسي على الحفل، بخطوات سريعة.

وعندما اقترب من الشخص الواقف تحت الضوء الساطع، تحوَّلت الهالة الكهنوتية التي كانت تشع من قسمات وجهه الحليق إلى تعبير أكثر دنيوية يعكس شعورًا صادقًا بالارتياح.

شرع في الهمس بصوتٍ قوي: «أنا سعيد جدًّا لأنك أتيت أخيرًا، كنت قد بدأت أقلق من أنك ستخيب ظننا.»

قال رجل الساعة الآلي: «أنا بالتأكيد متأخر، متأخر بما يقرب من ثمانية آلاف سنة، حسب تقديري.»

لم يبدُ أن الكاهن قد فهم كلامه. فتابع قائلًا: «حسنًا، أنا سعيد لأنك وصلت، من المحزن جدًّا أن يُصاب الأطفال بخيبة أمل، فهم متحمسون للغاية لمشاهدة عرض الخدع السحرية. أغراضك قد وصلت.»

سأل رجل الساعة الآلي: «أي أغراض؟»

قال الكاهن: «ممتلكاتك، الأرانب والفئران، وما إلى ذلك. وصلت بعد ظهر اليوم. أمرت بوضعها على خشبة المسرح.»

كان يعبث بساعته متوترًا، ثم استقرت عينه لثانية على قبعة الآخر.

سأل بقلقٍ بعض الشيء: «عذرًا، ولكنك الساحر بالتأكيد، أليس كذلك؟»

قبل أن يتمكن رجل الساعة الآلي من الرد على هذا السؤال المحرج، سُحبت الستارة مرة أخرى بسرعة، وظهر وجه امرأة قلقة. «جيمس، هل الساحر … أوه، نعم، أرى أنه قد وصل. أسرع يا جيمس. الفيلم على وشك الانتهاء.»

اختفى وجهها، وتلاشت شكوك الكاهن للحظة. واصل قائلًا: «هلا أتيت من هذا الطريق؟» وقاده في الطريق عبر ممرٍّ طويل ومظلم إلى الجزء الخلفي من القاعة. وخلف الشاشة، التي كان يُعرض عليها الفيلم، كانت هناك مساحة صغيرة، وقد بُني فيها مسرح. وعلى طاولة صغيرة في المنتصف كانت هناك حقيبة كبيرة وبعض الصناديق. ضبط الكاهن مصباح غاز صغيرًا كي يبعث إضاءة كافية للتحرك. أوضح مشيرًا إلى الشاشة أمامهما: «يجب أن نتحدث بصوت منخفض؛ فالفيلم لم ينتهِ بعد. سنكون جاهزين خلال ١٠ دقائق. هل يمكنك الاستعداد خلال ذلك الوقت؟»

لكن رجل الساعة الآلي لم يرد. ووقف في منتصف المسرح، وببطءٍ رفع إصبعه إلى أنفه. عادت شكوك الكاهن. بدا أن شيئًا خطر في باله وهو ينظر إلى رفيقه من كثب. «لم تشرب شيئًا أيها الرجل الطيب، أليس كذلك؟ أقصد شرابًا كحوليًّا؟»

قال رجل الساعة الآلي، ببطء: «الخدع السحرية، وسيلة ترفيهية قديمة. خفة اليد تخدع العين.»

همهم الكاهن: «آه … نعم.» ضحك بتوترٍ بعض الشيء، وشبَّك يدَيه خلف ظهره. «أعتقد أنك تفعل … الأشياء العادية … الساعات الذهبية وما إلى ذلك من … آه … القبعات. الأطفال كانوا ينتظرون ذلك بفارغ الصبر …»

توقف وفك تشبيك يدَيه. كان رجل الساعة الآلي ينظر إليه بحدة، وكانت عيناه تدوران في محجرَيهما بطريقة محيِّرة للغاية. عقب ذلك ساد صمتٌ طويل.

استكمل الكاهن الحديث أخيرًا: «عزيزي، لا بد أن هناك خطأً ما. لا يبدو لي أنك ساحر. لقد أرسلت خطابًا إلى جامادجيز، ووعدوا أنهم سيرسلون رجلًا. بطبيعة الحال، ظننت عندما …»

قاطعه رجل الساعة الآلي: «جامادجيز، مهلًا … يبدو أنني أفهم … أتذكر … مقدمي الخدمات الشاملة … حساب نقدي … تسعة شلنات وتسعة بنسات … عذرًا.»

قال الكاهن وقد تدلَّى فكُّه بضع بوصات: «حقًّا! يجب أن أعتذر. كما ترى، أنا حقًّا مضطرب قليلًا. فعبء هذا الحفل على عاتقي. وأنا مَن نظَّم فقرة الخُدع السحرية. ظننت أنها ستكون لطيفة جدًّا للأطفال. بدأ يفرك يدَيه معًا بقوة، كأنه يحاول تغطية ارتباكه. «إذن … إذن أنت لستَ الرجل الذي أتى من جامادجيز؟»

قال رجل الساعة الآلي بقدر من الوقار: «لا، أنا الرجل الذي أتى من اللامكان.»

كَف الكاهن عن فرك يدَيه. «أوه، يا إلهي.» حاول جاهدًا التصدي للجمود الذي اجتاح عقله. «أنت بالتأكيد … سامحني في القول … شخص غريب قليلًا. يؤسفني أن كلينا قد ارتكب خطأً، أليس كذلك؟»

قال رجل الساعة الآلي، في حين كان الكاهن يسير بتردُّد نحو الباب: «انتظر، بدأت أفهم الأمور … السحر …»

سأل الكاهن، عائدًا إليه: «ولكن هل أنت حقًّا الساحر؟»

جاء الرد المذهل: «من حيث أتيت، نحن جميعًا سحرة. فنحن دائمًا نؤدي خُدعًا سحرية.»

عاد الكاهن مجددًا لفرك يدَيه. همهم: «أنا حقًّا في حيرة من أمري.»

قال رجل الساعة الآلي، كأنه يتحدث إلى فصل من الطلاب عن موضوع معقد: «كان من سِمات المراحل الأولى للجنس البشري أنهم مارسوا فنون خفَّة اليد، والسحر، والوهم وما إلى ذلك، كمجرد وسائل للترفيه في أوقات فراغهم.»

تمتم الكاهن عندما توقف الآخر، رغم أن توقُّفه كان للتفكير أكثر منه لالتقاط الأنفاس: «حسنًا، يبدو ذلك مثيرًا للاهتمام، ويبدو موثوقًا به للغاية، كما لو كان اقتباسًا من عمل مرجعي. على الرغم من ذلك، وبقدر ما أود أن أسمع المزيد …»

أوضح رجل الساعة الآلي بجدية: «إنه اقتباس، من عمل كنت أقرؤه عندما … عندما حدث لي ما حدث. تنشره جامادجيز، وسعره هو تسعة شلنات وتسعة بنسات … تسعة شلنات وتسعة بنسات … أوه … يا للإزعاج …»

قال الكاهن: «سأدوِّن ذلك. لكن يجب أن تعذرني الآن. فلديَّ الكثير لأعتني به. هناك المشروبات. والشطائر لم يُنتهَ من إعدادها بعد …»

واصل رجل الساعة الآلي متحدثًا بصوت نقر بالكاد يُسمع: «لم يصبح الإنسان ساحرًا في الحياة الواقعية إلا بحلول القرن التاسع والخمسين. لدينا هنا مثالٌ على تحوُّل كامل في الأفكار البشرية. كان الإنسان القديم يمارس السحر للتسلية، بينما الإنسان الحديث يمارسه كجزءٍ طبيعي من حياته. منذ اختراع الساعة وكل ما يرتبط بها من اكتشافات، بما في ذلك اكتشاف ما لا يقل عن ثلاثة أبعاد جديدة، أو مجالات للعمل، يمكن اعتبار أبسط تصرف نفعي يصدر عن الإنسان بمنزلة خدعة سحرية. وبالتأكيد، لو استطاع أسلافنا أن يرَونا كما نحن الآن، لاعتبروا ذلك نوعًا من …»

تمكَّن الكاهن من التدخل: «إنه أمر مثير للغاية إلى حدٍّ مخيف، لكنني حقًّا لا أملك الوقت الكافي.» وعاد في ذلك الوقت إلى تفسيره المتعلق بتناول الآخر للكحول.

واصل رجل الساعة الآلي، دون أن يلاحظ أي عجلة من الآخر: «العمل المُشار إليه ذو طابع ساخر. الغرض منه هو لفت انتباه الناس إلى العديد من السخافات في الحياة العصرية الناتجة عن الكفاءة الميكانيكية المفرطة. كل شيء في رأسي. أستطيع استرجاعه بالكامل، كلمة بكلمة …»

ناشد الكاهن على عجل: «ليس الآن. في وقتٍ آخر سأكون سعيدًا لسماعه.» ثم بملء فمه قال: «أنا أقرأ كثيرًا. وبالطبع، بصفتك ساحرًا محترفًا، فإن اهتمامك بكتاب كهذا سيكون مضاعفًا.»

قال رجل الساعة الآلي: «عندما سألتني إذا كنت ساحرًا، تذكرت الكتاب على الفور. حقيقة الأمر هو في رأسي. هكذا نقرأ الكتب الآن. نحملها داخل الساعة، على هيئة بكرات تنفك في أثناء القراءة. ما قلته أعاد كل شيء إلى ذهني. ويتبادر إلى ذهني فجأة أنني فعلًا ساحر، وأن كل ما أفعله في هذا العالم القديم يجب أن يُعَد نوعًا من السحر.»

ارتفع حاجبا الكاهن في دهشة. سأل بضحكة مقتضبة: «السحر؟ أوه، لم نتفق على السحر. فقط حيل خفة اليد العادية.»

قال رجل الساعة الآلي بنبرة حزينة: «كنت قد فقدت الثقة بنفسي. كنت قد نسيت ما يمكنني فعله. كنت مرهقًا للغاية.»

قال الكاهن بلطف: «آه، ربما هذا هو السبب. كان الطقس مرهقًا للغاية. يصاب المرء بمثل هذه الاضطرابات أحيانًا. ولكني آمل حقًّا أن تتمكن من تقديم العرض، من أجل الأطفال. يا إلهي، كيف تمكنت من فعل ذلك؟»

انطلق تعليق الكاهن الأخير بنبرة حادة من الدهشة والخوف، حيث قام رجل الساعة الآلي، كما لو كان حريصًا على إثبات استعداده للمساعدة، بأداء أول خدعة سحرية له.

٤

كان الكاهن في ذلك الوقت، بعيدًا عن ميله إلى فقدان السيطرة على نفسه في بعض الأحيان، شخصًا طبيعيًّا تمامًا. فلم يكن يعاني من أي قصور في الرؤية أو التفكير. العقل البشري مهيَّأ بطريقة لا تسمح له باستيعاب الظواهر غير الطبيعية إلا ببطء، ومن خلال قنوات مناسبة. كانت كل أنواع الأفكار الخيالية، والحدسيات، والمخاوف، والشكوك الغامضة تدور في ذهن الكاهن وهو يلاحظ بعض السمات الغريبة على رفيقه. ولكنه ربما لم يكن ليعيد التفكير فيها لو لم يحدث ما حدث بعد ذلك.

سيتطلَّب الأمر رسمًا بيانيًّا رياضيًّا لوصف الحادث بدقة مطلقة. لم يكن الكاهن، بالطبع، قد سمع شيئًا عن العروض السابقة التي قدَّمها رجل الساعة الآلي؛ ولم يكن قد أعطى أيَّ اهتمام لتلميحاته حول إمكانية الحركة في أبعادٍ أخرى. بدا له، في الضوء المحيط الخافت، أن الذراع اليمنى لرجل الساعة الآلي اختفت تدريجيًّا في الفضاء. اختفت الذراع تمامًا. بعد ذلك، تذكر لحظة قصيرة بدأت فيها الذراع غامضة وشفافة؛ كانت تتحرك بسرعة كبيرة، في اتجاه ما، لا إلى أعلى أو إلى أسفل، ولا لهذا الطريق أو ذاك، ولكن عبر مستوًى ظِلي. ثم اختفت، تلاشت عن الأنظار. وبالقدر نفسه من المفاجأة، اندفعت مرة أخرى لتظهر في مجال رؤية الكاهن، وأمسكت اليد في نهايتها بقبعة حريرية.

خفق قلب الكاهن ببطء. قال لاهثًا: «ولكن كيف فعلت ذلك؟ وذراعك، كما تعلم … لم تكن هناك!»

على قدر ما كان يمكن لملامح رجل الساعة الآلي أن تتغير، بدا عليها تعبيرٌ خافت من الانتصار والرضا. قال: «أدرك أنني بالفعل قد سقطت وسط عالم من الكائنات القاصرة والمفتقرة إلى الكفاءة على نحوٍ غريب. لقد وقعت بين غير المزودين بساعات آلية. لا يستطيعون إدراك اللامكان. لا يفهمون اللازمان. يفتقرون إلى الحواس، ويتحركون في مستوًى واحد. من الآن فصاعدًا، سأتصرف بثقة أكبر.»

ألقى القبعة فاختفت في الهواء، وأخرج قفصًا به ببغاء.

قال الكاهن لاهثًا: «توقف! قلبي، كما ترى … لقد سبق تحذيري … صدمات مفاجئة.» ترنَّح نحو الجدار، وبدأ يتلمس طريقه غير ناظر أمامه بحثًا عن مخرج للطوارئ كان يعرف أنه موجود في مكان ما. وجده، وفتح الباب بقوة وسقط منهارًا على الرصيف بالخارج.

استدار رجل الساعة الآلي ببطء، وتفحص الرجل المنبطح. قال في نفسه، وإصبعه متجهة نحو أنفه: «عِرق بدائي، نصف عميان، ومحدودون بشدة في حركاتهم. من الواضح أنهم لا يمتلكون سوى القليل من الحواس … خمسة على الأكثر.» خرج إلى الشارع، متجنبًا الجسد المستلقي على الأرض بعناية. وواصل حديثه وهو لا يزال واضعًا إصبعه على أنفه: «لديهم بعض الحرية، لكنها مقيَّدة ضمن حدود ضيقة. إلا أنهم سرعان ما يصبحون ضعفاء. وعندما يسقطون، أو يفقدون التوازن، لا يكون أمامهم خيار سوى أن يحتضنوا الأرض.»

تهادى في سيره، وقد أمال رأسه إلى أحد الجانبَين بابتهاج وثقة. أضاف: «ليس لديَّ ما أخشاه من هذا العِرق البدائي من الكائنات.»

٥

تواترت أفكاره: «من الواضح، أنهم يعتبرونني كائنًا غير عادي. وبالطبع، أنا كذلك بالفعل … متفوق إلى حدٍّ كبير. أنا كائن متفوق يعاني من انهيار عصبي.»

توقف عن الكلام فجأة، كأن هذا الرأي قد أجاب عن العديد من التساؤلات.

قال متأملًا: «يجب أن أعتني بنفسي؛ لأن ذلك، بالطبع، يفسر كل شيء؛ سقوطي في هذا النظام البائد وعجزي عن التحرك بحرية بالطريقة المعتادة والمتعددة الأشكال. وهذا يفسر سلوكي السخيف قبل قليل.»

استدار ببطء، كأنه يفكر في العودة وشرح الأمور للكاهن. همس، بصوتٍ يُسمع بالكاد: «لا بد أنني قد أخفته، لكني فقط أردت أن أوضح له، وصادف أن كان قفص الببغاء في متناول يدي.»

تقدَّم قليلًا مرة أخرى، وتعثَّر في منتصف الشارع.

قال: «الموت، أعتقد أن ذلك كان الموت حقًّا. لا يزالون يموتون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥