الفصل السادس

«لم يكن الأمر كذلك، وهو ليس كذلك، وحقًّا، حاشَ لله أن يكون كذلك.»

١

عند سفح تل، على بُعد ما يقرب من خمسة أميال من جريت وايميرينج، ضغط الطبيب ألينجهام على مكابح سيارته فجأة، وخرج منها، وبدأ يمشي على الطريق المغبر. بقي جريج جالسًا في السيارة وذراعاه مطويتان.

سأل بقلق: «ألن تذهب أبعد من ذلك؟»

قال الطبيب متذمرًا: «نعم، لن أبتعد، سئمتُ من هذه المطاردة العبثية. بالإضافة إلى أن وقت العشاء قد اقترب.»

قال جريج معاتبًا: «ولكن منذ قليل كنت تميل إلى رأي مختلف.»

«حسنًا، أعترف أنني أصابتني الحيرة بشأن القبعة والباروكة. ولكن عندما تفكر في الأمر بعقلانية، ماذا تجد؟» كان الطبيب يخطو خطواتٍ واسعة ملوِّحًا بقفَّازه الجلدي في الهواء. «كيف يمكن أن يحدث شيء كهذا؟ كيف يمكن لأي شخص بعقلٍ سليم أن يتقبَّل فكرة أن شركة دان براذرز ستظل موجودة بعد ألفَي سنة؟ وكلاركسون. هذا سُخف واضح.»

قال جريج بهدوء: «حتى السخافة ربما تنطوي على الحقيقة المطلَقة. أعترف أن الأمر مضحك، أعترف أن الأمر مثير للسخرية، لكننا نتفق على أنه لا يمكن تفسيره. يجب أن نعتمد على التخمين. في رأيي، هناك شيء يثير التفكير في هذا الإصرار على استمرار الأشياء المألوفة لنا في المستقبل. لنفترض أنهم وجدوا طريقة للحفاظ على الأشياء تعمل كما هي؟ ألم يكن هدف الإنسان دائمًا هو دوام منجزاته؟ ألن يكون من سِمات الإنسان، كما نعرفه اليوم، أنه يتمسَّك بالأشياء النفعية البحتة، بوسائل الراحة؟ في هذا العصر، نُضحي بكل شيء من أجل المنفعة. هذا لأننا نحاول الوصول إلى وجهتنا بسرعة. الحياة الحديثة هي الجولة الأخيرة في سباق الإنسان مع الزمن.»

توقَّف لحظة، كأنه يحاول ترتيب الأمور في ذهنه. «لكن لنفترض أن الزمن توقف. أو بالأحرى، لنفترض أن الإنسان لحِق بالزمن، طارد عدوَّه الأبدي إلى عرينه! سيفسر ذلك بقاء الأسماء على حالها. دان براذرز لا تزال موجودة، وكذلك كلاركسون، أو أحفادهم. على أي حال، فكرة وجودهم نفسها ما زالت حاضرة. ربما تلغي هذه الساعة التي يرتدونها الموتَ وتعاقُب الأجيال. بالطبع، يبدو لنا الأمر مَزحة، لكن علينا أن نتخلى عن حس الفكاهة لدينا في الوقت الحالي.»

صاح ألينجهام وهو يركل حجرًا مخلوعًا من الطريق في أثناء مشيه: «لكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟ أعني هذه الساعة. إنها …» بدأ يتلعثم في يأس بحثًا عن كلمات للتعبير عن شكوك جديدة. «ما هذه الساعة؟»

أجاب جريج وهو يميل إلى جانب السيارة: «إنها آلة. من المؤكد أن لها تأثيرًا ما على العمليات الأساسية للجسم البشري. هذا واضح بالنسبة إليَّ. ربما تحل محل بعض الوظائف العادية، وتغيِّر وظائف أخرى. يبدو الأمر لي أشبه بنوع من التسريع الهائل في الكائن الحي ككلٍّ، وأن دماغ الإنسان يطوِّر حواسَّ وقدرات استيعاب جديدة. سيكون لديهم جميع أنواع البصائر الثانوية والحواس الإضافية. سيتلمَّسون طريقهم في كونٍ أكبر، ويزحفون إلى جميع أنواع الشقوق والزوايا المجهولة لنا، بسبب تكوينهم المختلف.»

قال ألينجهام وهو يعضُّ على شاربه: «نعم، نعم، يمكنني فهم كل ذلك، لكن دعنا نتحدث بعقلانية.»

قال جريج: «في مسألة كهذه، يصعب استخدام العقل. ما علينا سوى الاستماع إلى حدسنا.»

عبس ألينجهام. فحدسه، في هذه الأيام، أصبح محدودًا ونادرًا.

«عندما تصل إلى سنِّي يا جريج، سيكون لديك شيء آخر تفعله غير الاستماع إلى حدسك. الحقيقة هي أنك تريد حقًّا أن تحدث كل هذه الأشياء الرائعة. فلديك نزعة لما هو غير متوقع، مثل جميع الأطفال والمراهقين. ولكن صدقني، رجل الساعة الآلي أسطورة، وأعتقد أنك يجب أن تحترم رأيي.»

قاطعه جريج: «حتى لو كان أسطورة، لا يزال يستحق البحث في أمره. ما يزعجني هو معارضتك الشديدة لفكرة إمكانية وجوده. يبدو أنك تحاول جاهدًا أن تثبت أنني على خطأ. أضف إلى ذلك أن الإنسان يهلك بمجرد أن يتوقف عن الإيمان بالمستحيل.»

ألقى ألينجهام نظرة غضب خفية على الآخر، واستعد للعودة إلى السيارة. تمتم قائلًا: «حسنًا، أثبتْ أنك على حق، وحينها سأعتذر لك. سأنسى أمر رجل الساعة الآلي. لديَّ أمور أخرى لأفكر فيها. ولا أمانع في أن أقول لك إنه إذا كان رجل الساعة الآلي كما تصفه تمامًا، فسأظل أتمنى لو كان في أقصى الأرض.»

قال جريج بنبرة تنطوي على بعض المُزاح: «وهذا هو المرجح حيثما هو موجود الآن.»

قال ألينجهام بصوتٍ هادر، وأعاد تشغيل السيارة باندفاعٍ شديد: «حسنًا، فليظل هناك، دَع شخصًا آخر يشغل باله به. أنا لا أريده. أؤكد لك أنني لا أهتم قيد أنملة بمستقبل الجنس البشري. أنا راضٍ تمامًا عن الخير والشر في الحياة، وأريد أن تستمر بطريقتها القديمة الملعونة نفسها.»

ضرب جريج كفَّه بقبضته. صاح: «ولكن هذا بالضبط ما حدث، لقد وجدوا طريقة لاستمرارها على المِنوال نفسه. وهذا يفسر استمرار عمل كلاركسون. إذا كانت الساعة كما أعتقد، فهذه هي وظيفته بالضبط.»

صرخ ألينجهام بنفاد صبر بعض الشيء، لكن هدير المحرك طغى على صوته وهما يسرعان على الطريق.

٢

وهكذا استمر الجدال منذ أن روى توم درايفر قصته. كانت الصعوبة الرئيسية التي واجهها جريج هي إقناع ألينجهام بأنه قد يكون هناك شيء حقيقي في هذه النظرية المتعلقة بعالَم أصبحت فيه الأمور التافهة دائمة، في حين أن الكون، الذي اعتُبر حتى الآن بيئة خارجية ثابتة لوجود الإنسان، قد انفتح على العديد من الاحتمالات الجديدة. ربما ملَّ البشر من انتظار الأبدية التي طال الحديث عنها، وقرروا خلق أبدية خاصة بهم من أدواتهم المادية. بدا رجل الساعة الآلي بالنسبة إلى جريج، الذي أصبح في ذهنه شخصية لا تُنسى، رمزًا لكيانٍ صلب في مواجهة تقلبات الجسد البشري الذي لا يعدو كونه مجرد لحم ودم، ولكن العالم الذي يعيش فيه ربما كانت له قوانين مختلفة تمامًا، إن كان يمتلك حقًّا قوانين مفهومة للبشر من الأساس.

وربما كانت الساعة هي مؤشرًا لنظامٍ جديد ومُوسَّع للأشياء. فقد غيَّر الإنسان الكون نفسه ليتمكَّن من تحقيق أهدافه من دون إحباط. كان ذلك حلمًا قديمًا لجريج. إذ كان الزمان والمكان عقبتَين أمام طموحات الإنسان؛ ولذا اخترع هذا الجهاز الذكي، الذي سيعدِّل قدراته لتتوافق مع إيقاعٍ أعظم للقُوى الكونية. كانت خطوة منطقية إلى الأمام في مسيرة التقدم المادي.

كانت تلك هي النظرية التي تصورها جريج تصورًا غامضًا عن هذا اللغز، على الرغم من أنه، بطبيعة الحال، قد أضاف إلى تفسيره الكثير من تخميناته الخاصة. انشغل خياله بفكرة الساعة باعتبارها رمزًا محتملًا لنقطة تحوُّل جديدة في الشئون البشرية. في قرارة نفسه، رأى الإنسان ينمو عبر العصور، حتى يتمكن في النهاية، بمساعدة هذه الآلية، من كشف السموات وإظهار العوالم الشاسعة الأخرى التي تكمن وراءها، والألغاز التي لا يمكن تصورها التي تتربص بين النجوم، وكل ما كان محجوبًا في العقل البشري المحدود منذ بدء الخليقة. ومن هذا الافتراض المتطرف، سيكون ضروريًّا الرجوع إلى الوراء حتى يتم العثور على فرضية معقولة تشرح كيفية عمل آلية الساعة. حتى هذه الصعوبة، ربما يمكن التغلب عليها إذا سنحت الفرصة لفحص هذا الكائن الغريب القادم من المستقبل، أو إذا اقتنع بشرح الأمر بنفسه.

بينما كانت السيارة تسرع على طول الطريق، جلس جريج مسترخيًا بذراعَين متشابكتَين، واطَّلع إلى السماء التي أصبحت صافية كالبلورة في ذلك الحين، وتساءل، كما لم يتساءل من قبل، عن ذلك الامتداد غير المفهوم الذي احترمته أجيالٌ متعاقبة من البشر بصمت على مدار قرون. لم يزعم أي صوتٍ موثوق به اختراق ذلك اللغز الأعظم. استحضر الكهنة الآلهة من ذلك العمق النجمي، وأنشد الشعراء عن نصفَي الكرة الأرضية المتأرجحَين، وتتبَّع العلماء المذنَّبات وعرفوا طبيعة كل أرض شمسية؛ لكن هذا القوس الشاسع لا يزال يغطي كل تحركات البشر الزاحفين، ويُغلَق عليهم كحوضٍ وُضع فوق مستعمرة من النمل.

بطبيعة الحال، كان هذا وهمًا، وكان الإنسان يعرف ذلك دائمًا. لأجيالٍ عديدة، كان يعلم أن الكون يحتوي على أكثر مما يمكن لقدراته المحدودة إدراكه. وكان هناك دائمًا الجمال. ذلك الجمال الذي قدَّم العزاء للإنسانية؛ مهدئًا إياها بالرضا، إلى أن يظهر بين الحين والآخر عقلٌ عظيم يحاول مرة أخرى كشف ما هو كامن وراء هذا الجمال المذهل الذي يقف حاجزًا بين الإنسان وغايته النهائية، وهي المعرفة.

ولكن ربما يؤدي تعديلٌ طفيف في أجهزة الإدراك البشرية إلى تحطيم تلك القشرة الزرقاء الواسعة، كاشفًا عن آلاف الأشكال الجديدة، مثل مدن خيالية تتشكل في الغيوم عند غروب الشمس. ادَّعى علماء وظائف الأعضاء أن إضافة فص واحد إلى الدماغ البشري ربما يعني أن الإنسان سيعرف المستقبل كما يعرف الماضي. ماذا لو حدثت تلك المعجزة؟ بمثل هذه الوسائل، ربما لن يتمكن الإنسان من معرفة المستقبل فحسب، بل سيعرف أيضًا أبعادًا أخرى لم يُسمِّها الرياضيون أو يصِفوها بعدُ بمصطلحاتٍ اعتباطية موجزة.

وحتى يحين ذلك الوقت، لن تقترب أعمق تأملات الإنسان حول الحقيقة المطلَقة أكثر مما تقترب تأملات طفل يعاني أرقًا بسبب التفكير فيما حدث قبل أن يخلق الله الكون. ظل الإنسان، من هذا المنطلق، بريئًا مثل الطفل، من الميلاد حتى الممات. وحتى يحدث تغيير فعلي في تركيب خلايا دماغه، لن يتمكن من الوصول إلى المعرفة الحقيقية.

كان يمكن لأينشتاين أن يقول إننا ربما كنَّا مخطئين في تصوراتنا الأساسية. لكن هل كان يستطيع أن يخبرنا كيف نصل إلى الحقيقة؟ ربما كان رجل الساعة الآلي هو البداية.

وبعد ذلك، عندما يتحقق هذا التغيير، ذلك الإصلاح الجسدي، ما الذي قد يتبعه؟ الحقيقة أخيرًا، نهاية كل المعاناة والألم، حل لمشكلات الحضارة، مثل الاكتظاظ السكاني وتوزيع الأراضي، بداية السيادة البشرية على الكون.

لكن جريج كان لديه الحس الكافي ليعترف لنفسه أن تعميمه لم يكن سوى شفقٍ خافت يحُوم حول ما يُشاع أنه فجر المستقبل. كان من الضروري، في المقام الأول، أن نفترض وجود جهاز تفكير غير مثالي. بعد كل شيء، كان رجل الساعة الآلي لا يزال لغزًا يتعيَّن حله، وحتى إنْ فشل في إثبات أي نظرية نشأت من مجرد تخمين بشري، فإن المهمة المثيرة للاهتمام، المتمثلة في اكتشاف حقيقته، وكيف وصل إلى الأرض، لا تزال قائمة.

٣

بعد أن ترك الطبيب جريج في غرفته في الجزء العلوي من المدينة، قاد سيارته بتمهُّل على طول الشارع الرئيسي في اتجاه منزله. كان كل شيء هادئًا الآن، ولم تكن هناك أي علامة على اضطراب آخر، ولا دليل على أن معجزة قد حدثت في بلدة جريت وايميرينج العادية. لاحظ الطبيب تلك الحقيقة برضًا وهدوء؛ وساعده ذلك على تهدئة نفسه، وكان من الضروري، من أجل المشكلات التي يعاني منها في الهضم، أن يشعر بالراحة والاطمئنان.

ولكن إذا كانت تخمينات جريج قريبة من الصواب بأي حال من الأحوال، ففي غضون ساعات قليلة فقط كانت إنجلترا بأكملها في طريقها لأن تعرف أن المستقبل قد فتح فكَّيه، وكشفت عن هذا الكائن الغريب لأعين البشر في الحاضر. ستندلع ضجة كبيرة من الإثارة؛ وستمتلئ الصحف بهذا الحدث. في الواقع، ربما يتغير مجرى العالم كله نتيجة هذا الكشف المدهش.

سيُزَج به في هذا الشأن. فسيُضطر رغمًا عنه إلى الإدلاء بشهادته، وإعلان أنه من البداية كان يعتقد أن رجل الساعة الآلي ظاهرة فريدة، في حين أنه في الحقيقة كان يراه مجرد أمر مزعج. ولكن، بصفته واحدًا من أوائل مَن رأوا الشخص الغريب على التل، وبصفته طبيبًا، فسيتوقع منه الإدلاء ببيانٍ حكيم. يجب أن يكون المرء ثابتًا في مثل هذه الأمور.

والحقيقة هي أنه لم يكن لديه أي رغبة في الاهتمام بالأمر. فقد أزعج توازنه العقلي، وهدَّد صحة ذلك العالَم المصمَّم بعناية من الافتراضات، والذي كان يمكِّنه من إطلاق النكات الخفيفة والسهلة حول تناقضاته وتبايناته.

بالإضافة إلى ذلك، كان من المحزن اكتشاف أنه، في منتصف العمر، لم يعد بعدُ في طليعة آمال ومخاوف البشرية؛ بل أصبح متراجعًا بائسًا يعود إلى زمن أصبحت فيه الحياة الجادة والتفكير العميق أمرًا بالغ الصعوبة لتحقيق الراحة. من هذا المنظور، لا شيء يمكن أن يعوِّض عن السنوات الضائعة، أو عن إخماد المُثل العليا، أو عن تبديل الآمال الغنية بشكوك رخيصة، إلا، في الواقع، إذا كان يمكن النظر إلى ذلك على أنه يعكس حال جميع البشر. كان العالم القديم المريح متواصلًا من جيل إلى جيل، ولم يحدث أي شيء استثنائي ليرعب الناس ويدفعهم بعيدًا عن انشغالهم القانع بشغفهم، ورغباتهم، وطموحاتهم. أما المعجزات، فقد كان يُعتقد أنها حدثت في مراحل معينة في تاريخ العالم، لكنها كان يمحوها فورًا سيلٌ من التعليقات الجدلية، أو يُعتِّم عليها أولئك الذين كانت لديهم مصالح في عالم يمكن الاعتماد عليه في تكرار نفسه.

يا له من عالم مريح! بالطبع، كان هناك ناقمون. عندما تضيق الأحوال، فإن أي شخص سيصرخ طلبًا للنجدة من السماء. ولكن لو كان أُجري استفتاء، فسيتبيَّن أن أغلبية ساحقة ستكون مع عالم بلا معجزات. إذا أمكن مثلًا إثبات أن رجل الساعة الآلي هذا كائن متفوق في العديد من النواحي على بقية البشر، فستطارده الإنسانية، بدافع من الغيرة والمحافظة، حتى تقضي عليه.

لكن رجل الساعة الآلي لم يكن كذلك. لم يكن كذلك قَط، وحاشَ لله أن يصبح كذلك في يوم من الأيام.

وبهذا التأمل الذي أضاء ذهنه، أوقف الطبيب سيارته داخل المرأب، ومع استعادته شيئًا من أسلوبه المرِح المعتاد، وشيئًا من ثقته الدائمة بوقوفه على أرض صُلبة، وهو أمر أساسي لتنشيط عصارته الهضمية، فتح باب منزله الأمامي.

٤

كانت السيدة ماسترز تقف في غرفة المعيشة في انتظاره. دخل الطبيب بخُطًى ثابتة دون التوقف لخلع قبعته أو وضع قفازه جانبًا، وهي إحدى عاداته الغريبة التي كانت السيدة ماسترز تعاتبه عليها بين الحين والآخر؛ لأن السيدة الطيبة لم تكن تتردد في مبادلته المُزاح حين تسنح الفرصة، وكانت تعترض على هذه العادات الباقية من فترة حياة الطبيب البوهيمية القديمة. لكن في هذه اللحظة بدا أن مزاجها يميل أكثر إلى الإطراء.

قالت مبتسمة: «جاءت سيدة شابة لزيارتك هذا المساء.»

رفع الطبيب قبعته فيما يشبه التكريم لمجرد ذكر اسم الزائرة. أجاب بخفة، والقبعة لا تزال مائلة بزاوية أنيقة: «هل أبلغتِها محبتي؟»

ردَّت السيدة ماسترز: «بالتأكيد لا، ليس من واجبي أن أنقل مثل هذه الرسائل. كأنها لم تكن فضولية بما فيه الكفاية، تسأل عن هذا وذاك. كما لو كان من شأنها كيف تختار ترتيب منزلك.»

قال الطبيب وهو يشعر بضيقٍ داخلي من هذا النموذج الجديد لأصالة ليليان: «على العكس، أشعر بالإطراء. ولكن أخبريني أيتها السيدة ماسترز، ألم أصبح أكثر نجاحًا مع السيدات؟» قال ذلك وهو يلوِّح بقفازه في اتجاه انعكاسه في المرآة.

تنهدت السيدة ماسترز، وقالت: «لست في حاجة إلى تذكيرك بتلك الحقيقة، الحياة تبدو سهلة عليك للغاية. ربما أكثر من اللازم. وإن سمحت لي بالقول، فإن رجلًا في وضعك يجب أن يأخذ الحياة بقدرٍ أكبر من الجدية.»

«سيختلف مرضاي معك في ذلك.»

«آه، حسنًا، أقر بذلك. يقولون إنك تشفيهم بكلماتك أكثر مما تشفيهم بأدويتك.»

قال الطبيب موافقًا وهو يضحك: «بالتأكيد أُقدِّر حس الدعابة لديَّ أكثر من وصفاتي الطبية، ولكن، أخبريني، ما انطباع السيدة عن تدبير منزلي؟ هذا يذكِّرني بأنكِ لم تخبريني باسمها بعدُ. هل كانت تحمل مظلة حمراء أم بيضاء؟»

عبست السيدة ماسترز قائلةً: «بالتأكيد لم ألحظ ذلك؛ فمثل هذه الأمور لا تهمني. لكن اسمها كان الآنسة ليليان باين …»

قاطعها الطبيب بضحكة عالية. «هيا أيتها السيدة ماسترز، لا داعي للف والدوران. أظن أنكِ على علم بعلاقتنا. هل ترَين أنها لطيفة؟»

قالت السيدة ماسترز على مضض: «لا بأس بها، رغم أنني في البداية كنت مستاءة من تصرفاتها. يا لعجرفة هؤلاء النساء الشابات في هذه الأيام. ولكنها استطاعت كسب إعجابي في النهاية بأسلوبها اللطيف، ووجدت نفسي آخُذها في جولة في جميع أرجاء المنزل، وهو بالطبع ما لم يكن عليَّ فعله دون إذنك.»

قال الطبيب دون أن يحرك عضلة في وجهه: «أخبريني، هل كانت راضية عن جولتها في منزلي؟»

صاحت السيدة ماسترز، وهي ترتب بسرعةٍ غطاء ظهر أحد الكراسي: «حسنًا! لن أخبرك بذلك؛ لأنني بالطبع لا أعرف.»

ثم انسحبت نحو الباب.

سأل الطبيب وهو يحدق إليها بنظارته: «ولكن هل تركت أي رسالة؟»

صرخت السيدة ماسترز بنبرة ضيق: «يا إلهي! الآن سألتني وعليَّ أن أخبرك. كنت أريد الاحتفاظ بذلك لنفسي. أوه، أتمنى ألا تشعر بخيبة أمل. أنا متأكدة أنها لم تكن تعني ذلك حقًّا.»

سأل الطبيب منزعجًا: «ماذا قالت؟»

«قالت لي، إنها تقول، أخبريه أن لا جدوى من الأمر.»

ساد بعض الصمت. ضمَّت السيدة ماسترز شفتَيها وطوت ذراعَيها في صرامة. نظر إليها الطبيب بحدة لحظةً، وكاد أن يكشف عن مشاعره. ثم أرجع رأسه للخلف وضحك بروح رجل تحوَّلت له كل قضايا الحياة، كبيرها وصغيرها، إلى موضوع للسخرية المتدرجة في شِدتها. قال: «إذن، ستنال الشرفَ الأعظم سيدةٌ أخرى.»

قالت السيدة ماسترز: «تعني …» ثم نظرت إليه بنظرة توحي بأنها تشعر بخطر أو فرح يقترب من امرأة أخرى. واصلت وهي تهز رأسها: «تلك السيدة الشابة ليست مناسبة لك، على أي حال.»

أجاب الطبيب بلا اكتراث: «من الواضح أنها كذلك، لكن ذلك ليس له أدنى أهمية. كما قلت، ستنال الشرف …»

قاطعت السيدة ماسترز: «آه، هناك امرأة واحدة فقط تناسبك، وما زلت في حاجة إلى العثور عليها.»

«هناك امرأة واحدة فقط تناسبني، وهي المرأة التي ستتزوجني. كلا، لا تلقي عليَّ المحاضرات يا سيدة ماسترز. أرى التوبيخ يقفز من عينَيك. لقد قررت أن أتعامل مع مسألة الزواج بروح المزاح، التي تعترفين أنها موهبتي الحسنة أو السيئة. الحياة مسرحية هزلية، ولكي يلمع المرء فيها عليه أن يتقمص دور المهرج الذي يمرح في المشاهد، ويسخر من هؤلاء الجادين الذين تعتمد الكوميديا نفسها على جديتهم. سأتزوج من باب المزاح وسأندم وأنا أضحك.»

قالت السيدة ماسترز: «رجل لا أمل في إصلاحه.» لكن الطبيب أدار ظهره لها، غير راغب في الكشف عن التغيير المفاجئ الذي اعترى ملامحه. حتى وهو ينطق بتلك الكلمات الخفيفة، خطر بباله أنه لم يكن يعنيها حقًّا، وبدا أن تظاهره يتهاوى كالغبار. لقد عاش على هذه الكلمات الفارغة لسنوات، ولكنه الآن أدرك أنها بالفعل فارغة. جاءته قناعة بأن حياته بأسرها لم تكن سوى سلسلة من التصرفات المخطط لها بعناية والإيماءات المحسوبة بدقة، كأنه بذلك يتوج معاناة يومه الشاق.

٥

في أثناء تناوله وجبة غير مُرضية، حاول التفكير مليًّا في الأمور، مدركًا طيلة الوقت أنه يفوت فرصة الاستمتاع بوجبة جيدة نتيجة الإهمال الشديد.

بالطبع، كان انطباع ليليان عن تدبير منزله غير مُرضٍ، حتى لو رافقها في جولة في المنزل بنفسه، ولكن كان لافتًا جدًّا أنها فضَّلت أن تأتي وحدها. ونظرًا إلى آرائها المتقدمة حول تبسيط المنزل وواجبات المرأة فيه، ستعتبر منزله غير عملي، ومكتظًّا، وقديم الطراز، بل عتيقًا. وسيمثِّل لها مسئوليات غير ضرورية، وعملًا من دون طائل، وتباهيًا بلا معنًى. كان ذوق الطبيب يميل إلى الأثاث الثقيل والمزخرف، والسجاد والستائر الفاخرة، وكثرة الزينة. يحب أن يكون المنزل ممتلئًا عن آخره بالأشياء الثمينة. لقد كان جامعًا بالفطرة، ومحبًّا لتكديس النثريات، والأشياء التي أصبحت ضرورية لمزاجه المتغير. كان فخورًا بمنزله، بغرفاته السبع، التي تشمل غرفتَي استقبال فخمتَين، وأربع غرف نوم احتياطية جاهزة دائمة، مثل محطات إطفاء الحريق، للأصدقاء القدامى الذين كانوا دائمًا يقولون إنهم سيأتون ولكنهم لم يأتوا قَط، ومرافق مطبخ معقدة وأماكن الخدم. ثم كانت هناك غرف صغيرة ومريحة يمكن لامرأة ذات ذوق أن تزينها وفقًا لهواها، وغرف للعمل، وحجيرات صغيرة، وقاعات، وأروقة. كان المكان مليئًا بما لا بد أن يروق لامرأة ذات ذوق سليم.

هل كانت ليليان ستُدمِّر سعادتهما من أجل هذه البدع الحديثة؟ بالتأكيد لن تتخلى عنه الآن، ولكن رسالتها قد تركت هذا الانطباع. في الوقت الحاضر، كانت النساء يتبعن عواطفهن بشدة. قد تتمرد طبيعة ليليان الحساسة للغاية على توقعات العيش معه في البيئة التي اختارها.

سيبدو أحمق إذا لم يحدث الزواج. فقد قدَّم الكثير من التضحيات من أجلها، تضحيات كانت على حساب وقاره، ولكنها ضرورية في بلدة ريفية تنتشر فيها كل تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية بسرعة. لذلك سيبدو سخيفًا للغاية إذا لم يحدث الزواج. كان من الضروري في المقام الأول أن يثبت نفسه في الجماعة المفضَّلة لدى والدَي ليليان، وعلى الرغم من أن هذه المناورة تطلبت مزيدًا من التخلي عن مبادئه التي كانت قد تزعزعت جزئيًّا بالفعل، وشبه رياء واضح، لم يتردد الطبيب في فعل ذلك. فقد استقال من منصبه كوكيل لراعي كنيسة رعوية إفخارستية، وأصبح مجرد متعبِّد في مقعد خلفي في مُصلًّى معمداني؛ لأن والد ليليان كان يفضِّل الدين البسيط الذي يناسب الرجال العصاميين. واشترك في جمعية الاعتدال المحلية، وساهم بمقالات طبية في الصحيفة المحلية حول الآثار الضارة للكحول وتدريب القابلات. وفي أمسيات الشتاء، كان يلقي محاضرات على أضواء الفوانيس حول «عجائب العلم». ونظَّم حركةً عصر يوم الأحد المبهج، حيث ألقى خُطبًا للشباب فقط، وفعل بوجه عام كلَّ ما في وسعه لدعم القضايا المعمدانية، التي لم تكن تمثِّل في جريت وايميرينج بساطة العقيدة الدينية فحسب، ولكن أيضًا تبسيط الحياة اليومية بمساعدة المعرفة العلمية والحس السليم. كل ذلك كان ضروريًّا لكي يصبح على تقارب شرعي مع عائلة باين؛ لأن أفرادها كانوا يتمتعون بصحة جيدة جدًّا إلى درجة تثير الحنق، وكان الطبيب قد سئم من انتظار فرصة لتقديم مضادات السموم مقابل دعوة شاي.

لكن الطبقة التي كانت تنتمي إليها عائلة باين لم تكن متواضعة حقًّا. كانوا حضريِّين في الأصل، وكانت تقاليد جريت وايميرينج شبه الأرستقراطية معارضة لهم. كانوا قد انتقلوا من ضواحي لندن استجابةً لإعلانات مواقع المصانع، وكانت مبادرتهم مدهشة. ففي غضون بضع سنوات، لم تعُد جريت وايميرينج بلدة ريفية جذابة ذات ارتباطات تاريخية تعود إلى الاحتلال الروماني الأول؛ بل أصبحت معروفة فقط للمسافرين على سكك حديد ساوث إيسترن وتشاتهام باعتبارها المكان الذي كان يجري فيه تصنيع بسكويت باين للكلاب.

عندما سعى الطبيب لترسيخ مكانته في الأوساط الصحيحة، غفل عن حقيقة أن القوة التي رفعت آل باينز من غموضهم الحضري قد انعكست على ابنتهم. فقد تعلمت ليليان بتكلفة باهظة، وعلى الرغم من أن الطبيب كان ينفي ذلك لنفسه ١٠٠ مرة في الأسبوع، لم يستطع إنكار أن هناك عقلًا لامعًا يكمن وراء جمالها الراسخ. صحيح أن ثمار تعلمها قد ذبلت قليلًا في جريت وايميرينج، وأنه باستثناء عبوس دائم بسيط وميل إلى الجدال حول المشكلات الحديثة، لم تكن تُظهر أي تمرد على ضِيق نطاق حياتها، لكنها كانت تظهر، أنيقة وممشوقة القوام، في حفلات الحدائق أو لعبة الورق. ما كان يخشاه الطبيب هو تطور عقلها، خاصةً أنه، دون وعي في البداية، هو الحافز الرئيس لهذا التطور. خلال أحاديثهما معًا، قال العديد من الكلمات الصادقة مازحًا، وكشفت نكاته لليليان عالمًا كاملًا للتفكير والتنظير.

ألقى نظرةً على صورتها فوق رف المدفأة. إذا كان هناك خطأ في تكوين جمالها الساكسوني الأشقر، وهو أن فمها كان كبيرًا بعض الشيء ويفتح بسهولة بالغة، كاشفًا عن أسنان لم تكن منتظمة كما ينبغي. غالبًا ما يكون خطأ الطبيعة هو ما يرسِّخ اختيار الإنسان، وبالنسبة إلى الطبيب، أضاف هذا العيب الطفيف دفئًا وحيوية لوجهٍ ربما كان سيبدو باردًا وعديم الشعور، لا سيما مع عينَيها الزرقاوَين الفولاذيتَين وقلة براعتها في استخدامهما. وغالبًا ما كان صوتها يُدهِش المستمع بسبب نغمة عرضية تعكس انفعالية مزاجية تكاد تخرج عن السيطرة.

بلا جدوى حاول الطبيب التخلص من تأملاته الثقيلة، واستعادة بهجته المعتادة في أثناء احتساء قهوته وتفكيره في ليليان. لم يكن ممكنًا أن يُنسب هذا الضيق إلى علة الحب. فلم يكن شعوره يشبه شعور روميو ﺑ «الظل الثقيل والكبرياء الخطير». بل كانت حيرة عميقة، وتوجسًا خطيرًا بأن هناك خَطبًا مروعًا قد أصابه، شيئًا لم يتمكن من تشخيصه. لم يكن الأمر متعلقًا بالتقدم في العمر. فبوصفه طبيبًا، كان يعرف عمره وكل تفصيلة في حالته الجسدية بدقة. ولكن على الرغم من ثقافته البدنية وعفته المتعمدة، شعر فجأةً أنه ليس رفيقًا مناسبًا لهذه الفتاة الشابة ذات العقل المرِن. لقد كان دائمًا صعبًا إرضاؤه فيما يتعلق بالأخلاق، دون تشدد، لكن هناك شيئًا داخله لم يكن يهتم بالتأمل فيه. فقد بدت له خطايا العقل أكثر خطورة من خطايا الجسد؛ لأن الأخيرة تعبِّر عن نفسها بالفعل ورد الفعل، بينما تبقى الأولى في العقل، لتسمم مصدر كل نشاط المرء وتفسده.

فما كان هذا الشعور إذن — هذا الإحساس بالتوقف عند نفسه — بتباطؤ قدراته؟ هل كان مرضًا جديدًا غريبًا من أمراض العالم الحديث، أم حالة ذهنية لم يصفها بعدُ الشعراء أو المفكرون؟ كان من الصعب إيجاد صورة واضحة للتعبير عن حالته؛ ولكن ذلك كان ما يحتاج إليه. لم تكن هناك عبارة أو كلمة في ذاكرته يمكن أن ترمز إلى شعوره.

ثم كان هناك رجل الساعة الآلي، شيء آخر للتفكير فيه، وللتعجب منه.

في هذه اللحظة من تأملات الطبيب، انفتح الباب فجأة وأدخلت السيدة ماسترز الكاهن، الذي كان أشعث الرأس ويحتاج بوضوح إلى الرعاية الطبية الفورية. كانت ياقته مائلة تمامًا، والنظرة على وجهه كنظرة مَن حدَّق طويلًا وبتركيز في شيء مرعب تمامًا، ولم يستطع أن يصرف عنه صورته. شرع في الحديث، محاولًا بشكل مثير للشفقة الابتسام للتحية: «لقد تعرضت لصدمة.» وأردف: «آسف لإزعاجك … في وقت الطعام …» وغاص في كرسي عميق ولوَّح بذراعَيه المرتخيتَين بشكل مُعبِّر. ثم قال بالكاد أخيرًا: «كان هناك رجل …»

مسح الطبيب فمه، وأخرج سماعة الطبيب. أصبح سلوكه مهنيًّا يبعث على الطمأنينة. وهمهم بعبارات تعاطفية، وسحب كرسيًّا كي يقترب من مريضه.

واصل الكاهن بنبرة تشبه تلك التي يستخدمها البحَّارة القدماء: «كان هناك رجل، في قاعة فرسان الهيكل. ظننته الساحر، لكنه لم يكن كذلك … على الأقل، لا أظن أنه ذلك. لقد فعل أشياء … أشياء مستحيلة …»

سأل الطبيب، ببطء، وهو يستمع إلى نبضات قلب الكاهن: «أي نوع من الأشياء. يجب أن تحاول تهدئة نفسك.»

قال الكاهن لاهثًا بجهد كبير: «هو … جعل أشياء تظهر، من العدم … حقًّا.»

قال الطبيب بلطف: «حسنًا، أليس هذا ما يفترض أن يفعله السحرة؟»

لكن الكاهن هزَّ رأسه. لحسن الحظ، بحكم وضعه المهني، لم يكن من المفترض للطبيب أن يُظهِر دهشته. بل على العكس، فقد كان ضروريًّا، من أجل مريضه، أن يتحلى برباطة الجأش. استند إلى رف المدفأة، واستمع باهتمام لرواية القس المتعجلة عن لقائه برجل الساعة الآلي، وهز رأسه بجدية.

قال الطبيب واصفًا العلاج: «حسنًا، الآن، راحة تامة لبضعة أيام، في وضعية الجلوس. سأعطيك شيئًا لتهدئتك. من الواضح أنك تعرضت لصدمة.»

قال الكاهن شاكيًا: «إنه لأمرٌ صعب جدًّا أن حالتي الجسدية منعتني من رؤية المزيد. روحي كانت راغبة لكن جسدي كان ضعيفًا.»

قال الطبيب: «من المحتمل جدًّا أن يكون شخص ما قد خدعك. وربما تكون أعصابك ساهمت في ذلك. الرجال ذوو الأعصاب المشدودة مثلك غالبًا ما يكونون عُرضة ﻟ … آه … الهلوسات.»

قال الكاهن ممسكًا بحافة كرسيه: «تُرى هل شعر موسى بمثل هذا الشعور عندما رأى نارًا مشتعلة.»

أجاب الطبيب مسرورًا بالفرصة لتأكيد تشبيهه: «آه، من المحتمل جدًّا. لا يوجد أدنى شك في أن العديد من المعجزات المزعومة في الماضي كانت أصولها مرتبطة بحالة مرضية لم يتحقق فهمها على نحو صحيح في ذلك الوقت. ربما كان موسى يعاني نوعًا من الهستيريا، حالة تشبه التنويم المغناطيسي. فحتى في تلك الأيام كانوا يعانون من الانهيار العصبي.»

تلاشى صوته. لم يكن الكاهن يهز رأسه في الواقع، لكن ظهر على ملامحه تعبير عن عدم التصديق، وهو تعبير لم يرَ الطبيب مثله من قبل على وجه إنسان؛ لأنه كان عدم تصديق لرجل يرى أن جميع الحُجج ضد ما هو غير معقول هي نفسها غير قابلة للتصديق. كان تعبيرًا غريبًا، مصحوبًا بارتجافٍ بائس في جفونه، وانتفاضة في شفتَيه، وتشابك بين يدَيه البيضاوَين الصغيرتَين.

أجاب: «يؤسفني أن تفسيرك لن يصمد أمام المنطق. لا أستطيع أن أحمل نفسي على عدم تصديق ما رأيت. كما تعلم، طَوال حياتي كنت أحاول أن أومن بالمعجزات، أو بالتجليات. لطالما قلت يا ليت في مقدورنا تقبُّل ما هو غير ظاهر. كانت أفضل خُطبي تدور حول هذا الموضوع، عن الرغبة في أن نكون في حالة استعداد للتقبُّل. في بعض الأحيان كان راعي الكنيسة يعترض على ذلك. بدا أنه يعتقد أنني كنت أركِّز على الأمر عمدًا. ولكنني أؤكد لك أيها الطبيب ألينجهام أنني دائمًا أردت أن أومن … وفي هذه الحالة، كان ضعفي الشديد وتوتري المؤسف هما ما جعلاني أُضيِّع هذه الفرصة.»

وقف الطبيب منتصبًا بتيبُّس، وأشار نحو الباب بوضوح. قال: «أعتقد أنك في حاجة إلى إجازة، وإلى التغيير بعيدًا عن الأنشطة اللاهوتية. ولا تنسَ. استرِح بضعة أيام، في وضعية الجلوس.»

أضاء وجه الكاهن، وقال: «شكرًا لك، أخشى أن راعي الكنيسة سيكون مستاءً جدًّا، ولكن ليس لديَّ خيار آخر.»

كانا في الردهة الآن، وكان الطبيب يمسك بالباب المؤدي إلى الشارع مفتوحًا.

همس الكاهن: «لكن ما رويته حدث حقًّا. لقد حدث بالفعل، وسنسمع ونرى المزيد. كل ما أتمناه أن أكون بصحة جيدة بما يكفي لتحمُّله. نحن نعيش في أيام عِظام.»

توقف على عتبة الباب، يفرك يدَيه معًا، وينظر بخجل إلى النجوم كأنه يتوقع رؤية علامة أو يبصر دليلًا. استكمل قائلًا: «أزعجني في البداية؛ لأنه كان شخصًا غريب المظهر، وكانت التجربة بأكملها في الواقع هزلية. أردت أن أضحك عليه، وجعلني أشعر بالخزي الشديد. لكنني متأكد تمامًا أنه كان ظهورًا لشيء ما، ربما تمجيدًا.»

حذَّره الطبيب قائلًا: «لا تتعجَّل في العودة إلى المنزل. خُذ الأمور برويَّة.»

«أوه، نعم، بالطبع. الجسد أداة واهنة. ينسى المرء ذلك. شكرًا لك. لكن الروح تدوم. ليلة سعيدة.»

انسل في الشارع الرئيسي المهجور. أمسك الطبيب بالباب مواربًا فترةً طويلة، وراقب ذلك الشخص الضعيف، الذي تشبَّث بقناعة عظيمة وأسرع في السير، متجاهلًا تعليماته بعكس ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥