الفصل السابع

رجل الساعة الآلي يكشف مكنون ذاته

١

في وقت متأخر من تلك الليلة، عاد الطبيب من حالة ولادة، كانت قد قادته إلى إحدى القرى النائية بالقرب من جريت وايميرينج. كان المحرك يقعقع ويعمل بصعوبة شديدة في أثناء صعود السيارة ببطء منحدرًا حادًّا يؤدي إلى البلدة؛ ومال الطبيب إلى الأمام في مقعده، وكلتا يدَيه مُمسِكة بعجلة القيادة، وعيناه تحدقان عبر الزجاج الأمامي في امتداد الطريق المُضاء جيدًا أمامه.

كاد يصل إلى قمة التل، وكان على وشك تغيير السرعة، ولكنَّ شخصًا ما ظهر وسط الظلام وتوجَّه مباشرة نحو السيارة. أسرع الطبيب في الضغط على المكابح، ولكن بعد فوات الأوان لتجنُّب الاصطدام. وقع ارتطام عنيف، وفي اللحظة التالية بدأت السيارة ترجع إلى الخلف أسفل التل، ويتبعها الشخص، الذي يبدو أنه لم يتعرض لأي ضرر نتيجة الاصطدام.

نظرًا إلى إدراك الطبيب أن مكابحه ليست قوية بما يكفي لتجنُّب كارثة أخرى، وجَّه السيارة بمهارة جانبًا، وتراجع بها إلى داخل السياج. ثم قفز إلى الطريق، واقترب من الشخص الذي كان لا يزال يتحرك.

«ما هذا بحق الجحيم؟»

توقف الشخص على نحوٍ مفاجئ ومذهل، لكنه لم يفسِّر ما فعله.

سأل الطبيب وهو يرمق غطاء المحرك المتجعد: «ما الذي تفعله؟ من المذهل أنني لم أقتلك.»

ثم عندما اقترب أكثر من ذلك الشخص الفاقد الحس، الذي كان يحدق إليه بعينَين تتلألآن بتوهُّج في الظلام، أدرك شيئًا مألوفًا في مظهره. وفي اللحظة نفسها أدرك أن هذا الشخص الفريد اصطدم فعلًا بالسيارة دون أن يصيبه أدنى ضرر. جعلته هذه الفكرة عاجزًا عن الكلام بضعَ ثوانٍ؛ ولم يستطع سوى التحديق بِحَيرة في رجل الساعة الآلي. ظل الأخير ثابتًا، كأنه بدوره يحاول فهم ما حدث.

خطر ببال الطبيب أن هناك فرصة لاستقصاء بعض الأمور.

قال فجأة بعد لحظة تفكير: «اسمع، للمرة الأخيرة، مَن أنت؟»

عادةً ما يثير السؤال المباشر تأثيرًا في رجل الساعة الآلي. بدا كأنه يُفعِّل الآلية في دماغه التي تُمكِّنه من الكلام المتماسِك. لكن ردَّه كان مُحيِّرًا.

سأل بعد نقرة أولية أو نقرتَين: «من أنت؟»

قال ألينجهام وقد أُخذ على حين غِرة: «أنا طبيب، رجل طب. إذا كنت مصابًا بأي شيء …»

ازداد البريق في عين الآخر، وبدا أنه يتأمَّل بعمق في هذه الجملة.

استفسر أخيرًا: «هل هذا يعني أنك تستطيع إصلاح الناس؟»

أقرَّ ألينجهام وهو لا يعرف ماذا يقول غير ذلك: «أجل، هو كذلك.»

تنهَّد رجل الساعة الآلي تنهيدةً طويلةً مُصفِّرة. «أتمنى أن تصلحني. أنا مُعطَّل تمامًا، كما ترى. شيء ما خرج عن مكانه، أظن كذلك. ساعتي لن تعمل جيدًا.»

كرر الطبيب: «ساعتك.»

واصل رجل الساعة الآلي: «من الصعب بعض الشيء أن أشرح لك، ولكن بقدر ما أتذكر، كان الأطباء هم الأشخاص الذين كانوا يصلحون البشر قبل أيام الساعة. الآن يُطلَق عليهم اسم الميكانيكيين. لكن النتيجة واحدة.»

اقترح الطبيب، بقدر ما استطاع من الهدوء: «إذا كنت ستأتي معي إلى عيادتي، فسأبذل قصارى جهدي لأجلك.»

انحنى رجل الساعة الآلي انحناءةً متخشبة. «شكرًا لك. بالطبع، أنا أفضل حالًا بعض الشيء مما كنت عليه، لكن أذنَي لا تزالان ترفرفان أحيانًا.»

لم يسمع الطبيب هذا جيدًا. فقد التفتَ جانبًا وانحنى لكي يعيد تشغيل محرك سيارته. وعندما رفع رأسه مرة أخرى، رأى مشهدًا غير عادي.

كان رجل الساعة الآلي يقف بجانبه، مع تعبير كوميدي مفعم بالشفقة والتوجُّس يكتنف ملامحه الجامدة. كان يربت بيده بلطف على غطاء محرك السيارة المتضرر.

ردَّد قائلًا: «يا لَلمسكين، لا بد أنه يعاني بشدة. أنا آسف جدًّا.»

توقف ألينجهام عن تدوير المقبض ونظر، مذهولًا، إلى رفيقه. لم يكن هناك أدنى شك في دلالة العبارة، وقد قيلت بنبرة غريبة مليئة بالعطف. اجتاح عقل الطبيب بسرعة إحساسٌ قاطع بالاقتناع التام. إذا كان ثَمة دليل آخر يلزم لصحة تخمين جريج، فقد عُبِّر عنه بالتأكيد في هذا الاهتمام الظاهر الجنوني، ولكن بوضوح وصدق، أبداهما رجل الساعة الآلي تجاه آلة غير حية. لقد تعرَّف في هذه الآلة أمامه على عضو من نفس جنسه!

كان الأمر منطقيًّا وغير منطقي في آن واحد، وكاد الطبيب يستسلم لرغبة في الضحك الهستيري. ثم بسحبة أخيرة للمقبض، شغَّل المحرك وفتح باب السيارة كي يركب رجل الساعة الآلي. بعد عدة محاولات عابثة من رجل الساعة الآلي لتسلُّق الدَّرج بالطريقة العادية، تعثَّر وسقط برأسه داخل السيارة. تبعه الطبيب، ورفع الشخص المستلقي، ووضعه في وضع الجلوس على المقعد. كان خفيفًا للغاية، وكان ثَمة شيء في ملمس جسده جعل قشعريرة من التوجس تسري في العمود الفقري للطبيب. كان خائفًا جدًّا في تلك اللحظة، وقد زاد من رعبه الطريقة التي تعامل بها رفيقه مع كل شيء كأنه أمر عادي.

قال رجل الساعة الآلي، وقد بدأت السيارة تتحرك: «كل ما أعرفه الآن هو شيء واحد: أنني أتضور جوعًا.»

٢

كان واضحًا للطبيب، بمجرد دخولهما إلى المنزل، أن رجل الساعة الآلي من المرجح أن يصبح مصدر إحراج له بطرقٍ عديدة. نظرت السيدة ماسترز، التي كانت تجهز العشاء، إلى الضيف بفظاظة. فقد عنى لها ضرورة إعداد وجبة إضافية لم تكن مستعدة لها. ولم يكن تصرف الطبيب مُطَمئنًا. فقد بدا في تلك اللحظة مفتقدًا اللباقة التي كانت تمكِّنه عادةً من تخطي المواقف المحرجة في الحياة. ربما كان مؤسفًا أنه سمح للسيدة ماسترز بالشعور بالشك، ولكنه كان متوترًا، وذلك كافٍ لإثارة حذرها.

طلب الطبيب عندما دخلا الغرفة: «جهزي مكانًا إضافيًّا، هلا فعلتِ، يا سيدة ماسترز.»

جاء الرد الحاد: «يبدو أنك ستُضطر إلى الاكتفاء بما هو موجود»؛ إذ لم يكن على الطاولة الكثير، وكان الطبيب يفضِّل عشاءً خفيفًا. أضافت بنبرة دفاعية: «هناك جرجير.»

سأل الطبيب، محاولًا بشدة أن يبدو عفويًّا في أثناء النظر إلى ضيفه: «هل تحب الجرجير؟»

نظر رجل الساعة الآلي إلى سائله بنظرة فارغة. قال: «الجرجير ليس من الأشياء التي أفضِّلها كثيرًا. شيئًا قويًّا، إذا كان متوفرًا، وبكمية كبيرة قدر الإمكان. أشعر ببعض الدُّوار.»

جلس متسرعًا نوعًا ما، على الأريكة، وفحص الطبيب أعراضه بقلق. ولكن لم يكن هناك أيٌّ من الأعراض المقلِقة. لم يكن قد أزال قبعته وباروكته اللتَين اقترضهما.

همس الطبيب في أذن السيدة ماسترز: «أحضري أي شيء تجدينه، قد قطع صديقي رحلة طويلة نوعًا ما. أي شيء تجدينه. بالتأكيد لدينا أشياء مُعلَّبة.»

ضاع ما قاله بعد ذلك وسط تثاؤب ضخم أشبه بتثاؤب الضباع قادم من جهة الأريكة. تبعه تثاؤب آخر، أكثر ضخامة. اهتزت الغرفة بأكملها تقريبًا من التعبير الغريب عن الشهية الشرهة لرجل الساعة الآلي.

لم تستطع السيدة ماسترز أن تمنع نفسها من أن تقول: «يا إلهي! فلتتحلَّ بالأدب!»

سأل الطبيب: «هل ثَمة شيء ذو أفضلية خاصة لديك؟»

قال الجالس على الأريكة: «البيض. كميات كبيرة من البيض … بيض لا نهائي.»

طلب الطبيب: «انظري ما يمكنكِ فعله بخصوص البيض»، وغادرت السيدة ماسترز وفي عينَيها بريق الاستعجال؛ لأن إطعام رجل جائع، حتى لو كان شخصًا ترتاب في أمره، كان جزءًا من عقيدتها.

همهم الزائر وهو لا يزال يتثاءب ويتقلب على الأريكة: «أخشى أن أكون قد سبَّبت لك إزعاجًا كبيرًا. الحقيقة هي أنني يجب أن أكون قادرًا على إنتاج الأشياء … لكن هذا الجزء مني يبدو أنه قد تعطَّل مجددًا. حاولت … ولكن دون جدوى. أنا آسف حقًّا إذا كنت قد أزعجتك.»

قال الطبيب محاولًا بلا جدوى أن يعامل ضيفه ككائن عادي: «لا بأس على الإطلاق، اللوم يقع عليَّ. كان ينبغي أن أدرك أنك في حاجة إلى تغذية. ولكن، بالطبع، ما زلت غير مدرك تمامًا …»

توقف على نحوٍ مفاجئ، حيث أدرك أن تغييرات غريبة كانت تطرأ على ملامح رجل الساعة الآلي. بدا أن كائنه الغريب يمر بسلسلة من العمليات الفيزيائية والكيميائية السريعة والمعقدة. تغيَّر لون بشرته بسرعة، مرورًا من شحوبها المعتاد إلى لون أخضر غامق، ثم إلى احمرار شديد. بالتزامن مع ذلك، كانت هناك حركة محيِّرة لكريات الدم والخلايا تحت الجلد.

لم يكن الطبيب بعدُ في حالة ذهنية تسمح له بدراسة هذه الظواهر بدقة. في قرارة نفسه كان يفكر في عودة السيدة ماسترز بالعشاء. حاول استكمال الكلام العادي، لكن رجل الساعة الآلي بدا شارد الذهن، وكانت غرابة مظهره تزداد كل ثانية. بدا للطبيب أنه يتذكر وجود غمازة صغيرة في منتصف ذقن رجل الساعة الآلي، ولكنه الآن لا يستطع رؤيتها. كان يغطيها شيء بني دقيق، شيء كان ينتشر سريعًا حتى أصبح ملحوظًا بوضوح.

صرخ الطبيب محاولًا بجهدٍ شديدٍ تجاهل تصوراته الخاصة: «كما ترى، كل شيء غير متوقع. أخشى ألَّا أقوى على تقديم الكثير من المساعدة لك كي أعرف الحقائق الفعلية، وحتى حينذاك …»

أمسك بظهر كرسي. لم يعُد ممكنًا أن يخدع نفسه حول المظهر الغامض على ذقن رجل الساعة الآلي. كانت تنمو له لحية، بسرعة ووضوح. بل قد وصل بعض الشعر بالفعل إلى ياقته.

قال رجل الساعة الآلي، مدركًا فجأةً نمو شعره: «أعتذر عن الإزعاج. نمو غير منتظم … غير مريح على الإطلاق … يرجع ذلك إلى حالتي … أنا في حالة فوضى كما ترى … تحدث الأمور عفويًّا.» بدا أنه يكافح بجِد كي يعكس بعض العملية داخل نفسه، لكن اللحية استمرت في النمو.

استعاد الطبيب صوته. انفجر في صرخة هستيرية: «يا إلهي. أوقفه. يجب أن توفقه … لا أستطيع تحمُّله.»

راودته رؤًى لغرفة تملؤها لحية بنية مُذهَّبة. كان هذا هو أكثر شيء مروِّع شاهده على الإطلاق، ولم يكن هناك أي خداع بشأنه. كانت اللحية قد نمت بالفعل أمام عينيه، وكانت قد وصلت الآن إلى الزر الثاني من صدرية رجل الساعة الآلي. وفي أي لحظة، ربما تعود السيدة ماسترز!

فجأة، بجهدٍ عنيف تضمَّن رفرفتَين حادتَين لأذنَيه، تغلَّب رجل الساعة الآلي على مشكلته. بدا كأنه فعَّل عملية إزالة شعر سريعة. اختفت اللحية كما لو كان ذلك بفعل السحر. انهار الطبيب في كرسي.

تمتم بصوت أجش: «يجب ألَّا تفعل أي شيء كهذا مرةً أخرى. يجب … أن … تُخبرني … عندما … تشعر … بأنك … على … وشك … فعل ذلك.»

على الرغم من اضطرابه، تبادر إلى ذهنه أنه يجب أن يكون مستعدًّا لصدمات أسوأ من هذه. لم تكن هناك فائدة من الاستسلام للذعر. على الرغم من الأداء المذهل في لعبة الكريكيت، والطيران السحري، والآن هذا النمو السريع السخيف للحية، كانت ثَمة علامات استفهام حول رجل الساعة الآلي تُوحي بمزيد من الأمور الشاذة. أعدَّ الطبيب نفسه لمواجهة الأسوأ؛ لم يكن لديه أي نظرية لتفسير هذه الظواهر المذهلة، وبدا من المرجح أن هذه الشخصية المروعة التي تجمع بين الهزلية والجدية الجالسة على الأريكة ستقدم تفسيرًا خاصًّا بها قريبًا.

بعد لحظات قليلة، دخلت السيدة ماسترز الغرفة حاملةً صينية وعليها الوجبة الموعودة. واستنادًا إلى غريزتها، لا بد أن هذه المرأة الطيبة قد بحثت في أبعد زوايا مخزنها لتجهيز ما اعتبرته اعتذارًا متواضعًا عن عدم تقديمها لوليمة. لم تكن تعلم شيئًا عن الشهية الجبارة لدى من تقدِّم له الطعام! عند رؤية البيضات الست اللامعات في أكوابهما، صدرت عن الضيف حركة تعبِّر عن اتجاه رغبته، إن لم تكن تحمل الكثير من الأمل في تحقيقها. فبجانب البيض، كانت هناك عدة أكوام من الشطائر، والخبز والزبد، والكعك المتنوع.

لم تكد السيدة ماسترز تهمهم باعتذاراتها عن أقصى ما استطاعت فعله مع مثل هذا الإشعار القصير وتنسحب، حتى شرع رجل الساعة الآلي في تناول الطعام بنهمٍ أذهل الطبيب وأثار اشمئزازه. كسر البيضات الست وابتلعها في ثوانٍ معدودة. واختفت بقية الطعام في سلسلة من الحركات المصحوبة باهتزاز مكثف للفكَّين؛ حيث كانت عملية البلع بأكملها أشبه بخفقان أسطوانات محرك يعمل بالبنزين. كانت الاهتزازات سريعة إلى درجة أن الجزء السفلي من وجه رجل الساعة الآلي بدا كأنه مجموعة غير واضحة من الخطوط المشوشة.

هدأت الجلبة فجأة كما بدأت وسأل الطبيب، بأقصى ما استطاع من لباقة وسط شعور غريزي بالاستياء، عما إذا كان في مقدوره تقديم المزيد.

قال رجل الساعة الآلي محددًا شعوره بالضغط بيده على معدته: «لا يزال لديَّ شعور بالفراغ هنا.»

تمتم الطبيب: «يا إلهي، يبدو أننا نعاني من نقص في الوقت الحالي. يجب أن أفكر في شيء.» واصل الحديث، كما لو كان يريد كسب الوقت. «من الواضح، بالطبع، أنك في حاجة إلى أكثر مما يحتاج إليه الشخص العادي. كان يجب أن أدرك ذلك. التمثيل الغذائي مفرط، بالطبع، لدعم الوظائف المفرطة. ولكن بطبيعة الحال … القوة الدافعة وراء كفاءتك الاستثنائية هذه لا تزال لغزًا بالنسبة إليَّ. هل أنا محق في افتراض أن هناك آلة ما؟»

قال رجل الساعة الآلي: «إنها تجعل كل شيء يتحرك بشكل أسرع، وبدقة أكبر.»

همهم الطبيب: «بالتأكيد.» مال بجسده حينذاك إلى الأمام، وذراعاه مستندتان إلى الطاولة ورأسه مائل إلى أحد جانبَيه. «يمكنني رؤية ذلك. ثَمة أشياء معينة متعلقة بك تبدو واضحة للعيان. ولكن ما يحيرني حاليًّا هو كيف … وأين …» نظر، إن جاز القول، إلى داخل رجل الساعة الآلي، «أعني، في أي جزء من تشريحك … توجد … القوة الدافعة.»

قال رجل الساعة الآلي: «مبدأ التشغيل، موزع في جميع أنحاء جسمي، لكن الساعة …» تدفقت كلماته بشكل غير متماسك لبضع لحظات، وانتهت بانفجار مفاجئ كاد يرفعه عن مقعده. «أعتذر … ما أريد قوله هو أن الساعة … والابالو … ووم … ووم …»

تدخَّل الطبيب وهو يسعل سعالًا خفيفًا: «أنا على استعداد لأن أقبل ذلك بوصفه حقيقةً مسلَّمًا بها.»

استكمل رجل الساعة الآلي وهو يبذل جهدًا مؤلمًا لطيِّ ذراعَيه والظهور بمظهر طبيعي: «يجب أن تفهم … طَق … طَق … من الصعب عليَّ متابعة المحادثة بهذه الطريقة. ليس فقط لأن مراكز الكلام لديَّ مشوشة … جرررررر … ولكنني لست معتادًا التعبيرَ عن أفكاري بهذه الطريقة (هنا سُمع ضجيج عالٍ مثل صوت ماكينة الخياطة، وازداد ارتفاعًا على نحوٍ متسارع). دماغي … مُصمَّم … ليعمل … بشكل متقطع نوعًا ما … إلا في عالم متعدد الأشكال … بفت … بفت … بفت. في الواقع … بفت … لولا … بفت … أنني في حالة ميئوس … ميئوس … ميئوس منها، ما استطعت التحدث معك من الأساس.»

قال ألينجهام ببطء: «أفهم أنه بسبب أنك، إن جاز القول، عاجز مؤقتًا، أصبحتَ قادرًا على النزول إلى مستوى عالمنا.»

صرخ الآخر بحماسة مفاجئة بدا كأنها جلبت له لحظة من التماسك: «إنه عالم غير … غير عادي. لا أستطيع التكيُّف معه. كل شيء بدائي ومحدود للغاية. لم أكن لأعتقد أنه حتى في القرن العشرين، ستكون الأمور بهذه الرجعية. كنت دائمًا أعتقد أن هذا العصر يُفترض أن يكون البداية. يقول التاريخ إن القرنَين التاسع عشر والعشرين كانا مليئَين بالحركة والبحث. كان عقل الإنسان يستيقظ. ولكن كم هو قليل ما أمكن إنجازه. لا أرى أي علامات على الحركة الكبرى. عجبًا، لم تدركوا بعدُ أهمية الآلات.»

قاطعه ألينجهام بنبرة ضعيفة: «لدينا سيارات وطائرات.»

رد رجل الساعة الآلي: «وتعاملونها كالعبيد. اتضحت لي هذه الحقيقة من خلال تصرفك القاسي تجاه سيارتك. لم يبدأ تاريخ الإنسان الحقيقي إلا عندما بدأ يحترم الآلات. ما أفكاركم عن علاقة الإنسان بالكون الخارجي؟»

غامر ألينجهام قائلًا: «لدينا نظرية النسبية.»

«أينشتاين!» تغيَّرت ملامح رجل الساعة الآلي بشكلٍ ملحوظ لتعبِّر عن دهشة خافتة. «هل وُلد بالفعل؟»

«بدأ الناس يفهمونه. وهناك جهود مبذولة لتبسيط نظريته للعامة. لكنني لا أعرف إذا كنت أوافق على هذا تمامًا.»

تردَّد الطبيب، مدركًا عدم جدوى الخلاف حول مثل هذا الموضوع الذي كان رفيقه معنيًّا به. ولكن خطرت فكرة أخرى في ذهنه. «كيف يبدو عالمك؟ أعني شكله. أعني من حيث المظهر والملمس؟»

أجاب رجل الساعة الآلي (وقد تمكَّن الآن من طي ذراعَيه، وباستثناء بعض التصلب، بدت وضعيته طبيعية إلى حدٍّ ما): «إنه عالم متعدد الأشكال. أما عالمكم فله شكل محدد ومعين. هذا ما يحيِّرني للغاية. ثَمة نسخة واحدة من كل شيء. سماء واحدة، وأرض واحدة. كل شيء ثابت ومستقر. على الأقل، هكذا يظهر لي. ثم لديكم أشياء موضوعة في مواقع معينة، الأشجار، والبيوت، وأعمدة الإنارة … ولا تغيِّر مواقعها أبدًا. يذكِّرني هذا بالمَشاهد المستخدَمة في المسارح القديمة. أما في عالمي، فكل شيء يتحرك باستمرار، وليس هناك نسخة واحدة من كل شيء، بل العديد من النسخ لكل شيء. الكون ليس له شكل محدَّد على الإطلاق. السماء لا تبدو، كما تبدو سماؤكم، أشبه بوعاء مقلوب. إنها فراغ بلا شكل. ولكن ما يدهشني للغاية في عالمكم هو أن كل شيء يبدو كأنه يقود إلى مكان ما، وتتوقعون دائمًا أن تصلوا إلى نهاية الأشياء. ولكن في عالمي كل شيء يستمر إلى الأبد.»

تساءل ألينجهام: «ولكن ماذا عن الشوارع والبيوت؟ أليست مثلما هي في عالمنا؟»

هزَّ رجل الساعة الآلي رأسه. «لدينا بيوت، ولكنها ليست مليئة بالأشياء مثل بيوتكم، ونحن لا نعيش فيها. إنها مجرد أماكن نذهب إليها عندما نفكك أنفسنا إلى أجزاء أو نُصلِح أنفسنا.» ثم انفتح فمه على مصراعَيه: «إنها … أقرب إلى الأشياء الثابتة بالنسبة إلينا، ونعتبرها نقاط انطلاق لرحلاتٍ متتالية إلى أبعاد مختلفة. الشوارع بالطبع غير ضرورية؛ إذ إن الهدف الوحيد للشارع هو أن يؤدي من مكان إلى آخر، ونحن نفعل هذه الأشياء بطرقٍ مختلفة. مرة أخرى، بيوتنا ليست متراصة بعضها بجانب بعض بطريقة سخيفة مثل منازلكم. إنها في أي مكان وفي كل مكان، وفي اللامكان واللازمان. على سبيل المثال، أعيش في اليوم قبل الأمس، ويعيش صديقي في اليوم بعد الغد.»

قال ألينجهام وهو يغرز ذقنه في يدَيه: «بدأت أفهم ما تعنيه، كفكرة على الأقل. يبدو لي، كما قال شكسبير، إنني حلمت طويلًا بوجود شخص مثلك. ولكن الآن، وأنت أمامي بالفعل، من … آه … من لحم ودم، أجد نفسي عاجزًا عن تقبُّلك.»

كان الطبيب المسكين يحاول جاهدًا أن يستبدل بمشاعره المذعورة اهتمامًا حقيقيًّا برجل الساعة الآلي، لكنه لم ينجح كثيرًا. أضاف بضعف بعض الشيء: «أنت تبدو لي شيئًا نظريًّا للغاية.»

ثم تذكر النمو المفاجئ للحيته، وقرر أنه لا جدوى من متابعة هذا الخط الرفيع من الشكوك في ذهنه. لم يقل شيئًا على الإطلاق لعدة ثوانٍ، وبدا أن رجل الساعة الآلي استغل فترة الصمت ليعيد تشغيل نفسه على مستوًى جديد من التماسك.

بدأ حديثه بعد عدة تشعبات في الصدر: «سيكون سخيفًا أن أشرح لك أمري بالكامل.» ما لم تكن لديك ساعة، فلن تتمكن من فهمي. ولكني آمل أن أكون قد أوضحت أن عالمي عالمٌ متعدد الأشكال. لديه ألف شكل مقارنة بعالمكم ذي الشكل الواحد. إنه عالم متعدد الأبعاد، وكل بُعد مليء بالناس والأشياء. ولكنهم لا يعيق بعضهم بعضًا كما يحدث في عالمكم؛ لأنه دائمًا ما توجد أبعادٌ أخرى متاحة.»

قال الطبيب مُقطبًا حاجبَيه: «يمكنني فهم ذلك؛ يبدو لي واضحًا إلى حدٍّ ما. يمكنني بالكاد أن أستوعب ذلك كفرضية لعالم آخر. لكن ما لا أفهمه، ما لا أستطيع أن أبدأ في فهمه، هو كيف تعمل، كيف تعمل هذه الآلية التي تتحدث عنها.»

ألقى هذه الجملة الأخيرة كما لو كان يوجه إنذارًا نهائيًّا، وبدا أن رجل الساعة الآلي قد تأمَّل فيها بضع ثوانٍ. كان واضحًا أنه مرتبك من السؤال، وظهرت خطوط ميكانيكية صلبة على جبينه، وبدأت تتحرك ببطء كما لو كان يلاحق بعضها بعضًا لتتلاشى في النهاية. ذكَّر ذلك الطبيب بالستائر الفينيسية وهي تُسحب صعودًا وهبوطًا بسرعة كبيرة.

انطلق الرد أخيرًا: «حسنًا، كيف تعمل أنت؟» لم يكن رد رجل الساعة الآلي أقل تأثيرًا على الرغم من توقُّفه لحظة قبل النطق به.

لهث الطبيب قليلًا، وأطلق قبضته عن وعاء الخردل الذي كان يمسك به. ثم استجمع أفكاره وعاد باقتراح جديد.

«حسنًا، تلك فكرة جيدة. قد نصل إلى شيء ما بالمقارنة. لم أفكر في ذلك من قبل.» أمسك بوعاء الخردل مرة أخرى، وحاول ترتيب بعض الأمور في ذهنه. قال بتردد: «من الصعب بعض الشيء أن أعرف من أين أبدأ.»

اقترح رجل الساعة الآلي بودٍّ: «ابدأ من النهاية، إذا أردت. الأمر كله سواء بالنسبة إليَّ. الأول والأخير، الأعلى أو الداخل، الأمام أو الخلف، كل ذلك يوحي الفكرة نفسها لي.»

قال الطبيب بنبرة شخص على وشك خوض رحلة عقلية طويلة: «نحن كائنات تُحركنا دوافع معينة. هناك مبدأ يُعرف بالسبب والنتيجة. كل شيء مترابط. لكل فعل رد فعل معاكس ومُساوٍ. لا يمكن لأحد أن يفعل أي شيء، أو حتى يفكر في أي شيء، دون أن ينتج عن ذلك بعض التغيير، مهما كان طفيفًا، في جريان الأمور عمومًا. كل حركة تصدر عنا، بل تقريبًا كل فكرة تمر في عقولنا، تبدأ تموجًا آخر على سطح الزمن، على هذا التيار اللانهائي للسبب والنتيجة.»

قاطعه رجل الساعة الآلي واضعًا إصبعه إلى جانب أنفه: «آه، بدأت أفهم. أنتم تعملون بمبدأ مختلف، أو بالأحرى مبدأ قديم. كما ترى، كل ذلك أمكن تجاوزه الآن. تحسب الساعة كل شيء سابقًا. إنها تحسب الأمور قبل أن نعيها. بلا شك نحن ما زلنا نمر بالعمليات نفسها، على نحوٍ لا واعٍ، كل تلك العمليات التي تتعلق بالسبب والنتيجة. لكننا، أقصد أنفسنا، نمثِّل ناتج تلك الحسابات، والأفعال الوحيدة التي نكون على وعي بها هي تلك التي يُعبَّر عنها كنتائج.»

مرَّر ألينجهام يده على جبينه. قال: «كل ذلك يبدو معقولًا بمجرد أن تفهم الآلية. لكن ما لا أفهمه …»

ولكن النقاش انتهى على نحوٍ مفاجئ في هذه اللحظة؛ لأن شيئًا كان يحدث لرجل الساعة الآلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥