الفصل الثالث

أفكار حول الحالة الأمريكية الراهنة

في الصفحات التالية لن أعرض إلا لحقائق بسيطة، وحجج واضحة، ومنطق سليم؛ وليس لدي أي مطالب تمهيدية من القارئ سوى أن يجرد نفسه من الهوى والتحيز، ويسمح لعقله ومشاعره باتخاذ القرار؛ لا أطلب منه سوى أن «يلزم» الطبيعة الحقيقية للإنسان أو — بالأحرى — ألا «يبرح» هذه الطبيعة، وأن يتكرم بتوسيع أفكاره ورؤاه لتتسع لما وراء وقتنا الراهن.

لقد كُتبَت مجلدات عن موضوع الصراع بين إنجلترا وأمريكا. وقد انخرط في الجدل رجال من كافة مناحي الحياة ومنازلها، بدوافع مختلفة، ونوايا وأهداف متنوعة، ولكن كل هذا كان بلا طائل، وقد انتهت فترة الجدل، وأصبحت الأسلحة هي الوسيلة الأخيرة لتحديد مصير هذا الصراع؛ كان القرار هو اختيار الملك، وقبلت القارة التحدي.

لقد قيل إن الراحل السيد بيلهام (الذي لم يكن خلوًا من الأخطاء بالرغم من كونه وزيرًا بارعًا)، عندما تعرض للهجوم في مجلس العموم بدعوى أن التدابير التي اتخذها كانت ذات سمة مؤقتة، رد قائلًا: «سوف تبقى طوال حياتي.» ولو أن فكرة كارثية جبانة بهذا القدر تستحوذ على المستعمرات في الصراع الحالي، فإن الأجيال القادمة ستتذكر أسماء أسلافها بكل مقت.

إن الشمس لم تشرق قط على قضية أكثر أهمية من تلك؛ فهي ليست قضية مدينة، أو بلد، أو إقليم، أو مملكة، وإنما قضية قارة بأكملها؛ تُشكل على الأقل ثُمن المساحة القابلة للسكن على وجه الأرض. وهي ليست قضية يوم، أو سنة، أو عصر؛ فالأجيال المقبلة مشاركة فعليًّا في الصراع، وسوف تتأثر — بمقدار قل أو كثر، وحتى نهاية الزمن — بالأحداث التي تقع اليوم. وقتنا الحالي هو وقت زرع بذور الكرامة والإيمان والوحدة القارية؛ وأقل شقاق يحدث اليوم سيكون بمنزلة اسم محفور بسن دبوس على القشرة الرقيقة لشجرة بلوط؛ إذ سوف يزداد الجرح اتساعًا مع نمو الشجرة وسوف تقرؤه الأجيال القادمة بحروف كبيرة واضحة.

وبتحول القضية من المقارعة بالحجة إلى حمل السلاح، بدأ عصر جديد للسياسة؛ وظهرت طريقة تفكير جديدة. أصبحت جميع الخطط والعروض والمقترحات التي سبقت تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان، أي قبل بدء القتال، أشبه بتقويم العام الماضي؛ أي أنه مع أنها كانت ملائمة آنذاك فقد أصبحت لاغية وعديمة الفائدة الآن. وأيًّا كان ما قدمه المؤيدون لأي من جانبي القضية حينها فقد كان يلتقي عند نفس النقطة؛ وهي الوحدة مع بريطانيا العظمى: وكان الخلاف الوحيد بين الطرفين هو طريقة تفعيل تلك الوحدة؛ فطرف يقترح القوة والآخر يريد الصداقة؛ لكن ما حدث حتى الآن هو أن الأول أخفق، والثاني سحب تأثيره ونفوذه.

وإذ قيل الكثير عن مزايا المصالحة التي هلكت — كحلم جميل — وتركتنا كما كنا، فمن الصواب أن ندرس الجانب الآخر من المجادلة، ونفحص بعض الخسائر المادية العديدة التي تقاسيها هذه المستعمرات، وستظل تقاسيها دائمًا، من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى واتكالها عليها: أي أن نفحص الارتباط والاتكال وفقًا لمبادئ الطبيعة والمنطق السليم، ونرى ما علينا أن نثق به، في حالة الانفصال، وما يمكن أن نتوقعه، في حالة الاتكال.

لقد سمعت البعض يؤكد أنه طالما أن أمريكا ازدهرت تحت مظلة ارتباطها السابق ببريطانيا العظمى فإن نفس الارتباط يكون ضروريًّا من أجل رخائها المستقبلي، وسيكون لهذا الارتباط دائمًا نفس التأثير. ولا شيء يمكن أن يكون أكثر تدليسًا وخداعًا من حجة كهذه. فبهذا يمكن أن نؤكد أيضًا أنه طالما أن الطفل نما على رضاعة اللبن فإنه لا ينبغي له أبدًا أن يتناول اللحم، أو أن السنوات العشرين الأولى من حياتنا يجب أن تكون سابقة تحتذى في السنوات العشرين التالية. ولكن حتى هذا يعد إقرارًا بأكثر مما هو صحيح، لأنني أقول بكل صراحة وبلا مواربة إن أمريكا كانت ستزدهر بنفس القدر، وربما أكثر بكثير، لو لم تقحم أي قوة أوروبية أنفها في شئونها. فالمعاملات التجارية التي أثرت أمريكا بها نفسها هي من ضرورات الحياة، وسيظل السوق مفتوحًا أمامها دائمًا طالما ظل تناول الطعام عادة لأوروبا.

ويقول البعض في أمريكا إن بريطانيا العظمى دافعت عنا. وأقول إنه صحيح ومسلم به أنها استحوذت على أمريكا ودافعت عن القارة على حسابنا وعلى حسابها، وكانت ستفعل المثل مع تركيا بنفس الدافع؛ دافع التجارة والسلطة.

لقد ظللنا وقتًا طويلًا منقادين بكل أسف لأهواء وتحاملات قديمة وقدمنا تضحيات هائلة من أجل الخرافات. لقد تباهينا بحماية بريطانيا العظمى، دون التفكر في أن دافع بريطانيا العظمى كان هو «المصلحة» لا «المودة»؛ في أنها لم تكن تحمينا من «أعدائنا» على «حسابنا»، وإنما تحمينا من «أعدائها» على «حسابها»؛ من أولئك الذين ما كانوا ليتصارعوا معنا بأي حال ولأي «سبب آخر»، والذين سيظلون دائمًا أعداءً لنا «لنفس السبب». لتتخلى بريطانيا عن ادعاءاتها في ملكية القارة، أو لتتخلص القارة من اتكالها على بريطانيا، وسوف ننعم بالسلام مع فرنسا وإسبانيا لو كانتا في حالة حرب مع بريطانيا. ولا بد أن تحذرنا مآسي هانوفر في الحرب الأخيرة من مخاطر الارتباطات.

لقد أكد البرلمان مؤخرًا على أن المستعمرات لا علاقة لبعضها ببعض إلا من خلال البلد الأم، أي أن بنسلفانيا وجيرسي وغيرها من المناطق هي مستعمرات شقيقة مملوكة لإنجلترا؛ وتلك بلا أدنى شك طريقة عكسية ملتوية لإثبات علاقة الارتباط، لكنها الطريقة الحقيقية الوحيدة والأقرب إلى إثبات العدائية، لو جاز لي تسميتها بهذا الاسم. إن فرنسا وإسبانيا لم تكونا أبدًا، وربما لن تكونا أبدًا عدوتين لنا بصفتنا أمريكيين إلا من خلال كوننا رعايا لبريطانيا العظمى.

يقول البعض: «ولكن بريطانيا هي البلد الأم». ولو كان ذلك، فإن سلوكها لجدير بالمزيد من العار؛ فحتى وحوش البرية لا تأكل صغارها، وحتى الهمج لا يشنون الحروب على أسرهم؛ ولهذا فلو صح هذا التأكيد لكان في جوهره لوم وتقريع؛ ولكن الواقع أنه ليس صحيحًا، أو صحيح جزئيًّا فحسب، وعبارة «البلد الأم» هي عبارة استخدمها بدهاء الملك وبطانته الطفيلية لغرض حقير هو كسب انحياز جائر غير مستحق من الناس اعتمادًا على ضعف عقولنا وسذاجتنا. إن أوروبا وليست إنجلترا هي البلد الأم لأمريكا. لقد كان هذا العالم الجديد هو المأوى والملاذ لمحبي الحرية المدنية والدينية المضطهدين من «جميع أنحاء» أوروبا. إلى هنا فروا، ليس من الأحضان الحنونة لأم وإنما من القسوة الرهيبة لوحش؛ وينطبق هذا بشدة على إنجلترا، وما زال نفس الطغيان الذي أخرج المهاجرين الأوائل من ديارهم يلاحق ذريتهم.

في هذا الجزء الرحيب من العالم، ننسى الحدود الضيقة التي لا تزيد على خمسمائة وثمانين كيلومترًا (وهو امتداد إنجلترا) وندير صداقاتنا على نطاق أوسع؛ إننا نؤكد مشاعر الإخوة لكل مسيحي أوروبي، ونبتهج بسخاء هذا الشعور.

ومن الجميل أن نلاحظ تدرجنا المنتظم في التغلب على قوة تحاملنا المحلي بينما نوسع تعارفنا بالعالم. فأي رجل يولد في بلدة في إنجلترا المقسمة إلى أبرشيات سوف يكون أكثر ارتباطًا بإخوانه من رعايا الأبرشية (لأن مصالحهم ستكون مشتركة في معظم الأحيان) وسوف يميز صاحبه باسم «الجار»؛ وإذا قابله على بعد بضعة أميال من البلدة، فإنه سيتخلى عن فكرة الشارع الضيقة ويحييه باسم «ابن البلدة»؛ وإذا سافر خارج البلاد وقابله في أي بلد آخر فإنه ينسى الانقسامات التافهة للشارع والبلدة ويدعوه «ابن الوطن»؛ ولكن إذا تقابلا في رحلاتهما خارج البلاد في فرنسا مثلًا أو في أي بلد آخر في أوروبا؛ فإن ذاكرتهما المحلية ستتسع لتصبح ذاكرة أفراد «إنجليز». وبتفكير مكافئ لهذا التفكير يمكن القول إن جميع الأوروبيين الذين يلتقون في أمريكا — أو في أي جهة أخرى من العالم — يمكن تسميتهم «أبناء الوطن»؛ لأن إنجلترا أو هولندا أو ألمانيا أو السويد، عند مقارنتها بالكل المتكامل، تعني نفس الأماكن التي تعنيها تقسيمات أصغر مثل الشارع والبلدة والمقاطعة ولكن على نطاق أوسع؛ إنها تقسيمات محدودة للغاية بالنسبة لأصحاب العقول القارية. إن السكان المنحدرين من أصول إنجليزية لا يبلغون الثلث حتى في هذه المقاطعة. لذا فإنني أرفض تطبيق عبارة البلد الأم على إنجلترا وحدها، وأعتبرها عبارة كاذبة أنانية ضيقة ومقتصدة.

ولكن ما الذي يعنيه حتى الاعتراف بأننا ننحدر جميعًا من أصل إنجليزي؟ لا شيء. فبريطانيا — وقد أصبحت الآن عدوًّا صريحًا — تدمر كل اسم أو لقب آخر لها سوى العدو: والقول بأن المصالحة واجبنا هو ادعاء سخيف حقًّا. لقد كان أول ملوك إنجلترا، من السلسلة الحالية (وهو ويليام الفاتح) فرنسيًّا، ونصف نبلاء إنجلترا ينحدرون من نفس البلد؛ ومن ثم — ووفقًا لنفس أسلوب التفكير — ينبغي أن تخضع إنجلترا لحكم فرنسا.

لقد قيل الكثير عن القوة الموحدة لبريطانيا ومستعمراتها، التي يمكن لها أن تواجه العالم كله. لكن هذا ليس سوى افتراض؛ فمصير الحرب ما زال غامضًا، والمصطلحات أيضًا لا تعني شيئًا؛ لأن تلك القارة لن تجهد نفسها أبدًا إلى حد استنزاف سكانها لدعم الجيوش البريطانية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا.

وبالإضافة إلى ذلك ما شأننا نحن بتحدي العالم؟ إن خطتنا هي التجارة، وإذا اعتنينا بهذه الخطة جيدًا، فإنها ستضمن لنا الأمن والصداقة مع أوروبا؛ لأن من مصلحة أوروبا كلها أن تكون أمريكا «ميناءً حرًّا». ستكون التجارة الأمريكية بمنزلة حماية دائمة لأمريكا، وسيكون انعدام الذهب والفضة فيها بمنزلة صمام أمان لها من الغزاة.

إنني أتحدى أشد المؤيدين للمصالحة أن يبين لنا ميزة واحدة يمكن أن تحققها هذه القارة من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى. وأكرر التحدي، لن نحظى بميزة واحدة. إن الذرة الأمريكية سوف تجد من يشتريها في أي سوق في أوروبا، كما لا بد لنا من دفع ثمن بضائعنا المستوردة، وسوف نشتريها من حيث شئنا.

غير أن الأضرار والخسائر التي نتكبدها مقابل هذا الارتباط لا حصر لها؛ وواجبنا تجاه البشرية عمومًا، وتجاه أنفسنا، يدفعنا إلى رفض هذا التحالف؛ لأن أي خضوع أو اتكال على بريطانيا العظمى يؤدي مباشرة إلى توريط هذه القارة في الحروب والصراعات الأوروبية، ويجعلنا على خلاف مع أمم كانت لولا ذلك ستسعى إلى صداقتنا، ولا نحمل ضدها أي غضب أو حقد أو سخط. ولما كانت أوروبا هي سوق تجارتنا فلا يجب علينا أن نشكل أي ارتباطات متحيزة مع أي جزء منها. إن مصلحة أمريكا الحقيقية هي تجنب الارتباطات الأوروبية، وهو الأمر الذي لا تستطيع أبدًا تحقيقه في الوقت الذي تمثل فيه — باتكالها على بريطانيا — وزنًا زائدًا لموازنة السياسات البريطانية.

إن أوروبا مكتظة بالممالك على نحو لا يسمح باستمرار السلام فيها وقتًا طويلًا، ومتى اندلعت حرب بين إنجلترا وأي قوة أجنبية، فستنهار التجارة الأمريكية؛ «بسبب ارتباطها بإنجلترا». وقد لا تنتهي الحرب القادمة كما انتهت سابقتها، وإذا حدث هذا فإن دعاة المصالحة اليوم سوف يتمنون الانفصال وقتها، لأن الحياد في هذه الحالة سيكون رفيقًا أكثر أمانًا من سفينة حربية. إن كل ما هو طبيعي أو صائب يتضرع من أجل الانفصال، فدماء القتلى وصوت الطبيعة المنتحب يصيحان: «حان وقت الفراق». حتى المسافة التي باعد الله بها بين إنجلترا وأمريكا دليل طبيعي وقوي على أن تسلط الأولى على الأخيرة ليس أمرًا مقدرًا أبدًا من السماء. وبالمثل فإن الوقت الذي اكتُشفت فيه القارة الأمريكية يضيف ثقلًا إلى هذه الحجة، والطريقة التي سكنها بها الناس تزيد الحجة قوة. لقد سبق اكتشاف أمريكا عصر الإصلاح، وكأن رب العالمين شاء بكرمه أن يوجد ملاذًا لمن سيضطهدون في السنوات المستقبلية، حيث لن توفر لهم أوطانهم صداقة ولا أمانًا.

إن سلطة بريطانيا العظمى على هذه القارة هي شكل من أشكال الحكومة لا بد أن ينتهي إن عاجلًا أو آجلًا: ولا يمكن لعقل جاد أن يستمد أي متعة حقيقية من خلال التطلع للأمام في ظل يقين مؤلم ومؤكد بأن ما يسميه هذا العقل «الدستور الحالي» إن هو إلا دستور مؤقت. وكآباء، لا يسعنا الابتهاج ونحن نعرف أن «هذه الحكومة» لن تستمر بما يكفي لأن تضمن أي شيء يمكننا توريثه للأجيال القادمة: وبطريقة بسيطة في المجادلة يمكننا القول إننا إذا كنا سنورط الأجيال القادمة في الديون فعلينا نحن أن ندفع الثمن من جهدنا، وإلا فإننا نستغلهم بحقارة ودناءة. ولكي نعرف واجبنا على نحو صحيح، يجب أن نأخذ أبناءنا في أيدينا، ونحدد موضعنا بعد بضع سنوات في الحياة؛ هذا السمو سيظهر لنا آفاقًا مستقبلية تحجبها عن أنظارنا بعض المخاوف والتحيزات القليلة الحالية.

ومع أنني أحرص بشدة على تجنب توجيه أي إهانة لا لزوم لها، فإنني أميل إلى الاعتقاد أن كل هؤلاء الذين يعتنقون مبدأ المصالحة يمكن إدراجهم تحت الأوصاف التالية: رجال مهتمون بالقضية ولكن لا يمكن الثقة بهم، رجال ضعفاء «لا يستطيعون» الرؤية، ورجال متحيزون «يرفضون» الرؤية، ومجموعة معينة من الرجال المعتدلين الذين يحسنون الظن بالعالم الأوروبي أكثر مما يستحق. وتلك الفئة الأخيرة — بسوء تفكر وتدبر — سوف تكون السبب في الكوارث التي ستحل بهذه القارة أكثر من أي فئة من الفئات الثلاث الأخرى.

من حسن حظ الكثيرين أنهم يعيشون بعيدًا عن مشهد الحزن؛ فالشر لم يصل إلى أبوابهم بما يكفي لجعلهم يشعرون بالخطر الذي يهدد جميع الممتلكات الأمريكية. ولكن دعوا مخيلاتنا تنقلنا بضع لحظات إلى بوسطن، فبؤرة البؤس تلك ستعلمنا الحكمة، وستعلمنا ألا نتخلى أبدًا عن السلطة لمن لا يمكننا الثقة به. لم يعد أمام سكان تلك المدينة البائسة الآن — الذين كانوا منذ بضعة أشهر مضت فحسب يعيشون في دعة وثراء — أي بديل سوى أن يبقوا فيها ويتضوروا جوعًا، أو يخرجوا منها ويمدوا أيديهم متسولين. سوف يكونون عرضة لنيران أصدقائهم إذا ظلوا داخل المدينة، أو ينهب الجنود ممتلكاتهم إذا رحلوا عنها. ففي حالتهم الراهنة هم سجناء دون أمل في الخلاص، وفي حالة شن هجوم عام لإغاثتهم، سوف يتعرضون لعنف وضراوة كلا الجيشين.

إن أصحاب الطباع السلبية يستخفون إلى حد ما بجرائم بريطانيا، ولسان حالهم — في غمرة أمنياتهم بأن يأتي الأفضل — يقول مناديًا: «تعالوا، تعالوا، ينبغي أن نعود أصدقاء مجددًا.» ولكني أقول لهؤلاء ادرسوا المشاعر والعواطف البشرية، وضعوا مبدأ المصالحة أمام اختبار الطبيعة، ثم أخبروني هل يمكنكم بعد ذلك أن تحبوا، وتحترموا، وتعملوا بإخلاص في خدمة القوة التي أعملت الحديد والنار في بلادكم؟ فإذا لم تستطيعوا فعل كل هذا فإنكم فقط تخدعون أنفسكم، وبتأخركم تجلبون الخراب على الأجيال القادمة. وسوف تكون علاقتكم المستقبلية ببريطانيا — التي لا تستطيعون أن تحبوها أو تحترموها — علاقة قسرية غير سوية، ولأنها تتشكل فقط وفقًا لخطة ملاءمة ظرفية، فإن تلك العلاقة سوف تتعرض خلال وقت قصير لانتكاسة أسوأ من الانتكاسة الأولى. ولكن إذا قلتم إنكم ما زلتم تستطيعون ابتلاع الإهانات والتجاوز عن الانتهاكات، فإنني أسألكم: هل أُحرقت بيوتكم؟ هل دُمرت ممتلكاتكم أمام أعينكم؟ هل لا تجد زوجاتكم وأطفالكم فراشًا ينامون عليه أو خبزًا يعيشون عليه؟ هل فقدتم والدًا أو ابنًا على أيديهم لتصبحوا أنتم الناجين التعساء البائسين؟! إذا لم يحدث هذا لكم، فليس بوسعكم الحكم على من تعرضوا له. ولكن إذا كان ذلك قد حدث لكم وما زلتم تستطيعون مصافحة أيدي القتلة، فإنكم غير جديرين باسم الزوج أو الأب أو الصديق أو المحب، وأيًّا كانت مراتبكم أو ألقابكم في الحياة، فإن قلوبكم قلوب جبناء وأرواحكم أرواح أذلاء.

ليس هذا تأجيجًا للنيران أو مبالغة في وصف الأمور وإنما هو محاولة لمعايشتها بالمشاعر والأحاسيس التي تبيحها الطبيعة، والتي بدونها سنكون عاجزين عن أداء الواجبات الاجتماعية في الحياة، أو التمتع بهنائها. إنني لا أقصد عرض هذا الرعب بغرض استثارة مشاعر الانتقام، وإنما أريد أن نستيقظ من غفوات قاتلة خبيثة، لكي يمكننا السعي بحسم وراء هدف ثابت. وليس بمقدور بريطانيا ولا بمقدور أوروبا كلها أن تهزم أمريكا ما لم تهزم أمريكا نفسها بفعل «التأخير» و«الجبن». والشتاء الحالي يساوي في قيمته دهرًا كاملًا إذا استُغل على النحو الصحيح، ولكن إذا ضاع أو أُهمل فستعم الكارثة القارة بأسرها، ولن يكون هناك عقاب كافٍ لأي إنسان يُستغل وسيلةً للتضحية بشتاءٍ بكل هذه القيمة والفائدة، أيًّا كان هذا الإنسان وأينما وُجد.

إنه لمن المنافي للعقل، وللنظام العام للأشياء، ولجميع الأمثلة من العصور السالفة أن نفترض أن هذه القارة يمكن أن تظل وقتًا أطول خاضعة لأي قوة خارجية. إن أكثر الناس تفاؤلًا في بريطانيا لا يعتقد ذلك. ولا يمكن لأقصى درجات الحكمة البشرية — في هذا الوقت — وضع خطة لا تحقق الانفصال، الذي يمكن أن يحقق للقارة ولو عامًا من الأمان. لقد أصبحت المصالحة الآن حلمًا زائفًا مراوغًا. لقد نبذت الطبيعة الارتباط بين البلدين، ولا يمكن للخديعة أن تأخذ مكانها؛ فكما قال ميلتون بحكمة: «لا يمكن أن تنمو مصالحة حقيقية أبدًا في موضع اخترقته جراح الكراهية القاتلة بعمق.»

لقد كانت كل الطرق الهادئة لإحلال السلام عقيمة؛ فرُفضت تضرعاتنا بازدراء؛ ولم تحقق شيئًا سوى إقناعنا أنه ما من شيء يرضي الغرور أو يؤكد تعنت الملوك أكثر من الالتماسات المتكررة؛ وما من شيء أسهم أكثر من ذلك المعيار نفسه في جعل الملكيات في أوروبا ملكيات مطلقة: وانظر حالة الدنمارك والسويد. لذا، لما لم يكن أي شيء سيحقق المطلوب سوى القتال، فدعونا بالله عليكم نصل إلى الانفصال النهائي ولا نترك الأجيال القادمة يذبح بعضها بعضًا، تحت شعار مسميات مدنسة مبهمة مثل «الدولة الأم» و«الأبناء».

إن القول بأنهم لن يعودوا لظلمهم مرة أخرى أبدًا لهو خيال واهم متبطل، فقد تصورنا ذلك عند إلغاء قانون الطوابع، ثم زالت أوهامنا بعد عام أو اثنين لا أكثر؛ لأنه وإن صح ذلك فيمكننا أيضًا أن نفترض أن الأمم التي هُزمت ذات مرة لن تقوم لها قائمة أو تجدد الصراع مرة أخرى أبدًا.

وفيما يتعلق بشئون الحكومة فإن بريطانيا لا تستطيع إنصاف هذه القارة؛ فهذا الأمر سرعان ما سيصبح أثقل وأعقد من أن تنهض به — بقدر مقبول من الراحة — قوة بعيدة عنا وشديدة الجهل بأحوالنا؛ لأنه طالما أنهم عجزوا عن إخضاعنا، فإنهم لا يستطيعون حكمنا. إن السفر المتكرر مسافة ثلاثة أو أربعة آلاف ميل لعرض حكاية أو رفع عريضة، ثم الانتظار أربعة أو خمسة أشهر للحصول على رد — وعندما تحصل عليه تجده بحاجة إلى خمسة أو ستة ردود أخرى لشرحه وتفسيره — لهو أمر لا بد أن يُنظر له بعد مرور بضع سنين على أنه حماقة وسذاجة؛ لقد كان حدوث ذلك في وقت مضى مناسبًا، وكذلك هناك وقت مناسب للتوقف عنه.

إن الجزر الصغيرة غير القادرة على حماية نفسها هي الأهداف المناسبة التي يمكن أن تضمها الممالك تحت جناح رعايتها؛ ولكن من الغرابة والسخافة إلى أبعد حد أن نفترض أن تظل قارة كاملة خاضعة على الدوام لحكم جزيرة صغيرة. إن الطبيعة لم تجعل قط قمرًا تابعًا أكبر من الكوكب الذي يدور حوله، ولما كانت إنجلترا وأمريكا — بالمقارنة بينهما — تعكسان النظام العام للطبيعة، فمن البديهي أنهما تنتميان لنظامين مختلفين؛ إنجلترا تنتمي لأوروبا وأمريكا لنفسها.

إنني لست منقادًا بدوافع فخر أو تحيز أو سخط لتبني مبدأ الانفصال والاستقلال؛ وإنما أنا مقتنع بوضوح وإيجابية وضمير حي أن المصلحة الحقيقية لهذه القارة أن تكون مستقلة، وأن كل ما هو دون ذلك هو فقط ترقيع، ولا يمكن أن يحقق السعادة الدائمة؛ وسيعني أن نترك السيف بأيدي أبنائنا، ونتقهقر في خوف في وقت يمكن فيه لقليل من الجهد وقليل من التقدم الإضافي أن يحقق لهذه القارة مجدًا لا يدانيه مجد.

ولما كانت بريطانيا لا تُظهر أدنى ميل نحو التوصل إلى تسوية، فيمكننا التيقن من أننا لن نحصل على اتفاق يحوز قبول القارة، أو أي سبل تساوي تكلفة الدم والمال التي أُجبرنا بالفعل على دفعها.

إن الشيء المتنازع عليه لا بد أن يحمل دائمًا قيمة تتناسب مع النفقات. والتخلص من رئيس الوزراء البريطاني اللورد نورث، أو وزارته المقيتة كلها، هو أمر لا يستحق الملايين التي أنفقناها؛ فإيقاف مؤقت للتجارة كان سيمثل إزعاجًا كافيًا لموازنة إلغاء جميع القوانين موضوع الشكوى، لو حدث هذا الإلغاء؛ ولكن إذا كان لا بد أن تحمل القارة كلها السلاح، ويصبح كل رجل جنديًّا، فلا يمكن أن يكون هذا من أجل النضال ضد وزارة تافهة متعجرفة فحسب. إننا إذن ندفع ثمنًا باهظًا من أجل إلغاء القوانين، لو كان هذا هو كل ما نقاتل من أجله؛ لأننا — في حساب منصف للأمور — سنجد أنه من الحماقة أن ندفع الثمن الذي دفعناه في معركة «بانكر هيل» مقابل قانون أو أرض. ولأنني اعتبرت دائمًا أن استقلال هذه القارة حدث سيقع حتمًا عاجلًا أم آجلًا، فإنني أعتقد — من واقع التقدم السريع الذي حققته القارة مؤخرًا نحو النضج — أن هذا الحدث لا يمكن أن يكون بعيدًا. لذا فمع اندلاع أعمال القتال، لم يكن مهمًّا المجادلة في أمر أصلحه الزمن أخيرًا؛ وإلا فإن هذا أشبه بإضاعة عقار من أجل رفع دعوى قضائية ضد تجاوزات مستأجر أوشك عقده على الانتهاء. لم يكن هناك من هو أكثر مني حماسًا في تمني الصلح قبل تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان ١٧٧٥، ولكن في اللحظة التي ذاع فيها خبر ما حدث في ذلك اليوم، كرهت إلى الأبد فرعون إنجلترا الغليظ الحقود؛ واحتقرت ذلك التعس الذي يحمل اللقب المزعوم «والد شعبه» ومع ذلك يستطيع سماع أنباء ذبح هذا الشعب بإحساس متبلد، ويستطيع النوم ملء جفنيه ودماء شعبه معلقة في ذمته.

ولكن ماذا ستكون الحال الآن إذا انصلحت الأمور؟ أجيب: سيكون خراب القارة، وذلك لعدة أسباب:
  • أولًا: مع بقاء سلطات الحكم في يد الملك، سيمارس سلطة سلبية على عملية سن التشريعات والقوانين في هذه القارة. ولما كان قد أظهر نفسه عدوًّا متعنتًا للحرية، وكشف عن تعطشه الشديد للسلطة التعسفية؛ أفلا يكون من نوع الرجال الذين يقولون لتلك المستعمرات: «لن تسنوا قوانين سوى ما يرضيني»؟ وهل هناك أحد في أمريكا بلغ به الجهل حدًّا لا يعرف معه أن هذه القارة وفقًا لما يسمى «الدستور الحالي» لا يمكنها سن أي قوانين سوى ما يسمح به الملك؛ وهل هناك إنسان بلغ من الحمق حدًّا لا يرى معه أن الملك (بالنظر فيما حدث) لن يسمح بسن أي قوانين هنا سوى ما يلائم أغراضه؟ من الممكن جدًّا استعبادنا بقوانين تسن في أمريكا بنفس فعالية خضوعنا لقوانين سنت لنا في إنجلترا. فبعد إصلاح الأمور (كما يقولون) هل يمكن الشك في أن سلطة التاج بأكملها ستُمارس لإبقاء تلك القارة ضعيفة وذليلة قدر المستطاع؟ وبدلًا من التقدم للأمام سنتراجع للخلف أو نتصارع على الدوام أو نقدم الالتماسات على نحو سخيف. إننا بالفعل أعظم مما يريد لنا الملك، لذا ألن يحاول في المستقبل أن يحط من شأننا؟ ولإيجاز المسألة في نقطة واحدة: هل القوة التي تغار من ازدهارنا هي القوة المناسبة لحكمنا؟ من يجيب عن هذا السؤال بالنفي فهو نصير للاستقلال؛ فالاستقلال لا يعني أكثر من اختيار بين أن نسن قوانينا بأنفسنا أو أن يقول لنا الملك — أعظم عدو لهذه القارة: «لن تكون هناك قوانين إلا التي أريد.»

    ستقول إن الملك يمارس سلطة سلبية في إنجلترا؛ فالناس هناك لا يمكنهم سن القوانين دون موافقته. وفيما يتعلق بالحق وحسن النظام، هناك شيء في غاية السخافة في أن يقول شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره (وهو ما يحدث كثيرًا) لعدة ملايين من الناس يكبرونه سنًّا ويفوقونه حكمة: إنني أحظر تحول هذا الفعل أو ذاك إلى قانون. ولكنني في هذا المقام أرفض مثل هذا النوع من الردود — مع أنني لن أتوقف أبدًا عن فضح ما ينطوي عليه من عبثية — وأكتفي بالقول إن إنجلترا حالة مختلفة تمامًا، باعتبارها موطن الملك، وأمريكا ليست كذلك. إن تأثير الملك السلبي «هنا» أكثر خطورة وفتكًا بعشر مرات مما يمكن أن يكون عليه في إنجلترا، لأنه «هناك» نادرًا ما سيرفض منح موافقته لمشروع قانون يجعل من إنجلترا دولة قوية قدر المستطاع، أما في أمريكا فإنه لن يسمح قط بتمرير مشروع قانون كهذا.

    إن أمريكا ليست سوى موضوع ثانوي في نظام السياسة البريطانية، فإنجلترا لا تنظر إلى مصلحة هذه البلاد سوى بقدر ما يخدم أغراضها. لذا فإن مصلحتها تقودها إلى قمع نمو مصلحتنا في كل حالة لا تحقق تعزيزًا لمصالحها، أو حتى تتداخل مع تلك المصالح بأي قدر. وسرعان ما سنصبح في حالة لطيفة في ظل حكومة كهذه، بالنظر إلى ما حدث! إن الرجال لا يتحولون من أعداء إلى أصدقاء حالما يتغير الاسم: ولكي أبين أن المصالحة الآن تعد مذهبًا خطيرًا، أؤكد «أن سياسة الملك هذه المرة ستكون هي إلغاء القوانين من أجل استعادة وضعه في حكومة الولايات التابعة» بغرض أن «يحقق بالحيلة والدهاء على المدى البعيد ما لا يستطيع تحقيقه بالقوة والعنف على المدى القريب». وهكذا فإن المصالحة والخراب يرتبطان بصلة وثيقة.

  • ثانيًا: حتى أفضل اتفاق يمكن أن نتوقع الحصول عليه لن يكون أكثر من حيلة مؤقتة، أو نوعًا من حكومة تحت الوصاية لا يمكن أن تستمر فترة أطول مما تحتاجه المستعمرات لتشب عن الطوق، بحيث تكون الحالة العامة للأمور في الفترة المؤقتة مضطربة ومتزعزعة وغير مبشرة. وبالطبع لن يقرر المهاجرون أصحاب الممتلكات المجيء إلى بلد يتعلق شكل الحكومة فيه بخيط رفيع، ويترنح كل يوم على حافة الفوضى والاضطرابات، وسوف يستغل عدد من السكان الموجودين الفترة الفاصلة في التخلص من ممتلكاتهم وأمتعتهم ويرحلوا عن القارة كلها.

غير أن أقوى الحجج على الإطلاق تقضي بأن لا شيء سوى الاستقلال — أي: الشكل القاري للحكومة — يمكنه الحفاظ على سلام القارة وتجنيبها ويلات الحروب الأهلية. إنني أخشى الصلح مع بريطانيا الآن لأنه من المحتمل جدًّا أن تتبعه ثورة عصيان في مكان ما قد تكون عواقبها أكثر تدميرًا من كل شرور بريطانيا.

لقد ألحقت الهمجية البريطانية الدمار بآلاف الناس بالفعل (وسيكون نفس المصير على الأرجح من نصيب آلاف آخرين). وهؤلاء الرجال لديهم مشاعر مختلفة عن مشاعر من لم يعانوا شيئًا ولم يلحق بهم الأذى؛ وكل ما يملكه هؤلاء الآن هو الحرية، وقد ضحوا بما كانوا يمتلكونه من قبل في سبيل تلك الحرية، وإذ لم يعد لديهم ما يخسرونه بعد الآن، فإنهم يستهجنون فكرة الخضوع. علاوة على ذلك فإن المزاج العام للمستعمرات تجاه حكومة بريطانية سيكون شبيهًا بمزاج شاب نفد وقته في الحياة وأوشك على الموت؛ لن تبالي المستعمرات بتلك الحكومة مقدار ذرة. والحكومة التي لا يمكنها حفظ السلام ليست حكومة على الإطلاق، وفي هذه الحالة فإننا ندفع أموالنا ولا نحصل مقابلها على شيء؛ ونتضرع لما يمكن أن تفعله بريطانيا، التي ستكون سلطتها سلطة نظرية كليًّا ولا حقيقة لها فعليًّا، لو اندلعت فتنة أهلية بعد المصالحة مباشرة! لقد سمعت بعض رجال — وأعتقد أن كثيرًا منهم يتكلم من دون تفكير — يقولون إنهم مرتعبون من الاستقلال، إذ يخشون أن يؤدي إلى اندلاع حروب أهلية. إن من النادر أن تكون أفكارنا الأولى صائبة حقًّا، وتلك هي الحال هنا أيضًا؛ لأن في الارتباط المرقع بين البلدين ما يثير عشرة أضعاف الرعب الذي يثيره الاستقلال. إنني أتبنى قضية أصحاب المعاناة وأعتبرها قضيتي الشخصية، وأعلن أنني لو أُخرجت من بيتي ودياري، ودُمرت ممتلكاتي، وضاقت بي الأحوال، فإنني باعتباري إنسانًا حساسًا للجراح والخسائر والأضرار لا يمكنني أبدًا استساغة مبدأ المصالحة، أو اعتبار نفسي ملزمًا به.

لقد أظهرت المستعمرات روح حسن النظام والطاعة للحكومة القارية على نحو كافٍ لجعل كل شخص عقلاني مسترخيًا وراضيًا. ولا يستطيع إنسان أن يجد لمخاوفه أدنى ذريعة إلا على أساس صبياني سخيف بحق؛ كأن تناضل إحدى المستعمرات مثلًا من أجل التفوق على أخرى.

حيثما لا توجد فوارق، لا يكون هناك مجال للتفوق، والمساواة المطلقة لا تمثل إغراءً. إن جمهوريات أوروبا جميعًا (ويمكننا القول دائمًا) تنعم بالسلام. هولندا وسويسرا لا تخوضان أي حروب، خارجية أو داخلية: أما الحكومات الملكية فلا تنعم بالراحة والسلام طويلًا أبدًا؛ فالتاج نفسه يمثل إغراءً للمغامرين داخل البلاد؛ وهذه الدرجة من الكبر والفخر المصاحبة دائمًا للسلطة الملكية تتضخم لتتحول إلى قطيعة مع القوى الخارجية في حالات تتفاوض فيها الحكومات الجمهورية على الأخطاء، باعتبارها حكومات تشكلت على مبادئ يمكن وصفها بأنها أكثر انسجامًا مع الطبيعة.

وإذا كان هناك أي سبب حقيقي للخوف من الاستقلال، فهذا السبب هو أنه لم توضع خطة بعد. فالناس لا يرون السبيل؛ لذا — وكمدخل إلى هذا الشأن — فإنني أعرض التلميحات التالية، وأؤكد بتواضع في الوقت نفسه أنني أنا نفسي أنظر إليها باعتبارها ليست أكثر من وسيلة لإبراز شيء أفضل. فلو أمكن جمع الأفكار المتناثرة من عقول الأفراد لشكلت تلك الأفكار مواد يستطيع الحكماء الأكفاء تحسينها لتتحول إلى جوهر مفيد.

فلتكن انتخابات المجالس النيابية سنوية، لاختيار الرئيس فقط. وليكن التمثيل أكثر مساواة. ولتكن أعمالها محلية بالكامل، وخاضعة لسلطة الكونجرس القاري.

فلنقسم كل مستعمرة إلى ست أو ثمان أو عشر مقاطعات مناسبة، على أن ترسل كل مقاطعة عددًا مناسبًا من النواب إلى الكونجرس، بحيث ترسل كل مستعمرة ثلاثين نائبًا على الأقل. سيبلغ إجمالي عدد نواب الكونجرس ٣٩٠ نائبًا على الأقل. ويجب أن يجتمع المجلس كل عام ويختار رئيسًا بالطريقة التالية: عندما تجتمع كل الوفود، تُختار إحدى المستعمرات بالقرعة من بين جميع المستعمرات الثلاث عشرة، وبعد ذلك يختار الكونجرس كله (بالاقتراع) رئيسًا من بين نواب تلك المستعمرة. وفي المؤتمر السنوي المقبل، تُختار واحدة من المستعمرات الاثنتي عشرة المتبقية بالقرعة، حيث تستبعد المستعمرة التي جاء منها الرئيس في المؤتمر السابق، ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن تأخذ جميع المستعمرات الثلاث عشرة دورها. ولكي لا يتم تمرير أي مشروع ليصبح قانونًا إلا ما يكون عادلًا ومنصفًا على نحو مرضٍ ومقبول، ينبغي أن يوافق عليه ثلاثة أخماس أعضاء الكونجرس ليمكن تسميتهم بالأغلبية؛ ومن يعزز الفرقة والشقاق تحت لواء حكومة تشكلت بكل هذا القدر من المساواة فإنه جدير بأن يكون رفيقًا لإبليس في عصيانه.

ولكن لما كانت هناك حساسية خاصة تجاه الشخص أو الأسلوب الذي يبادر بهذا الأمر ابتداءً، ولما كان الأكثر قبولًا واتساقًا فيما يبدو أن ينبع هذا النظام من هيئة ما في وضع متوسط بين الحكام والمحكومين، أي بين أعضاء الكونجرس والشعب؛ فلنعقد إذن «مؤتمرًا قاريًّا»، على النحو التالي، وللغرض الآتي:

تُنتخب لجنة من ستة وعشرين عضوًا من أعضاء الكونجرس؛ أي اثنين عن كل مستعمرة. ويُختار عضوان من كل مجلس نيابي أو مؤتمر إقليمي؛ وخمسة ممثلين لعامة الشعب داخل عاصمة كل إقليم، ليكونوا ممثلين ونوابًا عن الإقليم كله، وذلك عن طريق حضور أكبر عدد ممكن من الناخبين أصحاب الحق في التصويت من جميع أنحاء الإقليم لهذا الغرض تحديدًا؛ أو يمكن اختيار الممثلين في اثنين أو ثلاثة من أكثر أجزاء الإقليم من حيث تعداد السكان، إذا كان هذا أكثر ملاءمة. في هذا المؤتمر — الذي تجمع على هذا النحو — سيتحد أهم مبدأين في المسألة كلها وهما «المعرفة» و«السلطة». فأعضاء الكونجرس أو المجالس أو المؤتمرات سيكونون بمنزلة مستشارين أكفاء مؤهلين ونافعين من خلال خبراتهم في الشئون الوطنية، والمجموع كله — باعتباره يحظى بالتفويض والتمكين من الشعب — سيمتلك سلطة شرعية بحق.

وينبغي أن تكون مهمة الأعضاء المجتمعين في المؤتمر هي صياغة «ميثاق قاري»، أو ما يمكن تسميته «ميثاق المستعمرات المتحدة» (في مقابل وثيقة «ماجنا كارتا» لدى إنجلترا) لتحديد عدد أعضاء الكونجرس وطريقة اختيارهم، وكذا أعضاء المجالس، وتواريخ اجتماعهم، ووضع خطة العمل والاختصاص بينهم (مع تذكير أنفسنا دائمًا بأن قوتنا قوة قارية، وليست إقليمية)؛ من أجل تأمين الحرية والملكية لجميع الناس، وقبل كل شيء ممارسة الشعائر الدينية بحرية، وفقًا لإملاءات الضمائر، مع أي أمور أخرى يبدو ضروريًّا أن يشتمل عليها الميثاق. وبعد وضع الميثاق مباشرة ينتهي ذلك المؤتمر، وتصبح الهيئات التي ينبغي اختيارها بما يتفق مع ما جاء في الميثاق هي جهات التشريع والحكم في الوقت الراهن في هذه القارة: أدام الله عليها السلام والهناء.

وفي حال فُوضت أي مجموعة من الرجال فيما بعد لهذا الغرض أو لغرض مماثل، فإنني أعرض عليهم المقتطفات التالية للمراقب الحكيم للحكومات المدعو دراجونيتي، يقول دراجونيتي: «يكمن علم السياسي في تحديد الجهة الحقيقية للسعادة والحرية. وهؤلاء الرجال الذين يكتشفون نظامًا للحكم يشتمل على أكبر قدر من السعادة الفردية بأقل تكلفة وطنية يستحقون الشكر والامتنان عبر عصور من الزمان.»١

سيقول البعض ولكن أين يكون ملك أمريكا من كل هذا؟ سأخبرك: أيها الصديق، إنه يحكم من أعلى، ولا يبث الفوضى والخراب في البشرية كما يفعل ملك بريطانيا الغاشم. ولكن لكي لا نظهر بمظهر معيب ولو حسب معايير الكرامة الدنيوية، فلنحدد يومًا لإعلان الميثاق رسميًّا؛ ونجلب الميثاق ونضعه إلى جانب الشريعة السماوية، كتاب الله؛ ثم نضع فوقهما التاج بعد ذلك، وبهذا يعرف العالم أجمع أنه فيما يتعلق بقبولنا للملكية، فإن «القانون هو الملك» في أمريكا. فكما أن الملك هو القانون في الحكومات المطلقة، فلا بد أن يكون القانون هو الملك في البلدان الحرة؛ ولا ينبغي أن يكون هناك ملك آخر. ولكن لكي لا ينشأ بعد ذلك أي سوء استخدام لهذا التتويج، فلنحطم التاج في نهاية الاحتفال وننثر أجزاءه بين أفراد الشعب الذين هم أصحابه الحقيقيون.

إن تشكيل حكومة خاصة بنا هو حق طبيعي لنا: وعندما يتفكر أي إنسان بجدية في عدم استقرار الشئون الإنسانية، فسوف يقتنع أنه من الأكثر حكمة وأمنًا بكثير أن نضع دستورًا خاصًّا بنا بأسلوب هادئ مدروس متأن بينما نستطيع فعل ذلك، لا أن نترك حدثًا بهذه الأهمية رهنًا للزمن والحظ. وإذا أغفلنا هذا الآن، فقد يظهر بعد ذلك بعض الثوار المتمردين على شاكلة الإسباني ماسانيلو،٢ والذين قد يستغلون القلاقل والاضطرابات الشعبية ويجمعون القانطين والساخطين حولهم، وباغتصابهم لسلطات الحكومة، قد يجرفون الحريات التي اكتسبتها القارة كالطوفان. ولو عادت حكومة أمريكا مجددًا إلى أيدي بريطانيا فإن الوضع المتداعي للأمور سيكون مغريًا لأي مغامر يائس بأن يجرب حظه؛ وفي هذه الحالة، ما الإغاثة التي يمكن أن توفرها لنا بريطانيا؟ من الممكن أن تنتهي الكارثة المدمرة كلها قبل أن تسمع بريطانيا أنباء ما يحدث، ونجد أنفسنا نعاني مثل البريطانيين التعساء تحت نير قمع واضطهاد ويليام الفاتح. أنتم يا من تعارضون الاستقلال الآن، إنكم لا تعلمون ما تفعلون؛ إنكم تفتحون بابًا لطغيان أبدي عن طريق إبقاء مقعد الحكومة شاغرًا. وهناك الآلاف وعشرات الآلاف ممن يعتقدون أن المجد يكمن في أن نطرد من قارتنا تلك القوة البربرية الجهنمية الغاشمة التي حرضت الهنود والزنوج على تدميرنا. للوحشية ذنب مزدوج؛ أننا تعاملنا بقسوة وهم تعاملوا بغدر.

إن الحديث عن الصداقة مع أولئك الذين تمنعنا عقولنا من أن نثق بهم، وتنصحنا مشاعرنا الجريحة أن نبغضهم، هو جنون وحماقة. وكل يوم يمر يبلي البقية القليلة الباقية من الأصول المشتركة بيننا وبينهم، فهل يمكن أن يكون هناك أي سبب منطقي يدعونا لأن نأمل أنه مع انتهاء العلاقة سوف تزيد المودة، أو يزيد الانسجام بيننا، بينما ستكون لدينا هموم ومخاوف نتصارع عليها أعظم وأخطر وأكثر بعشرة أضعاف من أي وقت مضى؟

أنتم يا من تحدثوننا عن الوئام والمصالحة، هل يمكنكم أن تعيدوا لنا الوقت الذي مضى؟ هل يمكنكم أن تعيدوا للفجور براءته السابقة؟ إنكم لا تستطيعون ذلك؛ ولا تستطيعون المصالحة بين بريطانيا وأمريكا. لقد انقطع الخيط الأخير الآن، والناس في إنجلترا يوجهون خطبهم الرسمية ضدنا. هناك خطايا لا يمكن للطبيعة أن تغفرها؛ ولو أنها فعلت لما أصبحت طبيعة. وكما لا يستطيع المحب العاشق أن يغفر لمغتصب محبوبته، لا تستطيع هذه القارة أن تصفح عن جرائم القتل التي ارتكبتها بريطانيا. لقد غرس الله جل جلاله فينا تلك المشاعر غير القابلة للإخماد لأسباب وجيهة وحكيمة؛ فهي القائمة على حراسة صورته في قلوبنا، وهي التي تميزنا عن باقي الحيوانات عامة. كان العقد الاجتماعي سينحل ويتبدد، ويقتلع العدل من الأرض — أو يكون وجوده عارضًا — لو أننا كنا قساة غير حساسين للمسات العواطف والوجدان. وكان السارق والقاتل سيفلتان من العقاب في غالب الأحوال لو لم تحثنا الجراح التي تُسوغها طبائعنا على طلب العدالة.

أنتم يا من تحبون البشرية! أنتم يا من تجرءون ليس فقط على معارضة الطغيان وإنما على معارضة الطاغية، قفوا بقوة وحزم! لقد اجتاح الظلم كل بقعة من بقاع العالم القديم، وطوردت الحرية في جميع أرجاء الأرض؛ فطردتها آسيا وأفريقيا منذ زمن بعيد، واعتبرتها أوروبا دخيلة غريبة، وأعطتها إنجلترا إنذارًا للرحيل. فاستقبلوا تلك الهاربة إذن، وأعدوا للبشرية قبل فوات الأوان ملاذًا آمنًا.

هوامش

(١) دراجونيتي يتحدث عن الفضيلة والإثابة.
(٢) توماس أنيللو أو ماسانيللو هو صياد من نابولي حث أبناء وطنه على الثورة بعد أن ألهب حماسهم وأثار مشاعرهم في السوق العامة ضد الممارسات القمعية للإسبان — الذين كانت تلك المنطقة خاضعة لحكمهم — وفي غضون يوم واحد أصبح ملكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤