الفصل الأول

إخفاء بيانات التجارِب

(١) تلاعُب شركات الأدوية في نتائج الأبحاث

قبل أن نسترسل في الحديث، يلزمنا أن نؤكد أمرًا لا يقبل الشك، وهو أن التجارِب التي تُموِّلها شركات الأدوية تُفضي على الأرجح إلى نتيجةٍ إيجابية مُبالَغ فيها أكثر من التجارِب المستقلة في تمويلها. وهذه هي الفرضية الرئيسية التي سننطلق منها، وأنت على وشك أن تقرأ فصلًا قصيرًا للغاية؛ لأن هذه الظاهرة من أكثر الظواهر تسجيلًا وتوثيقًا في ذلك الحقل المتنامي المختص ﺑ «البحث عن الأبحاث». كما صار إجراء الدراسات في هذا المجال أكثر سهولةً بكثيرٍ في السنوات الأخيرة؛ لأن القواعد المتعلقة بالإفصاح عن تمويل الشركات للتجارِب صارت أكثر وضوحًا بعض الشيء.

يمكننا أن نبدأ ببحثٍ حديثٍ نسبيًّا. في عام ٢٠١٠، حدَّد ثلاثة باحثين من جامعتَي هارفارد وتورونتو كلَّ التجارِب التي تدرس خمس فئات رئيسية من العقاقير — من بينها مضادات الاكتئاب وعقاقير قرحة المعدة — ثم تحرَّوا عن أمرين رئيسيين، هما: هل كانت نتائجها إيجابية، وهل كانت مموَّلة من قِبل شركات الأدوية؟1 ووجدوا إجمالًا أكثر من خمسمائة تجرِبة: ٨٥ بالمائة من التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت نتائجها إيجابية، بينما ٥٠ بالمائة فقط من التجارِب التي موَّلتها الحكومة كانت إيجابية، وهو فارق ملحوظ جدًّا.
في عام ٢٠٠٧، فحص عددٌ من الباحثين جميع التجارِب المنشورة التي أُجريت لبحث فوائد عقاقير الاستاتين،2 وهي عقاقير تخفض نسبة الكولسترول في الدم، وتقلل خطر الإصابة بالنوبات القلبية، ويصفها الأطباء بكمياتٍ كبيرة جدًّا، وسنتحدث كثيرًا عنها في هذا الكتاب. بلغ إجمالي عدد هذه التجارِب ١٩٢ تجرِبة، وهي إما تقارِن أحد عقاقير الاستاتين بعقَّار آخر من نفس الفئة، وإما تقارن أحد عقاقير الاستاتين بعقَّار من فئة مختلفة يعالج نفس الحالة. وما إن ضَبَطَ الباحثون العوامل الأخرى (سأتعمق في بيان معنى هذا فيما بعد)، حتى وجدوا أن التجارِب التي موَّلتْها شركات الأدوية كانت أكثر ميلًا عشرين مرةً لإعطاء نتائج إيجابية مؤيِّدة للعقَّار محل الاختبار. وأقول مجدَّدًا إن هذا فارق كبير للغاية.
وإليك مثالًا آخر: في عام ٢٠٠٦ فحص الباحثون جميع تجارِب العقاقير النفسية التي نُشِرت في أربع دورياتٍ أكاديمية على مدى عشر سنوات، ووجدوا أن التجارِب التي أفضت إلى نتائج وصل عددها إجمالًا إلى ٥٤٢ تجرِبة. وحَظِيَت شركات الأدوية بنتائج إيجابية لعقاقيرها في ٧٨ بالمائة من الحالات، بينما لم تحقق التجارِب المستقلة في تمويلها نتائج إيجابية إلا في ٤٨ بالمائة فقط من الحالات. فإذا افترضنا أنك ابتكرت عقَّارًا وُضِعَ في منافسةٍ مع عقَّار آخر تُموِّله إحدى شركات الأدوية في إحدى التجارِب، فستواجه وقتًا عصيبًا؛ حيث لن تحرز الفوز إلا في ٢٨ بالمائة فقط من الحالات.3

إنها نتائج كئيبة ومخيفة، لكنها أتت من دراساتٍ مفردة. ونظرًا لوجود أعدادٍ هائلة من الأبحاث في أي مجال، فمن المحتمَل دائمًا أن يأتيَ شخصٌ — مثلي، على سبيل المثال — ويختار بعض النتائج على نحوٍ انتقائي، ويُصدر حُكمًا متحيزًا. في حقيقة الأمر، قد أكون أنا فعليًّا بصدد الوقوع فيما أَتَّهم صناعةَ الدواء بارتكابه، فأخبرك فقط بالدراسات التي تدعم وجهة نظري، بينما أُخفي عنك الدراسات المُطَمْئِنة.

تجنُّبًا لهذا الاحتمال، ابتكر الباحثون أسلوبًا يُسمَّى «المراجعة المنهجية»، وسوف نستعرضه بتفصيلٍ أكثر بعد قليل؛ حيث إنه يقع في صميم الطب الحديث. لكن هذا الأسلوب في حقيقته شيء بسيط: فبدلًا من أن تتنقل على نحوٍ عشوائي خلال الدراسات البحثية، لتختار بعض الأبحاث، من هنا وهناك، التي تدعم معتقداتك وأفكارك السابقة، سواءٌ كان ذلك بوعيٍ أو دون وعيٍ منك، فإنك تتبع أسلوبًا علميًّا منهجيًّا في البحث عن الدليل العلمي، بما يضمن لك أن يكون الدليل مستوفيًا وممثِّلًا قدر الإمكان لكل الأبحاث التي أُجريت في نفس الإطار.

جديرٌ بالذكر أن إجراء المراجعات المنهجية أمرٌ مرهِق للغاية؛ ففي عام ٢٠٠٣، وبالمصادفة، نُشِرَت اثنتان من هذه المراجعات المنهجية، وكلتاهما كانتا تتعلقان على وجه التحديد بالقضية نفسها التي نحن بصددها. تطرَّقَت هاتان المراجعتان إلى كل الدراسات المنشورة المتعلقة بما إذا كان ثَمَّةَ تلازم بين التمويل المقدَّم من شركات الأدوية والنتائج الإيجابية التي تحصل عليها منتجاتها في التجارِب. انتهجتْ كلٌّ من المراجعتين أسلوبًا مختلفًا بعض الشيء لفحص الأبحاث، ووجدتا أن التجارِب المموَّلة من قِبل شركات الأدوية، في المجمل، أكثر ميلًا أربع مرات لإعطاء نتائجَ إيجابيةٍ مؤيِّدة لعقاقيرها محل الاختبار.4 ثم أُجريت مراجعة أخرى في عام ٢٠٠٧ بحثت الدراسات الجديدة التي نُشِرَت في السنوات الأربع التي تلت المراجعتين السابقتين، ووجدت أن عدد تلك الدراسات وصلَ إلى عشرين، وأنها جميعًا باستثناء اثنتين فقط قد أظهرت أن التجارِب المموَّلة من شركات الأدوية أكثر ميلًا لإعطاء نتائج إيجابية للعقاقير التي تنتجها هذه الشركات.5

إنني أعرض هذه الأدلة على هذا النحو من التفصيل لأنني أريد أن يكون واضحًا تمامًا أنه لا يوجد أدنى شكٍّ في هذه المسألة: أن التجارِب التي ترعاها شركات الأدوية تعطي نتائج إيجابية تؤيد منتجات هذه الشركات. وهذا ليس مجرد رأيٍ شخصي، ولا هو حَدْس من واقع دراسةٍ عشوائية؛ فهذه مشكلة موثَّقة على نحوٍ جيد تمامًا، وبُحِثت على نطاقٍ واسع، ورغم ذلك لم يتحرك أحدٌ لاتخاذ إجراءٍ فعَّال، كما سيأتي ذكره فيما بعد.

ثَمَّةَ دراسة أخيرة أَودُّ أن أخبرك بها؛ فقد تبيَّن أن هذا النمط من التجارِب المموَّلة من قِبل شركات الأدوية التي تكون أكثرَ قابليةً على نطاقٍ واسع لإعطاء نتائج إيجابية لمنتجات هذه الشركات؛ يظل موجودًا حتى لو ابتعدنا عن مجال الأوراق البحثية الأكاديمية المنشورة واطَّلعنا بدلًا من هذا على تقارير التجارِب الصادرة عن المؤتمرات الأكاديمية؛ حيث تَظهر البيانات غالبًا للمرة الأولى (وفي واقع الأمر، كما سنرى لاحقًا، أحيانًا ما لا تَظهر نتائج بعض التجارِب إلا في مؤتمر أكاديمي، مع تقديم معلوماتٍ محدودة للغاية حول الكيفية التي أُجريت بها الدراسة المعنية).

درسَ الباحثان فريز وكريشنان جميع الملخصات البحثية التي قُدِّمت في عام ٢٠٠١ في مؤتمرات الكلية الأمريكية لأمراض الروماتيزم، والخاصة بكل أنواع التجارِب، وأقرَّت برعاية شركات الأدوية للتجارب، بغرض التوصُّل إلى النسبة المئوية للنتائج التي تؤيد العقاقير التي تصنعها الشركات الراعية. وستأتي النتيجة المستفزة بعد قليل، ولكي نفهمها يلزمنا قليلٌ من الشرح عن الشكل الذي تبدو عليه الورقة البحثية الأكاديمية. بصفةٍ عامة، يُمثِّل قسم النتائج جزءًا كبيرًا من الورقة البحثية؛ إذ تُحدَّد الأرقام الأولية لكل نتيجة، ولكل عامل مسبب محتمل، وتُعطَى «نطاقات» إحصائية، وربما تُفحَص المجموعات الفرعية، وتُجرى اختبارات إحصائية، وتُشرح كل تفصيلةٍ من النتيجة في شكل جدول، وفي شكلٍ سردي أكثر إيجازًا في متن الورقة، لشرح النتائج الأكثر أهمية. وغالبًا ما تمتدُّ هذه العملية المُسهَبة على مدى صفحاتٍ عديدة.

ولكن في بحث فريز وكريشنان (٢٠٠٤) لم يكن هذا المستوى من التفصيل ضروريًّا، بل كان القسم الخاص بنتائج البحث يحوي نتيجةً واحدةً بسيطة، كانت هذه الجملةَ السلبيةَ المستفزةَ حقًّا:

جاءت النتائج الصادرة عن كل التجارِب العشوائية المضبوطة (البالغ عددها ٤٥ تجرِبة) مؤيدةً لعقَّار الشركة الراعية.

هذه النتيجة القاسية تُعَد جيدة لمن يهتمون بانتهاج الطرق المختصرة الموفِّرة للوقت؛ فبما أن كل التجارِب التي ترعاها شركات الأدوية تُعطي نتائجَ إيجابيةً لمنتجات هذه الشركات، فهذا كل ما يتعيَّن عليك معرفته عن بحثٍ ما لكي تتوقَّع ما سيُسفر عنه من نتيجةٍ نهائية: فإذا كانت التجرِبة مموَّلةً من قِبل إحدى شركات الأدوية، يمكنك أن تعرف، بيقينٍ تام، أنها ستتوصل إلى أن العقَّار المُختبَر رائع وممتاز. كيف يحدث هذا؟

وكيف يتأتى أن التجارِب التي تتم تحت رعاية شركات الأدوية تستطيع في كل الأحوال تقريبًا إعطاء نتيجةٍ إيجابية؟ من المؤكد أن الأمر يرجع إلى عدة عوامل مجتمعة؛ فربما يكون السبب هو أن الشركات تلجأ على الأرجح إلى إجراء التجارِب عندما تكون أكثرَ ثقةً في أن علاجها سينجح. وهذا يبدو معقولًا، رغم أنه يتنافى مع المبدأ الأخلاقي القائل بأنك يجب ألا تُجريَ تجرِبة إلا في حالة عدم التيقُّن التام من أن علاجًا ما أفضل من العلاجات الأخرى (وإلا فإنك بهذا تُعرِّض نصف المشاركين في التجرِبة لعلاجٍ تَعْلم مسبقًا أنه دون المستوى). وفي بعض الأحيان، يمكن زيادة احتمال نجاح علاجٍ ما من خلال التلاعُب في تصميم التجرِبة الخاصة به: فبإمكانك أن تقارن عقَّارك الجديد بعقَّارٍ آخرَ تعرف أنه لا نفع فيه؛ أو بعقَّارٍ موجودٍ بالفعل ولكن مع أخذه بجرعةٍ غير مناسبة، أو بعقَّارٍ وهميٍّ عديم التأثير تقريبًا عبارة عن حبوب سكَّرية. ويمكنك أيضًا أن تختار المرضى الذين ستُجرى عليهم التجارِب بعنايةٍ فائقة، بحيث يكونون أكثرَ قابليةً للتحسُّن بعلاجك. وبوسعك أيضًا أن تتعجل النتائج في منتصف الطريق في التجرِبة قبل انتهائها، وتستبق الأمور، فتُوقِف التجرِبة بمجرد أن يَظهر بعض التحسُّن على المرضى (ويُعَد هذا، لأسبابٍ مهمة سنناقشها لاحقًا، ضربًا من التلاعب الشائن في البيانات الإحصائية)، وهلمَّ جرًّا.

لكن قبل أن نناقش هذه الحيل والتلاعبات المنهجية العجيبة، تلك التدخلات السافرة التي تَحُول دون أن تكون التجرِبة اختبارًا نزيهًا لمعرفة مدى فاعلية علاجٍ ما من عدمه، أقول إن ثَمَّةَ حيلةً أكثر بساطةً بكثيرٍ يقوم بها الكثير من شركات الأدوية.

تُجري شركات الأدوية أحيانًا الكثير من التجارِب، وحينما ترى أن النتائج لا تصبُّ في مصلحتها، فإنها ببساطةٍ تمتنع عن نشرها. وهذه ليست مشكلةً جديدة، ولا تقتصر على مجال الدواء؛ ففي واقع الأمر إن مشكلة إخفاء النتائج السلبية موجودة تقريبًا في كل مجالات العلم. وهي تُشوِّه النتائج في مجالاتٍ شديدة التنوع، مثل تصوير المخ وعلم الاقتصاد، وتهزأ بكل جهودنا الرامية إلى إزالة عوامل التحيُّز من دراساتنا العلمية، ورغم كل ما يزعمه مسئولو الرقابة الدوائية وشركات الأدوية، وحتى بعض الأكاديميين في هذا الشأن، فإن هذه المشكلة تُركت دون حلٍّ منذ عقودٍ عديدة.

في الواقع إنها مشكلة متأصلة عميقة الجذور، لدرجة أننا حتى لو قمنا بحلها اليوم — وللأبد، دون أن توجَد أي ثغرات في تشريعاتنا — فإن هذا لن يُفيد في وقتنا الحاضر؛ لأننا سنظل نمارس الطب، ونُصدر قراراتٍ بشأن العلاج الأفضل، استنادًا إلى عقودٍ مضت من الأدلة الطبية التي تعرَّضت، كما أوضحنا، لتشويهٍ جوهري.

فثَمَّةَ طريقٌ طويل أمامنا.

(٢) دواعي الاهتمام بمشكلة إخفاء البيانات

ذات مرة، وَصفتُ أنا شخصيًّا عقَّار الريبوكستين لأحد مرضاي؛ إذ لم تُجْدِ العقاقير الأخرى في علاج حالته، فأردتُ أن أُجرِّب شيئًا جديدًا. قرأتُ بيانات التجارِب التي أُجريت حول هذا العقَّار قبل أن أصفه للمريض، فلم أجد سوى اختباراتٍ تبدو في ظاهرها نزيهةً وجيدة التصميم، وتغلب عليها النتائج الإيجابية على نحوٍ كبير. أوضحَت التجارِب أن الريبوكستين أفضل من الدواء الوهمي، وأنه معادلٌ في فاعليته لأي عقَّارٍ آخر من مضادات الاكتئاب عند إجراء مقارناتٍ بينه وبينها. والعقَّار اعتمدته وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية، التي تُشرف على كل العقاقير في المملكة المتحدة. وتُوصَف ملايين الجرعات منه كل عام، في كل أنحاء العالم. وبدا من الواضح أنه يُعتبر علاجًا مأمونًا وفعَّالًا. وقد ناقشتُ مع مريضي الأدلة الخاصة بفاعلية هذا العقَّار بإيجاز، واتفقنا على أنه العلاج المناسب الذي يجب تجرِبته. وكتبت وصفة طبية أقول فيها إنني أريد أن يتناول مريضي هذا العقَّار.

لكن، تبيَّن لي أن كلانا خُدِع في هذا الأمر؛ ففي أكتوبر ٢٠١٠، تمكَّنتْ مجموعة من الباحثين أخيرًا من جمع كل التجارِب التي أُجريت على عقَّار الريبوكستين.6 وعبْر عمليةٍ طويلة من التقصِّي والبحث في الدوريات الأكاديمية، فضلًا عن كثيرٍ من الجهد الشاق في طلب البيانات من الشركات المصنِّعة للدواء وجمع المستندات من مسئولي الرقابة الحكوميين، تمكَّنوا من جمع كل البيانات، سواءٌ من التجارِب التي نُشِرت بالفعل، أو تلك التي لم تُنشَر قط في أبحاثٍ أكاديمية.

عندما وُضِعت بيانات تلك التجارِب معًا كانت النتيجة صادمة؛ إذ اكتشفوا أن سبعًا منها قد أُجريت لمقارنة العقَّار بدواءٍ وهمي. وأن تجرِبةً واحدةً فقط، أُجريت على ٢٥٤ مريضًا، هي التي أعطت نتيجةً إيجابيةً واضحة، ونُشِرَت في إحدى الدوريات الأكاديمية ليقرأها الأطباء والباحثون. أمَّا التجارِب الست الأخرى، فقد أُجريت على عددٍ أكبر من المرضى يزيد بعشر مرات تقريبًا عن سابقتها، وأظهرت جميعُها أن العقَّار ليس أفضل من دواءٍ وهميٍّ عديم التأثير. ولم تُنشَر أيٌّ من هذه التجارِب الست، ولم تكن لديَّ أدنى فكرةٍ بوجودها.

وساء الوضع أكثر؛ إذ أظهرَت التجارِبُ التي قارنَت الريبوكستين بعقاقيرَ أخرى، الصورةَ نفسها تمامًا: إذ أُجريت ثلاث دراسات صغيرة على مرضى يبلغ إجمالي عددهم ٥٠٧ مرضى، وأظهرت أن العقَّار كان مساويًا في فاعليته لأي عقَّار آخر. ونُشرت كلها. ولكن كانت هناك تجارِب تتضمَّن إجمالًا ١٦٥٧ مريضًا لم تُنشر نتائجها، وقد أظهرت أن المرضى الذين تناولوا الريبوكستين أصبحوا أسوأ حالًا من الذين تناولوا عقاقيرَ أخرى. وإذا لم يكن هذا سيئًا بما يكفي، فهناك أيضًا البيانات الخاصة بالآثار الجانبية؛ إذ بدا العقَّار جيدًا في التجارِب التي نُشرت في المطبوعات الأكاديمية، ولكن حينما تم الاطلاع على الدراسات غير المنشورة، تبيَّن أن المرضى كانوا أكثر عرضةً للمعاناة من الآثار الجانبية، وأكثر قابليةً للتخلي عن تناول العقَّار، وأكثر قابليةً للانسحاب من التجرِبة بسبب الآثار الجانبية، إذا كانوا يتناولون الريبوكستين وليس أحد العقاقير المنافسة.

وإذا كنت تشك في أن القصص الواردة في هذا الكتاب استفزتني وجعلتني أغضب — وإنني أعدك مهما حدث أن ألتزم بعرض البيانات كما هي، وأنا أسعى جاهدًا لأن أُعطِيَ صورةً عادلة عن كل ما أعرفه — فما عليك سوى أن تقرأ هذه القصة؛ فلقد فعلتُ كل ما يُفترض أن يفعله الطبيب؛ قرأتُ كل الأبحاث، وقيَّمتُها بصورةٍ نقدية، وفهمتُها وناقشتُها مع المريض، وتوصلنا معًا إلى قولٍ فصلٍ بِناءً على الأدلة المتاحة أمامنا. فالبيانات المنشورة تزعم أن الريبوكستين عقَّار مأمون وفعَّال، ولكن واقع الأمر يقول إنه ليس أفضل من حبةٍ سكرية وهمية، بل هو أسوأ؛ فهو يضرُّ أكثر مما ينفع. وإنني، كطبيب، أعتبر نفسي حينما وصفته لأحد مرضاي قد ألحقتُ به الضرر، وذلك بِناءً على موازنتي لجميع الأدلة، وهذا ببساطةٍ لأن البيانات الحقيقية المحايدة لم تُنشر.

وإذا اعتبرتَ هذا مذهلًا أو شنيعًا، فقد وضعتَ قدميك على بداية الطريق. وحيث لم يخالف أحدٌ القانونَ في هذا الموقف، فما يزال عقَّار الريبوكستين متداولًا في سوق الدواء، وما تزال المنظومة التي سمحت لكل هذا أن يحدث مستمرةً فيما يتعلق بجميع العقاقير، وفي جميع دول العالم؛ إذ يتم إخفاء البيانات السلبية، بالنسبة إلى جميع العلاجات، في جميع مجالات العلم. حقًّا لقد خذلَنا مسئولو الرقابة الدوائية الحكومية والهيئات المهنية، الذين كنا ننتظر منهم أن يُوقفوا هذه الممارسات الخاطئة!

وفي صفحاتٍ قليلة، سوف نستعرض الأبحاث التي تكشف اللثام عن كل ذلك بما لا يَدَع مجالًا للشك، لإظهار أن «تحيُّز النشر» — تلك العملية التي بمقتضاها لا تُنشر النتائج السلبية — توطَّن في جميع فروع الطب والبيئة الأكاديمية، وأن المسئولين تقاعسوا عن فعل أي شيءٍ حياله، رغم مرور عقودٍ على اكتشاف هذه المشكلة واستفحالها. ولكن، قبل أن نشرع في هذا الاستعراض، أريد منك أن تتعرَّف على تداعياته؛ ومن ثَمَّ يلزمنا أن نفكر ونتساءل عن مدى أهمية هذه المشكلة.

إن الأدلة هي السبيل الوحيد الذي يمكن أن نعرف من خلاله ما إذا كان شيءٌ ما مُجديًا أم لا في مجال الدواء. ونباشر هذا الأمر بأن نختبر الأشياء، بأقصى حذرٍ ممكن، في تجارِب تقابُلية، ثم نُجمِّع معًا «جميع» الأدلة الممكنة. وهذه الخطوة الأخيرة شديدة الأهمية؛ لأنني إذا أخفيت عنك نصف البيانات، فسيكون من السهل جدًّا عليَّ أن أقنعك بشيءٍ غير حقيقي. فلو أخذت أُلقي بقطعةٍ نقديةٍ مائة مرة في الهواء مثلًا، دون أن أخبرك بنتائج هذا الإجراء إلا حينما تقع القطعة النقدية على الصورة (وليس الكتابة)، لأمكنني أن أقنعك حينها بأن وجهَي هذه القطعة صورة، وليس كتابة. ولكن هذا لا يعني أن القطعة النقدية التي لديَّ بصورتين حقًّا، ولكنه يعني أنني أخدعك، ويكون حماقةً منك أن تتركني أفعل هذا بك. هذا بالضبط هو الموقف الذي نتعرَّض له في مجال الدواء الآن ومنذ فترةٍ طويلة؛ إذ يكون الباحثون أحرارًا في إجراء ما يشاءون من تجارِب، ثم يختارون ما يُنشر منها حسب أهوائهم.

إن تداعيات هذه المشكلة تتجاوز مجرد خداع الأطباء فيما يتعلق بفوائد العلاجات التي تُقدَّم للمرضى وأضرارها، كما تتجاوز نطاق التجارِب في هذا الإطار؛ فالأبحاث الطبية ليست مسعًى أكاديميًّا مجردًا؛ فهي تتعلق بالبشر، ومن ثَمَّ فكل مرة نمتنع فيها عن نشر جانبٍ من بيانات عملٍ بحثي ما، فإننا بهذا نُعرِّض أُناسًا حقيقيين أحياءً لمعاناةٍ لا لزوم لها، كان من الممكن تجنُّبها.

(٢-١) عقَّار «تي جي إن ١٤١٢»

في مارس ٢٠٠٦، وصلَ ستة متطوِّعين إلى أحد مستشفيات لندن للمشاركة في إحدى التجارِب. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُجرَّب فيها عقَّار جديد يُسمَّى «تي جي إن ١٤١٢» على البشر، ودُفِع لكلٍّ منهم مبلغ ألفَيْ جنيهٍ إسترليني.7 وفي غضون ساعة، شعر هؤلاء الستة بصداعٍ وآلامٍ عضليةٍ وإحساسٍ بعدم الارتياح، ثم ساءت حالتهم أكثر؛ فأصيبوا بارتفاعٍ في درجة الحرارة وتملمُلٍ ونوباتٍ نَسُوا فيها ذواتهم والمكانَ الموجودين فيه، وسرعان ما أصيبوا برعشةٍ مع احمرارٍ في الوجه، وتسارعتْ نبضات قلوبهم، وانخفض معدل ضغط الدم لديهم، ثم حدث الأسوأ: أُصيبَ أحدهم بفشلٍ تنفُّسي، وانخفضتْ مستويات الأكسجين في دمه سريعًا مع امتلاء رئتيه بالسوائل. ولم يعرفْ أحد مِمَّن أجرَوا التجرِبة السببَ في هذا. وأُصيبَ آخر بانخفاضٍ في معدل ضغط الدم حيث وصل إلى ٦٥ / ٤٠، مع اضطرابٍ في التنفس، فأسرعوا به إلى وحدة العناية المركَّزة فاقدًا للوعي، ووضعوه على جهاز التنفس الصناعي. وفي غضون يوم واحد ساءت حالتهم جميعًا بشدة: تراكمت السوائل في رئاتهم، وعانَوا صعوباتٍ شديدةً في التنفس، وبدءوا يُصابون بفشلٍ كُلَوي، وبدأ يحدث تجلط دموي في جميع أنحاء أجسادهم على نحوٍ خارجٍ عن السيطرة، كما بدأت كرات الدم البيضاء لديهم تختفي. وأعطاهم الأطباء كلَّ ما أمكنهم من عقاقير لعلاجهم: عقاقير الاستيرويد، ومضادات الهستامين، وحاصرات مستقبلات الجهاز المناعي. ووُضعوا جميعًا على أجهزة التنفس الصناعي في وحدة العناية المركَّزة. وعانَوا جميعًا احتباسًا في البول، فأُجريَ لهم جميعًا غسيلٌ كُلَوي، حيث استُبدل الدم الموجود في أجسامهم، ببطءٍ في بادئ الأمر ثم بسرعة، كما كانوا يحتاجون إلى بلازما وكرات دم حمراء وصفائح دموية، واستمرَّت حالة الحُمَّى التي كانوا مصابين بها، وأصيب أحدهم بالتهاب رئوي، ثم توقف تدفق الدم لديهم إلى الأطراف، وبدأ يتغيَّر لون أصابع اليدين والقدمين إلى اللون الأحمر، ثم البُنِّي، ثم الأسود، ثم بدأت أصابعهم تتعفَّن وتموت. وتمكَّن الأطباء في النهاية، بجهدٍ بُطُولي وصعوبةٍ بالغة، من إنقاذ حياتهم.
هنا تدخَّلت وزارة الصحة البريطانية، فشكَّلتْ فريقًا علميًّا من الخبراء في محاولةٍ لفهم ما حدث. ومن هذا المنطلق طُرِح تساؤلان؛8 أولهما: هل يمكن منع حدوث هذه الأشياء مجددًا؟ فمن الحماقة البالغة — على سبيل المثال — أن يُعطى علاج تجريبي جديد لجميع المشاركين الستة دفعةً واحدةً في تجرِبةٍ أوليةٍ على البشر، إذا كان العقَّار مجهولًا تمامًا؛ فيجب أن تُعطى العقاقير الجديدة للأشخاص المشاركين في التجارِب على نحوٍ متناوب، وببطءٍ، على مدى يومٍ كامل. وقد حَظِيَت هذه الفكرة باهتمامٍ كبيرٍ من مراقبي الأدوية ووسائل الإعلام.

والتساؤل الآخر الذي لم يُلتفَت إليه بنفس القدر من الاهتمام: هل كان في إمكاننا التنبُّؤ بهذه الكارثة قبل وقوعها؟ جدير بالذكر أن عقَّار «تي جي إن ١٤١٢» عبارة عن جزيءٍ يرتبط بمُستقبِلٍ يُسمَّى «سي دي ٢٨» موجود في كرات الدم البيضاء الخاصة بالجهاز المناعي. وهو علاج تجريبي وجديد، يتداخل مع عمل جهاز المناعة بطرقٍ لم تكن مفهومةً جيدًا، وكان من الصعب الكشف عنها في الحيوانات (على عكس معدل ضغط الدم مثلًا لأن الجهاز المناعي يختلف كثيرًا باختلاف الأنواع). ولكن كما كشف التقرير النهائي، اكتُشف أنه كان ثَمَّةَ تجرِبة سابقة حدث فيها تدخُّل مماثل، وببساطةٍ لم يتم نشرها؛ إذ أثار أحد الباحثين هذا التساؤل من خلال بياناتٍ لم تُنشر عن دراسةٍ كان قد أجراها على شخصٍ واحدٍ قبل ذلك بعشر سنواتٍ كاملة، مستخدمًا جسمًا مضادًّا يرتبط بمستقبلات «سي دي ٢» و«سي دي ٣» و«سي دي ٢٨». وكانت تأثيرات هذا الجسم المضاد مشابهةً لتلك التي كانت في حالة عقَّار «تي جي إن ١٤١٢»، كما أن الشخص الذي أُجريت عليه الدراسة قد ساءت حالته. ولكن لم يعرفْ أحدٌ بالأمر على الأرجح؛ لأن هذه النتائج لم تصل أبدًا إلى المجتمع العلمي؛ فهي لم تُنشَر، وبقيت غير معروفة، على الرغم من أنها كان من الممكن أن تساعد في إنقاذ حياة ستة أشخاصٍ من محنةٍ مُريعةٍ مدمرةٍ كان يمكن تلافيها.

لم يتمكن ذلك الباحث من التنبُّؤ بالضرر الذي ساهم فيه، ومن الصعب أن نلومه عليه؛ إذ كان يعمل ضمن ثقافةٍ أكاديميةٍ تعتبر عدم نشر بيانات التجارِب أمرًا طبيعيًّا تمامًا. وما زالت هذه الثقافة نفسها موجودةً اليوم. وخلص التقرير النهائي الخاص بعقَّار «تي جي إن ١٤١٢» إلى أن الكشف عن نتائج جميع الدراسات التي تُجرى لأول مرةٍ على البشر أمرٌ ضروري؛ إذ يجب نشرها جميعًا كإجراءٍ روتيني. ولكن الذي حدث أن نتائج المرحلة الأولى من التجرِبة لم تُنشر في حينها، كما أنها لم تُنشر مطلقًا حتى يومنا هذا. وفي عام ٢٠٠٩، نُشرت لأول مرةٍ دراسةٌ تُركز بالتحديد على عدد ما نُشر من هذه التجارِب التي تُجرى لأول مرةٍ على البشر، وعدد ما لم يُنشر منها.9 وفحصت تلك الدراسة جميع تلك التجارِب التي اعتُمدت من قِبَل إحدى لجان الأخلاقيات الطبية على مدى عام. وبعد أربعة أعوام، تبيَّن أن تسعًا من بين كل عشر تجارِب بقيتْ دون نشر، وبعد ثمانية أعوام، أصبحت النسبة أربعًا من بين كل خمس تجارِب.

وفي عالم الدواء — كما سنرى مرارًا وتكرارًا — عملية البحث ليست مجردة؛ فهي تتعلق بصفةٍ مباشرةٍ بالحياة والموت، وبالمعاناة والألم. ومع عدم نشر كلٍّ تلك الدراسات، نحن مُعرَّضون بشدة، وعلى نحوٍ غير ضروري، لأنْ نُبتلى بعقَّارٍ آخر من أمثال عقَّار «تي جي إن ١٤١٢». وحتى تلك القصة المفزعة التي نشرتْها وكالات الأنباء الدولية، بما فيها من صورٍ مفزعةٍ لرجال في ريعان شبابهم في أَسِرَّة المستشفى وقد اسودَّت أقدامهم وأيديهم، لم تكن كافيةً لتحفيز الجميع على التحرُّك لأن قضية إخفاء البيانات الخاصة بالتجارِب شديدة التعقيد لدرجةٍ تَحُول دون استيعابها في جملةٍ واحدة.

إننا حينما لا نكشف عن نتائجِ بحثٍ أساسي، مثل دراسةٍ صغيرةٍ لعقَّارٍ ما يُجرَّب لأول مرةٍ على البشر، فإننا بهذا نُعرِّض الناس لمخاطرَ لا لزوم لها في المستقبل. السؤال الآن: هل كانت هذه القصة حالةً استثنائية؟ وهل تنحصر المشكلة في العقاقير المبكرة التجريبية الجديدة التي تُجرَّب على مجموعاتٍ صغيرةٍ من الأشخاص؟ الجواب: لا.

في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الأطباء إعطاء العقاقير المضادة لاضطراب ضربات القلب لجميع المرضى المصابين بنوبةٍ قلبية. وهذه الممارسة بدت معقولةً تمامًا من الناحية النظرية؛ فنحن نعرف أن تلك العقاقير أفادت في منع المعاناة من عدم الانتظام في ضربات القلب، والذي نعرف أن الأشخاص الذين أصيبوا بنوبةٍ قلبية معرَّضون تمامًا للإصابة به، وأنه كثيرًا ما يمرُّ دون أن يُلاحظه أحد أو يُشخِّصه أو يُعالجه؛ لذا، اعتبر الأطباء أن إعطاء تلك العقاقير لجميع من أصيبوا بنوبةٍ قلبية إجراء وقائي بسيط ومعقول.

ولكن، لسوء الحظ، اتَّضح أنهم كانوا مخطئين؛ فهذه الممارسة، حتى مع أفضل النوايا، والالتزام بالمبادئ الطبية، أدَّت بالفعل إلى وفاة المرضى. وحيث إن النوبات القلبية شائعة جدًّا، فإن تلك الممارسة قتلت عددًا كبيرًا منهم؛ بل لقد مات ما يزيد على مائة ألف شخص دون داعٍ قبل أن يُدرِك الأطباءُ أن الموازنة الدقيقة بين النفع والضرر كانت مختلفةً تمامًا بالنسبة إلى المرضى الذين لم تثبت إصابتهم باضطرابٍ في ضربات القلب.

هل كان بإمكان أحدٍ أن يتنبَّأ بهذا قبل وقوعه؟ الجواب: نعم، بكل أسف. فقد أُجريت تجرِبة في عام ١٩٨٠ لاختبار عقَّارٍ جديدٍ مضادٍّ لاضطراب ضربات القلب، وكان اسمه لوركاينيد، على عددٍ قليلٍ من الرجال المصابين بنوبةٍ قلبية — والذين كان عددهم أقل من مائة — لمعرفة ما إذا كان له أي فائدة. وقد مات تسعة رجال من الثمانية والأربعين الذين تناولوا هذا العقَّار، مقارنةً بواحدٍ فقط من السبعة والأربعين الذين تناولوا علاجًا وهميًّا. لقد كان هذا العقَّار في مرحلةٍ مبكرة من دورته التطويرية، ولم يمر وقت طويل بعد هذه الدراسة حتى صُرف النظر عن تصنيعه لأسبابٍ تِجارية. ولأنه لم يصل إلى سوق الدواء، لم يفكر أحد حتى في نشر هذه التجرِبة. وافترض الباحثون أن هناك مشكلةً في جزيء العقَّار، ولم يدرسوا الأمر أكثر. ولو أنهم نشروا تلك التجرِبة في وقتها، لأصبحنا أكثر حذرًا بكثيرٍ فيما يتعلق بتجرِبة عقاقير أخرى من نفس الفئة على أناسٍ مصابين بنوباتٍ قلبية، ولَتَمكنَّا من تخفيف حجم هذه الكارثة — التي أودت بحياة أكثر من مائة ألف نسمةٍ دون لزوم. وبعد ذلك بأكثر من عَقدٍ كامل، نشر الباحثون نتائج تجرِبتهم، شاعرين بالخزي، ومعترفين بما سبَّبوه من ضررٍ كبيرٍ لعدم إعلانهم عنها في وقتٍ مبكر. وفي هذا الشأن قالوا:
حينما أجرينا دراستنا في عام ١٩٨٠ كنا نظنُّ أن معدل الوفاة الكبير الذي حدث بسبب عقَّار لوركاينيد كان بمحض الصدفة. وتوقَّف تطوير العقَّار لأسبابٍ تِجارية؛ ومن ثَمَّ لم تُنشر هذه الدراسة قط. وهي تُعدُّ الآن مثالًا جيدًا على «تحيُّز النشر». ولو أن النتائج المعروضة هنا قد نُشرت، لكانت بمنزلة تحذيرٍ مبكر للمشكلات التي قد تحدث في المستقبل في هذا الإطار.10

كما سنرى بعد قليل، فإن مشكلة عدم نشر البيانات هذه منتشرة في أرجاء مجال الطب والدواء، بل وفي أرجاء البيئة الأكاديمية بكاملها، رغم أن حجم المشكلة والضرر الناجم عنها قد تم توثيقهما بما لا يَدَعُ مجالًا للشك. سنرى قصصًا عن أبحاث السرطان الأساسية، والتاميفلو، والعقاقير المخفِّضة للكولسترول، وعقاقير علاج السِّمنة، ومضادات الاكتئاب، وغير ذلك الكثير، مع الأدلة التي تمتد منذ فجر تاريخ الطب حتى يومنا هذا، والبيانات التي لم تُنشر حتى وقت كتابة هذه السطور، عن العقاقير الواسعة الانتشار التي يتناولها الكثير من قُرَّاء هذا الكتاب. كما سنرى كيف تقاعس المسئولون عن رقابة الأدوية والهيئات الأكاديمية مرارًا وتكرارًا عن التعامل مع المشكلة.

ولأن الباحثين أحرار في عدم نشر أي نتيجةٍ حسب هواهم، فإن المرضى معرَّضون للضرر على نطاقٍ مذهل في جميع نواحي الطب: بدءًا من الأبحاث حتى الممارسة. فقد لا يكون الأطباء على علمٍ بالآثار الحقيقية للعلاجات التي يصفونها لمرضاهم. وقد يتساءل أحدهم: هل هذا العقَّار جيد، أم أنني ببساطةٍ حُرِمتُ من الحصول على نصف بيانات التجارِب الخاصة به؟ لا يعرف أحد الجواب. وهل هذا العقَّار الغالي الثمن يستحق ما يُدفع فيه من نقود، أم أن بياناته ببساطةٍ قد حدث تلاعبٌ فيها؟ أيضًا، لا يعرف أحد الجواب. وهل هذا العقَّار يؤدي إلى وفاة المرضى؟ وهل يوجد أي دليلٍ على أنه خطر؟ أيضًا، لا يعرف أحد الجواب.

إنه حقًّا موقف من الغريب أن تجده في مجال الطب والدواء، وهو مجال يُفترض أن يكون مبنيًّا على الأدلة، وأن تكون الممارسة اليومية قائمةً على أُسُس الطب وأحكام القانون؛ ففي واحد من أكثر مجالات السلوك الإنساني خضوعًا للتنظيم، لم نُعطِ الاهتمام المطلوب والحذر الواجب، وتركنا الأدلة التي تقوم عليها الممارسة تتعرَّض للضياع والتشويه. وهو موقف يصعب تخيُّله. وسنرى الآن مدى عُمق هذه المشكلة.

(٣) لماذا لا ننشر بيانات التجارِب كاملةً؟

لقد أُجريَ الكثير من الدراسات عن مشكلة إخفاء بيانات التجارِب في مجال الطب والدواء. ولكن قبل أن أعرض تلك الأدلة، يلزمنا أن نفهم بالضبط مدى أهميتها من منظورٍ علمي. ومن أجل ذلك، يلزمنا أن نفهم المقصود بالمراجعة المنهجية و«التحليل التجميعي»، اللذين أرى أنهما، عندما يُستخدمان معًا، يُعَدان من أهم الأفكار في الطب الحديث. وهما أمران بسيطان للغاية، ولكن من العجيب أنهما لم يُبتكرا إلا في وقتٍ متأخر.

حينما نريد أن نعرف إذا كان شيءٌ ما مفيدًا أم لا، فإننا نُجري تجرِبة. وهذه عملية بسيطة جدًّا، ولقد ذُكرتْ أول محاولة لإجراء نوعٍ ما من التجارِب في الكتاب المقدس (دانيال ١: ١٢؛ إذا كان هذا الأمر يهمك). في البداية، تحتاج إلى سؤالٍ لم يجد جوابًا؛ على سبيل المثال: «هل إعطاء عقاقير الاستيرويد لامرأةٍ ستلد قبل ميعادها يزيد من فرص بقاء الطفل الذي ستلده على قيد الحياة؟» ثم تبحث عن بعض الأشخاص المناسبين الذين ستُخضعهم للتجرِبة (وهم في هذه الحالة أمهات على وشك أن يلدن قبل ميعادهن). وستحتاج إلى عددٍ معقول منهن؛ مائتين مثلًا لهذه التجرِبة. ثم تقسمهن إلى مجموعتين على نحوٍ عشوائي، وتعطي إحدى المجموعتين أفضل علاجٍ متاحٍ حاليًّا (أفضل علاج متاح في مدينتك)، بينما تعطي المجموعة الأخرى أفضل علاجٍ مُتاحٍ حاليًّا بالإضافة إلى بعض عقاقير الاستيرويد. وفي النهاية، بعد أن خضعتْ كل الأمهات المائتين لهذه التجرِبة، يُحصَى عدد أطفالهن الباقين على قيد الحياة في كلٍّ من المجموعتين.

هذه مسألة حقيقية، وقد أُجريَ الكثير من التجارِب حولها، من عام ١٩٧٢ فصاعدًا. وقد أظهرت تجرِبتان فقط أن عقاقير الاستيرويد أنقذت حياة الأطفال، بينما أظهرت خمس تجارِب عدم وجود فائدة جوهرية لها. والآن، كثيرًا ما تسمع أن الأطباء يختلفون حينما تختلط الأدلة، وهذا بعينه هو الموقف الذي نحن بصدده؛ فالطبيب الذي لديه اعتقاد سابق قوي بأن تلك العقاقير مفيدة — وربما كانت تَشغل عقلَه فكرةٌ ما عن آليةٍ جزيئيةٍ نظرية يمكن بمقتضاها أن يكون العقَّار الاستيرويدي ذا نفعٍ للجسم — قد يقول: «انظروا إلى هاتين التجرِبتين الإيجابيتين! بالطبع إننا يجب أن نصف تلك العقاقير!» أما الطبيب الذي لديه حَدْس قوي سابق بأن تلك العقاقير بلا فائدةٍ قد يشير إلى التجارِب السلبية الخمس ويقول: «في المجمل، لا تُظهر الأدلة وجود أي فائدةٍ لها؛ فلماذا نتحمَّل المخاطرة؟»

وإلى وقتٍ قريبٍ جدًّا كانت هذه بالأساس هي الطريقة التي يتطوَّر بها الدواء؛ إذ يكتب الناس مقالاتٍ استقصائيةً طويلة ومُملة يعرضون فيها بيانات التجارِب التي وقعت تحت أيديهم حول علاجٍ ما بطريقةٍ غير منهجيةٍ بالمرة، غالبًا ما تعكس ما في نفوسهم من تحيُّزاتٍ ومعتقدات. وبعد ذلك في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الناس يقومون بشيءٍ يُسمَّى «المراجعة المنهجية». وهي استقصاء منهجي واضح للأبحاث والدوريات ذات الصلة، بغرض جمع كل بيانات التجارِب التي يمكنك الحصول عليها فيما يتعلق بموضوعٍ معين، دون التحيُّز تجاه مجموعةٍ معينة من النتائج. وفي أي مراجعةٍ منهجية، فإنك تشرح بالضبط كيف بحثتَ عن البيانات؛ أي تحدد قواعد البيانات التي بحثتَ فيها، وأدوات البحث والفهارس التي استخدمتَها، وحتى الكلمات التي بحثتَ عنها. وتحدد قبلًا أنواع الدراسات التي يمكن تضمينها في مراجعتك هذه. ثم تعرض كل ما توصلتَ إليه، وحتى الأبحاث التي رفضتَها، مع شرح أسباب الرفض. وحينما تفعل هذا تضمن أن تكون وسائلك شفافةً وقابلة للتكرار ومفتوحةً للنقد تمامًا، مع إمداد القارئ بصورةٍ واضحة وكاملة للأدلة. قد تبدو فكرة المراجعة المنهجية بسيطة، ولكن المراجعات المنهجية يندر وجودها جدًّا خارج نطاق الطب الإكلينيكي، وتُعَدُّ واحدةً من أكثر الأفكار أهميةً وتميُّزًا على مدى الأعوام الأربعين المنقضية.

وحينما تجمع كل بيانات التجارِب في موضعٍ واحد، يمكنك أن تُجريَ شيئًا يُسمَّى التحليل التجميعي؛ حيث تضم جميع النتائج معًا في ورقةٍ واحدة كبيرة، وتجمع البيانات كلها، ومنها تحصل على تقرير ملخص واحد، وهو الملخص الأكثر دقة لجميع البيانات المتعلقة بمسألةٍ إكلينيكيةٍ ما. ويُطلَق على ناتج هذه العملية التلخيصية اسم «المخطط الغابي» أو «البلوبوجرام»، ويمكنك أن ترى في الشكل التالي مثالًا عليه داخل شعار مؤسسة كوكرين، وهي مؤسسة أكاديمية عالمية لا تهدف للربح، تُنتج مراجعاتٍ نموذجيةً للأدلة المتعلقة بالمسائل المهمة في الطب منذ عَقد الثمانينيات من القرن العشرين.

fig1
شكل ١-١: مؤسسة كوكرين.

يُظهر هذا المُخطط نتائج جميع التجارِب التي أُجريت على إعطاء عقاقير الاستيرويد للأمهات اللاتي يلدن قبل ميعادهن لزيادة فرص بقاء أطفالهن على قيد الحياة. وكل خطٍّ أفقي يُمثِّل تجرِبة؛ فإذا امتد هذا الخط أكثر إلى اليسار، فهذا يعني أن التجرِبة أظهرت أن تلك العقاقير كانت مفيدةً وأنقذت حياة الأطفال. أما الخط المركزي الرأسي فهو «خط اللاتأثير»؛ فإذا لمس الخط الأفقي للتجرِبة خط اللاتأثير، فهذا يعني أن التجرِبة أظهرت عدم وجود فائدة جوهرية إحصائيًّا. وبعض التجارِب تُمثَّل بخطوط أفقية أطول، وهذا يعني أنها كانت تجارِب أصغر، بها مشاركون أقل؛ مما يعني أنها عرضة للمزيد من الخطأ؛ ومن ثَمَّ يكون تقدير الفائدة أقل تأكيدًا، وهكذا يكون الخط الأفقي أطول. وفي النهاية يُظهر شكل المعَيَّن الذي يوجَد في أسفل المخطط «التأثير التلخيصي»، ويعني الفائدة الإجمالية للعلاج، التي تُحدَّد بتجميع نتائج كل التجارِب المفردة معًا. ويكون حجم خطوط هذه المُعيَّنات أصغر بكثيرٍ من الخطوط الخاصة بالتجارِب المفردة؛ لأن التقدير حينئذٍ يكون أكثر دقةً بكثير؛ حيث يُلخِّص تأثير العقاقير في عددٍ كبير من المرضى. وفي هذا المخطط، يمكنك أن ترى — من خلال بُعد المعَيَّن عن خط اللاتأثير — أن إعطاء تلك العقاقير مفيد بدرجةٍ كبيرة. وفي واقع الأمر إنه يُقلل احتمال وفاة الطفل المبتسر بمقدار النصف تقريبًا.

الشيء الغريب فيما يتعلق بالمخطط الغابي أنه مهم جدًّا، ورغم ذلك ابتُكر في وقتٍ متأخر جدًّا من تاريخ الطب. فعلى مدى سنينَ كثيرةٍ كانت لدينا كل المعلومات اللازمة التي تُخبرنا بأن عقاقير الاستيرويد زادت من فرص بقاء الأطفال المبتسرين على قيد الحياة، ولكنَّ أحدًا لم يعرف أنها فعَّالة؛ لأن أحدًا لم يُجرِ مراجعةً منهجية حتى عام ١٩٨٩؛ ونتيجةً لذلك لم يكن هذا العلاج يُعطَى على نطاقٍ واسع، ومات أطفال بأعدادٍ كبيرةٍ بغير داعٍ، ليس بسبب عدم امتلاكنا المعلومات، ولكن لأننا ببساطةٍ لم نقم بتجميعها وتحليلها معًا بطريقة سليمة.

حتى لا تعتقد أن الحالة السابقة مجرد حالةٍ فرديةٍ منفصلة، دعنا نُلقِ نظرةً على مدى سوء مجال الطب والدواء قبل ظهور المراجعات المنهجية الذي حدث في وقتٍ قريبٍ جدًّا. يحتوي الشكل التالي على مخططين غابيين، ويُظهر جميع التجارِب التي أُجريت لمعرفة ما إذا كان إعطاء عقَّار إستربتوكيناز، المذيب للجلطات، يُحسِّن معدلات البقاء على قيد الحياة في المرضى المصابين بنوبةٍ قلبية.11

والآن ألقِ نظرةً أولًا على المخطط الغابي التالي. هذا مخطط غابي تقليدي، مأخوذ من دورية أكاديمية؛ لذا تجده أكثر ازدحامًا بعض الشيء من ذلك الشكل الحديث للمخططات الغابية الذي رأيته داخل شعار مؤسسة كوكرين. إلا أن المبادئ الحاكمة واحدة في الاثنين؛ فكل خطٍّ أفقي يُمثِّل تجرِبة، ويمكنك أن ترى أن هناك خليطًا من النتائج؛ فبعض التجارِب تُظهر أن هناك فائدة (فالخطوط الدالة عليها لا تلمس خط اللاتأثير الرأسي الذي فوقه رقم «١»)، والبعض الآخر يُظهر عدم وجود فائدة (فالخطوط الدالة عليها تخترق هذا الخط الرأسي). وفي الأسفل، يمكنك أن ترى التأثير التلخيصي، وتُمثِّله نقطة في هذا المخطط الغابي العتيق الطراز بدلًا من شكل المُعين. ويمكنك أن ترى بوضوحٍ شديدٍ أن هذا العقَّار بصفةٍ عامة مفيد.

fig2
شكل ١-٢: التحليل التجميعي التقليدي والتراكمي لثلاثٍ وثلاثين تجرِبة لحقن عقَّار إستربتوكيناز في الوريد لعلاج احتشاء عضلة القلب الحاد. وتظهر نسب الأرجحية وفترات الثقة الخاصة بتأثير العلاج على معدلات الوفاة على مقياس لوغاريتمي.

والآن: ما هذا المخطط؟ إنه ما نُسمِّيه التحليل التجميعي التراكمي. فإذا نظرت إلى قائمة الدراسات التي إلى يمين الشكل، يمكن أن تلاحظ أنها مُرتَّبة تاريخيًّا، أمَّا التحليل التجميعي التراكمي الذي إلى اليسار، فيضيف نتائج كل تجرِبة جديدة تصل إلينا إلى نتائج التجارِب السابقة. وهذا يعطي أفضل تقديرٍ مستمرٍّ ممكنٍ في كل عام لما قد تبدو عليه الأدلة في وقتٍ ما، إذا اهتمَّ أي شخصٍ بأنْ يُجريَ تحليلًا تجميعيًّا لجميع البيانات المتاحة له. ومن هذا المخطط الغابي التراكمي يمكنك أن ترى أن الخطوط الأفقية أو «التأثيرات التلخيصية» تضيق بمرور الوقت مع تجميع المزيد والمزيد من البيانات، ويصير تقدير الفائدة الإجمالية لهذا العلاج أكثرَ دقة. ويمكنك أن ترى أيضًا أن هذه الخطوط الأفقية توقفتْ عن لمس خط اللاتأثير الرأسي منذ زمنٍ بعيدٍ جدًّا. والمهم أن هذا حدث قبل أن نبدأ في إعطاء العلاج — بزمنٍ طويل — لكل مَن أصيب بنوبةٍ قلبية.

وأقول لك شيئًا إذا لم تكن قد لاحظتَه بنفسك بالفعل — ولكي أكون منصفًا، فإن كل ممارسي مهنة الطب كانوا بطيئين في ملاحظته — وهو أن لهذا المخطط مضامين مهمة؛ فتعد النوبات القلبية سببًا شائعًا للغاية للموت، وكان لدينا علاج ثَبتتْ فائدته لمواجهتها، وكان لدينا جميع المعلومات التي نحتاجها لنعرف أنه مفيد وفعَّال، ولكننا مجددًا لم نجمعها معًا بنحوٍ منهجيٍّ مُنظَّم لنصل إلى النتيجة الصحيحة؛ فنصف عدد الأشخاص في التجارِب التي في أسفل المخطط فُرِض عليهم بنحوٍ عشوائيٍّ ألا يحصلوا على هذا العلاج، وأظنُّ أن هذا تصرُّف لا أخلاقي؛ لأن لدينا جميع المعلومات التي نحتاجها لنعرف أن هذا العلاج مفيد وناجع. ورغم ذلك، حُرم أولئك الأشخاص العاثرو الحظ من تناوله. لكن الأمر لم يقتصر عليهم، بل انطبق كذلك على غالبية المرضى على مستوى العالم الذين عاشوا في هذه الآونة.

وإنني آمل أن تُوضِّح هذه القصص أهمية المراجعة المنهجية والتحليل التجميعي؛ فنحن بحاجةٍ لأن نضمَّ جميع الأدلة المتعلقة بمسألةٍ ما معًا، ولا نكتفيَ بتلك التي نصادفها أو تلك التي نميل إليها بحدْسنا. ولحسن الحظ، أدرك ممارسو الطب هذا الأمرَ المهم على مدى العَقدين الأخيرين؛ فصارت طريقتا المراجعة المنهجية والتحليل التجميعي تُستخدَمان معًا الآن في أنحاء العالم كله تقريبًا لنضمن أن يكون لدينا أدقُّ مُلخَّصٍ ممكنٍ لجميع التجارِب التي أُجريت بخصوص مسألةٍ طبيةٍ معينة.

إلا أن هذه القصص تُظهر أيضًا السبب في أن إخفاء نتائج التجارِب أمرٌ شديد الخطورة؛ فإذا اكتفى أحد الباحثين أو الأطباء بالتقاط بعض النتائج عند تلخيص الأدلة الحاضرة لديه، ونظر فقط إلى التجارِب التي تدعم حدْسه، فإن هذا يمكن أن يُنتِج صورةً خادعة ومضللة للبحث. وهذه مشكلة تخص ذلك الباحث (كما تخص مَن ساقه سوءُ حظِّه أو عدم حكمته إلى التأثُّر بتجارِب هذا الباحث). ولكن لو أننا «جميعًا» — المجتمع الطبي والأكاديمي بأكمله — أغفلنا التجارِب السلبية، فإننا حين نجمع الأدلة معًا لنحصل على أفضل تَصوُّرٍ ممكنٍ عما إذا كان علاجٌ ما مفيدًا (كما هو واجب علينا)، نكون حينئذٍ جميعًا قد ضُللنا تمامًا؛ إذ نحصل على انطباعٍ خادعٍ على فاعلية العلاج؛ فنبالغ بنحوٍ خاطئٍ في تقدير فوائده، بل ربما نعتبره على نحوٍ خاطئٍ علاجًا مفيدًا، في حين أنه ضار في الحقيقة.

والآن وقد أدركت أهمية المراجعات المنهجية، يمكنك أن تُدرِك أهمية مشكلة إخفاء بيانات التجارِب ومدى خطورتها. ولكن يمكنك أيضًا أن تُقدِّر أنني حينما أوضِّح «مقدار» ما يتم إخفاؤه من بيانات التجارِب، فإنني أعطيك فكرةً عامة محايدة عن الدراسات التي بحثتْ هذا الأمر؛ لأنني سوف أشرح هذه الأدلة مستخدمًا طريقة المراجعة المنهجية.

(٤) مقدار ما يُخفَى من بيانات التجارِب

إذا أردت أن تُثبت أن هناك تجارب لم تُنشر، فستصادف مشكلةً مهمة، وهي أنك بحاجةٍ لأن تثبت وجود دراسات لا تستطيع الوصول إليها. ولكي يلتفَّ المهتمون بهذا الأمر حول هذه العقبة، استحدثوا أسلوبًا بسيطًا يتمثل في تحديد مجموعةٍ من التجارِب التي يعرفون قبلًا أنها أُجريت واستُكملت، ثم يتحرَّوْن ما إذا كانت قد نُشرت أم لا. ويُعَد العثور على قائمةٍ بالتجارِب المستكمَلة هو الجزء الصعب من هذه العملية، ولتحقيق هذا، يتبع هؤلاء استراتيجياتٍ مختلفة: الحصول على قوائم التجارِب التي اعتُمدت من قِبل لجان الأخلاقيات الطبية (أو «لجان أخلاقيات البحث» في الولايات المتحدة الأمريكية) على سبيل المثال، أو تتبُّع التجارِب التي ناقشها باحثون في المؤتمرات.

وفي عام ٢٠٠٨ قرَّرتْ مجموعة من الباحثين أن تفحص ما نُشر من تجارِب رُفعت لهيئة الغذاء والدواء الأمريكية عن مضادات الاكتئاب التي وصلت إلى سوق الدواء فيما بين عامَي ١٩٨٧ و٢٠٠٤.12 ولم تكُ هذه بمَهمةٍ سهلة؛ إذ تحتوي أرشيفات الهيئة على كَمٍّ لا بأس به من المعلومات عن جميع التجارِب التي رُفعت إلى الجهات المختصة لكي تحصل الأدوية الجديدة على الترخيص اللازم لتداولها. ولكن هذه في الحقيقة ليست كل التجارِب بأي حال؛ لأن التجارِب التي تُجرى بعد أن يصل العقَّار إلى سوق الدواء لن توجد في تلك الأرشيفات. كما أن المعلومات التي توجد بتلك الأرشيفات يصعب البحث فيها، وغالبًا ما تكون شحيحة. ولكنها تُعَد مجموعة مهمة من التجارِب، وهي أكثر من كافية للمساعدة في مَهمة استكشاف كَمِّ التجارِب الذي يتم إخفاؤه، والسبب في ذلك. وما سنحصل عليه هنا هو شريحة مُمثَّلة من التجارِب من جميع شركات الأدوية الكبرى.

وجد الباحثون أربعًا وسبعين دراسةً إجمالًا، تُمثِّل ١٢٥٠٠ مريض. وأسفرت ثمانٍ وثلاثون من هذه التجارِب عن نتائجَ إيجابيةٍ وجدت أن العقَّار محل الاختبار مفيدٌ وفعَّال، بينما كانت ستٌّ وثلاثون سلبية؛ ومن ثَمَّ كانت النتائج منقسمةً بين النجاح والفشل فيما يخص تلك العقاقير في واقع الأمر. فقرر الباحثون تتبُّع هذه التجارِب في الدوريات الأكاديمية المنشورة، وهي المواد المتاحة للأطباء والمرضى؛ فظهرت لديهم صورة مختلفة تمامًا؛ إذ وجدوا أن سبعًا وثلاثين من التجارِب الإيجابية (أي كلها باستثناء واحدة) قد نُشرت بالكامل، وصار حولها في الغالب صخب كبير. بينما كان للتجارب ذات النتائج السلبية مصير مختلف تمامًا؛ إذ نُشر ثلاث منها فقط، واختفت تمامًا اثنتان وعشرون، ولم تظهر في أي مكانٍ آخر سوى في ملفات هيئة الغذاء والدواء الأمريكية الهزيلة المُتربة غير المُرتبة. وأما الإحدى عشرة الباقية التي كانت نتائجها سلبية ضمن ملخصات الهيئة، فظهرت في الدوريات الأكاديمية، وكلها كُتبت بحيث تبدو العقاقير وكأنها كانت ناجحة. إذا وجدت هذا الأمر سخيفًا، فأنا أتفق معك، وسنرى في الفصل الرابع كيف أن نتائج أي دراسة يمكن تحويرها وصقلها لتشويه ما جاء بها والمبالغة فيه.

كان هذا عملًا بحثيًّا رائعًا، شمل أكثر من ١٢ عقَّارًا من جميع منتجي الأدوية الكبار، ولم يستطع تحديد من يمكن إلقاء اللائمة عليه بصفةٍ رئيسية في هذا الشأن. وقد كشف بوضوحٍ شديد عن أن المنظومة بالكامل بها عوار شديد؛ إذ يقول الواقع إن لدينا ثمانيًا وثلاثين تجرِبة إيجابية وستًّا وثلاثين تجرِبة سلبية، بينما نجد في الدوريات الأكاديمية ثمانيًا وأربعين تجرِبة إيجابية وثلاثًا فقط سلبية. لِتأخذْ بُرهة لتدير مجموعتَي الأرقام هاتين في رأسك: «ثمانٍ وثلاثون تجرِبة إيجابية وستٌّ وثلاثون سلبية»، و«ثمانٍ وأربعون تجرِبة إيجابية وثلاثٌ فقط سلبية».

إذا كنا نتحدث عن دراسةٍ واحدة فحسب من مجموعةٍ واحدة من الباحثين الذين قرروا أن يحذفوا نصف نتائجهم لأنها لا تعطي الصورة الكلية التي أرادوها، فإننا سنصف على نحوٍ صحيح هذا التصرُّف بأنه «سوء سلوك بحثي». ولكن حينما تحدث نفس الظاهرة تمامًا على نحوٍ ما مع إخفاء دراسات بأكملها، على يد مئات بل آلاف الأشخاص المنتشرين حول العالم، في كلٍّ من القطاعين العام والخاص، فإننا نتقبَّلها باعتبارها «جزءًا عاديًّا من الحياة».13 فتمر تحت أعين الرقباء والهيئات المهنية الذين اعتادوا ألا يفعلوا شيئًا حيالها رغم تأثيرها الذي لا يُنكَر على المرضى.

والأغرب من هذا أننا على علمٍ بمشكلة إغفال الدراسات ذات النتائج السلبية، منذ فترةٍ طويلة، تقريبًا منذ أن بدأ العلماء يُجرون تجاربَ علميةً جادة.

وأول من بدأ توثيق هذه المشكلة بنحوٍ رسمي كان عالمًا نفسيًّا يُدعى ثيودور سترلينج في عام ١٩٥٩؛14 إذ فحص كل الدراسات التي نُشرت في دوريات علم النفس الكبرى في تلك الآونة، ووجد أن ٢٨٦ من بين ٢٩٤ دراسة أظهرت نتيجة دالة من الناحية الإحصائية. وأوضح أن هذا أمر يثير الريبة بوضوح؛ فمن غير الممكن أن يكون هذا تمثيلًا عادلًا لكل الدراسات التي أُجريت لأننا إذا صدَّقنا هذا، فعلينا أن نعتقد أن جميع النظريات، تقريبًا، التي اختُبرت على يد اختصاصيين نفسيين في تجارب علمية تَبيَّن أنها صحيحة. فلو اعتبرنا أن هؤلاء الاختصاصيين كانوا رائعين جدًّا بحقٍّ في التنبؤ بالنتائج، لما وجدنا ضرورة في تجشُّم مشقة إجراء التجارِب على الإطلاق. وفي عام ١٩٩٥، عاد نفس الباحث، في نهاية مسيرته المهنية، إلى نفس المسألة، فوجد أن شيئًا لم يتغير تقريبًا.15
كان سترلينج أول من وضع هذه الأفكار في إطار أكاديمي رسمي، ولكن الحقيقة الأساسية عُرفت منذ قرونٍ عدة؛ فلقد قال فرانسيس بيكون في عام ١٦٢٠ إننا كثيرًا ما نُضلل أنفسنا بالاكتفاء بتذكُّر المرات التي نفع فيها شيءٌ ما، ونسيان المرات التي لم ينفع فيها.16 كما أن فاولر في عام ١٧٨٦ ذكر الحالات التي رأى أنها عُولجت بالزرنيخ، وأشار إلى أنه كان بإمكانه أن يُخفيَ حالات الفشل، كما قد يفعل الآخرون، ولكنه ذكرها.17 وقال إنه لو لم يفعل هذا، لكان مخادعًا غشَّاشًا.
ولكن لم يمر على هذا ثلاثة عقود حتى بدأ الناس يدركون أن إخفاء التجارِب سبَّبَ مشكلة خطيرة في عالم الطب والدواء؛ ففي عام ١٩٨٠ وجدَتْ إلينا همينيكي أن نصف التجارِب تقريبًا التي أُجريت في منتصف السبعينيات في القرن الماضي في السويد وفنلندا لم يُنشر.18 ثم في عام ١٩٨٦ قرر باحث أمريكي يُدعى روبرت سايمس أن يتحرَّى عن التجارِب التي أُجريت عن علاج جديد لسرطان المبيض، وكانت دراسة مهمة لأنها اهتمت بمسألةٍ تتعلق بالحياة والموت؛ فالعلاج الكيميائي المتعدد لمواجهة هذا النوع من السرطان له آثار جانبية شديدة الوطأة؛ ولهذا كان كثير من الباحثين يأملون أن يكون من الأفضل إعطاء «عامل مؤلكل» كعقَّار في البداية قبل الانتقال إلى العلاج الكيميائي الكامل. وطالع سايمس جميع التجارِب التي نُشرت عن هذه المسألة في الدوريات الأكاديمية التي يقرؤها الأطباء والأكاديميون. ومن هذا المنطلق كان إعطاء عقَّار واحد يُنظر إليه في بادئ الأمر باعتباره فكرةً عظيمة؛ فالنساء اللاتي في مرحلةٍ متأخرة من هذا النوع من السرطان (وهي حالة يُعَدُّ تشخيصها شيئًا سيِّئًا للغاية) واللاتي عولجن بالعامل المؤلكل وحده، من المفترض أنهن أكثر قابليةً للبقاء على قيد الحياة لفترةٍ أطول.

ثم لمعت في ذهن سايمس فكرة ذكية؛ إذ كان يعرف أنه أحيانًا ما لا تُنشر بعض التجارِب، كما سمع أن الأبحاث ذات النتائج الأقل «إثارة» هي الأكثر عرضةً للإغفال. إلا أن إثبات حدوث ذلك أمر صعب المنال؛ إذ يلزمك أن تجد عيِّنة عادلة تمثل جميع التجارِب التي أُجريت، ثم تقارن نتائجها بنتائج مجموعة التجارِب الصغيرة التي نُشرت، لترى ما إذا كانت هناك أي فروق كبيرة. هذا ولم يكن ثَمَّةَ وسيلة سهلة لنيل هذه المعلومات من الجهة القائمة على رقابة الأدوية (وسوف نناقش هذه المشكلة ببعض الإسهاب فيما بعد)، فلم يذهب إليه، بل ذهب إلى البنك الدولي لبيانات أبحاث السرطان، الذي يحتوي على سجل للتجارب المهمة التي تُجرى في الولايات المتحدة الأمريكية، بما فيها أغلب التجارِب التي تُموِّلها الحكومة وتجارب أخرى كثيرة من أنحاء العالم. ولم تكن على الإطلاق قائمة كاملة، ولكن كانت لها سمة مهمة، وهي أن التجارِب تُسجل قبل أن تظهر نتائجها؛ ومن ثَمَّ فإن أي قائمةٍ تُجمع من هذا المصدر، حتى لو لم تكن كاملة، فهي على الأقل عيِّنة تمثل جميع الأبحاث التي أُجريت ولم تتأثر بأي تحيُّز فيما يتعلق بإيجابية النتائج أو سلبيتها.

وحينما قارن سايمس نتائج التجارِب المنشورة في مقابل التجارِب التي لم تُسجَّل نتائجها، كانت النتائج مثيرة للارتباك؛ فبالنظر إلى الدوريات الأكاديمية (الدراسات التي اختار الباحثون ومحررو الدوريات أن ينشروها) بدا العلاج بالعوامل المؤلكلة وحدها في البداية فكرة رائعة؛ إذ يقلل على نحوٍ كبيرٍ معدل الوفَيَات بين المريضات اللاتي في مرحلةٍ متأخرة من سرطان المبيض. ولكن حينما تنظر فقط إلى التجارِب الأخرى (وهي العينة العادلة غير المتحيزة لكل التجارِب التي أُجريت) يتبين لك أن العلاج الجديد ليس بأفضل من العلاج الكيميائي التقليدي.

وسرعان ما أدرك سايمس — كما أتمنى لك أيضًا — أن مسألةَ ما إذا كانت إحدى صور علاج السرطان أفضلَ من الأخرى كانت شيئًا هيِّنًا مقارنةً بما تهيَّأ للإقدام عليه من هجوم شرس في الدوريات الطبية؛ فهو رأى أن كل ما كنا نعتقد أننا نعرفه فيما يتعلق بفائدة العلاجات قد شُوِّه على الأرجح لدرجةٍ قد يتعذَّر قياسها؛ ولهذا تأثير كبير بالتأكيد على علاج المرضى. فكانت النتائج الإيجابية تُنشر والنتائج السلبية تُخفى. وأضاف أن هناك أمرًا واحدًا واضحًا وجب علينا أن نفعله في هذا الصدد، وهو أن نبدأ في تسجيل جميع التجارِب الإكلينيكية، وأن نطالب الباحثين بتسجيل دراساتهم قبل أن يشرعوا فيها، وأن نُصِرَّ على أن ينشروا النتائج في النهاية.

كان هذا في عام ١٩٨٦. ومنذ ذلك الحين وبعد مرور جيلٍ بأكمله، كان أداؤنا سيئًا للغاية. وإنني أعدك في هذا الكتاب ألا أُرْبك ذهنك بالبيانات الكثيرة، ولكني في الوقت نفسه لا أريد من أي شركة أدوية أو مراقب حكومي أو هيئة مهنية، أو أي شخص يتشكك في هذه القضية برُمَّتها، أن يتملَّص منها؛ ومن ثَمَّ، سأعرض الآن جميع الأدلة المتاحة عن مشكلة إخفاء بيانات التجارِب، باختصارٍ قدر الإمكان، مُظهرًا الطرق البحثية الرئيسية التي استُخدمت. وكل ما ستقرؤه مصدره أحدث ما أُجري من مراجعاتٍ منهجية في هذا الموضوع؛ ومن ثَمَّ، تستطيع الوثوق من أنه تلخيص عادل وغير متحيِّز للنتائج.

تتمثل إحدى الطرق البحثية في هذا الإطار في أن تحصل على قائمةٍ بجميع التجارِب التي لدى أحد مراقبي الأدوية سِجِل بها، بدءًا من التجارِب المبكِّرة جدًّا التي تُجرى لغرض الحصول على ترخيصٍ لعقَّارٍ جديد، ثم تتحرَّى لترى ما إذا كانت كلها قد ظهرت في الدوريات الأكاديمية. وهذه هي الطريقة التي رأيناها مستخدَمة في البحث المذكور أعلاه، حيث الْتَمس الباحثون جميع الأبحاث التي أُجريَت على اثني عشر مضادًّا للاكتئاب، ووجدوا أن النتائج التي كانت مناصَفةً بين الإيجابية والسلبية تحوَّلت إلى ثمانيةٍ وأربعين بحثًا إيجابيًّا وثلاثةٍ فحسب سلبية. واستُخدمت هذه الطريقة على نطاقٍ واسع في مجالاتٍ مختلفة ومتعددة من الطب. وفيما يلي أمثلة على ذلك:
  • فحَص لي وزملاؤه، على سبيل المثال، جميع التجارِب التسعمائة وتسعٍ التي قُدمت لجهة الرقابة على الأدوية، إلى جانب طلبات التسويق لجميع العقاقير التسعين الجديدة التي دخلت إلى سوق الدواء من عام ٢٠٠١ إلى عام ٢٠٠٢، ووجدوا أن ٦٦ بالمائة من التجارِب التي لها نتائج دالة إحصائيًّا نُشرت، مقارنةً ﺑ ٣٦ بالمائة فقط من الباقي.19
  • فحص ميلاندر في عام ٢٠٠٣ جميع التجارِب الاثنتين والأربعين التي أُجريت على خمسة مضادات للاكتئاب المرفوعة إلى جهة الرقابة على الأدوية في السويد للحصول على تصريحٍ بالتسويق. وتبيَّن أن جميع الدراسات التي لها نتائج دالة إحصائيًّا والبالغ عددها ٢١ قد نُشرت، أما تلك التي أظهرت نتائج سلبية فلم يُنشر سوى ٨١ بالمائة منها.20
  • وجد رايزنج وآخرون في عام ٢٠٠٨ المزيد من تلك الأبحاث المنشورة المشوَّهة التي سوف نستعرضها لاحقًا؛ إذ بحثوا عن جميع التجارِب التي أُجريَت على عقاقير صُدِّق عليها على مدى سنتين. وكان ما استطاعوا أن يجدوه ضمن ملخص نتائج هيئة الغذاء والدواء الأمريكية هو ١٦٤ تجرِبة. وكانت التجارِب التي لها نتائج إيجابية أكثر قابليةً بأربع مرات تامة لأنْ تُنشر في الدوريات الأكاديمية من تلك التي لها نتائج سلبية. وعلاوةً على هذا فقد حدث تغيير في أربعٍ من التجارِب ذات النتائج السلبية بمجرد ظهورها في الدوريات الأكاديمية بحيث تعضد العقَّار محل الاختبار.21
وإذا شئت، يمكنك أن تفحص ما يقدَّم في المؤتمرات من أبحاث، والتي تكون بأعدادٍ كبيرة، ولكن في تقديري حاليًّا، في أحسن الأحوال، لا يظهر منها في الدوريات الأكاديمية سوى نصفها تقريبًا فقط.22 وجدير بالذكر أن الدراسات التي تُقدَّم فقط في المؤتمرات يكاد يكون من المستحيل التوصُّل إليها أو الاقتباس منها، كما يصعب بصفةٍ خاصة الحكم عليها نظرًا لقلة المعلومات المتاحة عن الطرق المحددة المستخدَمة في البحث (والتي غالبًا ما تكون مُتضمَّنة في فقرةٍ واحدة قصيرة). وكما سترى بعد قليل، ليست كل التجارِب تُعتبر اختبارات عادلة للعلاج، بل إن بعضها يمكن أن يكون متحيزًا عن قصد؛ ومن ثَمَّ فإن تلك التفاصيل مهمة.
أُجريت أحدث مراجعة منهجية للدراسات التي تسعى لمعرفة ما يحدث لأبحاث المؤتمرات في عام ٢٠١٠، ووجَدت ثلاثين دراسة منفصلة تدرس ما إذا كانت الأبحاث ذات النتائج السلبية المقدمة في المؤتمرات — وذلك في مجالاتٍ متشعبة مثل التخدير والتليُّف الحويصلي والأورام والحوادث والطوارئ — تختفي قبل أن تتحوَّل إلى أبحاثٍ أكاديمية مكتملة.23 بوجهٍ عام، يزيد احتمال إخفاء وعدم نشر النتائج الأمينة غير المتملقة.

وإذا كنت سعيدَ الحظ جدًّا، يمكنك أن تقتفيَ أثر قائمةٍ من التجارِب سُجِّلَت على نحوٍ رسميٍّ قبل أن تبدأ، ربما في سِجِل أُعد للكشف عن هذه المسألة خصوصًا. وفيما يتعلق بالأبحاث التي تمولها شركات الأدوية، وحتى وقتٍ قريبٍ جدًّا، ستكون سعيدَ الحظ جدًّا لو وجدت قائمة مثل هذه يمكن للناس الاطلاع عليها. أما عن الأبحاث المموَّلة من القطاع العام، فالأمر يختلف قليلًا، وهنا نبدأ في تعلُّم درس جديد؛ فرغم أن الغالبية العظمى من التجارِب تُجرى من قِبل شركات الأدوية؛ مما يعني أنها تحدد المسار في عالم الدواء، فإن هذه الظاهرة لا تقتصر على القطاع التجاري.

  • ففي عام ١٩٩٧ تضمَّنت مراجعةٌ منهجية عن هذه الطريقة أربعَ دراساتٍ بالفعل، ووجدت أن الدراسات ذات النتائج الدالة إحصائيًّا كانت أكثر قابليةً مرتين ونِصفًا لأنْ تُنشر من تلك التي كانت عكس ذلك.24
  • درس بحثٌ في عام ١٩٩٨ جميع التجارِب التي قامت بها مجموعتان من العلماء ترعاهما معاهد الصحة الوطنية الأمريكية على مدى السنوات العشر السابقة، ووجد كذلك أن الدراسات التي لها نتائج دالة إحصائيًّا تكون أكثر قابليةً للنشر.25
  • ودرس آخر تجارب العقاقير، التي سُجلت لدى الوكالة الوطنية الفنلندية، ووجد أن ٤٧ بالمائة من النتائج الإيجابية نُشرت، بينما لم يُنشر سوى ١١ بالمائة من النتائج السلبية.26
  • ودرس آخر جميع التجارِب التي عُرضت على قسم الصيدلة بأحد مستشفيات العيون منذ عام ١٩٦٣، ووجد أن ٩٣ بالمائة من النتائج الدالة إحصائيًّا نُشرت، ولم يُنشر من النتائج السلبية سوى ٧٠ بالمائة.27

والفكرة التي أعرضها من هذا الخِضَمِّ من البيانات بسيطة: إن هذا ليس مجالًا يقل البحث فيه؛ إذ إن الأدلة تتجمَّع لدينا منذ زمنٍ طويل، وليست الأدلة متعارضةً ولا غامضة.

اتبعت دراستان فرنسيتان أُجريتا في عامَي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ طريقةً جديدة: ذهب القائمون عليهما إلى لجان الأخلاقيات الطبية، وحصلوا على قوائم بجميع الدراسات التي صدَّقت عليها تلك اللجان، وعرفوا من أصحاب تلك الدراسات ما إذا كانت التجارِب أسفرت عن نتائجَ إيجابيةٍ أم سلبية، ثم عملوا في النهاية على تتبُّع تلك الدراسات في الدوريات الأكاديمية المنشورة.28 ووجدت الدراسة الأولى أن النتائج الدالة إحصائيًّا كانت أكثر قابليةً للنشر بمعدل مرتين، ووجدت الثانية أنها أكثر قابليةً للنشر بأربع مرات. وفي بريطانيا أرسل باحثان استبيانًا إلى جميع الباحثين الرئيسيين في ١٠١ مشروع موَّلته إدارة البحث والتطوير التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، وهو لم يكن بحثًا من تمويل صناعة الأدوية، ولكنه يستحق الملاحظة على أي حال. وأسفر هذا البحث عن نتيجةٍ غير معتادة؛ إذ لم يكن ثَمَّةَ فارقٌ دالٌّ إحصائيًّا في معدلات نشر الدراسات الإيجابية والسلبية.29

ولكن لا يكفي مجرد تجميع الدراسات؛ فإذا نظرنا من الناحية المنهجية لجميع الأدلة التي لدينا حتى الآن، فماذا سنجد في المجمل؟

ليس من الجيد أن نجمع كل الدراسات التي من هذا النوع معًا في ورقةٍ واحدةٍ كبيرة لإنتاج رقمٍ تلخيصي لتحيُّز النشر؛ لأنها جميعًا شديدة الاختلاف، ومن مجالاتٍ مختلفة، ومُنفَّذة بطرقٍ مختلفة. وهذا أمر مهم في كثيرٍ من عمليات التحليل التجميعي (وإن كان من الواجب عدم المبالغة في التركيز عليه: على سبيل المثال، إذا كان هناك الكثير من التجارِب التي تقارن أحد العلاجات مقابل علاجٍ وهمي، وكانت كلها تَستخدم نفس المقياس لتقييم النتائج، فحينئذٍ لا بأس بتجميعها كلها معًا).

ولكن يمكنك على نحوٍ معقول أن تضع بعض هذه الدراسات معًا في مجموعات. فأحدثُ مراجعةٍ منهجية عن تحيُّز النشر التي أُجريت في عام ٢٠١٠، والتي أخذتُ منها جميع الأمثلة المذكورة أعلاه، جمعَت الأدلة من مجالات مختلفة؛30 إذ أُجريت اثنتا عشرة دراسة مقارنة لتتبُّع الأبحاث التي تُقدَّم في المؤتمرات، وحين ضَمِّها معًا وُجد أن الدراسة ذات النتيجة الدالة إحصائيًّا تكون أكثر قابليةً للنشر بمقدار ١٫٦٢ مرة. أما عن الدراسات الأربع التي حصلت على قائمةٍ بالتجارِب قبل أن تبدأ، ففي المجمل، كانت النتائج الدالة إحصائيًّا أكثر قابليةً للنشر ﺑ ٢٫٤ مرة. وتلك هي أفضل تقديرات بالنسبة إليَّ لحجم هذه المشكلة، وهي حديثة نسبيًّا وتثير الغضب.

لا تُعَد كل تلك البيانات التي أُخفيت مسألةً أكاديمية مجردة؛ فالأدلة المنشورة في عالم الدواء الفعلي تُستخدم في صُنْع القرارات العلاجية. وهذه المشكلة تمتد بجذورها في كل ما يفعله الأطباء؛ ومن ثَمَّ فمن الجدير أن نتحدَّث ببعض التفصيل عن أثرها على الممارسة الطبية. أوَّلًا: كما رأينا في حالة عقَّار الريبوكستين، ضُلل الأطباء والمرضى فيما يتعلق بآثار الأدوية التي يستخدمونها، ويمكن أن ينتهيَ بهم الأمر إلى اتخاذ قراراتٍ تُسبِّب معاناةً كان يمكن تجنُّبها، بل وقد تؤدي إلى الوفاة. ويَحتمِل أيضًا أن نختار علاجاتٍ غاليةً بلا داعٍ، واهمين أنها أكثر فاعليةً من العقاقير الأقدم والأرخص ثمنًا، فتكون هذه مضيعةً للمال؛ مما يحرم المرضى من ثَمَّ من علاجات أخرى، مع الوضع في الاعتبار أن تمويل الرعاية الصحية محدودٌ.

ومن المهم أيضًا أن نوضِّح أن تلك البيانات تُحجب عن كل مَن يعمل في مجال الطب والدواء، من القمة إلى القاع. على سبيل المثال، أنشأت الحكومة البريطانية المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي ليُعِد ملخصات دقيقة وغير متحيزة لجميع الأدلة المتعلقة بالعلاجات الجديدة، ومع هذا فهو غير قادرٍ على تحديد البيانات المتعلقة بفاعلية العقاقير التي حجبها الباحثون أو شركات الأدوية أو حتى التوصُّل إليها؛ فهذا المعهد ليس لديه الحق قانونًا في الاطلاع على هذه البيانات أكثر مما لديَّ أنا أو أنت، رغم أنه يُصدر قرارات فيما يتعلق بفاعلية العقاقير ومردوديتها، نيابةً عن هيئة الخدمات الصحية الوطنية، من أجل ملايين البشر. وفي واقع الأمر — كما سنرى لاحقًا — إن وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية والوكالة الأوروبية للأدوية، وهما هيئتا الرقابة اللتان تحددان العقاقير التي يُصرَّح لها بالوصول إلى سوق الدواء في المملكة المتحدة، غالبًا ما يمكنهما الوصول إلى هذه المعلومات، ولكنهما لا يكشفان عنها للناس، ولا حتى للأطباء ولا للمعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي. وإنه لَموقفٌ غريب وفاسد حقًّا!

ونظرًا لأن هذه البيانات تُحجب عن الأطباء، يخضع المرضى لعلاجاتٍ أقل مستوًى، وغير فعالة، وغير ضرورية، وغالية التكلفة، دون داعٍ، وهي ليست بأفضل من تلك الأرخص ثمنًا. وتدفع الحكومات ثمن تلك العلاجات الغالية التكلفة بلا داعٍ، وتتحمَّل مغبَّة الأضرار الناجمة عن العلاجات غير الفعالة أو الضارة. كما أن الأفراد المشاركين في التجارِب، كما في دراسة عقَّار «تي جي إن ١٤١٢»، يكونون معرَّضين لِمِحَن مخيفة تُهدد الحياة، وتُخلِّف وراءها آثارًا لا تُمحى، وكل هذا أيضًا بلا معنًى ولا ضرورةٍ على الإطلاق.

وفي الوقت نفسه تتخلف مسيرة المشروع البحثي الطبي ككلٍّ، مع إخفاء النتائج السلبية المهمة عن هؤلاء الذين يمكنهم استخدامها. وهذا يؤثر على الجميع، ولكن أثره يكون فظيعًا على نحوٍ خاص في عالم «الأمراض النادرة أو اليتيمة» — وهي المشكلات الطبية التي لا تصيب إلا عددًا قليلًا من المرضى — لأن مجالات الطب هذه مصادرها العلمية قليلة بالفعل، وتهملها الأقسام البحثية بأغلب الشركات الدوائية؛ إذ تقل فرص الحصول على عائدٍ منها. والباحثون في مجال الأمراض النادرة غالبًا ما تكون أبحاثهم عن عقاقيرَ موجودةٍ بالفعل وسبقت تَجرِبتُها وفشلت في علاج حالاتٍ أخرى، ولكن اعتُبرت فعَّالة نظريًّا في علاج تلك الأمراض. فإذا أُخفيت بيانات الأبحاث السابقة التي أُجريت على هذه العقاقير في حالات الأمراض الأخرى، فحينئذٍ تكون مَهمةُ بحثِ استخدامِها في علاج الأمراض النادرة أكثرَ صعوبةً وأشدَّ خطورة؛ فربما تبين بالفعل أن لها فوائدَ أو آثارًا قد تساعد في تسريع الأبحاث، وربما تبين بالفعل أنها ضارةٌ بشدةٍ إذا استُخدمت في علاج أمراضٍ أخرى. وهناك مؤشرات أمان مُهمة قد تساعد في وقاية المشاركين في الأبحاث في المستقبل من الضرر. فلا أحد يمكنه أن يخبرك بذلك إذا أُخفيت نتائج تلك الأبحاث السابقة.

وأخيرًا أقول: ربما كان الأكثر جلبًا للعار، أننا حينما نترك البيانات غير المتملقة تُهمَل ولا تُنشر، فإننا بهذا نخون المرضى الذين شاركوا في هذه الدراسات، وهم الذين وهبوا أجسادهم، وربما أرواحهم في بعض الحالات، معتقدين في قرارة أنفسهم أنهم يساهمون في صُنع معرفةٍ جديدةٍ ستفيد الآخرين الذين سيكونون في نفس وضعهم في المستقبل. ولكن الواقع أن اعتقادهم هذا لا يأتي من مكنون أنفسهم، وإنما مصدره في الغالب أقوال سمعوها منَّا نحن الباحثين، وهي أقوال مكذوبة؛ لأن بيانات التجارِب التي يخضعون لها يمكن أن تُحجَب عن الناس، ونحن نعرف هذا.

فمَن المخطئ في هذا؟

(٥) أسباب إخفاء التجارِب ذات النتائج السلبية

سوف نرى بعد قليلٍ أمثلة أكثر وضوحًا لشركات أدويةٍ حَجبَت بيانات تجاربها — في قصصٍ يمكن تحديد المتورطين فيها — أحيانًا بمساعدة الجهات القائمة على رقابة الأدوية. وحينما نصل إلى تلك الأمثلة، آمل أن تثور ثائرتك. ولكن أولًا، يستحق الأمر أن تستغرق برهة في التفكير لتدرك أن تحيُّز النشر يحدث أيضًا خارج مجال تطوير العقاقير تجاريًّا، وفي مجالاتٍ أكاديمية أخرى غير ذات صلةٍ بالمرة؛ حيث يتحرك الناس فقط بدافع السُّمعة، ومصالحهم الشخصية.

في كثيرٍ من النواحي، على أي حال، يُعتبر تحيُّز النشر عمليةً بشريةً محضة؛ فإذا أَجريتَ دراسةً ولم تكن ذات نتيجة إيجابية مثيرة، فقد تستنتج على نحوٍ خاطئٍ أن تجرِبتك ليست مثيرةً لاهتمام الباحثين الآخرين. وهناك أيضًا مسألة الحوافز؛ فأهمية الأبحاث الأكاديمية غالبًا ما تُقاس، على نحوٍ غير موفَّق، من خلال وسائلِ قياسٍ فَجَّة، مثل عدد الأبحاث التي قامت بالاقتباس منها، وإمكانية نشرها في دورياتٍ علمية مرموقة واسعة الانتشار. فإذا كانت النتائج السلبية يصعب نشرها في الدوريات العلمية الأكبر والأكثر شهرة، ويقل احتمال أن يُقتبس منها من قِبل أبحاثٍ أكاديمية أخرى، فحينئذٍ يقل الدافع لنشرها. أما على الجانب الآخر، إذا كانت النتائج إيجابية، فستشعر بأنك اكتشفت شيئًا جديدًا، ويشعر كلُّ مَن حولك بالإثارة لأن نتائجك استثنائية.

ظهر أحد أبرز الأمثلة على هذه المشكلة في عام ٢٠١٠؛ إذ نشر باحث نفسي أمريكي مشهور يُدعى داريل بيم بحثًا أكاديميًّا مُحكمًا، في مجلةٍ معروفة، يُظهر أدلةً على ما يُسمَّى بالاستبصار؛ أي القدرة على استشراف المستقبل. وكانت هذه الدراسة جيدة التصميم، ونتائجها دالة إحصائيًّا، ولكن لم يكن كثيرٌ من الناس مقتنعين بها، للأسباب نفسها التي قد تجعلك أنت أيضًا غير مقتنع: إذا كان بإمكان البشر حقًّا أن يستشرفوا المستقبل، فلربما كنا قد عرفنا بهذا من قبل؛ كما أن الادعاءات غير العادية تتطلب أدلة غير عادية، وليس نتائج مفردة.

ولكن في واقع الأمر، إن هذه الدراسة قد كُررت، إلا أن النتائج الإيجابية التي حصل عليها بيم لم تتحقق ثانية؛ إذ أعادت مجموعتان — على الأقل — من الباحثين الأكاديميين إجراء العديد من تجارب بيم، مع استخدام نفس الوسائل، ولم تجد المجموعتان أي دليلٍ على ذلك الاستبصار. وأرسلت إحدى المجموعتين نتائجها السلبية إلى دورية «جورنال أوف برسوناليتي آند سوشال سايكولوجي» (وهي نفس الدورية التي نشرت بحث بيم في عام ٢٠١٠)، فرفضت الدورية نشرها رفضًا باتًّا دون تفكير، بل إن محررها صرَّح على نحوٍ مباشر قائلًا: إننا لا ننشر أبدًا دراسات تُكرِّر أبحاث الآخرين.

وهنا نرى المشكلة نفسها التي توجد في عالم الطب والدواء؛ إذ تكون النتائج الإيجابية أكثر قابليةً لأن تُنشر من النتائج السلبية. ويُنشر من حينٍ لآخر نتيجة إيجابية عجيبة تُظهر، على سبيل المثال، أن الناس يمكنهم استبصار المستقبل. من يعرف كم من علماء النفس حاول على مدى سنواتٍ أن يجد أدلةً على وجود بعض القدرات النفسية بإجراء تجارب معقَّدة تستنفد الوقت — على عشرات الأشخاص، وربما المئات — ثم لم يجد أي دليل على وجود تلك القدرات؟ وأي عالم يحاول أن ينشر مثل هذه النتيجة يكون عليه أن يناضل ليجد دورية تأخذ الأمر بجدية، وذلك في أفضل الظروف. وحتى في حال وجود الهدف الواضح من بحث بيم عن الاستبصار، والذي تمت تغطيته على نطاقٍ واسع في الصحف الإخبارية الجادة عبر أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وجدنا أن الدورية الأكاديمية التي كان لها اهتمام حديث مؤكد بمسألة الاستبصار ترفض ببساطةٍ أن تنشر بحثًا توصَّل إلى نتائج سلبية عن تلك المسألة. غير أن تكرار فحص هذه النتائج يُعَدُّ أمرًا مهمًّا — وحتى بيم قال هذا في بحثه — وهكذا الحال بالنسبة إلى نشر الأبحاث المكررة التي توصلت إلى نتائج سلبية.

سيخبرك العاملون في المعامل أنه في بعض الأحوال يمكن أن تُخفق تجرِبةٌ ما في أن تكون لها نتيجة إيجابية لمراتٍ عديدة قبل أن تُحقِّق النتيجة المنشودة منها. ماذا يعني هذا؟ أحيانًا ما تكون حالات الفشل نتاجًا لمشكلاتٍ فنية، ولكن أحيانًا ما تُعَد سياقًا إحصائيًّا بالغ الأهمية، بل وربما تُشكِّك في صحة النتيجة الرئيسية للبحث. تذكَّر أن الكثير من النتائج البحثيَّة لا يكون نتائج مطلقة، ولكن ارتباطات إحصائية هشَّة. وضمن منظومتنا الدوائية الحالية نجد أن أغلب هذه المعلومات السياقية عن الفشل تُخفى، ويكون لهذا السلوك عواقب وخيمة فيما يختص بتكلفة تكرار البحث، وذلك بطرقٍ لا تكون واضحةً على الفور؛ فمثلًا، إن الباحثين الذين يخفقون في تكرار نتيجةٍ أوليةٍ ما قد لا يعرفون ما إذا كانوا قد أخفقوا لأن النتيجة الأصلية كانت مُجرَّد ضربة حظ، وأخذت حجمًا أكبر مما تستحق، أم أنهم ارتكبوا خطأً ما في طرقهم البحثية. في واقع الأمر، إن تكلفةَ إثبات أن نتيجةً ما كانت خطأً أكبرُ بكثيرٍ من تكلفة تحقيقها في المقام الأول؛ لأنَّك في حالة إثبات الخطأ يلزمك أن تُجريَ التجرِبة لمراتٍ أكثر بكثيرٍ لكي تُثبِت «عدم وجود» نتيجة، وذلك ببساطةٍ بسبب الطريقة التي تعمل بها الإحصائيات المستخدَمة لاكتشاف الآثار الضعيفة، كما يكون لزامًا عليك أن تتأكد تمامًا أنَّك استبعدت جميع المشكلات الفنية، وذلك لكي تتحاشى رد الفعل السيئ من جانب الآخرين إذا تبيَّن أن تجربتك لم تكن بالكفاءة المطلوبة. وهذه الحواجز التي تَحُول دون تفنيد التجارِب قد تُفسر جزئيًّا السبب في السهولة الشديدة لأنْ يُفلِت المرء من المحاسبة إذا نَشر بعض النتائج ثم تبيَّن خطؤها لاحقًا.31
إنَّ تحيُّز النشر ليس مجرد مشكلةٍ في أركان البحث النفسي الأكثر تجردًا؛ ففي عام ٢٠١٢، أوضحتْ مجموعة من الباحثين في دورية «نيتشر» كيف حاولوا أن يُكرروا ثلاثًا وخمسين دراسةً معملية مبكرة لعلاجات مبشرة للسرطان، ولم يتمكنوا من تكرار سبعٍ وأربعين نتيجة منها.32 وهذه الدراسة في حد ذاتها تنطوي على معانٍ ضمنية خطيرة فيما يتعلق باستحداث عقاقير في عالم الطب والدواء؛ لأن تلك النتائج غير القابلة للتكرار ليست ببساطةٍ مجردَ قضيةٍ أكاديمية مجردة، بل إن الباحثين يبنون نظرياتهم على أساسها، ويثقون أنها صحيحة، ويستقصون الفكرة نفسها مستخدمين طرقًا بحثيةً أخرى. فإذا كانوا ببساطةٍ يتعرضون للخداع، ويعتمدون على أخطاءٍ حدثت بالمصادفة، فحينئذٍ تكون قد أُهدرت أموال طائلة وجهود مضنية مخصصة للبحث، وبهذا أيضًا تتعطل على نحوٍ خطيرٍ مسيرةُ اكتشاف علاجاتٍ طبية جديدة.

كان القائمون على تلك الدراسة صُرَحاء فيما يتعلق بسبب هذه المشكلة وحلها، فذكروا أن النتائج الإيجابية التي تتحقق بمحض المصادفة غالبًا ما تكون أكثر قابليةً لتقديمها للدوريات العلمية لكي تُنشر، وكذلك أكثر قابليةً للنشر من النتائج السلبية المملة. ومن هنا يتضح أنه لزامًا علينا أن نُعطيَ المزيد من الحوافز للباحثين لكي يَنشروا النتائج السلبية، كما يجب أيضًا أن نمنحهم المزيد من الفرص.

وهذا يعني ضرورة تغيير سلوك الدوريات الأكاديمية، وهنا تُواجهنا مشكلة؛ فرغم أن محرري تلك الدوريات غالبًا ما يكونون هم أنفسهم من الأكاديميين، فإن لديهم اهتماماتهم وتوجُّهاتهم الشخصية؛ مما يجعلهم أكثر شبهًا بالصحفيين ومحرري الصحف العاديين، وإن كان بعضهم لا يرغب في الاعتراف بذلك، وهذا ما تكشف عنه تجرِبة الاستبصار السابق ذكرها بوضوحٍ شديد. وما زالت مسألة ما إذا كانت مثل هذه الدوريات تُعَد طريقةً مقبولة لتوصيل الأبحاث العلمية للقراء مطروحة للنقاش في البيئة الأكاديمية، ولكن هذا على أي حال هو الوضع الحالي؛ فالدوريات هي التي تتخذ القرارات فيما يعتبرونه مناسبًا ومثيرًا لقرائهم الذين يتنافسون من أجل استقطابهم.

وهذا يمكن أن يجعلَهم يسلكون طرقًا تتعارض مع مصلحة العلم؛ لأن رغبة كل دورية في تقديم محتوى مُشوِّق ونابض بالحياة قد تتعارض مع الحاجة الجماعية لتقديم صورةٍ شاملة للأدلة العلمية. وفي عالم الصحافة الإخبارية، هناك قول مأثور: «إذا عضَّ كلبٌ رَجلًا، فليس هذا خبرًا، ولكن إذا عض رَجلٌ كلبًا، فهذا خبر.» وهذه الأحكام عن مدى جدارة الخبر بالنشر في وسائل الإعلام السائدة قد عُبِّر عنها كميًّا؛ فعلى سبيل المثال، أُجريت دراسة في عام ٢٠٠٣ تركزت على تغطية أخبار الصحة في بي بي سي على مدى شهور عدة، وأحصت عدد الأشخاص الذين يجب أن يموتوا لسببٍ معين حتى يذاع خبر عن الموضوع، وتبيَّن أن ٨٥٧١ شخصًا ماتوا بسبب التدخين قبل أن تذيع المحطة خبرًا عن التدخين، بينما أُذيعت ثلاثة أخبار لكل حالة وفاةٍ نجمت عن سلالةٍ جديدة من مرض جنون البقر.33 وكانت هناك دراسة قبلها في عام ١٩٩٢ عن تغطية وسائل الإعلام المقروءة لحالات الوفَيَات بسبب العقاقير، ووجدت أنه كان يتعين أنْ يموت ٢٦٥ شخصًا من التسمُّم بالباراسيتامول مقابل كل خبر ينشر في جريدة عن هذا النوع من الوفَيَات، بينما وجدت أن كل حالة وفاةٍ بسبب عقاقير الإكستاسي (أو عقاقير النشوة) حَظِيَت في المتوسط بخبر واحد.34

لو كان ثَمَّةَ أحكام مماثلة تؤثر في محتوى الدوريات الأكاديمية، لكان لدينا حينئذٍ مشكلة حقيقية. ولكن هل يمكن حقًّا أن تُعتبر الدوريات الأكاديمية العائق الذي يَحُول دون وصول الأطباء والأكاديميين إلى نتائج التجارِب غير المتحيزة المتعلقة بأمان العقاقير التي يستخدمونها وفاعليتها؟ هذا الطرح كثيرًا ما تتبناه شركات الأدوية، والباحثون أيضًا كثيرًا ما يُلقُون بوجهٍ عام باللائمة على الدوريات لرفض نشر الدراسات ذات النتائج السلبية. ولحسن الحظ أن هذا كان موضوعًا لبعض الأبحاث التي خلصت إلى أن الدوريات رغم أنها ليست مُبرَّأة من اللَّوم في هذا الإطار، فمن الصَّعب أيضًا الادِّعاء بأنها السبب الرئيسي لهذه المشكلة الخطيرة المتعلقة بالصحة العامة، لا سيما أن هناك دورياتٍ أكاديميةً بكاملها مُكرَّسة لنشر التجارِب الإكلينيكية، وملتزمة بنشر النتائج السلبية.

ولكن من أجل الإنصاف، وسعيًا للكمال، ولأن شركات الأدوية والباحثين مُصِرُّون على إلقاء اللائمة على الدوريات الأكاديمية، فدعنا نفحص ما إذا كان ذلك الادِّعاء حقيقيًّا أم لا.

سأل أحد الاستبيانات من أجرَوْا أبحاثًا غير منشورةٍ عما إذا كانوا قد قدموها لإحدى الدوريات العلمية كي يتم نشرها أم لا. وتبيَّن وجود مائةٍ وأربعة وعشرين بحثًا لم يُنشر، وذلك عن طريق تتبُّع كل الأبحاث التي اعتُمدت مِن قِبل لجان الأخلاقيات الطبية الأمريكية، وحينما اتصل الباحثون بالفِرق التي كانت وراء الأبحاث غير المنشورة، اكتشفوا أن هناك ستة أبحاث فحسب قُدمت للنشر ورُفضت.35 ربما تقول إنه اكتشاف استثنائي؛ لذا أقول لك إن هناك أسلوبًا آخر يتمثل في تتبُّع جميع الأبحاث التي تُقدَّم لإحدى الدوريات لمعرفة ما إذا كانت الأبحاث التي نتائجها سلبية تُرفض أكثر من غيرها أم لا. وحينما جُرب هذا الأسلوب بدا أن الدوريات لا تستحق اللَّوم؛ إذ جرى تتبُّع ٧٤٥ نسخة مخطوطة سُلِّمَت إلى دورية «جورنال أوف ذي أمريكان مديكال أسوسييشن» (جيه إيه إم إيه)، فلم يَجد الباحثون أيَّ فارق في معدل القَبول بين النتائج الدالة وغير الدالة إحصائيًّا.36 وجُرب الأسلوب نفسه مع الأبحاث المقدَّمة لدوريات «بي إم جيه» و«ذا لانست» و«آنالز أوف إنترنال مديسين» و«جورنال أوف بون آند جوينت سيرجري».37 مرةً أخرى، لم يجدوا أيَّ فارق. وجادل البعض بأن الأكاديميين لو كانوا يعرفون أن النسخ المخطوطة التي بها نتائج سلبية ينبغي أن تكون ذات جودةٍ أعلى قبل تقديمها حتى تتجاوز تحيُّزات المحررين، فإن هذا رُبما لا يزال يُعَد دليلًا على وجود تحيُّز في النشر. ومن المحتمل أيضًا أن محرري الدوريات كانوا يتصرفون بأمانةٍ عندما عرفوا أن هناك أعيُنًا تراقبهم، وإن كان من الصعب عليهم أن يغيروا ما اعتادوا عليه من أسلوبٍ في النشر — من أجل مثل هذه الدراسات.

وقد تضمنت تلك الدراسات ملاحظة ما يحدث في الممارسة العادية. وهناك خيار آخر أخير يتمثل في إجراء تجرِبةٍ بإرسال الأبحاث نفسها إلى دورياتٍ مختلفة، مع تغيير اتجاه النتائج بنحوٍ عشوائي؛ لنرى ما إذا كان هذا يُؤدِّي إلى أي فارقٍ في معدلات قَبول الدوريات للأبحاث. وهذا الأسلوب لا يصلح أن تنفذه كثيرًا لأنه يُهدر الكثير من الوقت، ولكن بالنظر إلى أهمية مُشكلة تحيُّز النشر يمكننا أن نعتبره إجراءً مبرَّرًا في حالاتٍ قليلة.

وفي عام ١٩٩٠، ابتكر باحث يُدعى إبستين سلسلةً من الأبحاث الزائفة التي تتماثل في طرقها البحثية وأسلوب عرضها، وتختلف فقط فيما إذا كانت قد أسفرت عن نتائجَ إيجابيةٍ أم سلبية. وأرسلها عشوائيًّا إلى ١٤٦ دورية متخصصة في مجال العمل الاجتماعي، وقُبلت الأبحاث ذات النتائج الإيجابية في ٣٥ بالمائة من المرات والسلبية في ٢٦ بالمائة من المرات، وهو فارق ليس كبيرًا لدرجةٍ تكفي لاعتباره دالًّا من الناحية الإحصائية.38
كما استَخدمت دراساتٌ أخرى أسلوبًا مماثلًا، ولكن على نطاقٍ أضيق، مع عدم تقديم البحث إلى الدورية، ولكنها نفَّذته بمساعدتها؛ حيث أُرسلت أبحاث أكاديمية زائفة لكي تُفحص باستخدام أسلوب مراجعة الأقران؛ الذي تُكلَّف فيه مجموعة من الباحثين بمراجعة الأبحاث وإعطاء قرارٍ استشاري، فيما يتعلق بنشرها، للمحررين؛ مما يفتح نافذةً مفيدة لمعرفة سلوكهم. وكانت لهذه الدراسات نتائج أكثر اختلاطًا؛ ففي إحداها، والتي تعود لعام ١٩٧٧، أُرسلت أبحاث زائفة — طرقها متماثلة ونتائجها مختلفة — إلى خمسة وسبعين مراجعًا، واكتشفت هذه الدراسة وجود تحيُّز من جانب المراجعين ضد النتائج التي لا تتفق مع آرائهم الشخصية.39
وأُجريت دراسة أخرى في عام ١٩٩٤ لملاحظة ردود أفعال المراجعين تجاه بحثٍ عن الأجهزة المستخدَمة في التحفيز الكهربائي للأعصاب عبر الجلد، وهي أجهزة تُباع بغرض تخفيف الآلام، ومُثارٌ حولها جدلٌ كبير. ورصدت الدراسة تحيُّز ثلاثة وثلاثين مراجعًا لصالح هذه الأجهزة أو ضدها، وتبيَّن مجددًا أن أحكامهم بشأن البحث كانت ترتبط على نحوٍ كبير بآرائهم السابقة حول الأمر (رغم أنها كانت دراسة صغيرة ومحدودة).40 وفعلت دراسة ثالثة الشيء نفسه حيال أبحاثٍ حول علاجاتٍ زائفة، فوجدت أن اتجاه النتائج ليس له تأثير على قرار المراجعين العاملين مع الدوريات الطبية السائدة فيما يخص ما يُنشر منها وما لا يُنشر.41
وهناك تجرِبة عشوائية أخيرة أُجريت عام ٢٠١٠ على نطاقٍ واسع لمعرفة ما إذا كان المراجعون يرفضون حقًّا الأفكار بناءً على معتقداتهم السابقة (وهذا مؤشر جيد على ما إذا كانت الدوريات تتحيز مع النتائج أو ضدها، في حين أنها يجب أن تركز ببساطةٍ على ما إذا كانت الدراسة صُممت وأُجريت على نحوٍ سليم). فأُرسلت أبحاث مُفبركة إلى ما يربو على مائتي مراجع، وكانت جميعها متماثلة، باستثناء النتائج التي زعموها. وكانت النتيجةُ مُوافَقةَ نصف المراجعين على الأبحاث التي لها نتائج تروق لهم، وموافَقةَ النصف الآخر على النتائج التي لم تَرُقْ لهم. وتبيَّن أن المراجعين كانوا أكثر قابليةً لأن يوصوا بالنشر إذا تلقَّوا النسخة المخطوطة التي لها نتائج تعجبهم (٩٧ بالمائة مقابل ٨٠ بالمائة)، وكانوا أكثر قابليةً لتصيُّد الأخطاء في نسخةٍ لها نتائج لم تعجبهم، وأعطَوْا درجاتٍ أعلى للطرق البحثية في الأبحاث التي لها نتائج أعجبتهم.42
ومع ذلك، بوجهٍ عام، حتى لو كانت هُناك مشكلات في بعض المجالات، فإن هذه النتائج لا تقول إن الدوريات هي السبب الرئيسي لمشكلة إخفاء نتائج التجارِب السلبية؛ ففي التجارِب التي يُعزل فيها المراجعون، كان أولئك المُحَكِّمون لديهم تحيُّز في بعض الدراسات، ولكنهم ليست لهم الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالنشر. وفي جميع الدراسات التي تنظر فيما يحدث في عالم الواقع للأبحاث ذات النتائج السلبية التي تُقدَّم للدوريات، تشير الأدلة إلى أنها تصل إلى مرحلة النشر دون مشكلات. قد لا تكون الدوريات بريئةً بالكامل على أي حال. ويُقدِّم كتاب «المشكلة في الدوريات الطبية»، بقلم ريتشارد سميث، المحرر السابق لدورية «بي إم جيه»، عرضًا ممتازًا لأخطاء تلك الدوريات،43 وسوف ترى فيما بعدُ كيف تفشل في ضبط الأخطاء البسيطة والمهمة في الدراسات. ولكن من الخطأ أن نُلقيَ باللائمة عليها بالكامل فيما يختص بتحيُّز النشر.
وفي ضوء كل هذا، نجد أن البيانات المتعلقة بما يقوله الباحثون عن سلوكهم الشخصي كاشفة جدًّا؛ إذ قالوا في استبياناتٍ مختلفة إنهم كانوا يظنون أنه لا جدوى من تقديم أبحاثٍ ذات نتائج سلبية للدوريات كي تنشرها؛ لأنها سترفضها ببساطة، وهذا ما قاله ٢٠ بالمائة من الباحثين الطبيين في بحثٍ في عام ١٩٩٨،44 وقاله ٦١ بالمائة من باحثي علم النفس والتعليم في بحثٍ في عام ١٩٩١،45 وغير ذلك.46 وإذا سُئل الباحثون عن أسباب عدم إرسالهم أبحاثَهم للنشر، فأكثر الأسباب شيوعًا هي النتائج السلبية أو قلة الاهتمام أو ضيق الوقت.

هذا هو الجانب الأكثر تجردًا للعالم الأكاديمي، والذي يبتعد كثيرًا عن العالم المباشر للتجارب الإكلينيكية، ولكن يبدو أن الأكاديميين يُخطئون في أحسن الأحوال بشأن الأسباب التي تؤدي إلى إغفال النتائج السلبية؛ فربما تضع الدوريات بعض الحواجز حيال نشر النتائج السلبية، ولكنها قلَّما تكون مُطلقة، ويكمن جانب كبير من المشكلة في دوافع الأكاديميين ومعتقداتهم.

والأكثر من هذا أنه في السنوات الأخيرة، في حقبةٍ بدأت تنفتح فيها الدوريات الأكاديمية بحيث أمكن الوصول إلى محتواها بسهولة، صار هناك العديد من الدوريات مثل دورية «ترايالز» التي يمكن الوصول إلى محتواها مجانًا، والتي لديها سياسة تحريرية تجعلها تقبل أيَّ تجارب، بصرف النظر عن نتائجها، بل وتُرحِّب بالنتائج السلبية. كما أن سِجلات التجارِب مثل موقع clinicaltrials.gov تعرض النتائج. وفي ظل كل هذا، من الصعب جدًّا أن نُصدِّق أن من يريد نشر نتائج تجربته السلبية سيُجابِه العقباتِ بِحق. ورغم ذلك، لا تزال النتائج السلبية تتعرَّض للإغفال؛ حيث تعمل الشركات المتعددة الجنسيات ببساطةٍ على حجْب النتائج السلبية المتعلقة بعقاقيرها، رغم أن الأكاديميين والأطباء يرغبون بشدةٍ في الاطلاع عليها.

وقد تتساءل — مُحقًّا — عمَّا إذا كان هناك أناس يُفترض أن يمنعوا حجب هذا النوع من البيانات، مثل الجامعات التي تُجرى فيها الأبحاث، أو مراقبي الأدوية، أو «لجان الأخلاقيات الطبية» المنوطة بها حماية المرضى المشاركين في الأبحاث. لسوء الحظ، إن قصتنا توشك أن تتحوَّل لسرد الجانب المظلم فيها، وسنرى أن كثيرًا من الأشخاص والجهات التي ننتظر منها أن تَحميَ المرضى من الأضرار الناجمة عن إغفال البيانات قد تَنكَّرت لمسئولياتها، والأسوأ من هذا — كما سنرى — أن الكثير منها قد تآمر مع الشركات لحجب البيانات عن المرضى. إننا على وشك عرض مشكلاتٍ كبيرة، وقصص أناسٍ أشرار، وبعض الحلول البسيطة أيضًا.

(٦) كيف خذلتنا لجان الأخلاقيات الطبية والجامعات؟

والآن، آمل أن تكون قد شاركتني الرأي في أن حجب نتائج التجارِب الإكلينيكية أمر غير أخلاقي، لسببٍ بسيط؛ هو أن ذلك يُعرِّض المرضى المشاركين في التجارِب لأضرار لا لزوم لها ويُمكن تجنُّبها. إلا أن الانتهاكات الأخلاقية هنا تتجاوز الضرر البسيط الذي يمكن أن يلحق بمثل هؤلاء المرضى في المستقبل.

يشارك المرضى وغيرهم من الأشخاص في التجارِب الإكلينيكية دافعين في سبيل ذلك ثمنًا فادحًا؛ إذ يُعرِّضون أنفسهم للإزعاج والتورُّط فيما لا قِبَل لهم به؛ فالتجارِب الإكلينيكية تتطلب في كل الحالات تقريبًا أن يُجرى لهم المزيد من الفحوص الطبية العامة للاطمئنان على ما يحدث من تقدُّم في حالاتهم، والمزيد من تحاليل الدم، والمزيد من الاختبارات، بل إنهم قد يُعرِّضون أنفسهم أيضًا للمزيد من المخاطرة، أو لاحتمال أن يتلقَّوْا علاجًا رديئًا. وهم يفعلون هذا بدافع من الإيثار والتضحية من منطلق إدراكهم الضمني أن نتائج تلك التجارِب سوف تُسهم في تحسين معرفتنا بالعلاجات النافعة وغير النافعة؛ مما قد يفيد مرضى آخرين في المستقبل. في واقع الأمر إن هذا الفهم ليس ضمنيًّا فحسب، بل يكون في كثيرٍ من التجارِب بيِّنًا جليًّا؛ إذ يخبر الباحثون المرضى حينما يوقِّعون بالموافقة على مشاركتهم في التجارِب بأن بياناتهم سوف تُستخدم من أجل اتخاذ قراراتٍ صائبةٍ في المستقبل. ولكن إذا كان هذا الكلام غير صحيح، وكان بالإمكان حجب البيانات، حسبما يهوى الباحث أو شركة الأدوية، فحينئذٍ يكون المرضى قد كُذِب عليهم عن قصد. وهذا أمر مُحزن للغاية.

السؤال الآن: ما شكل الاتفاقات الرسمية التي تُوقَّع بين المرضى والباحثين والراعِين للتجارب؟ إذا كان ثَمة منطق عقلاني يحكم العالم، فإننا نتوقع أن تكون هناك عقود عامة تُوضِّح بجلاءٍ أن جميع الباحثين مجبرون على أنْ ينشروا نتائجهم، وأن رُعاة التجارِب من شركات الأدوية — الذين يهتمون كثيرًا بالنتائج الإيجابية التي توافق هواهم وتأتي لصالحهم — يجب ألا يكون لهم أي سلطة على بيانات التجارِب. ولكن رغم كل شيءٍ نعرفه فيما يتعلق بالتحيُّز المنهجي للأبحاث المُموَّلة من قِبل شركات الأدوية، فإن هذا لا يحدث. بل في واقع الأمر إن العكس تمامًا هو الذي يحدث؛ فمن المعتاد جدًّا أن يُوَقِّع الباحثون والأكاديميون الذين يُجرُون تجارب تُموِّلها شركات الأدوية عقودًا تتضمَّن بنودًا خاصة بعدم الإفصاح والحفاظ على سرية البيانات تحظر عليهم أن ينشروا أو يناقشوا أو يحللوا أي بياناتٍ خاصة بالتجارِب التي يُجرُونها إلا بإذنٍ من الجهة المُموِّلة. وهذا يُعدُّ موقفًا تعتيميًّا مُخزيًا، بحيث تُعتبر حتى محاولة توثيقه علانيةً عملًا محفوفًا بالمخاطر، وذلك كما سنرى الآن.

في عام ٢٠٠٦، نُشرت دراسة في دورية «جيه إيه إم إيه» تصف كيف كان من الشَّائع أن يتعرَّض الباحثون الذين يُجرُون تجارب مُموَّلة من الصناعة الدوائية لمثل هذه القيود التي تُفرض على حقهم في نشر النتائج.47 وقد أجرى هذه الدراسة مركز كوكرين الإسكندنافي للنظر في جميع التجارِب التي حَظِيَت بالموافقة على إجرائها في كوبنهاجن وفريدريكسبرج. (وإذا كنت تتساءل لماذا اخْتِيرت هاتان المدينتان خصوصًا، نقول إن هذا راجع للسماح لهم هناك بالوصول إلى البيانات التي يريدونها في ظل التعتيم الغريب الذي يسود هذا العالم، علمًا بأنهم قَدَّموا طلباتٍ لإجراء تجاربهم في أماكن أخرى من بينها المملكة المتحدة لكن دون جدوى.)48 وقد مُوِّلت هذه التجارِب بدرجةٍ كبيرة مِن قِبل الصناعة الدوائية (بنسبة ٩٨ بالمائة)، ويمكننا أن نصف القواعد التي تحكم التعامل مع النتائج بأنها قواعد إما مريعة أو سخيفة.

في ستَّ عشْرةَ تجرِبةً من التجارِب الأربع والأربعين، أقدمت الشركة الراعية على الاطِّلاع على البيانات بينما أخذت تتراكم، كما كان من حقها في ستَّ عشْرةَ تجرِبةً أخرى أن تُوقِف التجرِبة في أي وقتٍ ولأي سبب. وهذا يعني أن الشركة يُمكنها أن ترى ما إذا كانت التجرِبة تسير في اتجاهٍ يخالف مصلحتها وبإمكانها التدخُّل لوقفها. وكما سنرى فيما بعدُ (في القسمين الخاصين بالوقف المبكر للتجارب وانتهاك البروتوكولات البحثية في الفصل الرابع)، هذا يُشوِّه نتائج التجرِبة بممارساتٍ متحيزة خفية وغير ضرورية؛ فعلى سبيل المثال، إذا أَوقفتَ إحدى التجارِب في مرحلةٍ مبكرة من إجرائها لأنك تتابع نتائجها الأوَّلية، فحينئذٍ يكون بإمكانك إما أن تبالغ في إظهار فائدة العقَّار رغم أنها متواضعة، وإما أن تُخفيَ نتيجةً سلبيةً تكشف عن وجود ضررٍ في العقَّار. ومن المهم أن أذكر أن حقيقة أن الشركة الراعية لديها هذه الفرصة في التدخُّل والتحيُّز لم يَرد ذِكرُها في أي أبحاثٍ أكاديمية منشورة عن نتائج هذه التجارِب؛ ومن ثَمَّ لم يكن بإمكان أي شخصٍ يقرأ هذه الأبحاث أن يعرف أنها كانت عُرضةً عن قصدٍ لهذا العيب الخطير.

وحتى لو تُركت الدراسة حتى تنتهيَ بصورةٍ طبيعية، فما زال بإمكان الشركة الراعية منع نشر بياناتها؛ فقد كانت هناك قيود على حقوق النشر في أربعين من بين الأربع والأربعين تجرِبة، وفي نصفها نصَّت العقود بالتحديد على أن راعيَ التجارِب إما يمتلك بياناتها بالكامل، (قد تتساءل: ماذا عن المرضى؟) وإما يجب الحصول على موافقته على نشرها، أو الأمران معًا. ولم يُذكر أيٌّ من هذه القيود في أيٍّ من الأبحاث المنشورة، بل في الواقع لم يُذكر في أيٍّ من البروتوكولات أو الأوراق البحثية أن الراعيَ يمتلك جميع البيانات المتعلقة بالتجارِب أو أن لديه الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بنشرها.

ويستحق الأمر أن نفكر لبرهةٍ فيما يعنيه هذا. إنه يعني أن نتائج هذه التجارِب جميعها كانت خاضعةً لتحيُّزٍ سيُشوِّه الأبحاث الأكاديمية بدرجةٍ كبيرة؛ لأن التجارِب التي تبشر بنتائج سلبية (أو تلك التي تُسفر عن نتائج سلبية بالفعل) يمكن حذفها من السِّجل الأكاديمي، ولكن لا أحد يقرأ هذه التجارِب يمكن أن يكون عالمًا بوجود هذه الإمكانية الرقابية.

نُشر البحث الذي تحدثت عنه توًّا في دورية «جيه إيه إم إيه»، وهي واحدة من كبرى الدوريات الطبية في العالم. وبعد فترةٍ قصيرة، ظهر بحث صادم عن تدخُّلات الصناعة الدوائية في دورية «بي إم جيه».49 تفاعلت الجمعية الدنماركية للصناعة الدوائية مع هذا البحث بأن أعلنت في دورية «جورنال أوف ذا دانيش مديكال أسوسييشن» أنَّها «شعرت بالصدمة والغضب الشديد جرَّاء هذا النقد الذي لا يمكن التحقُّق من صحته.» وطالبت بالتحقيق مع القائمين على البحث، ولكنَّها أخفقت في تحديد من سيُحقَّق معهم، أو ما سيُحقَّق معهم بشأنه. ثم أرسلت خطابًا إلى اللجنة الدنماركية المعنية بالإخلال بالأمانة العلمية، مُتهِمة باحثي كوكرين بسوء السلوك العلمي. لم نستطع الاطِّلاع على الرسالة، ولكنَّ باحثي كوكرين قالوا إن الاتهامات كانت خطيرةً للغاية — إذ اتُّهِموا بالتشويه المتعمَّد للبيانات — ولكنَّها غامضة ولا توجد أي وثائق أو أدلة تدعمها.

إلا أن التحقيق استمر لمدة عام لأن الأكاديميين يُفضِّلون أن يفعلوا الأشياء على نحوٍ سليم، ويفترضون في جميع الشكاوى حسن النية. وقد أخبر بيتر جوتشه — مدير مركز كوكرين — دورية «بي إم جيه» أن خطاب الجمعية الثالث بعد عشرة شهور من هذه العملية هو الوحيد الذي ذكر اتهاماتٍ محددةً يمكن أن تُحقِّق فيها اللجنة. وبعد ذلك بشهرين رُفضت التُّهم؛ إذ لم يرتكب باحثو كوكرين أي خطأ. ولكن قبل تبرئة ساحتهم أرسلت الجمعية نُسخًا من الخطابات التي تتضمَّن الاتهامات بالإخلال بالأمانة العلمية إلى المستشفى الذي كان يعمل به أربعة منهم، وإلى الجهة التي تديرها، وأرسلت خطاباتٍ مماثلةً إلى الجمعية الطبية الدنماركية، ووزارتَي الصحة والعلوم الدنماركيتين، وغيرها. وقال جوتشه وزملاؤه إنهم عانَوا الكثير جرَّاء هذه التصرفات، واستمرت الجمعية في إصرارها على اتهام الباحثين بسوء السُّلوك العلمي حتى بعد انتهاء التحقيق معهم؛ ومن ثَمَّ، فإن إجراء الأبحاث في هذا المجال ليس بالأمر الهيِّن؛ فمن الصعب أن يحصل الباحثون على تمويل، وستُصعِّب عليهم شركات الأدوية الأمورَ بشدةٍ وتجعلهم يذوقون الأمرَّيْن.

وبالرغم من أن المشكلة معروفة على نطاقٍ واسع، فقد فشلت محاولات حلها؛50 فعلى سبيل المثال، أعلنت اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية في عام ٢٠٠١ أن الباحث الرئيسي لأي دراسةٍ تنشرها يجب أن يُوقِّع على وثيقةٍ تنصُّ على أن الباحثين لديهم الحق الكامل في الوصول إلى البيانات، وأنهم يتحكمون بنحوٍ كامل في قرار نشرها. وبعد ذلك، فحص باحثون بجامعة ديوك، بولاية نورث كارولينا العقود التي تُبرم يبن الكليات الطبية وشركات الأدوية الراعية للأبحاث، ووجدوا أن توصية اللجنة كان يتم التعامل معها على نحوٍ روتيني، غير جِدِّي. وأَوصَوْا بعمل عقودٍ واضحةٍ تحكم العلاقة بين الصناعة الدوائية والمؤسسات الأكاديمية؛ فهل طُبِّقت هذه التوصية؟ الجواب: لا، ولا يزال مُموِّلو الأبحاث يتحكمون في البيانات كما يشاءون.
وبعد ذلك بخمس سنوات، أُجريت دراسة كبيرة ظهرت في دورية «نيو إنجلاند جورنال أوف مديسين» لمعرفة ما إذا كان أيُّ شيءٍ قد تغيَّر في هذا الشأن.51 وسأل الباحثون المسئولين الإداريين في جميع الكليات الطبية الأمريكية المعتمدة التي يبلغ عددها ١٢٢ كلية عن العقود التي أبرموها مع رعاة الأبحاث (وتوضيحًا للأمور، أقول إنها لم تكن دراسةً تتعلق بما فعله هؤلاء، ولكنَّها تختص بما كانوا مستعدين لقوله على الملأ فيما يتعلق بهذا الأمر). وقالت غالبيتهم إن المفاوضات التي جرت بشأن حق نشر البيانات كانت «صعبة». وقال ٦٢ بالمائة منهم إنه لا بأس أن يكون الاتفاق بين الأكاديميين والشركة الممولة للتجرِبة سريًّا. وهذه مُشكلة خطيرة؛ فهي تعني أن أي شخصٍ يقرأ دراسةً ما لا يمكنه أن يعرف مقدار ما أُتيح لراعيها من تدخُّل فيها، وهي معلومة مهمة للشخص الذي يقرأ البحث ويُفسِّره. كما أن نصف المراكز الطبية سمحت للراعي بأن يضع مسَوَّدةَ البحث، وهي مشكلة أخرى خفيَّة تتسم بالأهمية في عالم الطب والدواء؛ إذ يمكن في الخفاء أن يُدخل في البحث تحيُّزات وتأكيدات على أمورٍ بعينها (وذلك كما سنرى بتفصيلٍ أكثر في الفصل السادس). وقال نصف أولئك الإداريين إنه لا بأس من أن تَحْرِم العقودُ الباحثين من مشاركة البيانات بعد انتهاء البحث ونشره؛ مما يُؤدِّي مجدَّدًا إلى إعاقة البحث العلمي. وقال رُبعهم إنه من المقبول أن يدرج الممول تحليلاته الإحصائية في مخطوطة البحث. وحينما سُئلوا عن خلافات ونزاعات، قال ١٧ بالمائة منهم إنه رأى نزاعًا في العام السابق حول ملكية البيانات والوصول إليها.
وأحيانًا ما تُسبِّب الخلافات والنزاعات بشأن الوصول إلى تلك البيانات مُشكلاتٍ خطيرةً في الأقسام الأكاديمية، حينما يكون هناك اختلاف في وجهات النظر فيما يتعلق بما هو أخلاقي. على سبيل المثال، كان أوبري بلومسون محاضرًا كبيرًا بجامعة شيفيلد، ويعمل في مشروعٍ تُموِّله شركة بروكتر آند جامبل لإجراء بحثٍ عن عقَّارٍ لعلاج هشاشة العظام يُسمَّى ريسيدرونات.52 وكان الهدف من المشروع تحليلَ عينات دمٍ وبولٍ من تجرِبةٍ سابقةٍ قادها رئيس القسم الذي يعمل به بلومسون، وهو البروفيسور ريتشارد إيستل. وبعد توقيع العقود أرسلت الشركة بعض الملخصات المختصرة لنتائج البحث، مع ذكر اسم بلومسون بصفته الباحثَ الرئيسي، وبعض جداول النتائج التلخيصية. قال بلومسون: إن هذا رائع، ولكني أنا الباحث هنا، وأريد أن أرى البيانات الأساسية الفعلية وأحللها بنفسي. فرفضت الشركة قائلةً إن هذه ليست السياسة التي تتبعها، فأصرَّ بلومسون على رأيه، فلم يُنشر البحث. ولكن وجد بلومسون أن إيستل نشر بحثًا آخر مع تلك الشركة، وذُكر فيه أن جميع الباحثين «كان لديهم الحق الكامل في الوصول إلى البيانات وتحليلها.» فاحتج لأنه كان يعلم أن ذلك ليس بصحيح. وما كان من جامعة شيفيلد إلا أن أوقفتْه عن العمل وجعلتْه يُوقِّع على عقدٍ يتعهَّد فيه بعدم الإفصاح عن البيانات الخاصة بالعمل مع مبلغ ١٤٥ ألف جنيهٍ إسترليني، وبعد ذلك فصلتْه من العمل نهائيًّا. وفي الوقت نفسه تعرَّض إيستل للنقد من جانب المجلس الطبي العام، ولكن هذا لم يحدث إلا بعد فترةٍ طويلةٍ بلغتْ عدة سنوات، وهو ما زال في منصبه ولم يُفصل.

وهكذا فإن العقود التي تسمح للشركات والباحثين بحجب البيانات أو السيطرة عليها تُعدُّ أمرًا شائعًا، وهذا شيء مُحزن حقًّا. ولكن هذا ليس فقط لأنها تجعل الأطباء والمرضى يُخدعون بشأن ما هو فعَّال من العلاجات، بل لأنه أيضًا ينتهك عقدًا آخر بالغ الأهمية، ألا وهو الاتفاق بين الباحثين والمرضى المشاركين في تجاربهم.

يشارك المرضى في التجارِب مُعتقدين أن نتائجها سوف تُساعد في تحسين نوعية العلاج التي سيحظى بها مرضى آخرون مثلهم في المستقبل. وهذه المقولة ليست من قبيل التخمين؛ فقد وجدت إحدى الدراسات القليلة التي خُصِّصَت لسؤال المرضى عن السبب الذي جعلهم يُشاركون في التجارِب أن ٩٠ بالمائة منهم كانوا يعتقدون أنَّهم يُقدِّمون إسهامًا «كبيرًا» أو «معقولًا» للمجتمع الإنساني، بينما شعر ٨٥ بالمائة منهم بالفخر لأنهم يُقدِّمون هذا الإسهام.53 أنا لا أقول إن المرضى أغبياء أو سُذَّج في اعتقادهم هذا؛ ذلك لأن هذا هو ما يُقال لهم ويُكتب في استمارات الموافقة التي يُوقِّعونها قبل مشاركتهم في التجارِب. ولكنَّهم مُخطئون لأن نتائج التجارِب كثيرًا ما تُترَك دون نشرٍ وتُحجَب عن الأطباء والمرضى؛ ومن ثَمَّ فإن استمارات الموافقة هذه تُضلل الناس في نقطتين مهمتين للغاية؛ أولاهما، أنها لا تقول الحقيقة المتمثلة في أن الشخص الذي يُجري التجرِبة أو الشخص الذي يُموِّلها قد يُقرِّر ألا ينشر نتائجها، وذلك حسب شكل تلك النتائج في نهاية الدراسة. والأسوأ من هذا أنهم أيضًا وبصراحةٍ يُقرُّون كذبةً ما؛ إذ يُخبِر الباحثون المرضى بأنهم يشاركون في التجرِبة لخلق معرفة ستُستخدم في تحسين أسلوب العلاج في المستقبل، رغم أن الباحثين يعلمون أن تلك النتائج في كثيرٍ من الحالات لن تُنشَر أبدًا.

وثَمَّةَ استنتاج واحد فقط يُمكننا استخلاصه من هذا، وهو أن استمارات الموافقة تكذب على نحوٍ روتينيٍّ على المرضى المشاركين في التجارِب. وهذا أمر غريب، يزيد من غرابته الكم الهائل من الأمور الروتينية الرسمية التي يجب أن يتفاوض بشأنها كلُّ مَن ينخرط في إحدى التجارِب؛ إذ يتتبع عددًا لا حصر له من الأوراق التي تُشبه الألغاز، ويتأكد من أن المرضى قد أُبلغوا تمامًا بتفاصيل علاجاتهم. ورغم كل هذه التدابير التنظيمية التي قد تَعوق مسيرة الأبحاث المفيدة إذا طُبِّقَت بنحوٍ روتيني (وذلك كما سنرى في الفصل الخامس)، فإننا نسمح لهذه الاستمارات بأن تُخبر المرضى بأكاذيبَ صريحةٍ عن السيطرة على البيانات، ونخفق في ضبط واحدةٍ من أهم المشكلات الأخلاقية في عالم الطب والدواء بأكمله. وإنني أعتبر استمارات الموافقة المضللة هذه مثالًا واضحًا لإظهار العوار الشديد الموجود في الأُطُر التنظيمية للطب والدواء، وحاجتها الشديدة للتحديث لمواكبة تطوُّر الأمور، لكنها أيضًا في النهاية تُمثِّل مشكلةً خطيرة تُهدِّد مستقبل البحث العلمي.

إننا في أمسِّ الحاجة لأن يستمر المرضى في الإيمان بأنهم يُسهمون في خدمة المجتمع؛ حيث إن هناك أزمةً في الوقت الحاضر فيما يتعلق بالمشاركة في التجارِب وتتزايد صعوبة إقناع المرضى بهذه المشاركة على أي حال. وفي دراسة أُجريَت مؤخَّرًا، تبين أن ثلث التجارِب فشل في الوصول إلى العدد الأصلي المستهدَف من المشاركين فيها، وأكثر من نصفها وجب أن يُمنَح مهلة إضافية لإكمالها.54 وإذا تبيَّن أن التجارِب غالبًا ما يكون الهدفُ منها الترويجَ أكثر منه تقدم العلم، فستصير مشاركة الناس في التجارِب أكثر صعوبة. وليس حل هذه المشكلة بأن نُخفِيَها ولكن بأن نواجهها.

وهكذا، ربما تكون الجامعات ولجان الأخلاقيات الطبية قد خذلتنا، ولكن هناك جماعة من الأشخاص يمكن أن نتوقَّع منهم أن يُظهروا بعض الإيجابية ويقودوا محاولة علاج مشكلة إخفاء بيانات التجارِب. ويتمثل هؤلاء في الهيئات المهنية الطبية والأكاديمية، والكليات الملكية للممارسة العامة والأطباء والجراحين، والمجلس الطبي العام، والجمعية الطبية البريطانية، ومنظمات الصيادلة، والهيئات التي تُمثِّل كل فرعٍ تخصصيٍّ أكاديمي، وعلماء فسيولوجيا التنفس، وعلماء العقاقير، وأكاديمية العلوم الطبية، وغيرها.

وهذه الهيئات لديها الفرصة لأن تضبط الأداء في الطب الأكاديمي والإكلينيكي، من خلال لوائحها السلوكية، ومن خلال طموحاتها، وفي بعض الحالات من خلال سلطاتها؛ إذ إن بعضها لديه القدرة على فرض عقوبات، وجميعها لديه القدرة على إقصاء الذين يحجمون عن الالتزام بالمعايير الأخلاقية الأساسية. ولقد أثبتنا — حسبما آمل بما لا يدع مجالًا للشك — أن عدم نشر بيانات التجارِب التي تُجرى على البشر هو سوء سلوك بحثي، وأنه يُضلِّل الأطباء ويضر المرضى حول العالم؛ فهل استخدمت هذه الهيئات سلطاتها، هل وقفت وأعلنت بوضوحٍ وشراسةٍ أن هذا الأمر يجب أن يتوقف وأنها ستتخذ الإجراءات اللازمة إزاءه؟

لقد فعلتْ هذا واحدةٌ فقط منها، هي كلية الطب الدوائي، وهي هيئة صغيرة من الأطباء — الذين يعملون على نحوٍ كبير في صناعة الأدوية — التي يبلغ عدد أعضائها ١٤٠٠. أمَّا الهيئات الباقية، فلم يكترثوا ولم يفعلوا شيئًا!

(٧) ما الذي يمكن عمله؟

هناك حلول عدة بسيطة لهذه المشكلات، التي تندرج تحت ثلاث فئات. وليست هناك حُجة بحسب علمي تدحض أيًّا من الاقتراحات التالية. ولقد أُهملت قضية إخفاء البيانات من جرَّاء التقاعُس المؤسسي، وعدم رغبة كبار الأكاديميين في الدخول في صراعاتٍ مع شركات الأدوية. وسلوكهم السلبي هذا يتسبب في الإضرار بالمرضى كل يوم.

(٧-١) بنود عدم الإفصاح

إذا لم يكن هناك أي شيءٍ يدعو للخجل والعار في تلك البنود التعاقُدية الخاصة بعدم الإفصاح عن بيانات التجارِب، وإذا كانت الشركات والقانونيون وأقسام التعاقدات بالجامعات والأكاديميون جميعًا يَرَوْن أنها مقبولة، فحينئذٍ يجب أن يكون كل شيءٍ واضحًا، وأن يُعلَن على رءوس الأشهاد حتى يمكن أن يُقرِّر أي شخصٍ خارج تلك المنظومات ما إذا كان يوافق على تلك البنود أم لا:

  • (١)

    إلى أن يُمكن القضاء على تلك البنود، يجب — حيثما وُجدت — إخبار المرضى في وقت دعوتهم للمشاركة في تجرِبةٍ ما بأن الشركة الراعية يمكنها إخفاء النتائج إذا كانت لا تروق لها. ويجب أيضًا أن تُوضح استمارة الموافقة أن حجب النتائج السلبية سيجعل الأطباء والمرضى ينخدعون بشأن فاعلية العلاج الذي تُجرى عليه التجرِبة؛ مما يُعرِّضهم لأضرارٍ هم في غِنًى عنها، ويمكن حينئذٍ أن يُقرِّر المشاركون في التجرِبة بأنفسهم ما إذا كانوا يعتبرون هذه العقود مقبولةً أم لا.

  • (٢)

    عندما يكون للشركة الراعية الحق التعاقدي في منع النشر (حتى لو لم تمارس هذا الحق)، يجب أن يُنصَّ بوضوحٍ على هذه الحقيقة (أيْ حقيقة وجود بند عدم الإفصاح) في البحث الأكاديمي، وفي اتفاق التجرِبة، وفي إدخال سِجل التجارِب المتاح للناس والذي يظهر قبل بدء التجرِبة. ويُمكن حينئذٍ أن يُقرِّر قارئو نتائج التجرِبة بأنفسهم ما إذا كانوا يثقون بأن راعيَ البحث والمجموعة البحثية سينشرون جميع النتائج السلبية، كما يُمكنهم في ضوء هذا أن يفسروا ما قد تُسفر عنه التجرِبة من نتائج إيجابية.

  • (٣)

    يجب أن يكون لجميع العقود الجامعية القالب نفسه، وترفض بنود عدم الإفصاح. وإذا تقاعستْ عن فعل هذا يجب إجبارها على الإفصاح بوضوحٍ عما سمحوا به من عقودٍ تتضمَّن مثل هذه البنود، وأن ينشروا هذه البنود على الإنترنت حتى يراها الجميع، حتى يعلم الناس أن تلك المؤسسة تُصدر أبحاثًا متحيِّزة منهجيًّا؛ ومن ثَمَّ يُمكنهم تجاهل أي نتائج بحثية تصدر عنها.

  • (٤)

    فيما يتعلق بالتشريع، يجب اعتبار تلك البنود غيرَ قانونية، مع عدم إعطاء الفرصة لأي تحايُلٍ في هذا الشأن. وإذا كان ثَمَّةَ خِلاف بشأن التحليل أو التفسير فيما بين الأشخاص الذين يُجرُون التجرِبة والأشخاص الذين يُموِّلونها، يجب أن يظهر هذا في الأعمال الأكاديمية المنشورة أو أي منتدًى عامٍّ آخر، ولا يجب أن يحدث فقط في السر.

(٧-٢) الهيئات المهنية

  • (١)

    يجب أن تتخذ جميع الهيئات المهنية موقفًا واضحًا حيال عدم نشر بيانات التجارِب، وأن تعلن بوضوحٍ أنه يُعتبر سوء سلوك بحثي، وتقر أنه سيتم التعامل معه مثل أي صورةٍ أخرى من السلوكيات السيئة الخطيرة التي تُضلِّل الأطباء وتضر المرضى. وإن لم تفعل ذلك، فستكون وصمة عار تُلوِّث سمعتها وتدين كبار أعضائها.

  • (٢)

    يجب اعتبار كل طاقم البحث المشاركين في إجراء أي تجرِبةٍ على البشر مسئولين جماعاتٍ وأفرادًا عن التأكُّد من نشر بيانات التجرِبة بالكامل في غضون عامٍ من انتهائها.

  • (٣)

    يجب أن تُعرض بوضوحٍ أسماء جميع المسئولين عن حجب بيانات التجارِب في قاعدة بيانات محددة، حتى يكون الناس على علمٍ بمدى المخاطرة في العمل معهم، أو السماح لهم بالوصول إلى المرضى لإجراء أبحاثٍ عليهم في المستقبل.

(٧-٣) لجان الأخلاقيات الطبية

  • (١)

    يجب عدم السماح لأي شخصٍ بإجراء تجارب على البشر إذا كان المشروع البحثي الذي هو مسئول عنه يحجب حاليًّا بياناتِ تجاربه عن النشر لأكثر من عامٍ بعد اكتمالها. وكلما كان لأي باحثٍ في مشروع ما سوابق من التأخير في نشر بيانات التجارِب، وجب إعلام لجنة الأخلاقيات الطبية بذلك، ويجب وضع هذا في الحسبان كما يحدث مع أي باحثٍ أُدين بارتكابه سوء سلوك بحثي.

  • (٢)

    يجب عدم اعتماد أي تجرِبةٍ دون وجود ضمانٍ قوي للنشر في غضون عامٍ من اكتمالها.

(٨) كيف خذلَنا مراقبو الأدوية والدوريات الطبية؟

حتى الآن أثبتْنا لك أن لجان الأخلاقيات الطبية والجامعات والهيئات المهنية الخاصة بالباحثين الطبيين قد أخفقت جميعًا في حماية المرضى من أضرار تحيُّز النشر، رغم أن عدم النشر الانتقائي للبيانات المحايِدة هو قضية طبية خطيرة. نحن نعلم أن هذا يُشوه ويُقوِّض أيَّ قرارٍ يتخذه الباحثون والأطباء والمرضى، ويُعرِّض المرضى لمعاناةٍ كان من الممكن تجنُّبها، بل وللوفاة. وهذا أمر خطير بما لا يقبل الجدل؛ ومن ثَمَّ فمن المنطقي أن نتصوَّر أن الحكومات ومراقبي الأدوية والدوريات الطبية جميعًا قد حاولوا بالتأكيد معالجة هذه المشكلة.

نعم، إنهم حاولوا، ولكنهم فشلوا! والأسوأ من هذا أنهم قَدَّموا بنحوٍ متكرر ما يمكن أن نطلق عليه «الإصلاحات الزائفة»؛ إذ رأينا تغيُّراتٍ قليلةً في أعمال الرقابة والممارسة، صاحَبَها قدرٌ كبير من الصخب الإعلامي، وبعدها حدث إمَّا تجاهُل لها وإما تجاوُز. وهذه الإجراءات بثَّت طمأنينةً وهميةً في قلوب الأطباء والأكاديميين وعامَّةِ الناس بأن المشكلة قد حُلت. وفيما يلي بيان لقصة هذه الإصلاحات الزائفة.

(٩) السجلات

كان أوَّل الحلول المقترحة وأبسطها هو إنشاء سجلات للتجارب؛ فلو أُجبر المسئولون عن التجارِب على نشر بروتوكول عملهم بالكامل قبل أن يبدءوا العمل، فسيكون لدينا الفرصة على الأقل للرجوع إليه وفحصه لمعرفة ما إذا كانوا قد نشروا التجارِب التي أجرَوْها. وهذا أمر مفيد جدًّا لعددٍ من الأسباب؛ فهذا البروتوكول يشرح بتفصيل تقني كبير كلَّ ما سيفعله الباحثون في تجرِبةٍ ما؛ فيحدد عدد المرضى الذين سيشركونهم فيها، ومن أين سيأتون، وكيف سيُقسَّمون، ونوع العلاج الذي ستحصل عليه كل مجموعةٍ منهم، والنتيجة التي ستُقاس لمعرفة ما إذا كان العلاج ناجحًا أم لا. وهكذا يمكن استخدامه لمعرفة ما إذا كانت التجرِبة قد تم نشرها، وأيضًا لمعرفة ما إذا كانت طرقها البحثية قد جرى تشويهها أثناء تنفيذها بطريقةٍ تسمح بتضخيم النتائج (كما سيأتي شرحه في الفصل الرابع).

نُشر أوَّل بحثٍ كبير يطالب بوجود سجل لبروتوكولات العمل في التجارِب الإكلينيكية في عام ١٩٨٦،55 وتبعه سَيل من الأبحاث في هذا الاتجاه؛ ففي عام ١٩٩٠ نشر إيان تشالمرز (ويمكن إنْ شئت أنْ تُسمِّيه السير إيان تشالمرز) بحثًا كلاسيكيًّا عنوانه: «عدم نشر الأبحاث يُعتبر سوء سلوك علمي»،56 وتتَبَّع التاريخ المتقلب لسجلات التجارِب في المملكة المتحدة.57 وفي عام ١٩٩٢، حينما بدأت مؤسسة كوكرين تكون ذات تأثيرٍ في البلاد طلب ممثلون عن اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية مقابلة تشالمرز.58 وبعد أن شرح تشالمرز لهم الأعمال التي تقوم بها كوكرين، والأهمية الحيوية لتلخيص جميع نتائج التجارِب التي تُجرى على أي عقَّار مُعيِّن، شرح لهم بوضوحٍ شديد كيف يُؤدِّي عدم النشر المتحيز للنتائج إلى إلحاق الضَّرر بالمرضى.

تأثر ممثِّلو الصناعة بما سمعوه من إيان، وما لبثوا أن قرروا التحرك. فاتفق مايك والاس، المدير التنفيذي لشركة شيرينج وأحد أعضاء هذا الوفد الذي زار مؤسسة كوكرين، مع تشالمرز على أن حجب البيانات عمل لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيًّا وعلميًّا، وقال إنه خطط لفعل شيءٍ ملموسٍ لمنعه، ولكن بشرط حماية الصناعة الدوائية من أن يُفرَض عليها هذا الأمر بطريقةٍ غير مقبولة. وابتعد والاس عن الخط الذي سار عليه زملاؤه، وآلى على نفسه تسجيل جميع التجارِب التي تُجريها شركته مع مؤسسة كوكرين. ولم يكن هذا التحرُّك عامًّا، بل تعرَّض والاس للتأنيب من زملائه، ولا سيَّما الذين ينتمون إلى شركاتٍ أخرى.

ولكن بعد ذلك حذت شركة جلاكسو ويلكم حَذْوَه، وفي عام ١٩٩٨ كتب مديرها التنفيذي ريتشارد سايكس مقالةً افتتاحية في دورية «بي إم جيه» بعنوان: «يجب على أي شركةٍ دوائية حديثة أن تتيح المعلومات الخاصة ببرامج التجارِب الإكلينيكية».59 وكانت كلمة «برامج» هي الكلمة المهمة؛ لأنَّنا كما رأينا من قبل، وكما سنرى بتفصيلٍ أكبرَ لاحقًا، لا يمكننا أن نفهم النتائج الفردية إلا إذا قيَّمناها في إطار كل الأبحاث التي أُجريت على عقَّارٍ ما.

أعدت شركة جلاكسو ويلكم سِجلًا للتجارب الإكلينيكية، وشكلت إليزابيث ويدجر، رئيسة مجموعة الكُتاب الطبيين بالشركة، فريقًا من أنحاء الصناعة الدوائية لوضع خطوطٍ إرشادية أخلاقية لتقديم الأبحاث. وحينما رأى اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية أن الشركات الدوائية تأخذ عصا القيادة في هذا الشأن، قرَّر أن يُطبِّق الخطوط الإرشادية التي وضعتْها شركة جلاكسو ويلكم على شركات الصناعة الدوائية بكاملها، وأُطلقت هذه المبادرة في مؤتمرٍ صحفي جلس فيه تشالمرز، كناقدٍ قوي، على الجانب نفسه من الطاولة مع مديري شركات الأدوية. وبدأت شركات أسترازينيكا، وأفينتس، وميرك شارب آند دوم، ونوفارتس، وروش، وشيرينج، ووايث في تسجيل بعضٍ من تجاربها — تلك التي شملت مرضى من المملكة المتحدة وبأثرٍ رجعي — ولكن كان هناك تحرُّك أخيرًا.

وفي الوقت نفسه كان هناك تحرُّك في أمريكا؛ ففي عام ١٩٩٧ أدَّى قانون التحديث الصادر عن هيئة الغذاء والدواء لإنشاء سِجل للتجارب تحت اسم clinicaltrials.gov، وهو سِجل تديره معاهد الصحة الوطنية التابعة لحكومة الولايات المتحدة. وتَطلَّب هذا التشريع أن يتم تسجيل التجارِب، ولكن بشرط أن ترتبط بطلبٍ رسمي لإضافة عقَّارٍ جديد إلى سوق الدواء، ويُشترط أن يكون هذا العقَّار لعلاج مرضٍ خطير أو يُهدِّد الحياة. وأُنشئ السجل في عام ١٩٩٨ وأُطلق موقعه على الإنترنت في عام ٢٠٠٠، وزادت معايير التسجيل فيه في عام ٢٠٠٤.
ولكن سرعان ما بدأ كل شيءٍ يتفكك؛ إذ حدث اندماج بين شركة جلاكسو ويلكم وشركة سميث كلاين بيتشام في كيانٍ واحد اسمه جلاكسو سميث كلاين، وفي بادئ الأمر ظهر الشعار الجديد في سجل التجارِب القديمة. وكتب إيان تشالمرز خطابًا إلى جون-بول جارنييه، المدير التنفيذي للشركة الجديدة، يشكره فيه لإبقائه على هذه الشفافية المهمة، ولكنه لم يتلقَّ منه ردًّا. وأُغلق موقع السِّجل، وفُقدت محتوياته (وإن كانت الشركة الجديدة قد أُجبرت لاحقًا بعد عامين على فتح سِجلٍّ جديد كجزء من تسويةٍ مع الحكومة الأمريكية لرأب الضرر الناتج عن حجبها للبيانات الواقع على تجارب العقاقير الجديدة). كما فقدت إليزابيث ويدجر (التي وضعت الخطوط الإرشادية لممارسات النشر الجيدة، وقدَّمتها لشركات الأدوية) وظيفتَها؛ إذ أُغلق قسم الكتابة الطبية التابع لها في الشركة الجديدة، وحدث تجاهُل لإرشاداتها.60

ومنذ اللحظة التي اقتُرحت فيها هذه السجلات لأول مرة، ثم أُطلقت، كان من المفترض ضمنًا أنه بعد هذا التسجيل للبحث سيكون عدم نشره جالبًا للعار، وسيكون هذا كافيًا لضمان فعل الناس للشيء الصواب. ولكن كانت المشكلة الأولى التي واجهت السجل الأمريكي الذي كان من المأمول أن يُستخدم على نطاقٍ واسع، أن الناس اختاروا ببساطةٍ ألا يستخدموه؛ إذ فُرض التسجيل فيه على نطاقٍ ضيِّق جدًّا فقط من التجارِب، ولم يكن ثَمَّةَ أحد آخر في عجلةٍ من أمره لتسجيل تجاربه ما دام غير مضطرٍّ لذلك.

وفي عام ٢٠٠٤، نشرت اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية، وهي عبارة عن مجموعةٍ من المحررين من أكثر الدوريات تأثيرًا في العالم، بيانًا بسياستهم أعلنوا فيه أنْ لا أحد منهم سينشر أيَّ تجارب إكلينيكية بعد عام ٢٠٠٥ إن لم تكن قد سُجِّلَت على نحوٍ سليمٍ قبل إجرائها.61 وقد فعلوا هذا أساسًا للضغط على شركات الأدوية والباحثين؛ فلو كانت لتجرِبةٍ ما نتيجة إيجابية، فسيسعى الناس متلهفين لنشرها في أكثر دورية متميزة يمكنهم الوصول إليها. ورغم أن هؤلاء المحررين لم يكونوا يتمتعون بأي سلطةٍ قانونية، فقد كان لديهم الشيء الذي يريده الباحثون وشركات الأدوية، وهو فرصة النشر في دوريةٍ كبيرة ومحترمة، وبإصرارهم على التسجيل قبل النشر، فهم يفعلون ما بوسعهم لإجبار الباحثين والمُموِّلين من شركات الأدوية على تسجيل جميع التجارِب. وهكذا ابتهج الجميع؛ فقد حُلَّت المشكلة.

والآن، إذا كنت تظن أنه يبدو من العجيب، وربما من غير الواقعي، أن يُترك إصلاح هذا الخلل المهم في البنية المعلوماتية لصناعةٍ حجمها ٧٠٠ مليار دولار في أيدي هذا التجمُّع غير الرسمي لقليلٍ من المحررين الأكاديميين الذين ليس لهم أي سلطةٍ قانونية، فأنت على حق؛ فرغم أن الجميع بدأ يتحدث وكأن تحيُّز النشر قد صار شيئًا من الماضي، فإن الواقع كان يقول إنه بقي مستمرًّا كما كان في السابق؛ لأن محرري الدوريات ببساطةٍ تجاهلوا وعودهم وتهديداتهم. ولاحقًا (في الفصل السادس) سوف نرى حجم الإغراءات المالية الضخمة التي يتعرَّض لها المحررون لكي ينشروا الأبحاث ذات النتائج الإيجابية التي تُموِّلها شركات الأدوية، والتي قد تصل إلى ملايين الدولارات مقابل إعادة الطبع والإعلانات. ولكن يجب أولًا أن ننظر إلى ما فعلوه في الواقع بعد وعدهم القوي في عام ٢٠٠٥.

في عام ٢٠٠٨، فحصتْ مجموعة من الباحثين جميع التجارِب التي نُشرت في الدوريات الطبية العشر الأكثر شهرةً واحترامًا التي ينتمي محرروها إلى اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية، بعد الموعد الأخير للتسجيل. فمِن بين ٣٢٣ تجرِبةً نُشرت خلال عام ٢٠٠٨ في هذه الدوريات الأكاديمية المهمة، سُجل نصفها فقط بصورةٍ ملائمة (أي، قبل إجرائها، مع تعيين مقياس ناتجها الرئيسي بنحوٍ سليم)، بينما لم يُسجَّل نهائيًّا أكثر من ربعها.62 وهكذا ببساطةٍ حنث محررو هذه اللجنة بوعودهم.
وفي الوقت نفسه، في أوروبا، حدثت بعض التطوُّرات الغريبة للغاية؛ ففي ظل ضجةٍ إعلامية هائلة، أصدر الاتحاد الأوروبي تشريعًا أنشأت بمقتضاه الوكالة الأوروبية للأدوية سِجلًّا للتجارب سمَّته «يودرا سي تي». ويتطلب هذا التشريع أن تُسجَّل جميع التجارِب في هذا السجل إذا كانت تتضمَّن أيَّ مرضى من أوروبا، وسيخبرك كثير من الشركات أنهم يوفون بمسئولياتهم فيما يتعلق بالشفافية بقيامهم بتسجيل تجاربهم في هذا السِّجل. إلا أن محتويات هذا السجل بقيت سِرية بالكامل، ويمكنني أن أخبرك بأنه يحتوي على حوالي ٣٠ ألف تجرِبة، وهو العدد المعروف لكثيرٍ من للناس، ولكن هذا هو كل ما أعرفه في واقع الأمر، وهو كل ما يمكن أن يعرفه أي شخص. ورغم أن هذا التشريع يتطلب أن يُتاح للناس الوصول إلى محتويات هذا السجل، فإنها بقيت سرية. وهذا يُنتِج مفارقةً تدعو للسخرية؛ فكيف يمكن أن يكون هذا السجل أداةً للشفافية، ومع ذلك تظل محتوياته سِرية لا يَطَّلع عليها أحد؟! ومنذ شهر مارس من عام ٢٠١١ بعد هجوم إعلامي شرس (من جانبي شخصيًّا في الواقع)، أخذوا يُتيحون للناس ببطءٍ مجموعةً صغيرة من التجارِب من خلال موقعٍ على الإنترنت بنفس اسم السجل. وبدءًا من صيف عام ٢٠١٢، ورغم أن الوكالة الآن تدَّعي أن سِجلها متاح للجميع فإن هناك ١٠ آلاف تجرِبة على الأقل لا تزال غير متاحةٍ للناس، ولا يزال محرك البحث لا يعمل جيدًا.63 أستطيع القول إن هذا السجل حقًّا من أعجب الأشياء التي رأيتها في حياتي، ولا أحد — باستثناء الاتحاد الأوروبي — يَعتبر هذا الشيء الغريب سِجلًّا للتجارب، وأنا بالتأكيد لا أعتبره كذلك، وكذلك أنت كما أظن، ولقد صرَّحتْ كلٌّ من اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية ومنظمة الصحة العالمية بجلاءٍ أن هذا الشيء ليس سِجلًّا بالمعنى المعروف.
ولكن بدأ تحرُّك جديد يتم في الولايات المتحدة، وقد بدا معقولًا؛ ففي عام ٢٠٠٧، صُدِّق على قانون التعديلات الخاص بهيئة الغذاء والدواء، وهو أكثر حزمًا وإحكامًا، ويستلزم تسجيل جميع التجارِب الخاصة بأي عقَّارٍ أو جهازٍ في أي مرحلةٍ من مراحل إنتاجه، باستثناء الاختبارات الأولية على البشر، إذا كانت تُجرى في أي مكانٍ في الولايات المتحدة أو كانت تشمل أيَّ نوعٍ من الطلب لإدخال عقَّارٍ جديد إلى سوق الدواء. كما يفرض أيضًا مطلبًا جديدًا رائعًا، وهو أن كل نتائج التجارِب يجب إرسالها إلى سجل clinicaltrials.gov في شكل جداول تلخيصية مختصرة في غضون عامٍ من اكتمالها، وذلك فيما يخص أي تجرِبةٍ تُجرى على أي عقَّارٍ يُعتزم تسويقه، وتَكتمِل بعد عام ٢٠٠٧.

مرةً أخرى، ومع كثيرٍ من الصخب الإعلامي، اعتقد الجميع أن المشكلة قد حُلَّت، ولكن هذا لم يحدث لسببين مهمين للغاية.

أولًا، لسوء الحظ ورغم حسن النية التي لا يوجد شك فيها، فإن الإلزام بنشر جميع التجارِب بدءًا من «الآن» لا يفيد الطب على الإطلاق بأي نحوٍ في يومنا هذا؛ فلا يمكن أن نتخيل أنه توجد دار للعلاج في أي مكانٍ بالعالم يُمارَس فيها الطب فقط على أساس تجارب اكتملت في غضون الأعوام الثلاثة الماضية باستخدام عقاقير دخلت سوق الدواء منذ عام ٢٠٠٨. بل في واقع الأمر إن العكس هو الصحيح؛ فالغالبية العظمى من العقاقير المستخدَمة حاليًّا وصلت إلى سوق الدواء على مدى الأعوام العشرة أو العشرين أو الثلاثين الماضية، ومن التحديات الكبيرة أمام الصناعة الدوائية اليوم أن تُستحدث عقاقير تكون على نفس مستوى الابتكار مثل التي أُنتجت في الفترة التي عُرفت ﺑ «الحقبة الذهبية» للبحث الدوائي، التي استُحدثت فيها كل العقاقير الأكثر والأوسع استخدامًا لكل الأمراض الأكثر شيوعًا، ولعلها كانت «الثمار السهلة» التي اقتُطفت من شجرة الأبحاث، ولكنها على أي حالٍ هي الأدوية التي نستخدمها حاليًّا.

إن تلك العقاقير التي نستخدمها بالفعل هي التي نحتاج إلى الأدلة على نفعها، من التجارِب التي أُجريت في عام ٢٠٠٥ أو ١٩٩٥، وهي الأدوية التي نَصِفُها للمرضى دون تفكير، وقد خُدعنا بعينةٍ متحيِّزة من التجارِب التي نُشرت بنحوٍ انتقائي بينما دُفنت البيانات المحايدة في أرشيفات سِرية للبيانات في مكانٍ ما لا نعرفه.

لكنَّ هناك سببًا آخر أكثر إزعاجًا لعدم نجاح هذا التحرُّك، ويتمثل في أنه تم تجاهله على نطاقٍ واسع؛ فقد نُشرت دراسة في يناير عام ٢٠١٢ فحصت أوَّل شريحةٍ من التجارِب كان يتعيَّن تسجيلها بنحوٍ إجباري، ووجدت أن تجرِبة واحدة فقط من كل خمس تجارب أوفت بالتزامها بإرسال نتائجها.64 ولعل هذا لا يثير الدهشة؛ فالغرامة التي تُدفع نظير هذه المخالفة هي ١٠ آلاف دولار يوميًّا، وهو ما يبدو شيئًا رائعًا، إلى أن تدرك بحسبةٍ بسيطة أنها ٣٫٥ ملايين دولار فقط سنويًّا، وهو ما يُعدُّ مبلغًا تافهًا بالنسبة إلى عقَّارٍ يجلب أرباحًا تعادل ٤ مليارات دولار سنويًّا! أضف إلى ذلك أنه حتى هذه الغرامة لم تُفرض على أحد، وذلك على مدار تاريخ التسجيل بأكمله.

هذا بوجهٍ عام ما جعلني أعتبر زعم اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية والاتحاد الأوروبي أنها عالجت هذه المشكلة، مجرد «إصلاحات زائفة». وفي واقع الأمر إن تلك الجهات لم تخفق في فعل ما زعمته فحسب، بل إنها أعطت اطمئنانًا زائفًا بأن المشكلة قد حُلت، وأنها ذهبت إلى غير رجعة؛ مما جعلنا نغفل عنها. والآن وعلى مدى خمس سنواتٍ ماضية أصبح العاملون في حقل الطب والأبحاث الأكاديمية يتحدثون عن مُشكلة التحيُّز في النشر باعتبارها كانت في الماضي؛ فاكتُشفت في تسعينيات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، لكنها سريعًا ما حُلت.

ولكن مُشكلة إخفاء البيانات لم تُحل، وسرعان ما سنرى بالضبط ما وصلت إليه بعض شركات الأدوية وجهات الرقابة من انعدام الشعور بالخجل في يومنا هذا فيما يتعلق بهذا الأمر.

(١٠) ما الذي يمكن عمله؟

يجب على اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية أن تُنجِز وعودها، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يكون أكثر جِدِّية، كما يجب أن يُفعَّل بقوةٍ قانون التعديلات الخاص بهيئة الغذاء والدواء الأمريكية لعام ٢٠٠٧. ولكن يوجد الكثير من الأشياء الأخرى المُخيِّبة للآمال التي سأعرضها هنا؛ ومن ثَمَّ سأؤجل الحديث عن خطتي العملية لحل مشكلة إخفاء البيانات إلى موضعٍ لاحق في هذا الفصل.

(١١) استحالة الحصول على بيانات من مراقبي الأدوية

حتى الآن، أثبتنا أن الأطباء والمرضى قد خذلهم أشخاص ومنظمات مختلفة، كُنَّا نتوقع أن يهبُّوا جميعًا لحل مشكلة إخفاء بيانات التجارِب التي تضر أعدادًا هائلةً من المرضى في أنحاء العالم. ولقد رأينا كيف أن الحكومات لا تفعل شيئًا حيال الباحثين الذين يتخلفون عن نشر نتائج تجاربهم، رغم ادِّعائها بعكس هذا أمام الناس، كما أنها لا تفعل شيئًا حيال الذين يتخلفون عن تسجيل تجاربهم. ورأينا كيف أن محرري الدوريات الطبية ماضون في نشر تجارب غير مسجلة، رغم ادِّعائهم أمام الناس بأنهم اتخذوا موقفًا متشدِّدًا حيال هذا الأمر. ورأينا كيف أن لجان الأخلاقيات الطبية قد تقاعست عن الإصرار على النشر الكامل، رغم إعلانها بأن هدفها هو حماية المرضى. ورأينا أن الهيئات المهنية تقاعست عن اتخاذ موقفٍ قوي ضد ما يُعدَّ على نحوٍ واضح سوء سلوك بحثي، رغم الأدلة التي تُظهر أن مشكلة إخفاء البيانات تستفحل بشدةٍ في كل المجالات العلمية.65

وبينما ترى أن سِجل الأبحاث الأكاديمية المنشورة قد تَشوَّه بنحوٍ مُخيِّب للآمال، فلعلك تأمل أن يكون هناك طريق أخير واحد يستطيع الأطباء والمرضى أن يسلكوه للوصول إلى نتائج التجارِب الإكلينيكية، ألا وهو أن مراقبي الأدوية، الذين يتلقَّوْن كمياتٍ كبيرةً من البيانات من شركات الأدوية أثناء عملية التصديق على الأدوية واعتمادها، لا بدَّ بالتأكيد من أن لديهم التزاماتٍ شديدةً بحماية سلامة المرضى. ولكن هذا للأسف مجرد مثالٍ آخر على كيف أننا نُخذل من الجهات التي يُفترض أن تَحميَنا.

وفي هذا القسم، سوف نناقش ثلاثة إخفاقاتٍ رئيسية؛ أولها أن مراقبي الأدوية قد لا تكون لديهم المعلومات المطلوبة في المقام الأول. وثانيها أن الطريقة التي يتشاركون بها معلومات التجارِب الملخصة مع الأطباء والمرضى بها عوار شديد وأصبحت بالية. وأخيرًا، لو حاولتَ الحصول على جميع المعلومات التي أتاحتها إحدى شركات الأدوية — الوثائق المطولة التي توجد فيها في الغالب غالبية البيانات — فستجد مراقبي الأدوية يضعون أمامك عقباتٍ غريبةً تعوقك وتُربكك، وذلك حتى لو كانت العقاقير التي تطلب معلوماتٍ عنها غير فعالةٍ وضارةً بالصحة. إن ما سأذكره هنا لا يمكن أن يكون مُطَمْئنًا بأي حال.

(١١-١) أولًا: عدم امتلاك مراقبي الأدوية لبيانات التجارِب

الباروكستين عقَّار يشيع استخدامه كمضادٍّ للاكتئاب، وينتمي إلى فئةٍ من العقاقير تُعرف باسم «مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية». وستعرف المزيد عن هذه الفئة لاحقًا في هذا الكتاب، ولكنِّي هنا سأستخدم الباروكستين لأُظهر كيف استغلت شركات الأدوية تَسامُحنا المستمر إزاء إخفاء نتائج التجارِب، ووجدت ثغراتٍ في لوائحنا التنظيمية الهشة بشأن الإفصاح عن هذه النتائج. وسنرى أن شركة جلاكسو سميث كلاين حجبت البيانات التي تُبيِّن ما إذا كان عقَّار الباروكستين مفيدًا كمضادٍّ للاكتئاب أم لا، بل وحجبت البيانات المتعلقة بآثاره الجانبية الضارة، والأخطر من هذا كله — كما سنرى — أن ما فعلته هذا كان في إطارٍ قانونيٍّ بالكامل.

ولكي نفهم السبب يلزمنا أولًا أن نُلقيَ نظرةً على عملية ترخيص العقاقير؛ فالعقاقير لا تدخل ببساطةٍ إلى سوق الدواء لتُستعمل في علاج جميع الحالات المرضيَّة؛ فلأي استخدامٍ محدد لأي عقَّارٍ لعلاج مرضٍ معين يلزمك ترخيص تسويقي منفصل؛ ومن ثَمَّ قد يُرخَّص لعقَّارٍ ما بعلاج سرطان المبيض، على سبيل المثال، ولكن ليس سرطان الثدي. وهذا لا يعني أن هذا العقَّار لا يصلح لعلاج سرطان الثدي؛ فقد تكون هناك بعض الأدلة على فاعليته لعلاج هذا المرض كذلك، ولكن ربما لم تشأ الشركة أن تتجشم مشقة وتكلفة الحصول على ترخيصٍ رسمي بتسويق العقَّار على أن هذا من بين استخداماته. ولا يزال بوسع الأطباء أن يُقدِموا على وصفه لعلاج سرطان الثدي إذا شاءوا لأن العقَّار متاح للوصف الطبي، وهناك عُلب منه قابعة بالصيدليات تنتظر البيع (رغم أنه تحديدًا لم يحصل على موافقة للتسويق سوى لعلاج سرطان المبيض). وفي هذا الإطار أقول إن الطبيب يصف العقَّار على نحوٍ قانوني، ولكن في «استخدام غير مرخص».

وهذا أمر شائع الحدوث إلى حدٍّ كبير؛ إذ إن الحصول على ترخيصٍ بالتسويق لاستخدامٍ معين يمكن أن يكون مضيعةً للوقت والمال. وإذا عرف الطبيب أن هناك عقَّارًا ما تبيَّن من خلال التجارِب الجيدة أنه يُفيد في علاج مرضٍ ما، فسيكون من الخطأ ألا يصفه لمجرد أن الشركة لم تُقدِّم طلبًا بالترخيص لتسويقه لهذا الاستخدام المحدَّد. وسأناقش كل جوانب هذا الأمر بتفصيلٍ أكبر فيما بعد. ولكن ما أنت بحاجةٍ لمعرفته الآن هو أن استخدام عقَّارٍ ما للأطفال يُنظر إليه فيما يختص بالترخيص التسويقي على أنه أمر مختلف عن استخدامه للكبار.

وهذا يبدو معقولًا في حالاتٍ كثيرة لأن الأطفال يمكن أن يستجيبوا للعقاقير بطرقٍ تختلف كثيرًا عن الكبار؛ ومن ثَمَّ يمكن أن تكون مخاطر العقَّار وفوائده مختلفة اختلافًا كبيرًا؛ لذا، يجب أن يُجرى البحث في الأطفال على نحوٍ منفصل. إلا أن هذا الجانب فيما يتعلق بالترخيص له كذلك بعض المثالب؛ فالحصول على ترخيصٍ لاستخدامٍ محدد يُعدُّ عملًا مضنيًا يتطلب الكثير من الأوراق الرسمية، وبعض الدراسات المحددة. وغالبًا ما يكون هذا ذا تكلفةٍ عالية لدرجة أن الشركات لا تَأْبه بالحصول على ترخيصٍ مخصص لتسويق عقَّارٍ ما لاستخدامه للأطفال لأن هذا السوق غالبًا ما يكون أصغر بكثير.

ولكن بمجرد أن يصير عقَّارٌ ما متاحًا في بلدٍ ما لاستخدامٍ واحد محدد، كما رأينا توًّا، يمكن حينئذٍ وصفه لعلاج أي شيءٍ آخر. فليس من العجيب إذًا أن تجد عقَّارًا مُرخَّصًا لاستعماله للكبار، ثم يصفه بعض الأطباء للصغار على أساس الحدْس والتخمين، أو الحكم بأنه على الأقل لن يضر، أو على أساس دراساتٍ توحي بفائدته للأطفال، ولكنها لا تكفي على الأرجح للدخول في العملية الرسمية المتعلقة بالحصول على ترخيصٍ تسويقي لاستعماله للصغار أو حتى على أساس دراساتٍ قوية، ولكنها تتعلق بمرضٍ تكون سوقُه من الصِّغر بحيث تجعل الشركة لا تكترث بالحصول على ترخيصٍ تسويقي باستعماله للصغار.

وأدرك مراقبو الأدوية أن هناك مشكلةً خطيرة في العقاقير التي تُستعمل للأطفال في استخداماتٍ غير مرخصةٍ بدون أبحاثٍ كافية؛ ومن ثَمَّ بدءوا مؤخَّرًا في إعطاء حوافز للشركات لتُجريَ الأبحاث، ولتسعى رسميًّا للحصول على هذه التراخيص. وتتمثل هذه الحوافز في مد فترة براءة الاختراع، وهذا يمكن أن يكون مغريًا للشركات. فمن المعروف أن كل عقَّارٍ يصير من المسموح أن تنتجه أيُّ شركة غير الشركة التي ابتكرتْه بعد مرور عَقدٍ تقريبًا من ظهوره في السوق، ويصبح مثل الباراسيتامول الذي يمكن حاليًّا أن تصنعه أيُّ شركة دوائية وتبيعه بأسعارٍ زهيدة جدًّا. فإذا أُعطيت الشركة الأصلية المنتِجة لعقَّارٍ ما مهلةً إضافية مقدارها ستة أشهر مثلًا لتستأثر خلالها بإنتاجه مع ترخيص كل استخداماته بموجب حق براءة الاختراع، يمكنها حينئذٍ أن تَجنيَ أرباحًا طائلة. وهذا يبدو مثالًا جيدًا لما يتصف به بعض مراقبي الأدوية من براجماتية، وتفكير إبداعي فيما يتعلق بالحوافز التي يمكنهم أن يقدموها للشركات. وأما الاستخدام المرخَّص لعقَّارٍ ما في الأطفال، فالمرجح أنه في حد ذاته لن يحقق للشركة المنتِجة له الكثير من الأموال الإضافية؛ إذ إن الأطباء يصفون العقَّار للأطفال على أي حالٍ حتى دون انتظار حصول الشركات على ترخيصٍ بذلك أو الحصول على أدلةٍ جيدة، وهذا ببساطةٍ لعدم وجود خياراتٍ أخرى أمامهم. وفي الوقت نفسه نجد أن إضافة ستة أشهر لفترة حق براءة الاختراع تكون مغريةً جدًّا بالنسبة إلى عقَّارٍ مشهور إذا كانت سوق بيعه للكبار رائجةً بالقدر الكافي.

وهناك الكثير من الجدل حول ما إذا كانت شركات الأدوية تتحرَّى الأمانة فيما يتعلق بهذه العروض؛ فعلى سبيل المثال، منذ أن بدأت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية تقديم هذه العروض أُعطيت تصاريح لاستخدام ما يقرب من مائة عقَّار للأطفال، ولكن الكثير منها كان لعلاج أمراضٍ غير شائعة في الأطفال، مثل قرحة المعدة والتهاب المفاصل، بينما قَلَّت الطلبات كثيرًا من جانب شركات الأدوية فيما يتعلق بالمنتجات الأقل ربحًا والتي تناسب الأطفال أكثر، مثل الأدوية الحديثة التي تُسمَّى «العقاقير البيولوجية الكبيرة الجزيئات». ولكن على كلٍّ هذه هي الحال.

وحينما قدمت شركة جلاكسو سميث كلاين طلبًا للحصول على ترخيصٍ تسويقيٍّ لاستخدام عقَّار الباروكستين للأطفال، حدث موقف غير عاديٍّ أثار أطول تحقيق في تاريخ الرقابة على العقاقير في المملكة المتحدة. وقد نُشرت تفاصيل هذا التحقيق في عام ٢٠٠٨، الذي بحث ما إذا كان يتعين أن تُوجَّه لهذه الشركة تُهَم جنائية أم لا.66 وتبيَّن أن ما فعلته الشركة — حينما حجبت بياناتٍ مهمةً تتعلق بأمان العقَّار وفاعليته ويحتاج الأطباء والمرضى بالتأكيد لمعرفتها — يُعَد عملًا غير أخلاقي بلا شك، وعرَّض أطفالًا حول العالم للخطر، ولكن قوانيننا ضعيفة لدرجةٍ جعلت من غير الممكن توجيه أي اتِّهامٍ لتلك الشركة.
فبين عامَي ١٩٩٤ و٢٠٠٢، أجرت شركة جلاكسو سميث كلاين تسع تجارب على الباروكستين في الأطفال.67 وأخفقت اثنتان منها في إظهار أي فائدةٍ للعقَّار، ولكن الشركة لم تحاول إخبار أي أحدٍ بهذا عن طريق تغيير النشرة الدوائية التي تُرسَل إلى جميع الأطباء والمرضى. بل ما حدث في الواقع بعد انتهاء هذه التجارِب أن ذُكر في مستند إداري داخلي خاص بالشركة ما يلي: «سيكون من غير المقبول تجاريًّا تضمين عبارة تشير إلى أن العقَّار لم تتبيَّن فاعليته؛ إذ يمكن أن يُدمِّر هذا سُمعتَه.» وخلال العام الذي تلا إصدار هذه المذكرة الداخلية السرية، أُعطيَت ٣٢ ألف وصفة طبية من العقَّار للأطفال في المملكة المتحدة وحدها؛ ومن ثَمَّ بينما كانت الشركة تعرف أن العقَّار لا يفيد الأطفال، فإنها لم تبادر لإخبار الأطباء بذلك، رغم علمها بأن أعدادًا كبيرةً من الأطفال كانوا يتناوله. وأُجرِيَ المزيد من التجارِب على مدى السنوات التالية — عددها الإجمالي تسع — ولم تُظهر أيٌّ منها أي فاعلية للعقَّار في علاج الاكتئاب عند الأطفال.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فأولئك الأطفال لم يتلقَّوْا فقط عقَّارًا كانت الشركة المنتِجة له تعرف أنه غير فعَّال بالنسبة إليهم، بل كانوا أيضًا يتعرَّضون لآثاره الجانبية. وهذا يجب أن يكون واضحًا تلقائيًّا؛ إذ إن أي علاجٍ فعال يكون له بعض الآثار الجانبية التي يضعها الأطباء في اعتبارهم، عند النظر لفوائده (التي لا توجد أصلًا في هذه الحالة). ولكن لم يكن أحد يعرف مدى ضرر هذه الآثار الجانبية لأن الشركة لم تُخبر الأطباء ولا المرضى ولا حتى مراقبي الأدوية بالبيانات المقلقة المتعلقة بسلامة العقَّار من واقع التجارِب التي أُجريَت عليه. وقد حدث هذا بسبب ثغرةٍ ما (سأخبرك بالمزيد عنها بعد قليل)؛ إذ لا يلزمك سوى أن تخبر مراقب الأدوية بالآثار الجانبية المذكورة ضمن الدراسات المُجراة على «الاستخدامات المحددة التي صدر للعقَّار من أجلها ترخيص تسويقي». ولأن استخدام عقَّار الباروكستين في الأطفال كان غير مرخَّص، فلم يكن ثَمَّةَ أي التزامٍ قانوني على الشركة المنتِجة في تلك الآونة بأن تخبر أي أحدٍ بما توصلت إليه في هذا الصدد.

كان الناس لفترةٍ طويلة يشعرون بالقلق من أن عقَّار الباروكستين ربما يزيد احتمال الإقدام على الانتحار، وإن كان هذا أثرًا جانبيًّا يصعب اكتشافه في عقَّارٍ مضاد للاكتئاب؛ لأن مرضى الاكتئاب هم أنفسهم تزداد كثيرًا قابليتهم للانتحار عن الأشخاص العاديين على أي حال؛ وذلك بسبب حالة اكتئابهم. كما توجد أيضًا بعض الأدلة التي تَحمِل على الاعتقاد بأن المرضى في بداية خروجهم من حالة اكتئابهم تاركين وراءهم قلة الرغبة في العيش التي غالبًا ما تصاحب الشعور العميق بالبؤس والشقاء؛ قد يمرون بفترةٍ يكونون خلالها أكثر قابلية للإقدام على قتل أنفسهم، وهذا فقط لمجرد أن حالة اكتئابهم بدأت تنتهي ببطء.

وعلاوة على هذا، يُعَد الانتحار لحسن الحظ حدثًا نادرًا، بما يعني أنه يتعين عليك أن تجد عددًا كبيرًا من الناس يتناولون عقَّارًا معيَّنًا لتعرف قابليته للتسبُّب في الانتحار. وكذلك فإن الانتحار لا يُسجَّل دائمًا بدقةٍ في شهادات الوفاة؛ لأن الأطباء الشرعيين، وكذلك الأطباء العاديين، يُحجمون عن إصدار حكمٍ بانتحار شخصٍ ما، وهو ما قد يعتبره الكثيرون مَجلبةً للعار؛ ومن ثَمَّ لا يمكن تحديد الأمر الذي تحاول اكتشافه في البيانات، أي الانتحار. وجدير بالذكر أن الأفكار أو السلوكيات الانتحارية التي لا تنجم عنها الوفاة هي أكثر شيوعًا من الانتحار ذاته؛ لذا يجب أن تكون أسهل في اكتشافها، ولكنها أيضًا يصعب تحديدها في البيانات التي يتم تجميعها بنحوٍ روتيني؛ لأنها غالبًا ما لا تُعرض على الأطباء، وأيًّا كان شأنها فإنها يمكن أن تُخفى في السجلات الصحية بجميع الأشكال وبشتى الطرق، هذا لو ظهرت بأي حال. وبسبب كل هذه الصعوبات ستحتاج لأنْ يكون لديك كل شذرةٍ من البيانات يمكنك أن تصل إليها لتعرف ما إذا كانت تلك العقاقير تسبب الأفكار أو السلوكيات الانتحارية في الأطفال، وستحتاج لوجود عددٍ كبير من ذوي الخبرة وذوي المهارات المتعددة ليفحصوا البيانات ويناقشوها.

وفي فبراير عام ٢٠٠٣ أرسلت شركة جلاكسو سميث كلاين تلقائيًّا إلى وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية مجموعةً كبيرة من المعلومات عن احتمالية تسبُّب عقَّار الباروكستين في الانتحار، التي تتضمَّن بعض العمليات التحليلية التي أُجرِيَت عام ٢٠٠٢ على بياناتٍ تتعلق بأي أحداثٍ غير مواتية يَحتمِل وقوعها خلال تجارب كانت الشركة قد أجْرتْها قبل ذلك بعَقد كامل. وأظهرت عمليات التحليل هذه عدم وجود زيادةٍ في احتمال حدوث الانتحار. ولكنها كانت مُضللة؛ فرغم أن الأمر وقتها لم يكن واضحًا، فإن البيانات المستقاة من التجارِب على الأطفال اختلطت ببياناتٍ من التجارِب على الكبار، وهي التي تتميز بطبيعة الحال بوجود أعدادٍ أكبر كثيرًا من المشاركين؛ ونتيجةً لهذا، اختفت أي علامةٍ تدل على حدوث زيادةٍ في قابلية الانتحار بين الأطفال بسبب العقَّار.

ولاحقًا في نفس العام، عقدت شركة جلاكسو سميث كلاين اجتماعًا مع وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية لمناقشة قضية أخرى تخص عقَّار الباروكستين. وفي نهاية الاجتماع صرَّح ممثلو الشركة بأن الشركة كانت تخطط لتقديم طلبٍ لاحقًا في نفس العام للحصول على ترخيص تسويقي خاص باستخدام الباروكستين للأطفال، وذكروا أن وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية ربما تودُّ أن تضع في اعتبارها مسألة أمان الاستخدام التي أشارت إليها الشركة، وهي زيادة قابلية الانتحار بين الأطفال المرضى بالاكتئاب الذين تناولوا العقَّار، مقارنةً بهؤلاء الذين تناولوا عقاقير وهمية.

كانت هذه البيانات المتعلقة بأثر جانبي خطير بالغةَ الأهمية لكنها قُدمت بعد تأخيرٍ طويل يُثير التعجب، وبنحوٍ عشوائي من خلال قناةٍ غير مناسبة وغير رسمية على الإطلاق. وكانت الشركة تعرف أن العقَّار يُوصف للأطفال، وأن هناك شكوكًا بشأن أمان استخدامه للأطفال، ولكنها اختارت ألا تكشف عن تلك المعلومات. وحتى حينما أفصحت عن البيانات، لم تعلنها على الملأ باعتبارها تشير إلى وجود خطرٍ جلي من الاستخدام الحالي للعقَّار؛ مما يتطلب إبلاغًا عاجلًا للإدارة ذات الصلة في جهة الرقابة المعنية، ولكنها بدلًا من هذا عرَضتْها كجزءٍ من بيانٍ غير رسمي عن طلبٍ مستقبلي. ورغم أن البيانات قُدمت إلى الجهة الخطأ، فإن طاقم وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية كان لديهم من الحصافة ما مكَّنهم من إدراك أنها تمثل مشكلة جديدة مهمة، فما لبثوا أن شَمَّروا عن ساعد الجد بزخمٍ من النشاط؛ فأُجريت عمليات التحليل اللازمة، وفي غضون شهرٍ واحد أرسلت خطاباتٍ إلى جميع الأطباء لنُصحِهم بعدم وصف عقَّار الباروكستين للمرضى دون سن الثامنة عشرة.

فكيف يتأتى أن أنظمتنا التي تتلقى البيانات من الشركات بها عوار شديد لدرجة أنها يمكن ببساطةٍ أن تحجب معلوماتٍ بالغة الأهمية تُظهر أن عقَّارًا ما غير فعَّال، بل وشديد الخطورة أيضًا؟ هناك مجموعتان من المشكلات هنا؛ أولاهما: وصول معلومات التجارِب إلى مراقبي الأدوية، وثانيتهما، وصولها إلى الأطباء.

ولا ريب أن نُظُم الرقابة على الأدوية بها ثغرات غريبة تدعو للسخرية، ومما يوغر الصَّدر أن نرى كيف استغلت شركة جلاكسو سميث كلاين هذه الثغرات دون أي وازعٍ أخلاقي. فكما ذكرتُ سابقًا، لم يكن على الشركة أي التزامٍ قانوني بالإفصاح عن المعلومات لأن وصف عقَّار الباروكستين طبيًّا للأطفال كان خارج نطاق استخداماته المرخَّصة رسميًّا، وذلك رغم أن الشركة كانت تعلم أن هذا الوصف الطبي واسع الانتشار. وفي واقع الأمر، إن من بين الدراسات التسع التي أجرتْها الشركة لم يتم إخبار وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية إلا بنتائج دراسة واحدة فقط لأنها الوحيدة التي أُجرِيَت في المملكة المتحدة.

وبعد هذه الحادثة، غيَّرت وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية والاتحاد الأوروبي بعضًا من نُظُمها، رغم أن هذا لم يكن كافيًا، وألزمت الشركات بأن تبادر بتقديم البيانات الخاصة بأمان الدواء المتعلقة باستخداماته خارج نطاق ترخيصه التسويقي، فأُغلقت بهذا الثغرة التي نفذ منها عقَّار الباروكستين.

هذه الحادثة بكاملها تُبرز مشكلةً مهمة، وهي مشكلة تتكرَّر عبر هذا الجزء من الكتاب؛ إذ نحتاج إلى «جميع» البيانات لكي نعرف ما يحدث فيما يخص الفوائد والمخاطر. وكانت بعض التجارِب التي أجرتْها شركة جلاكسو سميث كلاين قد نُشرت جزئيًّا، ولكن من الواضح أن هذا لا يكفي؛ فنحن نعرف بالفعل أننا إذا لم نرَ من البيانات سوى عيِّنةٍ متحيزة فقط، فإننا نكون قد تعرَّضنا للخداع؛ إذ نحتاج أيضًا إلى جميع البيانات لسببٍ أكثر بساطة، هو أننا بحاجةٍ إلى «الكثير» من البيانات؛ فكثيرًا ما تكون إشارات أمان العقَّار ضعيفةً وطفيفةً ويصعب اكتشافها. فالأفكار والخطط الانتحارية تكون نادرةً لدى الأطفال — حتى المصابين منهم بالاكتئاب، وحتى الذين يتناولون منهم عقَّار الباروكستين — ومن ثَمَّ وجب تجميع كل البيانات من عددٍ كبير من المشاركين حتى يمكن اكتشاف إشارة الخطر في هذا الخضم. وفي حالة عقَّار الباروكستين لم تتضح الأخطار إلا بعد تجميع الأحداث السلبية من جميع التجارِب وتحليلها معًا.

وهذا يقودنا إلى النقيصة الثانية الواضحة في المنظومة الحالية، وهي أن نتائج تلك التجارِب — ولا سيَّما البيانات المتعلقة بالأمان والفاعلية — تُسلَّم في الخفاء إلى مراقبي الأدوية الذين يجتمعون ويتخذون قرارهم بعيدًا عن الأنظار. إن هذه مشكلة هائلة؛ لأنك تحتاج إلى أعيُنٍ كثيرة لتنظر في هذه المشكلات الصعبة. أنا لا أظن أن الذين يعملون في وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية أناس سيئون أو عديمو الكفاءة؛ فأنا أعرف الكثير منهم، وهم ماهرون ونزهاء. ولكن يجب ألا نَتَّكل عليهم وحدهم في تحليل هذه البيانات، تمامًا كما يجب ألا نَتَّكل على أي هيئةٍ بعينها في تحليل البيانات بمفردها مع عدم وجود من يراقب ما تقوم به ويفحص ما تفعله ويحقق عنصر المنافسة، ويُبدي انتقاداتٍ مفيدة، ويحث على الإسراع في العمل، وغير ذلك.

وهذه المشكلة أسوأ حتى مِن تقاعُس الأكاديميين عن الإفصاح عما لديهم من بياناتٍ بحثية أوَّلية؛ لأنك على الأقل تجد في أي دراسةٍ أكاديمية الكثير من التفاصيل عما جرى، وكيف جرى. أمَّا ما يقدمه مراقب الأدوية، فهو في الغالب مجرد ملخص موجز على نحوٍ فج، يكاد ينحصر في الحكم بالسلب أو بالإيجاب فيما يتعلق بالآثار الجانبية للعقاقير. وهذا هو عكس العمل العلمي، الذي يكون موثوقًا به لأن الجميع يُظهرون عملهم، ويشرحون «كيف عرفوا» أن شيئًا ما فعَّال أو مأمون الاستخدام، ويفصحون عن وسائلهم البحثية ونتائجهم، ويسمحون للآخرين بأن يُقرِّروا ما إذا كانوا يوافقون على طريقة معالجتهم وتحليلهم للبيانات أم لا.

إلا أننا إزاءَ قضية أمان العقاقير وفاعليتها — التي تُعَد واحدةً من أكثر عمليات التحليل أهميةً في مجال العلم — نَضرِب صَفحًا عن هذه العملية تمامًا؛ إذ نتركها تحدث وراءَ الأبواب المغلقة لأن شركات الأدوية قررت ألا تكشفَ عن نتائج تجارِبها لمراقبي الأدوية إلا في سريةٍ تامة؛ ومن ثَمَّ فإن أهم مَهمةٍ تتعلق بالطب القائم على الأدلة، وأبرز مثال على مشكلةٍ كان يجب أن تستفيد من وجود أعيُنٍ وعقولٍ كثيرة تتمُّ هكذا في سريةٍ بعيدًا عن الأنظار.

وهذه السِّرية الخاطئة المريبة تتجاوز مراقبي الأدوية؛ فنجد أن المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي بالمملكة المتحدة مُكلَّف بمَهمة إعطاء توصياتٍ عن أي العلاجات أفضل من حيث التكلِفة، وأيها أكثر نجاحًا. وهو في هذا يواجه المشكلة نفسها التي تواجهني وتواجهك؛ فهو ليس له أي حقٍّ قانوني على الإطلاق لأن يَطَّلع على البيانات المتعلقة بأمان أي عقَّارٍ أو فاعليته؛ إذا كانت الشركة المنتِجة لا تريد أن تفصح عنها، حتى وإن كان لدى مراقبي الأدوية جميع تلك البيانات. وإذا أراد عمل «تقييم فني» لعلاجٍ ما فإنه يطلب من الشركة أن تتيح له المعلومات التي ترى أنها مناسبة. أمَّا عن «الإرشادات» المتعلقة بالعلاج في مجالٍ كامل من مجالات الطب، فإنه يكون أكثر تأثُّرًا بما يتم نشره في الدوريات الطبية. ونتيجةً لهذا، فحتى هذا المعهد يمكن أن ينتهيَ به الأمر بأن يعمل على أساس عيناتٍ مشوَّهة ومحررة ومتحيزة من البيانات.

وأحيانًا ما يكون لهذا المعهد القدرة على الوصول إلى بعض البيانات الإضافية غير المنشورة من شركات الأدوية، وهي معلومات لا يُسمح للأطباء والمرضى بالاطِّلاع عليها، رغم حقيقة أنهم من يتخذون القرارات بشأن وصف الأدوية أو يتناولونها بالفعل. ولكن حتى عندما يحصل على المعلومات بهذه الكيفية، يمكن أن يكون بشروطٍ صارمة تتعلق بالسِّرية؛ مما يجعل المستندات التي تُنشر في النهاية شديدة الغرابة والتشوُّه. وفي الشكل التالي على سبيل المثال، تجد أحد المستندات الخاصة بهذا المعهد، وهو الذي يناقش ما إذا كان من الأفضل تناول عقَّار اللوسنتس، وهو عقَّار غالي الثمن جدًّا؛ إذ يتكلف ما يزيد عن ألف جنيه إسترليني عن كل مرةٍ من العلاج، ويُحقن في العين لعلاج حالةٍ تُسمَّى الضمور الشبكي الحاد.

fig3
شكل ١-٣
كما يمكن أن تلاحظ، حُجبت بعض أجزاء المستند الذي يُصدره المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي المتعلق بما إذا كان هذا العلاج مفيدًا أم لا. فلا يقتصر الأمر على أن البيانات الخاصة بفاعلية العلاج حُجبت بتغطيتها بمستطيلاتٍ سوداء سميكة بحيث حتى لا يَطَّلع عليها أيٌّ من الأطباء أو المرضى، بل من السُّخف أيضًا أنه حتى أسماء بعض التجارِب غائبة؛ مما يمنع القارئ من إدراك أي شيءٍ عن وجودها، أو البحث عن معلوماتٍ بشأنها. والأكثر إزعاجًا على الإطلاق — كما يُمكن أن تلاحظ في النقطة الأخيرة — أنه حتى البيانات الخاصة بالأحداث السلبية حُجبت أيضًا، وإنني أُعيد عرض الصفحة بأكملها هنا لأنني أخشى إن لم أفعل هذا ألا تُصدِّق أن تلك الأمور الغريبة جدًّا تحدث. وهذا المستوى من الحجب لا يُعَد ظاهرةً يومية، ولكنه يُصوِّر مدى السُّخف الذي أصبح مجالُ الطب يتقبَّله في مستنداتٍ مهنية لا يكترث معظم الناس بقراءتها.68

السؤال الآن: لماذا لا نتمكن جميعًا، معشر الأطباء والمرضى وطاقم المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي، من الوصول إلى معلومات التجارِب التي يَطَّلِع عليها مراقبو الأدوية؟ ذاك تساؤل طرحتُه على كلٍّ مِن كنت وودز من وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية، وهانس جيورج آيكلر المدير الطبي للوكالة الأوروبية للأدوية، في عام ٢٠١٠. وكلٌّ منهما على حدةٍ أعطاني الجواب نفسه، وهو أن الأشخاص الموجودين خارج هاتين الوكالتين لا يمكن الوثوق في تعاملهم مع تلك المعلومات؛ إذ يمكن أن يُسيئوا تفسيرها إما عمدًا وإما بسبب عدم الكفاءة. وكلٌّ منهما على حدةٍ أيضًا — وإن كنت أظن أنهما قد تحدَّثا عن هذا الأمر في بعض الحفلات — عرَض الرعب المثار بخصوص اللَّقاح الثلاثي باعتباره مثالًا تقليديًّا يُوضِّح كيف يمكن أن تُحدِث وسائل الإعلام حالة فزع قومية على غير أساسٍ من أدلة موثوق فيها، مُسبِّبةً مشكلاتٍ خطيرةً تتعلق بالصحة العامة. فكيف تكون الحال لو أتاحت الوكالتان البياناتِ الأساسيةَ التي تتعلق بأمان العقاقير، وحللها أناس غير متخصصين بطريقةٍ خاطئة، متسببين في حالات ذعرٍ تمنع المرضى من تناول أدويةٍ قد تكون منقذةً لحياتهم؟

إنني أتفق أن هذه مخاطرة، ولكني أعتقد أيضًا أن هناك خطأً في الأولويات؛ فأعتقد أن مزايا وجود الكثير من الجهات التي تسعى لحل هذه المشكلات البالغة الأهمية هي مزايا هائلة، ولا يُعَد احتمال وجود قليلٍ من مثيري الذعر اللاعقلانيين عُذرًا لإخفاء البيانات. كما أن كلًّا من شركات الأدوية ومراقبي الأدوية يقول إنه بإمكاننا بالفعل الحصول على جميع المعلومات التي نحتاج إليها من مواقع الإنترنت التابعة لأولئك المراقبين ولكن في صورةٍ ملخَّصة.

وسنرى الآن أن هذا غير صحيح.

(١١-٢) ثانيًا: العقبات التي يضعها مراقبو الأدوية ليجعلوا من الصعب الوصول إلى البيانات التي لديهم

حينما تتعرَّض شركات الأدوية للانتقاد، فإنها غالبًا ما تشعر بالسخط وتعلن أنها بالفعل تتيح للأطباء والمرضى ما يكفي من البيانات حتى تكون قرارتهم سليمة. وتقول: «إننا نعطي كل البيانات المطلوبة لمراقبي الأدوية، ويمكنك الحصول عليها منهم.» وبالمثل يُصرُّ مراقبو الأدوية على أن كلَّ ما أنت بحاجةٍ لفعله هو أن تدخل على مواقع الإنترنت الخاصة بهم، وهناك ستجد بسهولةٍ جميع المعلومات التي تحتاج إليها. في واقع الأمر، إن هناك لعبةً قذرة يجد فيها الأطباء والأكاديميون الذين يحاولون التوصُّل إلى جميع البيانات المتعلقة بالعقاقير أنفسَهم في متاهة؛ إذ يسعَوْن للحصول على معلوماتٍ يصعب الوصول إليها إلى جانب ما بها من أخطاءٍ قاتلة.

أولًا، وكما رأينا بالفعل، إن مراقبي الأدوية ليست لديهم كل بيانات التجارِب، وحتى التي لديهم لا يعلنون عنها بالكامل. كما أن المستندات التلخيصية متاحة بالنسبة إلى التجارِب المبكرة التي أُجريت بغرض إيصال عقَّارٍ ما إلى سوق الدواء في المقام الأول، ولكن فيما يتعلق فقط باستخداماته المرخَّصة. وحتى حينما يُعطَى مراقب الأدوية بياناتٍ تتعلق بدرجة أمان الاستخدامات غير المرخصة لعقَّارٍ ما (كما في حالة عقَّار الباروكستين التي ذكرناها سابقًا)، فهو لا يتيحها للناس، بل تقبع في سريةٍ ضمن أرشيفاته.

فعلى سبيل المثال، يُعَد دولوكسيتين عقَّارًا آخَر واسع الاستخدام إلى حدٍّ ما، ويُعطَى عادةً كمضادٍّ للاكتئاب. وفي تجرِبةٍ أُجريت على استخدامه لغرضٍ مختلف تمامًا — وهو علاج مرض سلس البول — حدثت محاولات عدة فيما يبدو للانتحار.69 وهذه معلومة مهمة ومثيرة للاهتمام، ولدى هيئة الغذاء والدواء الأمريكية البيانات ذات الصلة؛ فقد أجرت دراسةً عن هذه المسألة، وتوصلت إلى حكم يتعلق بما إذا كانت المخاطرة باستخدام ذلك العقَّار جوهريةً أم لا. ولكن ليس بإمكانك أن تجد أيًّا من تلك المعلومات في موقع تلك الهيئة على الإنترنت؛ لأن الدولوكسيتين لم يحصل قطُّ على ترخيصٍ لاستعماله في علاج سلس البول.70 واستُخدمت بيانات التجرِبة فقط من قِبل الهيئة من أجل الوصول إلى قرارها في هذا الشأن. وهو موقف يحدث كل يوم.
ولكن حتى حينما يُسمح لك بالاطِّلاع على نتائج التجرِبة التي في حوزة مراقبي الأدوية، فإن الحصول على هذه المعلومات من مواقعهم على الإنترنت يُعَد أمرًا بالغ الصعوبة؛ فدوالُّ البحث في موقع هيئة الغذاء والدواء بها مشكلة كبيرة، كما أن محتواها عشوائي وسيئ التنظيم وينقصه الكثير، ولا تجد سوى القليل جدًّا من المعلومات التي تُمكِّنك من تحديد ما إذا كانت التجرِبة قد خضعت لعوامل تحيُّز عمدًا أم لا. ونجد هنا مجدَّدًا، بصفةٍ جزئية من خلال الإهمال وانعدام الكفاءة، أنه من المستحيل أن نصل إلى المعلومات الأساسية التي نحتاج إليها. لكن شركات الأدوية والمراقبين ينكرون هذا، ويقولون إنك إذا بحثت في مواقعهم على الإنترنت فستجد كل المعلومات التي تريدها. ومن ثَمَّ دعنا نستعرض بإيجازٍ ما يحدث في هذا الإطار، وهو أمر يثير الحَنَق والسخرية. والحالة التي أنا بصددها هنا نُشرت منذ ثلاث سنواتٍ في دورية «جيه إيه إم إيه» الأمريكية كمثالٍ رائع للمشكلات الكبيرة التي توجد في موقع هيئة الغذاء والدواء على الإنترنت،71 وإذا كرَّرناها اليوم، في عام ٢٠١٢، فسنجد أن لا شيء قد تغير.

لذا، فلنفترض أننا نريد أن نجد نتائج جميع التجارِب التي تحت يد الهيئة عن عقَّارٍ يُسمَّى البريجابالين، التي يُستخدم فيها لعلاج آلام مرضى السكر الذين تأثَّرتْ أعصابهم بهذا المرض (في حالةٍ تُسمَّى «اعتلال الأعصاب الطرفية السكري»). وأنت تريد تقرير الهيئة عن هذا الاستخدام بعينه، وهو ملف بتنسيق بي دي إف يحتوي على جميع التجارِب. ولكن لو بحثت عن «تقرير البريجابالين» مثلًا على موقع الهيئة، فإنك ستجد أكثر من مائة ملف لم تتم تسمية أيٍّ منها باسمٍ واضح، وليس أيٌّ منها الملفَّ المتعلق بتقرير الهيئة عن هذا العقَّار. وإذا دخلت على رقم الطلب — وهو المعرِّف المميِّز للملف الذي تبحث عنه — فلن تحصل على أي نتائج.

وإذا كنت محظوظًا أو حكيمًا، فستذهب إلى صفحة العقاقير في الموقع؛ فإذا كتبت كلمة «بريجابالين» هناك، فستحصل على ثلاثة ملفات خاصة بالطلبات. لماذا ثلاثة؟ لأن هناك ثلاثة ملفات مختلفة، كلٌّ منها عن حالةٍ مختلفة يمكن أن يُستعمل العقَّار لعلاجها، ولا يخبرك الموقع بأي حالةٍ يتعلق بها كلٌّ من هذه الملفات الثلاثة؛ ومن ثَمَّ يتعين عليك أن تتبع طريقة التجرِبة والخطأ لاكتشافها. وهذا ليس بالأمر السهل كما يبدو؛ فأنا لديَّ الملف الصحيح الخاص بالبريجابالين واعتلال الأعصاب الطرفية السكري أمامي هنا، وهو يتألف مما يقرب من أربعمائة صفحة، ولكنه لا يخبرك بأنه عن هذا المرض إلى أن تصل إلى الصفحة التاسعة عشرة منه. فلا يوجد ملخص تنفيذي في بدايته، بل في الواقع لا توجد صفحة للعنوان، ولا صفحة للمحتويات، ولا حتى أي إشارةٍ إلى ما يختص به هذا الملف، وهو ينتقل عشوائيًّا من ملفٍّ فرعي إلى آخر، وكلها ممسوحة ضوئيًّا ومُجمَّعة في الملف العملاق نفسه.

وإذا كنت هاويًا للكمبيوتر، فلعلك تعتقد أن هذه الملفات إلكترونية؛ أي أنها بتنسيق بي دي إف، وهو نوع من التنسيقات صُمِّمَ خصوصًا لكي يجعل المستندات الإلكترونية مفيدة. وأيُّ هاوٍ للكمبيوتر يعرف أنه لو أراد أن يجد شيئًا ما في مستندٍ إلكتروني، فالأمر سهل؛ فما عليه سوى أن يستخدم أمر البحث وأن يكتب مثلًا «اعتلال الأعصاب الطرفية» وسوف يجد الكمبيوتر العبارة المطلوبة مباشرةً. لكن الأمر ليس كذلك؛ فتقريبًا على النقيض من جميع الملفات الحكومية الجادة في العالم، تتكوَّن الملفات في هذا الموقع من «سلسلة من الصور الفوتوغرافية» لصفحات النص، وليس النص نفسه. وهذا يعني أنه ليس بإمكانك البحث على نحوٍ مُثمر عن عبارةٍ معينة. ولكن بدلًا من هذا يتعيَّن عليك أن تستعرض بعينيك الملف بالكامل بحثًا عن هذه العبارة حتى تصل إليها بعد جهدٍ كبير.

يُمكنني الاستمرار في هذا، وسوف أفعل. وهناك ما هو أشبه في هذا الملف ﺑ «قائمة المحتويات» في الصفحة السابعة عشرة، ولكن أرقام الصفحات فيها خاطئة. يكفي هذا، لن أستمر. فلا يوجد داعٍ لتلك الربكة والفوضى. وهذه المشكلات ليست ناجمةً عن مسائل فنية تخص التجارِب، ولن نتكلف الكثير لإصلاحها. وإنها أمورٌ ببساطةٍ ضارة، ونأمل أن يكون سببها الإهمال فقط.

إنها لمأساة حقًّا؛ لأنَّك لو استطعت أن تصل إلى هذا الملف وتحصل عليه، فستجد أنه ممتلئ بالمفاجآت المُخيفة، وهي أمثلة واضحة لمواقف استَخدمت فيها شركةُ أدويةٍ وسائلَ إحصائيةً مراوغة لتصميم دراسةٍ ما وتحليلها بطريقةٍ مُقدَّرٍ سلفًا منذ بدايتها أن تعمل على تضخيم فوائد العقَّار.

فعلى سبيل المثال، في التجارِب الخمس التي أُجريت على عقَّار البريجابالين والألم، توقَّف الكثير من الناس عن المشاركة في الدراسة وخرجوا منها. وهذا أمر شائع في التجارِب الطبية، كما سترى بعد قليل، وغالبًا ما يحدث هذا حينما يجدون أن دواءً ما غير مفيد أو سبَّبَ آثارًا جانبيةً سيئة. وخلال هذه التجارِب أنت تقيس مقدار الألم على فتراتٍ منتظمة، ولكن لو خرج بعض الناس من التجارِب، فستُواجَه بسؤال مهم، وهو: أيُّ نوع من قياسات الألم يتعيَّن عليك استعماله لهم في نتائجك؟ إننا نعلم على أي حال أن الذين يخرجون من التجارِب يكون من المرجح أن العقَّار كان له تأثير سيئ عليهم أو لم يتوافقوا معه.

لقد قررت شركة فايزر أن تستعمل طريقةً بحثيةً ما تُسمَّى «تكرار الملاحظة الأخيرة في المراحل التالية»، التي تعني ما تتوقعه منها؛ فأنت تأخذ آخر قياسٍ لشدة الألم أثناء خضوع المرضى للعلاج بالعقَّار، وقبل خروجهم من التجرِبة مباشرةً، ثم تضع هذه النتيجة نفسها في كل مقاييس الألم المتبقية التي فاتتهم، بعد أن توقَّفوا عن الذهاب للقاءات المتابعة.

وقد اعترضت هيئة الغذاء والدواء على تلك الطريقة، وقالت بحقٍّ إن استراتيجية شركة فايزر تجعل الدواء يبدو أفضل مما هو عليه بالفعل. وللحصول على صورةٍ أكثر حيادًا، يجب أن نفترض أن الذين انسحبوا من التجرِبة توقَّفوا عن تناول الدواء بسبب آثاره الجانبية؛ ومن ثَمَّ يجب أن يكون قياس الألم لديهم مُعبِّرًا عن الواقع، وهو أنهم لن يجنوا أيَّ نفعٍ من الدواء في الاستخدام العادي له؛ ومن ثَمَّ يكون مستوى الألم الصحيح الواجب قياسه لهم هو الألم عند بداية الدراسة قبل تَلقِّيهم أيَّ نوعٍ من العلاج (وإذا كان الأمر يهمك، فهذا ما يُسمَّى «تكرار الملاحظة القاعدية في المراحل التالية»). وهكذا أُعيدَ التحليل كما ينبغي بنحوٍ سليم، ونشأت نظرة أكثر تواضعًا، ولكنها أكثر دقةً لفائدة الدواء. وفي هذه الحالة تبيَّن أن استخدام طريقة «المُلاحظة الأخيرة» أدَّى إلى المبالغة في تقدير تحسُّن حالة الألم بمقدار الرُّبع تقريبًا.

وهنا مربط الفرس؛ إذ نُشرت حينها أربعٌ من بين خمس تجارب في الدوريات الأكاديمية التي تقوم على مراجعة الأقران، أي في المكان الذي يتطلع إليه الأطباء بحثًا عن أدلةٍ عمَّا إذا كان دواءٌ ما مفيدًا أم لا (لاحظ أن إحدى تلك التجارِب لم تُنشر البتة). واستخدم كل واحدٍ من التحليلات المنشورة طريقة «تكرار الملاحظة الأخيرة في المراحل التالية»، وهي الطريقة المخادعة التي تُغالي في تقدير فوائد الدواء. ولم يعترف أيٌّ منها بأن طريقة «الملاحظة الأخيرة» تُبالغ في ذكر هذه الفوائد.

يمكنك أن تدرك السبب في أهمية أننا نستطيع الوصول إلى كل المعلومات التي يُمكننا الحصول عليها عن كل تجرِبةٍ دوائية؛ فلا يقتصر الأمر على حجب بعض التجارِب بأكملها عنَّا، وإنما كثيرًا أيضًا ما تكون هناك مشكلات خفيَّة في الطرق البحثية المُستخدمة. وتفاصيل ذلك معقَّدة، وهناك الكثير من التجارِب المُخادعة، كما سنرى لاحقًا، بها عيوب قد لا تكون واضحةً حتى في الأبحاث الأكاديمية، ناهيك عن التلخيصات المُقتضبة القليلة المعلومات التي تَرِد من مراقبي الأدوية. وفضلًا عن هذا، وكما سنرى أيضًا بعد قليل، كثيرًا ما تكون هناك تناقُضات تثير القلق بين المستندات التلخيصية المقدَّمة من المراقبين وما يحدث بالفعل في التجارِب.

ولهذا السَّبب يلزمنا أن نحصل على مستندٍ أكثر تفصيلًا عن كل تجرِبة، وهو ما يُطلَق عليه «تقرير الدراسة الإكلينيكية». ويقدم هذا التقرير عرضًا مطولًا للبحث، يصل أحيانًا إلى آلاف الصفحات، ولكنه مُكتمِل بدرجةٍ تكفي لجعْل القارئ يدرك تمامًا ما حدث لجميع المُشاركين في التجرِبة، وهو يجعلك تكتشف النتائج السلبية الخفيَّة. وتعطي شركات الأدوية تقرير الدراسة هذا إلى مراقب الأدوية — وإن كان هذا يتم فقط فيما يتعلق بالاستخدامات المرخَّصة رسميًّا للدواء — ومن ثَمَّ يكون لدى كلٍّ من الطرفين نسخة من هذا التقرير، ويجب أن يَسعَد كلٌّ منهما لإتاحته للناس.

وسنرى الآن ما يحدث إذا طلبته من أيٍّ منهما.

(١١-٣) ثالثًا: إخفاء مراقبي الأدوية لتقارير الدراسات التي بحوزتهم

في عام ٢٠٠٧، كان باحثون من مركز كوكرين الإسكندنافي يعكفون على إجراء مراجعةٍ منهجية لعقَّارَين واسعَي الانتشار من عقاقير إنقاص الوزن، وهما أورليستات وريمونابانت. والمراجعة المنهجية — كما تعلم — هي التلخيص النموذجي للأدلة على فاعلية أي علاج، وهي تُعَد منقذةً للحياة لأنها تُعطينا أفضل فَهْمٍ مُمكن للتأثيرات الحقيقية للعلاج، بما فيها آثاره الجانبية. ولكن هذا يتطلب الوصول إلى جميع الأدلة؛ فإذا كان بعضها غير موجود، ولا سيَّما إذا كان ثَمَّةَ صعوبة مُتعمَّدة في الحصول على البيانات التي ليست في صالح شركات الأدوية، فستكون الصورة التي أمامنا مُشوَّهة.

علم الباحثون أن بياناتِ التجارِب التي كان بوسعهم الحصول عليها من الدوريات الأكاديمية المنشورة غيرُ كاملةٍ على الأرجح لأن النتائج السلبية للتجارب عادةً ما تُترك دون نشر. ولكنَّهم علموا كذلك أن الوكالة الأوروبية للأدوية لديها الكثير من هذه المعلومات؛ إذ إن مُصَنِّعي الأدوية مُضطرون إلى إعطاء تقارير الدراسة الخاصة بها لمراقب الأدوية إذا أرادوا إدخالها إلى سوق الدواء. ولأن المراقبين من المفترض أنهم حريصون على مصالح المرضى، تقدَّموا بطلبٍ إلى الوكالة للحصول على البروتوكولات وتقارير الدراسات، وقد حدث هذا في يونيو عام ٢٠٠٧.

وفي أغسطس من العام نفسه، كان رد الوكالة أنْ قررت ألا تُعطيَ تقارير الدراسات عن تلك التجارِب، مُستشهدةً بقسمٍ من لوائحها يسمح لها بحماية المصالح التجارية والملكية الفكرية لشركات الأدوية. وردَّ الباحثون فورًا موضِّحين أنْ لا شيء في تقارير الدراسات يُقوِّض حماية المصالح التجارية لأي شخص، وأنه لو كان هذا يحدث، لوجب على الوكالة أن تشرح السبب في تفكيرها بأن المصالح التجارية لشركات الأدوية يجب أن تعلوَ على سلامة المرضى.

والآن يجب أن نتوقَّف للحظةٍ لنفكر فيما تفعله الوكالة هنا. إن المراقب هو الذي يُراقب العقاقير ويعطي التصاريح لها، بالنسبة إلى أوروبا كلها، بغرض حماية أهلها، ولا يستطيع الأطباء والمرضى اتخاذ قراراتٍ صائبة بشأن العلاجات إن لم يستطيعوا الوصول إلى كل ما يلزم من البيانات. والوكالة لديها تلك البيانات، ولكنها رأت أن مصالح شركات الأدوية أكثر أهمية. وبعد تحدُّثي إلى الكثير من المسئولين في مجال رقابة الأدوية، تكوَّنت لديَّ وجهة نظرٍ مُتواضعة فيما يمكن أن يفكر فيه أولئك المراقبون في هذا الشأن. فمن خلال خبرتي معهم، أرى أن أذهانهم مشغولة بفكرة أنهم يجب أن يطَّلِعوا على جميع البيانات، وأن يستخدموها في اتخاذ قرارٍ عما إذا كان عقَّارٌ ما يمكن أن يُطرح في سوق الدواء أم لا، معتقدين أن هذا يكفي، ولا حاجة للأطباء ولا المرضى للاطلاع على هذه البيانات لأنهم تولَّوْا هذه المهمة برُمَّتها.

وهنا يوجد عدم إدراكٍ لفارقٍ مُهم للغاية بين القرارات التي يتخذها مراقبو الأدوية، والقرارات التي يتخذها الأطباء؛ فعلى العكس مما قد يعتقده بعض مراقبي الأدوية، ليس الأمر أن العقَّار «جيد» ومن ثَمَّ يُطرح في السوق، أو «سيِّئًا» ومن ثَمَّ لا يُطرح. فالمراقب يتخذ قرارًا بما إذا كان العقَّار في صالح الناس ككلٍّ ومن ثَمَّ يجب أن يكون مُتاحًا لهم، حتى لو لم يُستخدم إلا في بعض الحالات غير الواضحة وعلى نحوٍ قليل وبحرصٍ شديد. وهكذا خفَّضوا حد النزول إلى السوق هذا، كما سنرى، وكانت النتيجة أن طُرحت أعداد كبيرة من الأدوية (الغالبية العظمى منها في الواقع) يندر استخدامها.

والحقيقة أن الطبيب في حاجةٍ لأنْ يستخدم المعلومات نفسها المُتاحة لمراقب الأدوية لكي يتخذ قرارًا مُختلفًا للغاية يجيب عن السؤال التالي: هل هذا العقَّار هو المناسب للمريض الذي يوجد أمامي الآن؟ وكون العقَّار صُدِّق على إمكانية وصفه طبيًّا للمرضى لا يعني أنه جيد على وجه الخصوص أو أنه الأفضل تمامًا، بل الحقيقة أن هناك قراراتٍ معقدةً يجب اتخاذها في كل موقفٍ علاجي عن أفضل عقَّارٍ لذلك الموقف خصوصًا؛ فربما لا يتحسَّن المريض باستخدام عقَّارٍ ما؛ ولذا نحتاج لأن نُجرِّب معه عقَّارًا آخر من فئةٍ مختلفة من العقاقير. ويَحتمِل أن هذا المريض يُعاني مثلًا فشلًا كُلَويًّا طفيفًا؛ ومن ثَمَّ لا حاجة بنا لأنْ نَصِف له أكثر العقاقير شيوعًا، إذا كان يُسبب مشكلاتٍ في المرضى ذوي الكُلى الضعيفة. كما قد نحتاج لأنْ نَصِف عقَّارًا لا يتعارض مع عقاقيرَ أخرى يتناولها المريض.

هذه الاعتبارات المُعقَّدة تُعَد السبب في مُوافقتنا على وجود مجموعةٍ متنوعة من العقاقير في سوق الدواء، حتى لو كان بعضها أقلَّ فائدةً بصفةٍ إجمالية؛ فقد يكون هذا البعض مفيدًا في حالاتٍ معينة. ولكننا في حاجةٍ لأنْ يكون بإمكاننا الاطِّلاع على جميع المعلومات عن هذه العقاقير لكي نتخذ تلك القرارات. فلا يكفي أن يُقرِّر مراقبو الأدوية أنهم صدَّقوا بصفةٍ إجمالية على عقَّارٍ ما؛ ومن ثَمَّ يجب أن نُرحِّب جميعًا بوصفه للمرضى، فالأطباء والمرضى يحتاجون إلى بيانات العقاقير كما يحتاج إليها المراقبون سواءٌ بسواء.

وفي سبتمبر ٢٠٠٧، أكَّدَت الوكالة الأوروبية للأدوية لباحثي كوكرين أنها لن تكشف عن تقارير الدراسات عن عقَّارَي الأورليستات والريمونابانت، وفسَّرَت هذا بأن لديها سياسةً بعدم الإفصاح عن البيانات التي تُعطى كجزءٍ من التصريح بالتسويق. فنشأت مشكلة خطيرة؛ إذ كان عقَّارا إنقاص الوزن هذان يُوصفان بكثرةٍ في أنحاء أوروبا كافة، ولكن لم يكن بوسع الأطباء والمرضى الحصول على معلوماتٍ مهمة عما إذا كانا مفيدين أم لا، وعن مدى سوء آثارهما الجانبية وأيهما أكثر فاعلية، وغير ذلك من قائمةٍ طويلة من التساؤلات المهمة. وهكذا كان يتعرَّض المرضى إلى ضررٍ محتمل، من خلال قرارات الوصف اليومية لهذين العقَّارين، بسبب هذا النقص في المعلومات الذي تسبَّبت فيه الوكالة.

فذهب الباحثون إلى محقق الشكاوى التابع للاتحاد الأوروبي، ومعهم ادعاءان واضحان؛ أولهما: أن الوكالة لم تستطع إبداء أسبابٍ كافية لمنعهم من الحصول على البيانات. وثانيهما: أن رد الوكالة، أي ادعاءها القاطع بأن المصالح التجارية يجب حمايتها، لم يكن مُبرَّرًا؛ إذ لم يكن ثَمَّةَ أي أمرٍ يتعلق بالمصلحة التجارية في نتائج التجارِب، باستثناء البيانات المُتعلقة بالسلامة والفاعلية التي من الواضح أن الأطباء والمرضى في حاجةٍ للحصول عليها. ولم يكن أحد يعرف في تلك الآونة أن هذه الحادثة ستكون بدايةً لمعركةٍ من أجل البيانات ستُلحِق العار بالوكالة، وستدوم لأكثر من ثلاث سنوات.

واستغرقت الوكالة أربعة أشهرٍ حتى ترد، وعلى مدى السنة التالية اكتفت بتكرار موقفها، وهو ادعاؤها بأن إفشاء أي نوعٍ من المعلومات «سيضر بالمصالح التجارية للأشخاص أو الشركات أو يؤثر عليها بالسلب دون سببٍ معقول» أمر غير مسموح به. وذكرت أن تقارير الدراسات ربما تتضمَّن معلوماتٍ عن الخطط التجارية المتعلقة بالعقاقير محل البحث. ورد الباحثون قائلين إن هذا أمر غير مرجَّح، ولكن مع افتراض وجوده فإن له أهمية هامشية؛ حيث إنه مُجرد جزءٍ من موقفٍ أكثر أهميةً وإلحاحًا بكثير: «يَحتمِل أن ينتج عن موقف الوكالة موت مرضى بغير جريرة، أو علاجهم بعقاقيرَ غيرِ فعالةٍ وربما ضارة.» واعتبروا سلوك الوكالة هذا موقفًا لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيًّا، وأكثر من هذا أنهم قالوا إن الوكالة لديها تضارب مصالح واضح؛ فيمكن استخدام هذه البيانات في تحدِّي أحكامها المقتضبة بخصوص فوائد تلك العلاجات ومخاطرها. ولم تستطع الوكالة توضيح السبب في اعتبارها أن حصول الأطباء والمرضى على تقارير الدراسات وبروتوكولاتها يمكن أن يضر بالمصالح التجارية لأي شخص، وأن هذه المصالح التجارية أكثر أهميةً من سلامة المرضى.

بعد مرور ما يقرب من عامين على هذا السجال، غيَّرَت الوكالة أسلوبها؛ إذ بدأت فجأة تجادل قائلةً إن تقارير الدراسات تتضمَّن بياناتٍ عن المرضى الخاضعين للبحث. ولم يحدث من قَبلُ أن أثارت الوكالة هذه الحُجة، لكن أيضًا هذه الحُجة غير صحيحة؛ فقد تكون هناك بعض المعلومات في أقسامٍ بأكملها من تقارير الدراسات تعطي تفاصيل عن الحالات الغريبة لبعض المشاركين، أو عن آثارٍ جانبية محتمَلة، ولكنها جميعًا تقع في الملحق نفسه، ويمكن حذفها بسهولة.

لقد كانت النتائج التي خلص إليها محقق الشكاوى التابع للاتحاد الأوروبي واضحة: تقاعست الوكالة عن أداء واجبها بأن تُعطيَ تفسيرًا كافيًا أو حتى متماسكًا للسبب في رفضها إتاحة تلك المعلومات المهمة للأطباء والمرضى. وتوصَّل إلى حكم مبدئي، وهو أن هذا السلوك يُعَد نوعًا من سوء الإدارة. وبعد ذلك لم يكن مضطرًّا لأنْ يُبديَ أيَّ رأيٍ آخر عن الحُجج الواهية التي أبدتْها الوكالة، ولكنه قرَّر أن يفعل هذا على أي حال. وكان تقريره شائنًا للوكالة؛ إذ قال إنها أخفقت بشدةٍ في مواجهة تُهمة خطيرة بأن حَجْبها للمعلومات الخاصة بتلك التجارِب تَنافى مع الصالح العام وعرَّض المرضى للضرر. كما شرح كيف فحص بنفسه تقارير الدراسات بالتفصيل، فوجد أنها لا تتضمَّن أي معلوماتٍ سرية من الناحية التجارية، ولا أيَّ تفاصيل عن التطوير التجاري للعقاقير. وتبيَّن عدم صحة ادِّعاءات الوكالة بأن استجابتها لطلبات الاطلاع على البيانات ستفرض عليها عِبئًا إداريًّا غير ملائم، وأن الوكالة بالغت في تقدير هذا الأمر؛ فقال تحديدًا إن حذف أي بياناتٍ شخصية قد تكون موجودةً أحيانًا هو أمر سهل للغاية.

وطالب مُحقِّق الشكاوى الوكالةَ بأن ترفع يدها عن البيانات أو تُبديَ تفسيرًا مُقنعًا للسبب في امتناعها عن ذلك. ومما يثير الدهشة أن هذه الوكالة، التي تُعد الجهة القائمة على الرقابة على العقاقير على مستوى أوروبا بكاملها، استمرت في رفضها إتاحة المستندات التي بحوزتها. وبسبب هذا التقاعس، عانى الناس بالتأكيد بغير داعٍ، بل وربما مات بعضهم، بسبب عدم توافر تلك المعلومات. بل حدث بعدها تدهور أكثر في سلوك تلك الوكالة الذي صار غير معقول؛ إذ أكدت أن أي ذرةٍ من تفكير الشركة في كيفية إجراء التجرِبة التي يمكن معرفتها من قراءة تقارير الدراسات وبروتوكولاتها تُعَد من الأمور المهمة تِجاريًّا فيما يتعلق بأفكارها وخُططها، وقالت إن هذا صحيح حتى لو كانت الأدوية قد وصلت بالفعل إلى سوق الدواء، وكانت المعلومات مستقاةً من تجارب إكلينيكية نهائية عند آخر مرحلةٍ من العملية التجارية لإنتاج العقَّار. وردَّ الباحثون قائلين إن هذه حماقة، فهم يعلمون أن البيانات المحجوبة غالبًا ما تكون سلبية؛ ومن ثَمَّ فإن أي شركةٍ أخرى تجد نتائجَ سلبيةً لهذه العقاقير ستكون «أقل» قابليةً لأنْ تحاول إدخال مُنافِس لها في سوق الدواء، إذا تبيَّن أن فوائد العقاقير أكثر تواضُعًا مما كان يُظنُّ سابقًا.

ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ إذ استبعدت الوكالة بشدةٍ فكرةَ تعرُّض الأرواح للخطر، قائلةً إن عبء إثبات ذلك وإظهاره يقع على عاتق الباحثين. ومن وجهة نظري الشخصية أن هذا — وأستميحك عذرًا أن أقول — موقف خسيس بعض الشيء، ولا سيَّما إذا وضعنا في اعتبارنا ما حدث، وسأذكره في الفقرة التالية. فمن الصحيح بوضوحٍ أن الأطباء والمرضى إذا لم يكن بوسعهم معرفة أفضل العلاجات، فسوف يجانبهم الصواب عند اتخاذ قراراتهم العلاجية؛ مما يُعرِّض المرضى لأضرارٍ لا لزوم لها. وفضلًا عن هذا، من الواضح أن زيادة عدد الأكاديميين الذين يُصدرون أحكامًا شفَّافة بشأن بيانات التجارِب المتاحة للجميع هي طريقة أكثر عقلانيةً بكثيرٍ لتحديد فوائد ومخاطر أي إجراءٍ طبي من مجرد إصدار حُكمٍ يتضمَّن الموافقة أو الرفض، وتلخيص بحثي من جانب مراقب الأدوية. وهذا ينطبق على عقاقير مثل أورليستات وريمونابانت، كما ينطبق على أي عقَّارٍ آخر، وسنرى الكثير من الحالات التي لاحظ من خلالها الأكاديميون وجود مُشكلات في عقاقيرَ أغفلها المراقبون.

وفي عام ٢٠٠٩، سُحب أحد العقَّارَين، وهو عقَّار ريمونابانت، من السوق على أساس أنه يزيد قابلية حدوث مُشكلاتٍ نفسية خطيرة والإقدام على الانتحار. حدث هذا في الوقت نفسه الذي كانت تزعم فيه الوكالة الأوروبية للأدوية أن الباحثين مُخطئون في زعمهم بأن حجب المعلومات يضر بالمرضى.

ثم فجأةً زعمت الوكالة أن تصميم التجارِب العشوائية في حد ذاته يُعَد من المعلومات السِّرية تجاريًّا.

دعني أُذكِّرك بما قلته سابقًا بأن أول تجرِبة كانت مذكورةً في الإنجيل في سفر دانيال (١: ١٢)، وصحيح أن الأفكار الأساسية قد نُقحت على مَرِّ الزمان، فإن جميع التجارِب متماثلة في أساسها، وعامة في أي مجال، مع وجود أساسيات لأي تجرِبةٍ حديثة تحددت منذ ما لا يقل عن نِصف قرنٍ مضى. ولا يُوجد أي معنًى مطلقًا لأنْ يزعم أحد أن تصميم أي تجرِبةٍ عشوائية مضبوطة سِر تجاري أو ملكية فكرية لجهةٍ ما.

وهكذا تحوَّل الأمر إلى مسرحيةٍ هزلية؛ ففتح الباحثون جميع الجبهات ضد الوكالة الأوروبية للأدوية؛ فقد خرقت الوكالة إعلان هلسنكي، وهو الدستور الدولي لآداب مهنة الطب، الذي ينص على أن كلَّ من يُجري بحثًا علميًّا يجب عليه أن يُعلن نتائج تجاربه على الملأ. وكان الباحثون يعرفون أن الأبحاث المنشورة تصبغ بيانات التجارِب بصبغةٍ إيجابية لمصلحة شركات الأدوية التي تُموِّلها، وكذلك كانت تفعل الوكالة الأوروبية للأدوية. وقد يموت المرضى لو استمرت الوكالة في حجب البيانات، ولا تُوجد أي قيمةٍ تجارية مهمة في هذا الشأن، وقد كانت تلخيصاتُ البيانات الموجزة التي أتاحتها الوكالة علانيةً غيرَ دقيقة، وكانت الوكالة ضالعة في استغلال المرضى بغرض الكسب التجاري.

وصلنا الآن إلى شهر أغسطس من عام ٢٠٠٩، ولا يزال الباحثون يقاتلون على مدى أكثر من عامين للوصول إلى بياناتٍ تتعلق بعقَّارَين شائعَي الاستخدام موجودة لدى الجهة التي يُفترض أنها تحمي المرضى والناس جميعًا. ولم يكونوا وحدهم في الميدان؛ إذ كانت الدورية الطبية الفرنسية «برسكرير» تسعى جاهدةً في الوقت نفسه للحصول على مستندات الوكالة الأوروبية للأدوية الخاصة بعقَّار الريمونابانت، والتي أُرسل إليها بعض المستندات غير المفيدة، تتضمَّن تقريرًا «مهمًّا جدًّا» يُسمَّى «تقرير التقييم النهائي»، من قِبل الوكالة السويدية التي كانت قد أجازت العقَّار قبل ذلك بكثير. وتستطيع قراءة هذا التقرير بالكامل بتنسيق بي دي إف عبر الإنترنت، أو ربما لا يمكنك هذا. ففي الشكل التالي يُمكنك أن ترى بالضبط ما بدا عليه التحليل العلمي لهذا العقَّار، وهو المستند الذي أرسلتْه الوكالة الأوروبية للأدوية إلى واحدةٍ من أكثر الدوريات العلمية المخصصة للأطباء احترامًا في فرنسا.72 وأعتقد أنه يُخبرنا بقصةٍ واضحة تمامًا، ومما زاد الأمر سوءًا أن هذا المستند كان يحتوي على ستين صفحة بهذا الشكل.
fig4
شكل ١-٤

وفي الوقت نفسه، سلمت وكالة الأدوية الدنماركية ما يربو على ستة وخمسين تقرير دراسات إلى مؤسسة كوكرين، (وإن كان الأمر يحتاج إلى المزيد من جانب الوكالة الأوروبية للأدوية)، ورفضت الحكومة الدنماركية شكوى من شركة الأدوية في هذا الصدد؛ إذ لم تجد أي مشكلةٍ فيما يختص بالمعلومات التجارية (ولا توجد مشكلة بالفعل)، ولا فيما يختص بالمشكلات الإدارية (إذ لا يوجد منها إلا القليل)، ولا الفكرة التي تزعم أن تصميم التجرِبة العشوائية يُعَد من المعلومات التجارية (فهي فكرة تثير السُّخرية). كان هذا يُعَد نوعًا من الفوضى؛ فالوكالة الأوروبية للأدوية — التي ربما تتذكر أنها كانت مسئولةً عن سجل «يودرا سي تي»، أداة الشفافية التي بقيتْ محتوياتها سِرية — أخذت تسلك سلوكًا غريبًا وشاذًّا؛ إذ يبدو أنها كانت مستعدةً لفعل أي شيءٍ في سبيل حجب تلك المعلومات عن الأطباء والمرضى. وكما سنرى لاحقًا، فإن من المحزن أن يكون هذا الأسلوب أو هذا المستوى من السِّرية هو السمة المميزة لعمل هذه الوكالة.

والآن نصل إلى نهاية هذا الطريق الذي سلكتْه هذه الوكالة؛ إذ سلمت تقارير الدراسات النهائية الكاملة إلى مُحقِّق الشكاوى الخاص بالاتحاد الأوروبي، مُذكِّرةً إياه بأنه حتى جدول محتويات كل تقريرٍ منها يُعَد من الأمور التجارية. وما إن صارت هذه المستندات في يد مُحقِّق الشكاوى حتى أسرعوا بإصدار رأيهم النهائي، بأنه لا تُوجد أي بيانات تجارية فيها، وكذلك لا تُوجد فيها معلومات سِرية عن المرضى، وأنه يجب أن تخرج هذه المستندات إلى دائرة العلانية. وهكذا وافقت الوكالة — متباطئةً — على تحديد موعدٍ نهائي لتقديم البيانات للباحثين والأطباء والمرضى الذين يحتاجون إليها. ونُشر حُكم مُحقِّق الشكاوى في نهاية نوفمبر عام ٢٠١٠،73 وكانت الشكوى الأولية قد صدرت في يونيو ٢٠٠٧. وهكذا مرت ثلاث سنوات ونصف من الصراع والإعاقات والمجادلات غير المنطقية من جانب الوكالة الأوروبية للأدوية، والتي كان الواجب خلالها سحب أحد العقَّارَين محل الجدل من سوق الدواء لأنه يضر بالمرضى.

وبعد إرساء هذه السابقة كأساس، كان لزامًا أن تتغير الأحوال في الوكالة الأوروبية للأدوية؛ فاضطُرت إلى مراجعة أسلوبها، وجَعلت تقاريرَ الدراسات لفترةٍ قصيرة مُتاحةً على نطاقٍ أوسع ضمن سياسةٍ جديدة (لكن أُغلق هذا الباب في عام ٢٠١٣، كما ستقرأ في قسم «ماذا بعد؟») ولكن حتى سياسة إتاحة التقارير هذه للناس لم تَحُلَّ مُشكلة الوصول إلى جميع المعلومات المتعلقة بالتجارِب؛ إذ ليس لدى الوكالة في الغالب جميع أقسام جميع التقارير المُتعلقة بجميع استخدامات جميع الأدوية التي صُدِّقَ عليها. ولكن لديها فقط سجلات عن سنواتٍ قليلة هي الأكثر حداثة، وهي للأسف غير مُكتملة؛ إذ إننا في عالم الطب نستخدم علاجاتٍ وصلت إلى سوق الدواء على مدى العقود القليلة الماضية. وفي الواقع، إن هذه الفجوة تتجلَّى بوضوحٍ في أوَّل طلبٍ قدَّمه باحثو كوكرين الذين حققوا الإنجازَ السابقةَ الإشارةُ إليه مع مُحقِّق الشكاوى التابع للاتحاد الأوروبي؛ إذ أرادوا الحصول على المستندات الخاصة بعقاقيرَ مضادةٍ للاكتئاب، وهذا يُعَد بدايةً طيبة؛ إذ كانت هذه العقاقير ساحةً لبعض السلوكيات السيئة على مَرِّ السنين (وإن كان من الواجب أن نتذكر أن مشكلة إخفاء بيانات التجارِب منتشرة في كل ركنٍ من أركان الطب). وكان الذي حدث بعد ذلك أكثر غرابةً حتى من معركة السنوات الثلاث التي خاضتها الوكالة الأوروبية للأدوية لحجب المعلومات الخاصة بعقَّارَي أورليستات وريمونابانت.

قدم الباحثون طلبهم هذا إلى الوكالة الأوروبية للأدوية، التي قالت لهم إن هذه العقاقير صُدِّق عليها حينما كان الترخيص بالتسويق يُمنح من قِبل الدول كلٌّ على حدةٍ وليس من الوكالة بصفةٍ مركزية، وهذه التراخيص المحلية كانت «تُنسخ» وتُرسل إلى جميع الدول الأخرى. وقد كانت وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية، وهي الهيئة القائمة على رقابة العقاقير في المملكة المتحدة، لديها المعلومات التي احتاجها الباحثون، فكان عليهم أن يتصلوا بها للحصول على نسخةٍ منها؛ فقدَّموا طلبًا مكتوبًا إلى تلك الوكالة للحصول على التقارير المتعلقة بعقَّارٍ يُسمَّى الفلوكسيتين، ثم انتظروا الرد. وأخيرًا ردت عليهم موضحة أنها كان يسعدها أن تُقدِّم لهم هذه المعلومات، ولكن ثَمَّةَ مشكلة.

المستندات جميعًا مُزقت.74
وزعمت الوكالة أنها مُشكلة تتعلق بسياستها في الاحتفاظ بالمستندات، والتي تنصُّ على أنها لا تحتفظ بمثل هذه المستندات إلا إذا كانت تتمتع بأهميةٍ خاصة من الناحية العلمية أو التاريخية أو السياسية، ولكن الملفات المطلوبة لا تفي بهذه المعايير. والآن لِنستغرقْ لحظةً لنفكر فيما يجب أن تكون عليه تلك المعايير؛ فلطالما كانت العقاقير المضادة للاكتئاب من فئة «مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية» مجالًا لفضائحَ كثيرةٍ تتعلق بإخفاء بيانات التجارِب، وكان يجب أن يكون هذا كافيًا بالنسبة إليها، ولكن إذا عدت بالذاكرة إلى بداية هذا الفصل، فستجد أن واحدًا منها، وهو الباروكستين، كان طرفًا في تحقيقٍ غير مسبوقٍ استغرق أربع سنواتٍ عما إذا كان من الواجب توجيه تُهَم جنائية ضد شركة جلاكسو سميث كلاين. وكان هذا التحقيق عن هذا العقَّار أكبرَ تحقيقٍ أجرتْه وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية البريطانية فيما يختص بسلامة العقاقير، بل في واقع الأمر إنه كان أكبرَ تحقيقٍ أجرتْه تلك الوكالة على الإطلاق. وبصرف النظر عن ذلك، فإن تقارير الدراسات الأصلية هذه تتضمَّن معلوماتٍ حيويةً بالغة الأهمية تختص بسلامة العقَّار وفاعليته، ولكن تلك الوكالة مزَّقتْها جميعًا، بزعم أنها ليست ذات أهميةٍ علمية أو تاريخية أو سياسية بدرجةٍ كافية.75

وأكتفي معك بهذا القدر الآن!

(١٢) إلى أين وصلنا؟

إن قصة إخفاء بيانات التجارِب طويلة ومعقدة، وتشمل مرضى من أنحاء العالم تعرَّضوا لمخاطر، ولاعبين أساسيين خذلونا لدرجةٍ غير عادية. ولأننا وصلنا إلى قُرب نهاية حديثنا في هذا الصدد، فهذه لحظة مناسبة لكي نُلخص ما عرضناه حتى الآن.

كثيرًا ما تُجرى التجارِب ثم تُترك دون نشر؛ ومن ثَمَّ لا تكون مُتاحة للأطباء والمرضى. وما يُنشر من جميع التجارِب لا يزيد عن النصف، وما تكون لها نتائج سلبية منها هي أكثر قابليةً بمقدار الضعف لأن تُغفَل مما لها نتائج إيجابية. وهذا يعني أن الأدلة التي على أساسها نتخذ القرارات في الحقل الطبي تخضع على نحوٍ منهجي للتشويه لتضخيم فوائد العلاجات حتى نستخدمها. ونظرًا لعدم وجود وسيلة لدينا لنُعوِّض هذه البيانات المخفية، فليست لدينا وسيلة لنعرف الفوائد والمخاطر الحقيقية للعقاقير التي يصفها الأطباء.

إن هذا لَسوءُ سلوكٍ بحثي على مستوًى دوليٍّ كبير، وحقيقة المشكلة معروفة عالميًّا، ولكن لا يكترث أحد لحلها، وإليك الأدلة على ذلك:
  • تسمح لجان الأخلاقيات الطبية للشركات والباحثين الذين لهم سجل سابق من عدم نشر بيانات التجارِب بأنْ يُجروا المزيد من التجارِب على مشاركين من البشر.

  • تسمح الجامعات ولجان الأخلاقيات الطبية بإجراء عقودٍ مع شركات الأدوية تنص صراحةً على أنه من حق مُموِّل التجرِبة أن يتحكم في بياناتها.

  • لم يحدث مطلقًا أي فرضٍ لتسجيل الدراسات لبروتوكولات عملها في سجلاتٍ مُعَدة لذلك تكون متاحةً للناس.

  • الدوريات الأكاديمية لا تزال مستمرةً في نشر تجارب لم تُسجَّل رغم ادِّعائها غيرَ ذلك.

  • مراقبو الأدوية لديهم معلومات حيوية لتحسين رعاية المرضى، ولكنهم يضعون معوقات أساسية كما يلي:
    • لديهم أنظمة سيئة يُقدِّمون من خلالها تلخيصاتٍ رديئةً للمعلومات التي لديهم بالفعل.

    • يعيقون بصورةٍ غريبةٍ وصولَ الباحثين والأطباء للمعلومات التي يريدونها.

  • تحتفظ شركات الأدوية بنتائج التجارِب التي لا يطَّلِع عليها حتى مراقبو الأدوية.

  • الحكومات لم تُطبِّق قطُّ قوانين تُجبِر الشركات على نشر البيانات.

  • الهيئات المهنية الخاصة بالأطباء والأكاديميين لم تفعل شيئًا في هذا الإطار.

(١٣) ماذا نفعل حيال هذا كله؟

سيكون عليك أن تنتظر قليلًا لتعرف إجابة هذا السؤال؛ حيث تجد في القسم التالي المزيد من الأهوال.

(١٤) محاولة الحصول على بيانات التجارِب من شركات الأدوية: قصة عقَّار التاميفلو

أنفقت الحكومات في أنحاء العالم مليارات الجنيهات الإسترلينية في تخزين احتياطي من عقَّارٍ يُسمَّى التاميفلو. وفي المملكة المتحدة وحدها أنفقنا مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية — فلم يتضح الرقم الإجمالي حتى الآن — وحتى الآن أيضًا اشترينا ما يكفي من الأقراص لعلاج ٨٠ بالمائة من السكان إذا ما استشرى وباء أنفلونزا الطيور. وإنه ليحزنني جدًّا أن تُصاب بهذه الأنفلونزا، فهو مرض مفزع حقًّا، ولكننا لم ننفق كل هذه الأموال لكي نقلل فترة استمرار الأعراض المرضية إذا وقع الوباء بمقدار ساعاتٍ قليلة (إن كان هذا العقَّار يحقق هذا بالفعل بدرجةٍ كافية)، وإنما أنفقنا تلك الأموال لكي نقلل معدل حدوث «المضاعفات»، التي تُعَد لفظًا طبيًّا مخفَّفًا يعني في هذه الحالة الالتهاب الرئوي والوفاة.

يظن الكثير من الناس على ما يبدو أن هذا العقَّار يُحقِّق هذا؛ فقالت وزارة الصحة والخدمات البشرية الأمريكية إنه يُنقذ الأرواح، ويقلل حالات دخول المستشفيات. وقالت الوكالة الأوروبية للأدوية إنه يُقلِّل المُضاعفات، وهكذا قالت الجهة القائمة على رقابة الأدوية في أستراليا. وذكر موقع شركة روش على الإنترنت أنه يقلل المضاعفات بنسبة ٦٧ بالمائة.76 ولكن ما الدليل على أن هذا العقَّار يُقلِّل المضاعفات حقًّا؟ إن الإجابة عن أسئلةٍ كهذه تُعَد الشغل الشاغل لمؤسسة كوكرين التي تُعَد بدورها تجمُّع الأكاديميين الدولي الكبير المستقل الذي لا يهدف للربح، والذي يُصدر كل عامٍ مئاتٍ من المراجعات المنهجية فيما يتعلق بمسائلَ مهمةٍ في الطب. وفي عام ٢٠٠٩، كان هناك قلق من تفشِّي وباءٍ عالمي من الأنفلونزا، وأُنفقت أموال طائلة على عقَّار التاميفلو. وبسبب هذا طلبت حكومتا المملكة المتحدة وأستراليا بصفةٍ خاصة من مجموعة حالات العدوى التنفسية الحادة التابعة لمؤسسة كوكرين أنْ تُحدِّث مراجعاتها السابقة عن هذا العقَّار.

والمراجعات التي تُعِدها كوكرين تُراجَع على نحوٍ منتظم لأن الأدلة تتغير بمرور الزمن مع نشر تجارب جديدة. وكان من المفترض أن تكون هذه مهمةً تقليدية بسيطة؛ فقد وجدت المراجعة السابقة التي أُجريت في عام ٢٠٠٨ بعض الأدلة على أن عقَّار التاميفلو يُقلِّل بالفعل مُعدَّل المُضاعفات، ولكن جاء بعدها طبيب أطفال ياباني يُدعى كايجي هاياشي وترك تعليقًا جديرًا بأن يُحدِث ثورةً في فهمنا لما يجب أن يكون عليه العمل العلمي المبني على الأدلة في مجال الطب. ولم يرد هذا التعليق في أي دورية الدوريات ولا حتى أي خطاب، بل كان مجرد تعليقٍ بسيطٍ على الإنترنت، مكتوب تحت مراجعة هذا العقَّار بموقع كوكرين على الإنترنت.

يقول هذا التعليق: إنكم لخَّصتم البياناتِ الخاصةَ بجميع التجارِب، ولكنَّ استنتاجكم الإيجابي في الواقع مُستقًى من بياناتِ واحدٍ فقط من الأبحاث التي ذكرتموها، وهو تحليل تجميعي مُموَّل من الصناعة الدوائية قاده شخص يُدعى كايزر. وهذا الذي يُسمَّى «بحث كايزر» يُلخِّص نتائج عشر تجارب سابقة، ولكن من بين هذه التجارِب العشر لم يُنشر سوى اثنتين فقط في الدوريات العلمية، وأما التجارِب الثماني الأخرى فلا يمكنك أن تعرف أيَّ معلوماتٍ عنها إلا من خلال التلخيص الموجود في هذا المصدر الثانوي المموَّل من الصناعة. وهذا ليس موثوقًا به بالدرجة الكافية.

إن هذا هو الأسلوب العلمي على أفضل ما يكون، لو أن ذلك ليس واضحًا على نحوٍ مباشر بالنسبة إليك. فمراجعة كوكرين من السَّهل الاطِّلاع عليها على الإنترنت، وهي تشرح بشفافيةٍ الطرق التي فحصتْ من خلالها التجارِب، ثم حللتْها، بحيث يستطيع أي قارئٍ لديه خلفية عن الموضوع أن يطَّلع على المراجعة، ويفهم من أين جاءت الاستنتاجات. وتُقدِّم كوكرين طريقةً سهلة للقُرَّاء لعرض انتقاداتهم، والمهم أن هذه الانتقادات لا يتم تجاهلها؛ فقد أدرك على الفور توم جيفرسون، الذي يعمل محرِّرًا بمجموعة كوكرين لحالات العدوى التنفسية الحادة، وكان قائد المراجعة التي تمت في عام ٢٠٠٨ في هذا الشأن، أنه ارتكب خطأً حينما وثق دون رَوِيَّة في بيانات كايزر، وقال هذا دون أن يتخذ أي موقفٍ دفاعي، ثم شرع في الحصول على المعلومات بطريقةٍ صحيحة، وعلمية. وبدأ بهذا معركةً دامت ثلاث سنوات ولم تنتهِ حتى الآن، ولكنها سلطت الضوء على ضرورة أن يتمكن جميع الباحثين من الاطِّلاع على تقارير الدراسات الإكلينيكية المتعلقة بالتجارِب كلما أمكن.

في بادئ الأمر، كتب باحثو كوكرين إلى القائمين على بحث كايزر طالبين منهم المزيد من المعلومات. فردُّوا عليهم قائلين إن هذا الفريق لم يَعُد لديه الملفات، وإنهم يجب عليهم أن يتصلوا بشركة روش، وهي الشركة المُصنِّعة لعقَّار التاميفلو. ومن ثَمَّ كان طبيعيًّا أن يتواصلوا مع هذه الشركة طالبين منها البيانات.

ومن هنا بدأت المشكلات؛ إذ قالت شركة روش إنها مُستعدة لتقديم بعض البيانات، ولكن يجب على مُراجعي كوكرين أن يُوقِّعوا اتفاقيةً لضمان السِّرية. وهو أمر مُستحيل بالنسبة إلى أي عالِم جاد؛ إذ يمنعه من إجراء مراجعةٍ منهجية تتمتع بدرجةٍ معقولة من الانفتاح والشفافية. وعلاوةً على هذا، أثار العقد المقترح قضايا أخلاقية خطيرة؛ إذ كان يقتضي من فريق كوكرين أن يعمدوا إلى حجب المعلومات عن القارئ، حيث اشتمل على بندٍ يقول إنه بعد توقيع هذا العقد لن يُسمح للمراجعين بأن يناقشوا شروط هذه الاتفاقية الخاصة بالسِّرية، والأكثر من ذلك أنهم سيُحرمون حتى من الإعلان عن أنها كانت موجودة أصلًا. لقد كانت روش تطلب عقدًا سِريًّا بشروطٍ سِرية، يتطلب السِّرية بشأن بيانات التجارِب، وذلك في مُناقشةٍ عن سلامة أحد العقاقير وفاعليته، والذي كان يتناوله مئات الآلاف من الناس في أنحاء العالم. وقد طلب جيفرسون توضيحًا لهذا ولم يتلقَّ قطُّ ردًّا.

ثم في أكتوبر عام ٢٠٠٩ غيَّرَت الشركة أسلوبها؛ فقالت إنها تودُّ أن تُقدِّم البيانات، ولكن كان هناك تحليل تجميعي يُجرى في هذا الشأن في مكانٍ آخر، وقد سلمت للقائمين عليه تقارير الدراسات؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن تحصل عليها كوكرين. ويُعَد هذا أمرًا غير منطقي؛ فليس ثَمَّةَ سبب يدعو إلى عدم اشتراك عدة مجموعاتٍ في مراجعة المسألة نفسها. وفي واقع الأمر، إن العكس تمامًا هو الصحيح؛ فالتكرار هو حجر الزاوية للعلم الجيد؛ فعُذْر روش غير مقبول، وطلب جيفرسون توضيحًا لذلك ولم يتلقَّ ردًّا.

وبعد هذا بأسبوع، أرسلت روش دون أي تنبيهٍ سبعة مستنداتٍ قصيرة، يتألف كلٌّ منها من حوالي ١٢ صفحة. وتتضمَّن مقتطفاتٍ من مستنداتٍ داخلية خاصة بالشركة تخص التجارِب الإكلينيكية التي في تحليل كايزر التجميعي. وكانت هذه مُجرد بداية، ولكنَّها لم تتضمَّن أي معلوماتٍ كافية بحيث تتمكن كوكرين من تقييم فوائد العقَّار، أو معدل حدوث آثاره السيئة، أو الوصول إلى فهمٍ دقيق للطرق التي استُخدمت في تلك التجارِب.

وفي الوقت نفسه، سُرعان ما بدأ يتضح أن هناك تضارباتٍ غريبة في المعلومات التي تخصُّ هذا العقَّار. أولًا، كان ثَمَّةَ قدر كبير من عدم الاتفاق فيما يتعلق بالاستنتاجات العامة التي توصَّلتْ إليها الجهات المختلفة؛ إذ قالت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية إنه ليست له أي فوائد فيما يختصُّ بوقف المضاعفات، بينما قالت وكالة مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها الأمريكية (وهي الجهة المسئولة عن الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يرتدي بعض العاملين فيها زِيَّ البحرية تكريمًا لتاريخ الوكالة الطويل في خدمة البحرية الأمريكية) إنه بالفعل يُقلل المضاعفات. ولم تُبْدِ جهة الرقابة على العقاقير في اليابان أيَّ رأيٍ فيما يختص بالمضاعفات، ولكن الوكالة الأوروبية للأدوية قالت إنه له فائدة في هذا الشأن. ولو كُنَّا نعيش في عالَمٍ عاقل، لقلنا إن جميع هذه الجهات يجب أن يكون لها الرأي نفسه لأنه كان بإمكانها جميعًا الحصول على المعلومات نفسها. وبالطبع، لا يخلو الأمر من احتمال أن يوجد قدر معقول من الاختلاف في الرأي من حينٍ لآخر، لا سيَّما في حال وجود نتائج متقاربة، وهذا بالضَّبط هو ما يستدعي أن يتمكن الأطباء والباحثون من الحصول على جميع المعلومات المتعلقة بأي عقَّار، حتى يمكنهم إصدار أحكامهم الشخصية بشأنه.

وفي الوقت نفسه، وانعكاسًا لهذه الأحكام المختلفة، قالت مواقع شركة روش على الإنترنت أشياءَ مختلفةً تمامًا عن العقَّار في أماكن مُختلفة، تبعًا لما قاله مراقب العقاقير المحلي لتلك الأماكن. وربما من السذاجة أن نتوقَّع اتساقًا من شركة أدوية، ولكن يتضح لنا من هذه القصة وغيرها أن أقوال شركات الأدوية تتوقف على أقصى ما يمكنها الإفلات به في كل مكان، ولا تعتمد على أي مراجعةٍ متسقة للأدلة.

على أي حال، وفي ضوء ما سبق، بدأ باحثو كوكرين أيضًا يلاحظون وجود تناقضاتٍ غريبة في معدلات حدوث الآثار الضارة للعقَّار في قواعد البيانات المختلفة؛ إذ أوردت قاعدة بيانات السلامة العالمية الخاصة بشركة روش وجود ٢٤٦٦ حالة إصابة بآثارٍ سلبية عصبية نفسية، منها ٥٦٢ صُنِّفَت على أنها «خطيرة». ولكن قاعدة بيانات هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عن الفترة نفسها لم تذكر سوى ١٨٠٥ حالات فقط إجمالًا. وهكذا تختلف القواعد فيما يتعلق بالحالات التي ينبغي الإبلاغ عنها، ولمن يتم هذا الإبلاغ، وأين، ولكن حتى بتأمل هذا، نجد أنه غريب.

على أي حال، حيث إن شركة روش كانت تمنع فريق كوكرين من الاطِّلاع على المعلومات التي يحتاجون إليها للقيام بمراجعةٍ سليمة، فقد استنتجوا أنه سيتعين عليهم أن يستبعدوا جميع بيانات كايزر غير المنشورة من تحليلهم؛ إذ لا يمكن التحقُّق من صحة التفاصيل بالطريقة المعتادة. ولا يستطيع الناس اتخاذ قراراتٍ بشأن شراء عقَّارٍ ما واستخدامه كعلاجٍ على أساس تجارب كانت الطرق المُتَّبعة في إجرائها ونتائجها غيرَ واضحة؛ وتفاصيل ذلك معقَّدة جدًّا، كما سنرى في الفصل الرابع الذي يتناول التجارِب السيئة؛ ومن ثَمَّ لا يمكننا أن نثق — دون تبصُّر — في أن أي دراسةٍ تُعَد اختبارًا عادلًا للعلاج محل البحث.

وهذا أمر مهم بصفةٍ خاصة في حالة عقَّار التاميفلو؛ فثَمَّةَ أسباب قوية تدعونا إلى الاعتقاد بأن تجاربه لم تكن مثالية، وأن الأبحاث المنشورة عنه لم تكن كاملة، وهذا على أقل تقدير. وبفحصٍ أدقَّ لهذا الأمر، على سبيل المثال، نجد أن المرضى الذين شاركوا في تجاربه كان من الواضح أنهم غير عاديين، لدرجة أن النتائج قد لا تكون مُتناسبة كثيرًا مع مرضى الأنفلونزا العاديين. وقد ذُكر في الأبحاث المنشورة أن المرضى الذين خضعوا للتجارب مرضى أنفلونزا عاديون، يُعانون أعراض الأنفلونزا العادية، مثل السعال، والإجهاد … إلخ. إننا لا نُجري اختبارات دمٍ لمرضى الأنفلونزا في الممارسة الطبية الروتينية، ولكن إذا أُجريت هذه الاختبارات، لأغراض المسح الميداني، فإننا نجد حتى في ذروة موسم الإصابة بالأنفلونزا أن واحدًا فقط من كل ثلاثة مرضى مصابين ﺑ «الأنفلونزا» يكون مُصابًا بفيروس الأنفلونزا، وفي أغلب أوقات السَّنة يكون واحد فقط من كل ثمانية مرضى مصابًا بالفعل بهذا الفيروس (والباقي مُصابون بشيءٍ آخر، ربما بفيروس برد عادي).

وقد ذُكر في بحث كايزر المختصر أن ثلثَي المشاركين في التجارِب أظهرت اختبارات الدم الخاصة بهم إصابتَهم بفيروس الأنفلونزا. وهذه نسبة كبيرة جدًّا تُثير التعجُّب، وتعني أنه من المتوقَّع أن تكون هناك مبالغة في تقدير فوائد العقَّار؛ إذ اختُبر على مرضى مثاليين، وهم الذين يُرجَّح أن تتحسَّن حالاتهم إذا تناولوا عقَّارًا يهاجم على نحوٍ انتقائي فيروس الأنفلونزا. ولكن في الممارسة الطبية العادية، حيث تُطبق نتائج هذه التجارِب، سيُعطي الأطباء العقَّار لمرضى عاديين شُخِّصَت حالاتهم على أنها «مرض شبيه بالأنفلونزا»، وهذا هو كل ما يمكن واقعيًّا أن يفعله الطبيب في المركز العلاجي. ومن بين أولئك المرضى العاديين يوجد الكثير غير المصابين فعليًّا بفيروس الأنفلونزا، وهذا يعني أنه في العالم الواقعي لن تتم الاستفادة من فوائد عقَّار التاميفلو، وسيتناول عدد أكبر من الناس العقَّار بينما لا يوجد فيروس الأنفلونزا فعليًّا في أجسادهم، وهذا يعني بدوره أن من المرجح أن يزداد معدل تعرُّضهم لآثاره الجانبية بدرجةٍ جوهرية بالمقارنة بأي فوائد يمكن جَنْيها منه؛ ولهذا السبب نسعى للتأكد من أن جميع التجارِب قد أُجريت على مرضى عاديين واقعيين، وإذا لم تكن كذلك، فربما لا تكون نتائجها مهمةً في العالم الواقعي.

لذا، نُشرت مراجعة كوكرين دون ذكر بيانات بحث كايزر في ديسمبر ٢٠٠٩، مع بعض المواد الموضِّحة لأسباب استبعاد نتائج كايزر، وأثار هذا بعض الجدل. فأتاحت شركة روش المقتطفات القصيرة التي سبق أن بعثت بها لفريق كوكرين على الإنترنت، وتعهدت بأن تجعل تقارير الدراسات الكاملة مُتاحة للجميع (وهو ما لم تفعله حتى الآن).

إن المستندات التي أرسلتْها شركة روش لم تكن كاملة، ولكنها كانت بداية رحلة أكاديميي كوكرين لمعرفة الكثير عن المعلومات الحقيقية التي يمكن أن تُجمع عن التجارِب، وكيف يمكن أن تختلف عما يُقدَّم إلى الأطباء والمرضى من خلال الأبحاث الأكاديمية المختصرة المنشورة؛ فالمستندات التفصيلية لكل تجرِبةٍ تَعرِض البيانات الأساسية الخاصة بها، مثل تسجيل ضغط الدم لكل مريضٍ وملاحظات الأطباء الواصفة لأي أعراضٍ غير عادية، وملاحظات القائمين بالفحص … إلخ. في حين يُقدِّم البحث الأكاديمي المنشور وصفًا قصيرًا للتجارِب، وعادةً ما يتخذ صيغة محددة؛ فيبدأ بخلفية تقديمية، ثم وصف للطرق البحثية المستخدَمة، ثم عرض موجز للنتائج المهمة، وفي النهاية مناقشة تشمل مَواطن القوة والضعف في تصميم الدراسة ومضامين النتائج بالنسبة إلى الممارسة الإكلينيكية.

أمَّا تقرير الدراسة الإكلينيكية، فهو المستند الوسيط الذي يقع بين هذين النوعين من المستندات، ويمكن أن يكون طويلًا جدًّا، وأحيانًا ما يصل إلى آلاف الصفحات.77 وكل مَن يعمل في مجال الصناعة الدوائية يألف تلك التقارير، أمَّا الأطبَّاء والأكاديميون، فلا يسمعون عنها إلا نادرًا. وهي تحتوي على مزيدٍ من التفاصيل عن أشياء مثل الخُطة المحددة لتحليل البيانات إحصائيًّا، والوصف التفصيلي للآثار الضارة للعقَّار، وما إلى ذلك.

وتنقسم هذه المستندات إلى أقسام أو «وحدات». وقد أتاحت روش «الوحدة الأولى» فقط لسبعةٍ فقط من تقارير الدراسات الإكلينيكية العشرة التي طلبتها كوكرين. وهذه الوحدات لا توجد بها معلومات مهمة للغاية، منها خطة التحليل، وتفاصيل التجريب العشوائي، وبروتوكول الدراسة (وقائمة بما يحدث من انحراف عنه) … إلخ. ولكن حتى تلك الوحدات غير الوافية كانت كافية لإعادة التفكير في ثقتنا العمياء في أن الأبحاث الأكاديمية تُعطي وصفًا كاملًا لما حدث للمرضى في تجرِبةٍ ما.

فعلى سبيل المثال، بالنظر إلى البحثين المنشورين من بين الأبحاث العشرة المذكورة في مراجعة كايزر، نجد أن أحدهما يقول: «لم تكن ثَمَّةَ آثار ضارة خطيرة تتعلق بالعقَّار.» بينما لم يذكر الآخر أي آثار ضارة للعقَّار على الإطلاق، ولكن ذُكر في الوحدة الأولى من تقريرَي الدراسة الإكلينيكية الخاصَّين بهذين البحثين، خصوصًا أنه كانت هناك عشر حالات إصابة بآثار ضارة صُنفت على أنها خطيرة، منها ثلاث حالات مصنَّفة باعتبارها على الأرجح ذات صلةٍ بعقَّار التاميفلو.78
هناك بحث آخر منشور وُصف باعتباره تجرِبةً تُقارن عقَّار التاميفلو بعلاجٍ وهمي. والعلاج الوهمي هو قرص زائف لا يحتوي على أي مكونٍ دوائي فعَّال، ولكن لا يمكن تمييزه بصريًّا عن القرص المحتوي على الدواء الحقيقي. ولكن تقرير الدراسة الإكلينيكية لهذه التجرِبة يُظهر أن الدواء الحقيقي كان في كبسولةٍ باللونين الرمادي والأصفر، بينما كانت كبسولات الدواء الوهمي باللونين الرَّمادي والعاجي. كما كانت الأقراص الوهمية تحتوي على مادةٍ تُسمَّى حمض الديهيدروكوليك، وهي مادة كيميائية تحث المرارة على تفريغ محتوياتها.79 ولم يكن لدى أي شخصٍ فكرة واضحة عن السبب وراء ذلك، ولم يُذكر حتى هذا الأمر في البحث الأكاديمي، ولكن يبدو أن تلك الأقراص الوهمية لم تكن في الحقيقة أقراصًا زائفة عديمة الفاعلية.
إن مُجرد إعداد قائمة بجميع التجارِب التي أُجريت على أحد الموضوعات يُعَد أمرًا بالغ الأهمية إذا أردنا أن نتجنَّب الحصول على مجرد تلخيصٍ متحيز للأبحاث التي أُجريت عليه؛ ولكن في حالة عقَّار التاميفلو اتضح أنه حتى القيام بهذا كاد يكون مستحيلًا؛ فعلى سبيل المثال، أخبر فرع شركة روش في شنغهاي مجموعة كوكرين بشأن تجرِبةٍ كبيرة أُجريت على العقَّار تُسمَّى «إم إل ١٦٣٦٩»، ولكن فرع الشركة ببازل بدا أنه لم يكن على علمٍ حتى بوجودها. ولكن حينما وضع الباحثون جميع التجارِب جنبًا إلى جنبٍ صار بإمكانهم أن يكتشفوا تناقضاتٍ غريبة؛ فعلى سبيل المثال، إن أكبر تجارب «المرحلة الثالثة» من تطوير العقَّار، وهي إحدى التجارِب الكبيرة التي تُجرى لإدخاله إلى سوق الدواء، لم تُنشر نتائجها قط، ونادرًا ما يَرِد ذكرها في مستندات الجهة الرقابية.
وكان ثَمَّةَ تناقضات أخرى غريبة. لماذا على سبيل المثال نُشرت إحدى التجارِب التي أُجريت على عقَّار التاميفلو في عام ٢٠١٠ بعد اكتمالها بعشر سنوات؟80 ولماذا ذَكرت بعض التجارِب أسماء باحثين مختلفة تمامًا، حَسب المكان الذي نُوقشت فيه؟81 هذا إلى جانب الكثير من الأمور الأخرى التي عليها العديد من علامات التعجُّب.

واستمر الصراع؛ ففي ديسمبر ٢٠٠٩، وعدت شركة روش بأنها «ستتيح أيضًا تقارير الدراسات الكاملة على موقعٍ بالإنترنت مَحميٍّ بكلمة مرورٍ في غضون الأيام القادمة للأطباء والعلماء الذين يُجرون مراجعاتٍ مشروعة.» ولكن هذا لم يحدث مطلقًا. ثم بدأت لعبة غريبة؛ ففي يونيو ٢٠١٠، قالت الشركة إنها ظنت أن الباحثين حصلوا على ما يريدون. وفي يوليو ٢٠١٠، أعلنت أنها قلقة بشأن سِرية بيانات المرضى، (ولعل هذا يُذكرنا بقصة الوكالة الأوروبية للأدوية). وتُعَد هذه نقلة غريبة؛ ففي معظم الأجزاء المهمة من هذه المستندات لا تُعَد السِّرية أمرًا ذا صلةٍ على الإطلاق. وقد اكتمل كلٌّ من البروتوكول الكامل للتجرِبة وخطة التحليل حتى قبل أن يخضع أي مريضٍ للتجرِبة، ولم تفسر الشركة كيف أن الحفاظ على سِرية بيانات المرضى تمنعها من إتاحة تقارير الدراسات. واستمرت ببساطةٍ في حجبها.

وفي أغسطس ٢٠١٠، بدأت الشركة تفرض المزيد من المتطلبات الأكثر غرابة، التي تنمُّ عن فكرةٍ مُضللة تتبناها شركات الأدوية بأن لها كامل التحكم في إتاحة البيانات التي يحتاج إليها الأطباء والمرضى في أنحاء العالم لكي يتخذوا قراراتٍ علاجيةً آمنة. في البداية، أصرَّت على الاطِّلاع على الخطة التحليلية الكاملة التي يتبعها مراجعو كوكرين؛ فوافق المراجعون وأرسلوا البروتوكول بالكامل عبر الإنترنت. ويُعَد هذا عُرفًا مُتبَعًا لدى كوكرين، كما يجب أن تكون الحال لدى أي منظمةٍ تتسم بالشفافية، حتى تسمح للآخرين باقتراح تغييرات مُهمة قبل أن تبدأ أبحاثها. لم تكن هناك مشكلات كبيرة في البروتوكول؛ إذ إن جميع تقارير كوكرين تتبع أسلوبًا عمليًّا صارمًا على أي حال. ولكن استمرت روش في حجب تقارير الدراسات الخاصة بها (وما يثير التعجُّب أنها حجبت أيضًا بروتوكولاتها، وهو نفسه ما طلبت من كوكرين أن تعلنه، والذي أعلنته كوكرين بكل ترحيب).

وحتى ذلك الوقت تكون روش قد رفضت نشر تقارير الدراسات لمدة عام. وفجأة، بدأت تثير مخاوف شخصية غريبة؛ فزعمت أن بعض باحثي كوكرين أصدروا بياناتٍ غير صحيحةٍ عن العقَّار وعن الشركة، ولكنَّها رفضت أن تقول: من هم، وماذا قالوا، وأين حدث هذا، بل قالت إن «أعضاءً محددين بمجموعة كوكرين مشاركين في إعداد مراجعةٍ عن مثبطات إنزيم النيورامينيداز من غير المرجح أن يعملوا في هذه المراجعة وهم مُتحَلون بالاستقلالية التي تُعَد ضروريةً ومطلوبة.» وإنه لَموقفٌ يثير الدهشة أن نجد شركة تشعر أن من الواجب السماح لها بمنع الباحثين من الاطِّلاع على البيانات التي يجب أن تكون مُتاحةً للجميع، ولكن مع ذلك استمرت روش في رفضها الإفصاح عن تقارير الدراسات.

ثم اشتكت الشركة من أن مراجعي كوكرين بدءوا يُرسلون إلى الصحفيين على عناوين بريدهم الإلكتروني نسخًا من ردودهم على طاقم عمل الشركة. وكنت أنا واحدًا من الذين وصلتهم نُسَخ من تلك الردود، وأعتقد أن هذا كان هو التصرف السليم تمامًا؛ فقد صارت حجج الشركة واهيةً وحمقاء، وتقاعستْ عن الوفاء بوعدها بالإفصاح عن كل تقارير الدراسات. ومن الواضح أن تلك الضغوط المتواضعة التي مارسها الباحثون العاملون في الدوريات الأكاديمية وحدها لم يكن لها سوى القليل من التأثير على رفض الشركة الإفصاح عن البيانات، وهذه مسألة مهمة تتعلق بالصحة العامة، بالنسبة إلى تلك الحالة الفردية المتعلقة ببيانات عقَّار التاميفلو، وأيضًا بالنسبة إلى القضية الأكثر شمولًا المُتعلقة بشركات الأدوية وهيئات الرقابة عليها التي تتسبَّب في الإضرار بالمرضى بسبب حَجْبها للمعلومات.

ثم بدأت الأمور تزداد سوءًا؛ ففي يناير عام ٢٠١١، أعلنت الشركة أن باحثي كوكرين قد حصلوا بالفعل على جميع البيانات التي يحتاجون إليها. وهذا ببساطةٍ لم يكن صحيحًا بالمرة. وفي فبراير أعلنت بإصرارٍ أن جميع الدراسات المطلوبة قد نُشرت (وتعني بهذا الأبحاث الأكاديمية التي تَبيَّن الآن أنها مُضلِّلة فيما يتعلق بعقَّار التاميفلو)، ثم صرَّحَت بأنها لن تُسلِّم أي شيءٍ آخر بعد ذلك، وقالت: «إن لديكم جميع التفاصيل التي تحتاجون إليها لإجراء مراجعة.» ولكن هذا أيضًا لم يكن صحيحًا؛ فما زالت الشركة تحجب المواد المطلوبة، مع أنها كانت قد وعدت علنًا في ديسمبر عام ٢٠٠٩، أي قبلها بعامٍ ونصف العام، بأنها ستتيحها «في غضون أيام قليلة».

وفي الوقت نفسه كانت الشركة تُقدِّم المزاعم المَعيبة التي عرضنا لها قبل ذلك؛ فمثلًا قالت إن مراقبي الأدوية هم المنوط بهم أن يتخذوا القرارات بشأن فوائدها ومخاطرها، وليس الأكاديميون. وقد تَبيَّن الآن أنه زعم باطل، لسببين مهمين؛ أولًا، وكما هي الحال بالنسبة إلى العديد من العقاقير الأخرى، إننا نعلم الآن أنه حتى مراقبو الأدوية لم يطَّلعوا على جميع البيانات المتعلقة بهذا العقَّار؛ ففي يناير ٢٠١٠ ادَّعت الشركة أنها «جعلت جميع بيانات الدراسات الإكلينيكية الكاملة مُتاحة للسلطات الصحية في أنحاء العالم لكي تراجعها كجزءٍ من عملية الترخيص للعقَّار.» ولكن الوكالة الأوروبية للأدوية لم تتلقَّ هذه المعلومات لما لا يقل عن خمس عشرة تجرِبة، وهذا لأن تلك الوكالة لم تطلبها قط.

وهذا الأمر يأخذنا إلى السبب الآخر المهم، وهو أن مُراقبي الأدوية ليسوا معصومين من الخطأ، بل إنهم يقعون في أخطاءٍ واضحة، ويتخذون قراراتٍ يجب إعادة النظر فيها، ويجب أن تخضع لفحصٍ ومراجعةٍ من الكثير من الجهات حول العالم. وفي الفصل التالي، سوف نرى المزيد من الأمثلة عن كيف يمكن أن يخطئ المراقبون، خلف الأبواب المغلقة، ولكننا سنكتفي هنا بذكر قصةٍ واحدة تُوضِّح بجلاءٍ فائدة وجود الكثير من الجهات عند الحكم على العقاقير.

يُعَد الروزيجليتازون نوعًا جديدًا من عقاقير مرض السكر، وكان يراود الكثيرَ من الباحثين والمرضى آمالٌ كبيرة في أن يكون مأمونًا وفعَّالًا.82 وهذا المرض شائع الحدوث، وتتزايد أعداد المصابين به كل عام. ويصعب على من يعانون منه التحكم في مستوى السُّكَّر في دمائهم، ومن المفترض أن تتولى عقاقير السكر، جنبًا إلى جنبٍ مع إجراء تغييرات في النظام الغذائي، أمرَ معالجة هذه المشكلة. ورغم أنه من الجيد أن نرى مُستويات السُّكَّر في الدَّم وقد سُيطر عليها بكفاءةٍ من خلال قياسات الاختبارات المعملية وأجهزة القياس المنزلية، فإننا في الحقيقة لا نتحكم في هذه المستويات من أجل ذاتها فحسب، بل إننا نُحاول تقليل احتمالات حدوث عواقبَ حقيقية، مثل النوبات القلبية والوفاة، وكلاهما يحدث بمعدلٍ أكبر لدى المُصابين بهذا المرض.

بدأ تسويق عقَّار الروزيجليتازون في عام ١٩٩٩، ومُنذ ذلك الحين وهو مخيب للآمال؛ ففي تلك السنة الأولى، ناقش الدكتور جون بيوز من جامعة نورث كارولينا مسألة زيادة قابلية الإصابة بمشكلاتٍ قلبية بسبب تناوُل العقَّار في اجتماعَين أكاديميين؛ فأجرت الشركة المصنعة للعقَّار، جلاكسو سميث كلاين، اتصالًا مباشرًا به في محاولةٍ منها لإسكاته، ثم تحوَّلت عنه إلى رئيس القسم الذي يعمل به، وشعر بيوز بضغوطٍ تُمارَس عليه ليوقِّع على عددٍ من المستندات القانونية، واختصارًا للوقت، وبعد دراسة مستنداتٍ كثيرة على مدى شهور عديدة، أصدرت لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للشئون المالية تقريرًا يصف الطريقة التي عُومل بها بيوز ﺑ «الترويع».

ولكن ما يهمنا أكثر هو البيانات المتعلقة بأمان العقَّار وفاعليته؛ ففي عام ٢٠٠٣، تواصلت مجموعة أوبسالا لمراقبة العقاقير التابعة لمنظمة الصحة العالمية مع شركة جلاكسو سميث كلاين للحديث بشأن وجود عددٍ كبير، بصورةٍ غير عادية، من البلاغات العفوية من قِبل الأطباء التي تربط بين العقَّار والمشكلات القلبية؛ فأجرت الشركة بدورها تحليلين تجميعيين داخليين لما لديها من بياناتٍ في هذا الشأن في عامَي ٢٠٠٥، و٢٠٠٦، وأظهر التحليلان أن الخطر كان حقيقيًّا، ولكن رغم تلك النتائج المخيفة التي توصَّلت إليها كلٌّ من الشركة وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية، فلم تُصدر أيٌّ منهما أي بيانٍ عام بشأنها، ولم تُنشر النتائج حتى عام ٢٠٠٨!

وقبل عام ٢٠٠٨، تعرَّضت أعداد كبيرة من المرضى لأخطار هذا العقَّار، ولكن لم يعرف الأطباء والمرضى شيئًا عن هذه المُشكلة الخطيرة إلا في عام ٢٠٠٧، حين نشر اختصاصيُّ القلب البروفيسور ستيف نيسن وزملاؤه تحليلًا تجميعيًّا فارقًا أظهر حدوث زيادة بنسبة ٤٣ بالمائة في قابلية الإصابة بمشكلات قلبية في المرضى الذين يُعالَجون بعقَّار الروزيجليتازون. ونظرًا لأن مرضى السُّكَّر يكونون أصلًا عرضةً أكثر للإصابة بمشكلاتٍ قلبية، ولأن الهدف الأساسي من علاج هذا المرض هو الحد من هذا الخطر، فقد كان اكتشافه هذا مهمًّا جدًّا. وقد تم إثبات هذا الاكتشاف في بحثٍ تالٍ، وبحلول عام ٢٠١٠، كان هذا العقَّار قد سُحب من السوق أو قُيد إنتاجه، وذلك في جميع أنحاء العالم.

وهنا أنا لا أقول إن هذا العقَّار كان من الواجب حظره في وقتٍ سابق لهذا؛ إذ إن كثيرًا ما يحتاج الأطباء إلى عقاقير أقل في الفاعلية ليستخدموها كملاذٍ أخير، رغم أن هذا يبدو سيئًا. فعلى سبيل المثال، قد تحدث لأحد المرضى عند تناوله أفضل العقاقير آثار جانبية من فرط حساسيته لمواده، فلا يمكنه الاستمرار في تناوله بعد ذلك؛ فإذا حدث هذا فربما يستحق الأمر أن يُجرِّب عقَّارًا آخر أقل فاعلية، إذا كان على الأقل أفضل من لا شيء.

ولكن ما يهمني هو أن تلك المُناقشات التي ذكرتها حدثت والبيانات حبيسة خلف الأبواب المغلقة، ولا يستطيع الاطِّلاع عليها سوى مراقبي الأدوية. وفي واقع الأمر إن تحليل نيسن ما كان من الممكن أن يتم لولا حُكمٌ قضائي غير عادي؛ ففي عام ٢٠٠٤، حينما تَبيَّن أن شركة جلاكسو سميث كلاين حجبت البيانات التي تُظهر أدلةً على حدوث آثارٍ جانبية خطيرة من جرَّاء إعطاء عقَّار الباروكستين للأطفال، أجرت المملكة المتحدة تحقيقًا غير مسبوقٍ دام أربع سنوات، كما أوردنا سابقًا. ولكن في الولايات المتحدة أدَّى هذا السلوك السيئ السالف الذكر نفسُه إلى رفع دعوى قضائية بسبب اتهاماتٍ بالغش، وأدَّى البَتُّ فيها، فضلًا عن الحكم بغرامةٍ مناسبة، إلى جعْل الشركة تلتزم بعرض نتائج التجارِب الإكلينيكية على موقع إنترنت متاحة محتوياته للجميع.

وقد استخدم البروفيسور نيسن بيانات عقَّار الروزيجليتازون حينما صارت مُتاحة، فوجد علاماتٍ تثير القلق لأضرارٍ له، فنشر هذا ليَطَّلع عليه الأطباء؛ الأمر الذي لم يفعله مراقبو الأدوية رغم وجود المعلومات في حوزتهم قبل ذلك بسنوات. (عرف نيسن — بطريق المصادفة — أن شركة جلاكسو سميث كلاين اطلعت على نسخةٍ من بحثه غير المنشور، كانت قد حصلت عليها بطريقة غير سليمة.)83

ولو كانت هذه المعلومات جميعها مُتاحة بحُرية منذ البداية، فلربما شعر مراقبو الأدوية بمزيدٍ من المسئولية إزاء قراراتهم، والأهم من ذلك أن الأطباء والمرضى كانوا سيستطيعون الاختلاف معهم واتخاذ اختياراتٍ صحيحة مُدعَّمة بالأدلة؛ ولهذا السبب يلزمنا أن تكون لدينا قدرة أكبر على الاطِّلاع على تقارير الدراسات الإكلينيكية الكاملة وتقارير التجارِب المتعلقة بجميع الأدوية، ولهذا السبب أيضًا من السيئ أن يكون بوسع شركة روش أن تكون قادرةً على تحديد الباحثين الذين تسمح لهم بقراءة المستندات المتعلقة بعقَّار التاميفلو.

وما يثير الدهشة أن نجد ورقةً بحثية نُشرت في أبريل عام ٢٠١٢ كتبها مراقبو أدويةٍ من المملكة المتحدة وأوروبا تشير إلى أنَّهم قد يُوافقون على إتاحة المزيد من البيانات، ولكن إلى حدٍّ معين، فيما يتعلق ببعض الدراسات، مع الاحتفاظ بحق حجبها في الوقت الذي تراه مناسبًا.84 وقبل أنْ نشعر بأي نوعٍ من الحماس تجاه ذلك، يجب أن ندرك أن هذا كلام يتَّسم بحذرٍ شديد، أُطلق على مضضٍ بعد المعارك المريرةِ الطاحنةِ السابقةِ الإشارةُ إليها، وأنه لم يُنفَّذ منه شيء، وأنه يُعَد واحدًا ضمن سلسلةٍ من الوعود التي حنث بها جميع الأطراف عبر مجالٍ كامل يسوده إخفاء البيانات، وأنه حتى مراقبو الأدوية في كل الأحوال ليس لديهم جميع بيانات التجارِب، ولكنَّها بداية لا بأس بها.

ويُعَد الاعتراضان الرئيسيان اللذان أبداهما مراقبو الأدوية هؤلاء أمرَين مثيرَين للاهتمام، إذا سلمنا بحُسن النِّيَّة، كما هو في الظاهر، لأنهما يُؤديان بنا إلى المشكلة النهائية من تعريض المرضى للضرر بسبب إخفاء بيانات التجارِب. أوَّلًا، هم يخشَوْن أن بعض الأكاديميين والصحفيين قد يستخدمون تقارير الدراسات في إجراء مراجعاتٍ مصطنعة أو سيئة الإعداد للبيانات، وإزاء هذا أقول مجدَّدًا: «دعهم يفعلون هذا» لأن عملياتِ التحليلِ الحمقاءَ تلك يجب أن تُجرى ثم يُعلن على الملأ عدم فاعليتها وضرورة التخلص منها.

حينما صار من السهل لأول مرةٍ في المملكة المتحدة أن يطَّلع الناس على إحصاءات الوَفَيات بالمستشفيات، ساور الأطباءَ خوفٌ شديد من أن يتعرَّضوا لأحكامٍ ظالمة؛ إذ إن تلك الأرقام الصماء يُمكن أن يُساء فهمها وتقييمها في نهاية الأمر؛ لأن أحد المستشفيات قد تكون نِسَب الوَفَيات به أعلى لمجرد أنه أحد مراكز التميُّز؛ ومن ثَمَّ يقبل المزيد من المرضى ذوي الحالات الحرجة أكثر مما تفعل المستشفيات الأخرى، كما يُتوقع حدوث اختلاف عشوائي في معدلات الوَفَيات على أي حال؛ ومن ثَمَّ قد تبدو بعض المستشفيات بصورةٍ حسنة أو سيئة بصفةٍ غير عادية، وذلك من قبيل المصادفة فقط. بادئ ذي بدء، وإلى حدٍّ ما، تحققت هذه المخاوف؛ إذ أطلق البعض صيحاتِ استهجان وقصصًا ظالمة، وبالغ البعض في تقييم النتائج. ولكن الآن وإلى حدٍّ كبير بدأت الأمور تهدأ وتستقر، وصار الكثير من الناس العاديين قادرين على إدراك أن عمليات التحليل المباشرة لتلك الأرقام خادعة ومضللة. وأمَّا عن بيانات العقاقير، حيث يكون ثَمَّةَ خطر كبير جدًّا من حجب المعلومات، وهناك الكثير جدًّا من الأكاديميين الذين يسعَوْن لإجراء عمليات تحليل صحيحة، وأكاديميون آخرون كثيرون يُسعدهم أن ينتقدوهم، فإن الإفصاح عن البيانات هو الخيار الصحي الوحيد.

وهنا يبرز الاعتراض الثاني؛ إذ تثير الوكالة الأوروبية للأدوية المخاوف بشأن سِرية بيانات المرضى، وتختفي الحقيقة وراء هذا الاعتراض.

تحدَّثت فيما سبق عن الاطِّلاع على تقارير التجارِب، وهي مُلخصات لما يحدث للمرضى في التجارِب. ما من سببٍ جوهري يدعونا للاعتقاد بأن هذا الاطِّلاع يُشكل تهديدًا لسِرية بيانات المرضى، وإذا كانت هناك أحوال معيَّنة قد تكشف عن شخصية أحد المرضى (فربما يكون هناك وصف طبي مُطوَّل لحدثٍ سلبي غريب في تجرِبةٍ ما)، فهذه يمكن حذفها بسهولة؛ إذ إنها تَرِد في جزءٍ منفصل من التقرير. ولا شكَّ أن تلك التقارير بغير جدالٍ يجب أن تكون مُتاحةً للجميع، وهذا الأمر يجب فرضه بأثرٍ رجعي، بحيث يعود عقودًا للوراء، منذ بدء إجراء التجارِب.

إلا أن جميع التجارِب في نهاية الأمر تُجرى على مرضى، والنتائج المُتعلقة بأولئك المرضى تُخزَّن كلها وتُستخدم في إتمام التحليل التلخيصي الذي يُجرى في نهاية الدراسة. صحيح أنني لا أوصي أبدًا بإعلان تلك البيانات على الملأ على موقعٍ بالإنترنت (إذ سيكون من السهل اكتشاف شخصيات المرضى من ملامحَ صغيرةٍ كثيرة تتعلق بتواريخ حياتهم وحالاتهم)، إلا أن ما يُثير الدهشة أن تلك البيانات يكاد لا يُفصَح عنها مُطلقًا للأكاديميين.

إن إتاحة بيانات المرضى ونتائج ما يحدث لهم في التجارِب الإكلينيكية، وليس مجرد النتيجة التلخيصية النهائية، لها عدة مزايا جوهرية؛ أولًا، إنها حائط صد يَحُول دون الممارسات التحليلية المريبة؛ ففي الدراسة التي قامت بها الشركة المُنتِجة لعقَّار الفيوكس المُسكن للألم لتحديد مدى فاعليته على سبيل المثال، صدر حكم تقريري غريب؛85 فقد كان الهدف من الدراسة هو مُقارنة العقَّار بعقَّارٍ آخر مُسكن للألم أقدم منه وأرخص ثمنًا، لمعرفة ما إذا كان عقَّار الفيوكس أقل قابليةً للتسبب في مُشكلاتٍ بالمعدة (وهو ما كان يُرجى منه)، وكذلك ما إذا كان أقل قابليةً للتسبُّب في الإصابة بالنوبات القلبية (وهو ما كان يُخشى منه). ولكن تاريخ التوقف عن قياس معدلات النوبات القلبية كان سابقًا بكثيرٍ على ما يخص قياس معدلات المشكلات المَعِدية. ونتج عن هذا أن صارت مخاطر العقَّار تبدو أقلَّ من فوائده، ولكن هذا لم يُفصَح عنه بوضوحٍ في الدراسة؛ مما أسفر عن فضيحةٍ كبرى انكشف أمرها لاحقًا. ولو كانت البيانات الرئيسية المُتعلقة بالمرضى قد كُشف عنها، لكان من السَّهل كثيرًا الكشف عن مثل تلك الألاعيب، ولكان من الصعب التلاعُب بالناس مُنذ البداية.
في قليل من الأحيان، يكون باستطاعة الباحثين أنْ يحصلوا على البيانات الرئيسية الخاصة بالتجارِب، وأن يُعيدوا تحليل الدراسات التي أُجريت ونُشرت بالفعل. كان البروفيسور دانيال كويِن، الأستاذ بجامعة واشنطن، محظوظًا؛ إذ حصل على البيانات المتعلقة بتجرِبةٍ رئيسية على عقَّار الإيبوتين، وهو عقَّار يُعطى لمرضى الغسيل الكُلَوي، وذلك بعد نضالٍ مرير دام أربع سنوات.86 وكان البحث الأكاديمي الأصلي المنشور عن هذه التجرِبة، والذي صدر قبل ذلك بعشر سنوات، قد غيَّر النتائج الإكلينيكية الرئيسية الموصوفة في بروتوكول التجرِبة (وسوف نرى لاحقًا كيف يُؤدِّي هذا إلى المبالغة في تقدير فوائد العلاجات)، وغيَّر كذلك استراتيجية التحليل الإحصائي الأساسية (وهذا أيضًا مصدر هائل للتحيز). واستطاع كويِن تحليل التجرِبة حسب تخطيط الباحثين الذي ذكروه في البروتوكول الخاص بهم، وحينما فعل هذا اكتشف أنهم بالغوا كثيرًا فيما ذكروه عن فوائد العقَّار. وكانت هذه نتيجةً غريبة؛ إذ يُنوِّه هو نفسه عن ذلك قائلًا: «رغم أن الأمر يبدو غريبًا، فأنا الآن المُعِد الرئيسي للبحث الخاص بالنتائج الرئيسية والثانوية المتعلقة بأكبر تجرِبةٍ تُجرى على عقَّار الإيبوتين في مرضى الغسيل الكُلَوي، رغم أنني حتى لم أشارك في هذه التجرِبة.» وأقول من وجهة نظري إنه لا يوجد مجال إلا لعددٍ قليل من الأشخاص ليفعلوا الشيء نفسه تحديدًا؛ إعادة تحليل جميع التجارِب التي تم تحليلها بصورةٍ غير سليمة، وبطرقٍ انحرفت بشكلٍ مضلل عن بروتوكولاتها الأصلية.

إن الإفصاح عن بيانات التجارِب ستكون له أيضًا فوائد أخرى؛ فهو يسمح للمختصين بأن يُجرُوا المزيد من عمليات التحليل الاستقصائية للبيانات، وبأن يتقصَّوْا بنحوٍ أفضل — على سبيل المثال — ما إذا كان عقَّار ما له أثر جانبي معين غير متوقَّع، كما يسمح أيضًا بالقيام ﺑ «عمليات تحليل للمجموعات الفرعية» تتسم بالحرص لتحديد ما إذا كان عقَّار ما مُفيدًا أو عديم الفائدة بصفةٍ خاصة في أنماطٍ مُعينة من المرضى.

وتتمثل أكبر فائدةٍ مباشرة من الإفصاح عن بيانات التجارِب في أن جمع بيانات المرضى ضمن تحليلٍ تجميعي يُعطي نتائج تفوق في دِقتها معالجة النتائج التلخيصية الفجة التي توجد في نهاية أي بحث. ولْنتخيلْ أن بحثًا ما يُورِد بقاء المريض على قيد الحياة لمدة ثلاث سنوات باعتباره النتيجةَ الإكلينيكية الرئيسية لتناوُل أحد عقاقير السرطان، بينما يُورِد بحث آخر بقاء المريض حيًّا لمدة سبع سنوات. فلو حاولت جمع الاثنين معًا في تحليلٍ تجميعي واحد، فستواجه مشكلة. ولكن إذا كنت ستُعِد التحليل التجميعي في ضوء اطِّلاعك على بيانات المرضى، مع تفاصيل العلاج وتواريخ الوفاة المتعلقة بهم جميعًا، فبإمكانك حينئذٍ أن تُجريَ إحصاءً مُجمَّعًا سليمًا عن البقاء حيًّا لمدة ثلاث سنوات.

fig5
شكل ١-٥

وهذا بالضبط هو نوع العمل الذي يجري في مجال أبحاث سرطان الثدي؛ حيث يوجد عدد قليل من العلماء الرائعين ذوي الشخصية الجذابة الذين تصادف أنهم ينشرون ثقافةً رائدة من التعاون السَّلِس. وتُمثِّل التلخيصات التي ينشرونها ثمرةَ تعاوُن حقيقي بين أعدادٍ كبيرة من الناس في أبحاثٍ تُجرى على أعدادٍ كبيرة من المرضى لتوفير إرشادٍ عالي الكفاءة للأطباء والمرضى.

وتُلقي هذه العملية الضوء على حقيقة مشاركة البيانات بهذه الدرجة الكبيرة. على سبيل المثال، تجد هنا قائمة بالقائمين على إعداد بحثٍ أكاديمي معيَّن مأخوذة من دورية «ذا لانست»، في نوفمبر ٢٠١١، وهي تُظهر تحليلًا تجميعيًّا ضخمًا ومحددًا ومفيدًا بدرجةٍ كبيرة لنتائج علاج سرطان الثدي، باستخدام بياناتٍ لمرضى جُمعت من سبع عشرة تجرِبة مختلفة. وقد طَبعتُ هذه القائمة بحجم خط يبلغ أربع نقاط (وإن كنت أخشى أن يكون هذا غير مُناسب في الطبعة الإلكترونية للكتاب …) إذ يوجد بالقائمة أسماء سبعمائةٍ من الباحثين، وقد كتبتُ أسماءهم لك بنفسي.

هذا هو الطب كما ينبغي أن يكون؛ أن تُعَد قائمةٌ أمينة بجميع الأشخاص المشاركين، مع إمكانية الاطِّلاع على المعلومات، وأن تُجمع جميع البيانات معًا لإعطاء أدق معلوماتٍ يُمكننا الوصول إليها، لاتخاذ قراراتٍ مستنيرة؛ ومن ثَمَّ تحاشي معاناةٍ كان من الممكن تجنُّبها وأضرارٍ قد تصل إلى الوفاة.

ولكننا للأسف ما زلنا بعيدين للغاية عن هذا.

(١٥) ما الذي يمكن عمله؟

إننا في حاجةٍ ماسَّة لأن نزيد الوصول إلى بيانات التجارِب. ففضلًا عن الاقتراحات السابق ذكرها، هناك تغييرات صغيرة يمكن بمقتضاها تحقيق ذلك، ومن ثَمَّ تحسين رعاية المرضى، وفيما يلي قائمة بأهمها:
  • (١)

    يجب جعْل نتائج جميع التجارِب التي تُجرى على البشر متاحةً في غُضون عامٍ واحد من إتمامها، وليكن هذا في صورة جدول تلخيصي إذا لم تكن قد نُشرت بدورية أكاديمية. وهذا يتطلب استحداث جهةٍ ما تضطلع بالفحص الرسمي العلني لمعرفة ما إذا كانت التجارِب قد حُجبت نتائجها بعد اثني عشر شهرًا. كما يتطلب تشريعًا يتم إقراره وتطبيقه على وجه السرعة على مستوًى دولي، مع فرض عقوباتٍ رادعة في حالة المخالفة. وإنني أرى أن هذه العقوبات يجب أن تشمل الغرامات المالية، كما يجب أن تصل إلى السجن لمُدد محددة لمن يثبت أنهم مسئولون عن حجب بيانات التجارِب؛ لأن هذا السلوك يضر المرضى.

  • (٢)

    جميع المراجعات المنهجية، مثل مراجعات مؤسسة كوكرين، التي تُجمِّع نتائج التجارِب المتعلقة بأي مسألةٍ إكلينيكية يجب أيضًا أن تتضمَّن قسمًا عن التجارِب التي يَعرف القائمون عليها أنها أُجريت ولكن حُجبت نتائجها. ويجب أن يُذكر في هذا القسم التجارِب التامة التي لم يبلغ القائمون عليها بنتائجها، وعدد المرضى الذين بياناتهم ذات أهميةٍ خاصة في كل تجرِبةٍ حُجبت نتائجها، وأسماء المؤسسات والأفراد الذين يحجبون البيانات، والجهود المضنية التي بذلها المراجعون ليحصلوا منهم على المعلومات. ويُعَد هذا عملًا إضافيًّا طفيفًا؛ إذ إن فِرَق المراجعة تعمل بالفعل على الحصول على ذلك النوع من البيانات. ويساعد توثيق هذا على جذب الانتباه إلى المشكلة، وتيسير الأمر على الأطباء والناس حتى يُعلِموا المسئولين عن الإضرار برعاية المرضى في كل حقلٍ من حقول الطب.

  • (٣)

    يجب أيضًا إتاحة جميع تقارير الدراسات الإكلينيكية المتعلقة بجميع التجارِب التي أُجريت وتُجرى على البشر. وهذا لا يتكلف إلا القليل، فتكلفته الوحيدة تنحصر في العثور على نسخةٍ ورقية من الأبحاث ومسحها ضوئيًّا ووضعها على الإنترنت، ربما مع التأكد من حذف المعلومات السِّرية الخاصَّة بالمرضى. وثَمَّةَ جبل شاهق من البيانات ذات الصلة المتعلقة بالعقاقير المحجوبة حاليًّا؛ الأمر الذي يُشوِّه ما نعرفه عن العلاجات التي تُستعمل على نطاقٍ واسع في الوقت الحاضر. وكثير من هذه المستندات سيكون قابعًا في ظلام أرشيفات الأبحاث لدى شركات الأدوية ومراقبيها. ونحن في حاجةٍ إلى تشريعٍ يُجبِر شركات الأدوية على إتاحة تلك المستندات؛ ففشلنا في إصلاح هذا الأمر سيُكلفنا أرواحًا غالية.

  • (٤)

    نحتاج إلى العمل على استحداث طرقٍ جديدة للأكاديميين ليحصلوا على معلوماتٍ تلخيصية من هذه المستندات، التي تكون أكثر تفصيلًا من الأبحاث الأكاديمية المنشورة. ولقد حققت مجموعة كوكرين العاملة على عقَّار التاميفلو تقدُّمًا رائعًا في هذا الصدد، وهم يُطوِّرون أساليبهم كل يومٍ مع الممارسة، وسيحتاج هذا المجال إلى كتيباتٍ تبرزه للناس.

  • (٥)
    يجب أن نسعى من أجل جعْل جميع القائمين على التجارِب ملتزمين بإتاحة بياناتهم الخاصة بالمرضى كلما أمكن، مع إعداد أرشيفات مناسبة للبيانات على الإنترنت،87 وأنظمة انسيابية يستطيع كبار الباحثين الجادين من خلالها أن يطلبوا الاطِّلاع عليها، حتى يمكنهم إجراء عمليات تحليل مُجمَّعة وإعادة فحص النتائج المذكورة في التجارِب المنشورة.
إنَّ كل ما ذكرتُه آنفًا ليس صعبًا ولا مستحيلًا، وإن كان بعضه متخصصًا، وهو ما أعتذر عنه. إن مسألة إخفاء بيانات التجارِب مأساوية وغريبة؛ فلقد اعتدنا ما نشأ لدينا ودرجنا عليه من ثقافةٍ في الطب تُحجب فيها المعلومات باستمرار، وتغافَلنا عن حالات المعاناة والوفاة التي قد تنتج عن هذا. وقد خذلَنا كلُّ مَن هم من المفترض أن يكونوا محلًّا لثقتنا في التعامل مع كل هذه الأمور من خلف الستار — مراقبو الأدوية ورجال السياسة وكبار الأكاديميين ومجموعات دعم المرضى والهيئات المهنية والجامعات ولجان الأخلاقيات الطبية — ومن ثَمَّ تعين عليَّ أن أسرد لك هذه التفاصيل المؤسفة، آملًا في أن تتحمَّل مسئوليتك الذاتية وتراعيَ مصالحك الشخصية فتفرض بعض الضغوط على أولئك المسئولين الرسميين.

وإذا كان لديك أي أفكارٍ عن كيفية إصلاح هذا الأمر، وكيف يُمكننا أن نصل إلى إتاحةٍ كاملة لبيانات التجارِب — سواء سياسيًّا أو تقنيًّا — فأنا أرجو منك أن تُدوِّنها وتضعها على الإنترنت، وأن تخبرني بأماكن وجودها.

هوامش

 جدير بالذكر أن بيم بدلًا من أن يصمم دراساتٍ جديدةً معقدة ليرى ما إذا كان البشر يستطيعون عن وعيٍ التنبؤَ بالمستقبل، فقد اكتفى بإجراء تجارب نفسية كلاسيكية بنحوٍ عكسي؛ ومن ثَمَّ، فإنه، على سبيل المثال، أجرى تجرِبةً مشهورة عن تأثير دون الوعي، حيث يُعرَض على الخاضعين للبحث صورتا مرآةٍ متطابقتان لنفس الصورة، ثم يُطلب منهم تحديد الصورة المفضلة لديهم من بينهما، ولكن مع عرض صورة غير سارة خارج حيز الوعي على نحوٍ خاطفٍ جدًّا تحت إحدى الصورتين قبل أن يُبدوا آراءهم. وفي حالة الإجراء العادي لهذه الدراسة، تجعل هذه الصورةُ غير السارة الناسَ أقلَّ قابليةً لاختيار الصورة التي توجد فوقها. أما في دراسة بيم، فقد جعل تلك الصور غير السارة تظهر على نحوٍ خاطف جدًّا مباشرة «بعد» أن أبدى المشاركون اختياراتهم لصورتهم المفضلة. ومهما أنه بدا من غير المرجح أن يكون لهذه الصور التي دون الوعي تأثير على اختيارات الناس، فإن بيم وجد عكس ذلك.
 جدير بالذكر أن إيان تشالمرز مُنح لقب «سير» (فارس) بسبب إنشائه مؤسسة كوكرين. ولأن باحثي كوكرين أناس عمليون جدًّا، فقد أرادوا أن يعرفوا ما إذا كان لهذا اللقب أي قيمةٍ حقيقية، فأجرَوْا تجرِبةً عشوائية كانوا فيها يتساءلون: هل من يتلقَّون خطاباتٍ من إيان تشالمرز يكونون أكثر قابليةً للرد عليها إذا كان الاسم الذي يُوقِّع به خطاباته هو «السير إيان تشالمرز»؟ فأَنشَئوا منظومةً بسيطة، وقبل إرسال الخطابات الخاصة به، كانت تُوقَّع عشوائيًّا باسم «السير إيان تشالمرز» أو «إيان تشالمرز» فقط. ثم قارن الباحثون عدد الردود حيال كلٍّ من التوقيعين، فوجدوا أن لقب «سير» لم يُسبِّب أي فارقٍ على الإطلاق. ونُشرت هذه الدراسة بالكامل — رغم أنها أسفرت عن نتيجةٍ سلبية — في دورية «جورنال أوف رويال سوسايتي أوف مديسين»، ولا يُعتبر هذا موضوعًا بحثيًّا تافهًا؛ فهناك الكثير من الفرسان في الطب، وهناك أشياء مُتعِبة يمكنك فعلها لتزيد فرصة أن تكون أحدهم، وقد يفكر كثير من الناس قائلين: «لو كنت أحمل لقب سير، فسوف يأخذ الناس أفكاري الجيدة بجديةٍ أكثر.» لكن كان عنوان تلك الدراسة هو «لا فارقَ كبيرًا بين كونك حاملًا للقب سير أو لا»،88 والتي بعد قراءتك لها، لعلك تُخفِّف من غلواء طموحاتك.
 جدير بالذكر أن إعداد قائمةٍ بسيطة بالتجارِب أمر مهم أيضًا لأسبابٍ أخرى، منها ما يُسمَّى «النشر المتكرر»؛ فقد أجرى اختصاصيُّ تخديرٍ بريطانيٌّ يُدعى مارتن ترامر مراجعةً عن فاعلية عقَّارٍ معالج للغثيان يُسمَّى الأوندانسيترون، ولاحَظ حدوث تكرارٍ على ما يبدو للكثير من البيانات. وبالفحص الدقيق تبيَّن أن الكثير من التجارِب أُجري في الكثير من الأماكن المُختلفة، ثم جُمع في شكل تجارب متعددة المراكز البحثية.89 ولكن النتائج المتعلقة بالكثير من المرضى تكررت عدة مرات، وجُمعت مع البيانات الأخرى لتُنشر في دورياتٍ مختلفة وضمن أبحاثٍ مختلفة. والأمر السيئ أن البيانات التي أظهرت العقَّار في صورةٍ أحسن كانت أكثر قابليةً للتكرار من البيانات التي أظهرتْه بصورةٍ أقل تأثيرًا، وهذا أدَّى إجمالًا إلى المغالاة بنسبة ٢٣ بالمائة في تقدير فاعلية العقَّار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤