سر الزخرفة الإسلامية

١

في باب الزخرف طلَعت العبقرية العربية مطلعها إبَّان الإسلام، وآتت نضارتها، ومن الوهم أن يذهب أحد إلى أنها خفَّت لهذا الباب، وتشبثت به في إسراف؛ لأنها كانت تكره تمثيل الأشكال الحية، ذلك التمثيل الذي حرَّمه الرسول فيما يرويه أهل الورع من حَمَلَة السنة، فالتحريم الذي كان يَقصِد — أول ما يَقصِد — إلى صَدِّ الناس عن الرجعة لعبادة الأوثان، لم يستبدَّ بتوجيه الفن الإسلامي في العصور الأوائل. مصداق هذا طائفة من شهادات الأدباء والمؤرِّخين (اطلب كلام أبي علي الفارسي الذيل رقم ١) بجنب آثار قائمة لا يأخذها العَدُّ (في الألواح بعض النماذج).

وقد بات التحريم في البلدان العربية محدود التأثير بالجملة، إلى أن عنفت ببهجة الفن هبَّة من هَبَّات المتشددين في مصر وفي الشام خاصة، حول المائة السابعة للهجرة. وواطأ ذلك العنف أن فَتكَت سنابك التتار الآثمة برياض الفن يوم دمَّروا بغداد، فأذاقوا الحضارة بَلِيَّة ما دخل الإسلام قطُّ في مثلِها. ثم ما كاد يفلت من حرج التحريم سوى فارس؛ إذ ظلَّت بنجوة من النير الطوراني الغشوم، فمضت تنعم برياض الفن الطليق، حتى إن أكثر المولعين بالطُّرَف لهذا العهد يتوهَّمون أن كل أثر إسلامي — وإن تقادم — إذا اتفق له أن يتخطَّى براعة التخطيط ليترجم أشكال الإنسان والحيوان، فإنما هو سليل المذهب الإيراني.

٢

إن لُبَّ الزخرفة العربية كامن في طَيَّات ما يُسمِّيه علماء الآثار «الأرابسك»، وأعبِّر عنه، من باب الاجتهاد، بكلمة «الرَّقْش».

من الممكن أن تتبيَّن في الرقش عنصرَين ثابتَين، تُمدهما الطبيعة خفية، ويقيم الاعتدالَ بينهما إحساسٌ بالمناسبة دفين رهيف، ثم يُحوِّل من أوضاعهما اختلاف الأمكنة والعهود، بفضل ارتقاء متصل في جانب الحجم وفي جانب الشكل. وأما العنصران؛ فمن جهة تأويل النبات، ولا سيما الورقة والساق، تأويلًا كله هِزَّة (اللوح ١). ومن جهة استغلال الخطوط استغلالًا يجريه التصوُّر (اللوح ٢).

ومن وراء العنصرَين مبدآن: الأول يظهر كأنه العبث. والثاني يبرز في هيئة التدقيق الهندسي. ومن هنا تخرج طريقتان: «الرَّمْي»، و«الخَيْط»، على حد تعبير المعاصرين من أهل الصناعة في دمشق خاصة (كأنما يد الصُّناع تُنظِّم الخطوط بخَيْط، أو تفرش الورقة والساق من طريق الرَّمْي). وهذان المبدآن يتنافران في الظاهر، على حين أنهما يلتقيان في اتفاق عجيب يضم التمثيل إلى الشعور، بل هما يأتلفان حتى التعانق والملابسة.

وبعيدٌ أن ينحدر الرقش من بَدَوات العبث وإن زعم قوم من النقاد هذا؛ فالرقش ثمرة التوقان الإسلامي؛ ثمرة منقاة، وتوقان مِذعان يختلج على هَلَع.

على المؤمن أن يتوجه بكيانه إلى اللهِ؛ فالله مصدر جذبه وغاية سَعْيه في آنٍ واحد، وفي القرآن: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (البقرة: ١١٥).

وفيه أيضًا: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الروم: ٣٨).

هذان معنيان لا يفتأ كتاب الإسلام يردِّدهما.

على أن الله جِدٌّ مخالف لعباده، من حيث هو قائم بنفسه في تنزيه مطلق، يفوت مرمى الحِسِّ، وعلى هذا إن قوة إدراك الحَيِّز لا تجد راحة؛ إذ لا تنفك تبحث عن لا نهاية الملاذِ الأجلِّ، وهي تتنقل — على غير وعي — في حدود العجز البشري المتناهي، مشغولة برؤيا سَنِيَّة.

من هنا لُدُونة الرقشة، وقد آل بها المطاف بين يدي الإسلام أن عُتقَت من الواقعية الهلينية، وخَلُصت من الصلابة الفارسية، فلا مبتدأ لها ولا منتهًى، وما يجوز لها أن تطمع في أحد منهما؛ لأنها تسعى وراء الله، الله الذي هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ (الحديد: ٣)، منه تبتدئ الأسباب، وإليه تنتهي المسببات.

وبفضل اللدونة ترى الرقشة دوَّارة تارة، وتارة متوترة، وهي في أكثر الحال تلتوي، وقلَّما يدركها البُهْر، ووجهتها أبدًا ما لا حد له؛ فهي ماضية بلا ملل، وهيهات أن تبلغ ما تهدف إليه، فشأنها شأن إيقاع يترنَّح مُنقادًا للصبر.

إن التفاف العِرق بوروده وأوراقه، وكذلك انبساط السطوح، يقفان فجأة أحيانًا، أو يتكسران حتمًا على الحواجز عند أطراف الساحة التي تستقبل المَنْمَق، أتُرى يرضى الالتفاف والانبساط بهذه الهزيمة؟ كلَّا! أما العرق فلا تختتم مداته، وأما السطح فلا تلتحم أضلاعه، بل كلٌّ يصل إلى المدى المُقدَّر له، وهو في فَوَران نشاطه، إما عند رأس انثنائة، وإما في قلب اشتباكة، كأنما يتأهَّب لاستئناف الاندفاع فيدعوك إلى أن تَثِب وراءه في الخلاء؛ لعلك من طريق التَّخيُّل المقلاق تُلاحق جولانًا صدمته قسوة الواقع.

والاندفاع مع رقش «الرمي» طَيَّاش ومُحيِّر، وهو مع رقش «الخيط» رزين ومريح، وكِلا النوعَين ينفرش على المِهاد، ويكسو العصاب، ويعلو الرواق، ويثب إلى الإفريز، ويتناول العَرَضى، ويهجم على الفراغ. وتبلغ به الهِمَّة أن يتعرَّج حتى في الأَكْسِية، فيحكي مكاسرها وأطواءها، تلك نشوة مشت في الخط تنبئك أن أفق الغيب المستغلق دون المؤمن مَشغلَة دائمة لذَوْقه.

لا شك أن حدود الطبيعة تسترخي بين يدي الفنان وهو يُرَقِّش، ولكن هيهات أن يرتوي الفن الظامئ إلى مسابح المجهول؛ المجهول الذي لا تنكشف طَوالِعه إلا لسريرة توزَّعتها حال بين الصَّحْو والسُّكْر، وهذه الحال تخالف «سَرَحانًا» هو الذي يولِّد الرقش، لكنه من حيث إن الذهن مجاله، لا يأخذ سِرَّه رفيف، ولو كان خطرَ للمتصوفة أن يُقبلوا على الرسم إقبالهم على الموسيقى والرقص، لكنت تأملت رقشًا أكثر تسايلًا، وأقل انحباسًا، يتوارى شيئًا فشيئًا، كأن ريحًا لَيِّنة لفَّتْه في هفاتها، فهفت به إلى جو مستبعد، تتذبذب من حوله هواجس الخاطر، وهو الجو الذي تفرَّد المِرقم الصيني باستحضاره.

هذا، والرمي خاصة متى أفلت من سلطان التراصف قارب «الفن المجرَّد»، هذا الذي يفتتن به الآن المتظرِّفون في أوربة، ولا سيما في باريس. وهو على نوعَين، فلست أعني النوع الذي يحيد عن التصوُّر المعقول إلى اختراع بِنيات خارجة عن منظورات العالم، تائهة وراء المدلولات المتوترة والوجدانيات المتوارثة، بل أعني الذي يعمد إلى تخفيف الأشياء المحصَّلة في الواقع، فيُفرِّغها مكتفيًا بخطوط معتدلة مُنبِئَة عنها، تُرتَّب في نظام يبدو كأنه جاء اعتباطًا (انظر تزويقة الغلاف الإفرنجي).

٣

وبجنب الرقش وُلِد الاقتضاب — أريد stylisation — أو هو جاء مُعلَّقًا بها: أوحى الله إلى رسوله بهذه الكلمة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ (الكهف: ٤٥). والتحقيق أن الحياة الدنيا عند الإسلام الصحيح «زينة»، وليس فيها سوى «متاع الغرور»، كما سترى. وهو متاع يضمحل وينحل بإزاء الذي بين يدَيِ الله، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى (القصص: ٦٠).

إن الاقتضاب يُذكِّر بالإحساسات المباشرة في سرعة وخِفَّة، وإنما ميدانه المقاصد الزائلة، يُبرزها زينة متاع، كما يراها قوم حُمِلوا على ترك التسويلات الحِسِّيَّة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (فاطر: ٥). إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (يونس: ٢٣). من ذلك لا تُقيَّد التسويلات إلا بوساطة نقطة أو جسَّة أو طَرْحِ خط أو تزوير هيئة، فيجيء التعبير ومجراه كأنه سلك متصل من الحروف المُقطَّعة، وفحواه كأنه عِقد تنظمه معانٍ مُضمَرة.

يتصفح الفنان أجزاء المادة حتى يتيسر له أن يلتقط منها ما كان نسجُه أقل فسادًا. وهكذا تعاني المادة ما تعانيه من اقتطاع وتضمير، فتبدو مبتورةً مسحاء، فتنمُّ على الشبهة التي تلابس ماهيَّتها في دنيا تفهة أيَّما تفه، ما الحياة فيها إلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ (الأنعام: ٣٢، ومواضع أخرى).

ولا ريب أن الفنان الصَّناع يتلهَّى ويتفكَّه، وهو يمسخ قِيَم التشكُّل أو يطمسها، فالرسم والحجم والعمق، وجملة اللواحق تسترسل جميعًا إلى لَعِب، ولكنه لعب فنيٌّ لا غِشَّ فيه، تتصرَّف عنده جرأة الأنامل الساذجة بإشارة من لوائح مستترة تذهب وتجيء كيفما شاءت (اللوح ٣أ، ٣ب، اللوح ٤أ، ٤ب). فكأن الابتداع ينحدر من هضبات الفِكْر الثابتة لكي يظفر، غير متورع، بما هو دونه في نفاسة الجوهر بمظاهر الدنيا، هذا أسلوب حقيق أن ينبئ بإرادة المُصوِّر «جوان جري»، أحد زعماء المذهب التكعيبي، المتوفى سنة ١٩٢٧، وهو إسباني، بل أندلسي لأُمِّه، قال جري: «أنا أذهب من المجرد حتى أبلغ الذي هو حاصل في الواقع.»

ثم إن ذلك اللعب الفني يملي إملاءةً سكرى، يمرح في سطورها ابتهاج وادع كَرِهَ الإحاطة بالمادة. فرفض الاستيلاء على جملتها (اللوح ٥ب). وأنت تجد عنفوان هذا الطرب إلى الاقتضاب المبتكر، هذا التلذذ بما لم ينبض به حدس، في ألواح كثيرة صنعها المُصوِّر الإسباني «بيكاسو» الطائر الصيت في آفاق العالم (اللوح ٥أ)، بيكاسو الذي وُلِد في الأندلس، في مَلْقَة سنة ١٨٨١، وما كَلَّ ولا يَكَلُّ من تحريف صِيَغ الفن عن مبانيها المعهودة، فيتمادى في تسخير الأشكال الحاصلة في الواقع لشهوة الزينة التي رُكِّبت في مزاجه، وهي شهوة جامحة تتمثَّل في رسم وجداني لا يخلو من القلق النفساني، إلا أنه قلق لا يستصبح بأنوار السماء.

هذا، والأسلوب العربي-الإسلامي يصرف الفنان عن تجسيم الأشكال التجسيم البالغ أو الوثيق، فتراه يقنع بأن يومض إلى النتوء، والصورة التي فيها عُرْي لا يتمادى في إبراز ملامحها: لا نبرة ولا خرجة ولا وثبة بينة. فما كل هذه على التحقيق سوى إضافات واهية خارجية، إنما هن مخايل «زينة» تلحق بفضول كَوْن يحيط به الباطل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ (الحديد: ٢٠)، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا (القصص: ٦٠)، قُلْ: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (الأعراف: ٢٤).

وإذا كانت الأشكال المُجسَّمة ضربًا من ضروب الزينة، فهي تولِّد فنًّا غايته الترويح. ومن هذه الطريق انقلب التشكيل إلى تنميق؛ فالعبث، بأشرف معانيه، مآل الفن إذن، لا مصدره، وإن قال النقاد عكس هذا من قبل.

٤

هذا النمط من التشكيل يساير مذهبًا غالبًا في الفن الإفرنجي الحاضر، هو «مخالفة الطبيعة» إلى ما ينشأ عنه من «محو الخصائص البشرية.» وذلك بأن هذا النمط مصدره العزم على الفرار من مظاهر العالم لحقارتها ولشبهتها، وكذلك الرغبة في طَيِّ الطاقة البشرية تحت أداء إنما هو تجريدي بالطبع (اللوح ٦، اللوح ٧).

غير أن هدم الشكل أو بتره أو تخليعه أو تحويله، هيهات أن تأتي جميعًا — في الفن الإسلامي — من وراء تدبير منقبض عن مرح الحياة، طامع في تحرير الغريزة مع إطلاق قواها، حتى يدعها تتلقى صور العدم والفجيعة والاعتلال والشناعة، على نحو ما تتلقاها غرائز طائفة من المُصوِّرين المُحدَثين في الغرب، أنصار «مدرسة باريس».

إن خروج التصوير الإسلامي على أصول الهيئة البشرية إنما تستدعيه نِيَّة مستقرة في الطبع، مبعثها الاستهانة بعظمة الإنسان المطلق، الإنسان الذي ركَّزه في قلب العالم فلاسفة يونان، وأهل الأدب والفن في إيطالية الناهضة، أولئك الذين فَخَّموا منزلة البشرية، ومجَّدوا العُرْي الوضَّاح في مُصوَّراتهم ومنحوتاتهم، فجاء الإنسان معهم جميعًا «مقاس الأشياء كلها» كما قال «بروثاغورس». ولا يسع الإسلام إلا أن ينكر هذا الشَّطَط: لا جرم أن الله كرَّم بني آدم، فخَصَّهم بجملة من الميزات،وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠)، ولكن هذا التكريم فضل محض من الله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ (النساء: ٧٩)، وفي صدارة الحسنات نعمة الوجود؛ فالتكريم لم ينله الإنسان بقُوَّته، إذ خُلِق ضَعِيفًا (النساء: ٢٨)، وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (مريم: ٦٧)، يترصَّده الموت فيدركه أينما يكون (النساء: ٧٨). ولا بد للإنسان الناعم بالوجود، حتى يستحقَّ تكريم ربِّه له، أن يجاهد في الله حق جهاده، فيناضل العدو الكامن في جوانحه (تفسير الحج: ٧٨)، العاقد عقد الاضطراب الآثم، ذلك هوى النفس «الملِك الغشوم، والمُتسلِّط الظلوم» كما قال بعض الحكماء، فكيف للإنسان أن يُكبر طبيعته، وقد قال له ربه: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء: ٧٩)؟ وكيف له أن يركن إليها وقد خُلِقَ هَلُوعًا (المعارج: ١٩)، معه ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (الروم: ٤١)؟ وكيف وإنه لَيَطْغَى (العلق: ٦)، وإنه لَظَلُومٌ (إبراهيم: ٣٤)، وإنه لَكَفُورٌ (الحج: ٦٦)، وإنه لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات: ٦)، حتى إنه يجلب على نفسه الدعاء «بأشنع الدعوات» مما يدل على «سخط عظيم، وذم بليغ» قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (عبس: ١٧، تفسير البيضاوي وغيره).

وأما الشكل الإنساني فهو لا ريب حَسَن: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (غافر: ٦٤)؛ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤). إلا أن هذا الحُسْن الظاهر ضئيل الشأن، قليل الغناء بجنب الحُسْن الباطن، سريع الزوال، قابل للمسخ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (التغابن: ٣). وهنا يقول الإمام البيضاوي مُفسِّرًا: «فصوَّركم في جملة ما خلق بأحسن صورة … فأَحْسِنوا سرائركم حتى لا يَمسخ بالعذاب ظواهركم.» والحق أن الله قادر على مسخ عباده (يس: ٦٧). ومن هنا قول بِشْر بن منقذ، من أصحاب الإمام علي، على ما روى الجاحظ في «البيان والتبين»:

لسان الفتى نِصْفٌ ونِصْفٌ فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدمِ

فما هذه الصورة سوى قُشارة ما هو أنفس وأغلى، وبعد قرون يقول الفيلسوف نيتشه في هذه الصورة: «ما أحقرَها ملجأً من زجاج!»

هذا، وقد يكون الفنان المسلم كَلِفًا بمخالفة الطبيعة، ولكنه كَلَف سليم، لا يشوبه اليأس ولا تعيبه الفظاظة والاستخفاف، كما هي الحال عند بعض المُصوِّرين المعاصرين في الغرب، وذلك أن الاستهانة بعظمة الإنسان المطلق تحضُّ مرقم الفنان المسلم على أن يُحرِّف قِيَم الخلجات، حتى إنه يصلبها فيردها أقرب ما تكون إلى سكنات الآلة، تلك السكنات الجامدة على ألواح أولئك المُصوِّرين، ولكنَّما يُلطِّف هذه الشدة أن الاستهانة لا تتمادى حتى تجعل تخاطيط الوهم المسرف تمحو بسمة الحياة، فبسمة الحياة عنوان «زينتها»، ودليل ما فيها من «متاع الغرور» (اللوح ٨أ، ٨ب).

أنت إذن ترى الفنان المسلم يفرُّ من وجه الطبيعة، كذلك تراه يواجهها فلا يَعِنُّ له هنا أن يحتذي ويحاكي إلا إذا عكف على تزويق المؤلَّفات العلمية، وفي كلا الفرار والمواجهة يلقط الفنان الشيء الذي فيه روح، وهو يفكِّك مركَّباته أو يبسِّط صِيَغه، وهذا ما أسميه «الاصطراف». على أن الفنان المسلم يغلب عليه الفرح بالاصطراف بدل أن تأخذه كبرياء الخَلق. لذلك هو لا يُعنى بالترجمة عن شُغْل يشغل ذهنه، بل همُّه الإعراب عمَّا يجول في مِزاجه الحسَّاس، فإذا صنع منظرًا هادئًا سكب في ثنايا الشيء طراءة طريفة، تجري به إلى خمائل الشِّعر والسِّحر (اللوح ٩أ، اللوح ٦، اللوح ٥ب، اللوح ٣أ). وإذا صاغ مشهدًا فائرًا أيقظ المادة من سُباتها، وجَرَّ الصورة إلى مثل حلقة رقص تعقدها جماعة من الصوفية، هو يجرها بفضل حِسٍّ موسيقيٍّ هائج على تناسب، كثيرًا ما يغذوه روض من ألوان تصدح بابتهاج الضمير (اللوح ٩ب، اللوح ٤أ، ٤ب، اللوح ٣ب)، ولا يزال «بيكاسو» الإسباني ينشر هذه الألوان تحت أعيننا، وقد مال الآن إلى صناعة الخزف. تلك الحلقة وإن لم تفتْها رقابة الفنان لَتبدو غاية في الالتطام؛ لأن هذا الضرب من التشكيل منحرف عن مراسم الواقع، من حيث إنه ينبو، على علم وفي غير ندم، عن الاستعلاء الذي يتطلبه وجوب المستوى والحجم.

٥

ربما لاحت الأشكال من حيث تركيبها الممكن، لا من حيث مظهرها الحاصل، مهما تجرَّد المظهر من الصفات المحسوسة. وحينئذ تدخل الأشكال في عالم موهوم، ولكنه غير ممتنع في أعين المسلم. أما ورد في القرآن: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (النحل: ٨)، وبفضل قوله: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ — استنادًا إلى التفسير اللطيف الذي ذكره الجاحظ (الذيل٢) — تنشق للفنان نافذة تطل على فسحة المتخيل، فإما اجتلاب لصيغ آسيوية متقادمة، وإما اختراع لمطالب في استظراف أو في سذاجة (اللوح ١٠، اللوح ١١أ، ١١ب). وهذا وذاك تصيبه عند «بيكاسو» الذي أصبح يميل إلى تصوير الحيوان في هيئات شاذة.

فمتى صاغ الفنان المسلم ما ليس بخاطر في بال أو ما ليس حاصلًا في الوجود المعهود، طوَّح من طريق أحاجيه الفتانة، بحدود النطاق البشري، هذا وقلبه المحدث سرًّا يريد أن يعظم اقتدار سيده الأعلى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (المائدة: ١٧)؛ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ (فاطر: ١).

ولقد أخطأ مَن ظن من النقاد أن الفنان يقصد بتصوير المحال إلى تنكير الطبيعة، وتمويه المخلوقات إرادة أن «يخادع ربَّه»، الذي يُنزِل به العقاب إذا رآه جَرُأ على المضاهاة بصنعه؛ فمثل هذا الظن يدل على الجهل بقدرة الله: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (الأعلى: ٧)، ومواضع أخرى في هذا المعنى، والحق أن أحدًا من الناس إذا جاز له أن يزيغ عن تمثيل ما خلقه الله، فهيهات أن يقوى على أن يحتال بين يدي الله، ويمكر وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (آل عمران: ٥٤).

٦

جلب الفن جميع أنواعه إلى جهة التنميق، يوم استقر فيها، فاختلطت الأنواع بعضها ببعض، وكاد تدرُّجها يختل على ما يقتضيه من المناحي المتمايزة بحسب المواد المستعملة، وكذلك بحسب المآرب المطلوبة، وقد أصبح التنميق كأنه الأمير الذي لا يُرَدُّ له أمر، أمير وَضَّاء، أَخَّاذ، ماضي العزيمة، دائب السعي، لقد شَطَّ في المَضاء والدَّأْب.

وعند هذا الانقلاب تحوَّل الفن الإسلامي، غير متردِّد عن جَوِّ التأثُّرات، وكان قد انحرف إليه فذهب فيه متثبتًا، دليل ذلك المنمنمات الراجعة إلى الأسلوب العربي المعروف بالبغدادي، السابق لدور التصوير الفارسي (الذيل ٣). وهذه المنمنمات التي تقصد إلى تزويق الكتب وترقِّيها تَنشُر واقعية حادة، في غالب الحال، وتدس في أثناء الموضوعات الدينية ورعًا صادقًا، على أنها منبثقة من مساق هلِّيني توطَّن أرض سوريا وما بين النهرَين فصار ساميًّا، ثم تراكب ماؤه، وتبطح هنا وهناك — قبل الإسلام — وقد مدته على مدار السنين فَوَرات من ينابيع الفن المسيحي الشرقي بخاصة، حتى انتهى الدَّفَقان إلى المزاج العربي، فتجدَّد على يديه، وهما ترفان طراءة.

ومع اليدين مقاصد يبتعد بها التفكير عن حدود المتاع في ذاته، أو عن أصول الموضوع الذي استدعى النقش، مقاصد تهديها القوة المشرفة على تهذيب العلاقات القائمة بين أجزاء التشكيل، في طائفة من المُصوَّرات التي تفيض بالوجدانيات، وتتخطَّى اللذة المحض، حتى إن الفارابي أنزلها منزلة «الألحان الكاملة»، وحتى إن عبد القاهر الجرجاني، الناقد الألمعي، شَبَّه وقعها في خاطر الناظر المفتون بفعل الأشعار في حِسِّ السامع المأخوذ: بِدَع وعِبَر هنا وهناك (الذيل ٤).

على أن الزخرف لم يكن ليستأثر بأغراض النقش في أقدم النمنمات العربية المحكمة، فكثيرًا ما كان يَرِد على جهة العرض إذا ورد، فإن هجم على الجوهر جاء تبعًا للخيالات والإشارات، فلا يقع في القيمة الشعورية التي ينهض بها الموضوع، بل يتصل بلواحقها (اللوح ١٢أ، ١٢ب). غير أن هذه الحال تبدلت في البلاد العربية منذ الربع الأخير من المائة السابعة للهجرة على التقريب، لما عمدت رغبة التنميق، في عَمَه وشَرَه، إلى طرائق فيها تكلُّف، ولا تكاد تلوح عليها حلاوة.

٧

إن اللون يزيد في فعل التنميق، يستعمله المُنقِّش المسلم لذاته. والبرهان أنه يعزل أصنافه بعضها عن بعض، وكذلك ينزله منزلة الغاية بأن يقيمه مقام الضوء، وهكذا يجيء اللون موفور الإشباع، لا يبالي بأن ينسخ الطبيعة أو يصفها: أَوَيستطيع ذلك؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً (البقرة: ١٣٨).

ومن حيث إن اللون يجري مجرى أداة للتأويل تَعظم قدرته من أخذ البصر؛ وذلك لأنه يستنشق الهواء الذي يكتنف الأشياء، لكي ينقل تطوُّس جمالها الباطن، من طريق الإحساس الصِّرْف.

وهنا تعرض لامعة من لوامع «برجسن»، الفيلسوف الفرنسي المحدث قال: «إن الفن يجري إلى إلقاء ضروب من الشعور في خواطرنا، من باب الإيهام، أكثر منه إلى الإفصاح عنها، وهو يعرض راضيًا عن محاكاة الطبيعة متى وجد طرائق نافذة.» هذه نزعة حديثة ترجع في نهاية تطوُّفها إلى تصوُّر من تصوُّرات «أفلوطين» الفيلسوف الإسكندري، في باب الجمال.

إن اللون — إذن — عنصر كريم من عناصر الخلابة. يبين ذلك كلام غاية في اللطف للمظفر ابن قاضي بعلبك الفيلسوف (الذيل ٥). ولهذا ينافس الشكل أي منافسة، ووسيلته صِلَة تمور بين طبقات الأصباغ في موافقاتها ومبايناتها، وهذا تعبير شرقيٌّ قديم العهد يعود إلينا في بهائه، وهو يناقض الأسلوب الاتباعي الذي علا في عصر «النهضة» في الغرب، ذلك الأسلوب المشغوف بالرسم الظاهر، حتى إنه يزدري «الإحساسات الملوَّنة» التي لحظها ودوَّنها الفنان الفرنسي «سيزان» أبو التصوير الحديث.

وذلك التعبير الشرقي يدع دقائق الوجدانيات الصادقة تسيل في أجزاء الألوان المختارة: صبغ خامد، وآخر كامد، كأن كِلَيْهما صدًى خفيٌّ لتحرُّج أهل السنة، وصبغ يمس المتاع المنقش في دَعَة تقطر بالندى، كأنه النسيم «العليل البليل» الذي طالما به همس الشعراء القدامى. ثم صبغ مضنًى، لعله من مدَّات مغنية شَفَّها الحب فأرادت أن تموت، على ما وصف التوحيدي من ظرائف الشَّدْو في «الإمتاع والمؤانسة»، وثَمَّ أصباغ سُلَّت من صفاء المعدن، بين مُمَلَّسة ومُحَبَّبة، يتلألأ أحدهما وسط المنقش أو يتطوَّس حواليه، كأنه يُستقَى من ماء الجواهر الفائقة النادرة التي كان يختزنها الخلفاء في القاهرة. ثم إنه قد تحتدُّ جلسات الألوان، كما يحتدُّ على المناديل التي تشدها صغائر فلاحاتنا على رءوسهن، هذه جسَّات رسموها كأنها من وحي التعاويذ، ولك أن تتأملها على تلك الأطباق والأكواب التي عثروا عليها في الفيوم، من أعمال مصر، من زمن قريب؛ لطخات تجاورت على شدة، وبقع يتردَّد فيها شِبْه فجاجة، ذاك أداء كأن آلته تزمر وتطبِّل، وقد وثبت من جَوْف أرض مصرية، فيما بين القرن الرابع والسادس للهجرة (اللوح ١٣ب).

والحديث لعمري يطول في خصائص الألوان الإسلامية، هي معدودة إلا أنها زخَّارة فيَّاضة موَّاجة، تصب سحرها على سطوح مبسوطة، وهذه الصفات تصلح لفن الألوان السائد وقتنا هذا في باريس، وللمصور الفرنسي المعاصر «ماتيس» ولأصحابه أن ينتحلوها.

٨

أما الخط — ذلك «المعنى الساكن» كما قالوا (الذيل ٦) — فهو إشارة كلها وقار، بُنِيَت على وضع معلوم، ثم هو سِمَة لإيمان يجيش بتعظيم الخلَّاق.

ذاع القرآن فانتشر الخط، ثم حرَّره الحُذَّاق من الكُتَّاب حتى بلغ الكمال، فجاءت حروف الكتابة الأولى أكثر ما جاءت، وهي مستقيمة منبسطة، وكادت تختص بها المصاحف ورقاع المدائح والصلوات والابتهالات والدعوات، حتى إن الحروف عَدَلت عن اللين الظاهر في الخط الدارج المرسل إلى يُبْس هو آية الخط الجليل المُحقَّق، سواء كان ذلك في مسطور أو مسبوك أو محفور أو منحوت (اللوح ١٤أ، ١٤ب، ١٤ﺟ).

وما كان بد من تجميل الخط: إن الله الذي هو رَبُّكَ الْأَكْرَمُ أضاف التعليم بالقلم إلى نفسه حيث قال: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (العلق: ٣، ٤). هذا، ومما جاء في الحديث الصحيح، واشتهر على ألسنة الناس: «إن الله جميل يحب الجمال» (الذيل ٧). فكيف يرضى العَلِيُّ الفائق الحُسْن أن يأتي الخط الذي وقف عليه عباده غثًّا قبيحًا؟ الخط الذي هو في ذِرْوَة الشرف؛ لأن الصحف والألواح نزلت به على الأنبياء.

فلتتقدَّم أبدان الحروف العربية، في زِيِّ الكوفي خاصة، إلى حضرة ذُوْ الْعَرْشِ الْمَجِيدُ وقد زكَّاها وَحْيُه، وفَخَّمتها أُبَّهَتُه. لتتقدم رائقة فتحمد، شريفة فتكبر، سواء انتصبت أو انبطحت، تقوَّست أو تلوَّزت، أُرسِلت أو أُسبِلت! كيف لا تشكر لله بِرَّه وفضله إذ سيَّرها بين الناس، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا بوساطتها (البقرة: ٣١)، تلك الأسماء التي أنزلها القرآن بلسان عربيٍّ غير ذي عوج، في لغة هي «أفضل اللغات وأوسعها وأكملها ذوقًا ووجدانًا، بل يقينًا وبرهانًا» كما قال أهل اللسان (الذيل ٨).

هذا، ومما نطق به الإمام علي بن أبي طالب: «الخط الحَسَن يزيد الحق وضوحًا» (الذيل ٩). فأي حق يجسر أن يزاحم حقًّا من عند ربك؟ وكما أنه لا محيد عن قراءة القرآن على تُؤَدَة وتبيين دفعًا للتحريف والتغيير، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: ٤)، كذلك لا بد للقرآن من أن يُسطَر في إيضاح وتحقيق؛ لأن «الخط لسان اليد» على قول عُبيد الله بن العباس، المتوفى سنة ٥٨ (الذيل ١٠).

وهكذا انبعثت قواعد الخط محاذاةً لأصول مخارج الحروف، في جميع البلدان الإسلامية. ثم استوى الخط «هندسة روحانية» كما قالوا (الذيل ١١) حتى صار فنًّا فاخرًا لا ممتهنًا، على أن الكتابة الباهرة — أول ما ظهرت على الأقل — جاءت أعلى من رصف للحروف منسوق أو مستملح، جاءت أقرب إلى تكليف من تكاليف العبادة، في هيئة سكة تضربها سطوة الإسلام، وتفرضها عنوانًا لعِزِّها ومنعتها.

وآلة الخط القلم، وهو أشرف الآلات وأسبقها؛ أمَا أقسم الله به: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (القلم: ١). أَوَما قال الرسول: «أول ما خلق الله القلم» (الذيل ١٢)؟ فالخَطَّاط إذا خَطَّ طلب الخَلْوة لسكون القلب، فعمل عملًا صالحًا. من هنا تلك الرائحة القدسانية التي تغمر القلم، ألا ترى إلى الشاعر يقول فيه:

وذي عفاف راكع ساجد
أخي صلاح دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها
مجتهد في خدمة الباري

(الذيل ١٣).

وبعد، كثيرًا ما تزيغ الحروف عن مبانيها المتواضع عليها في رسم الهجاء، فتهيم على أهواء مخيِّلات الفنانين، فتندسُّ في تراكيب مرتجلة سرعان ما تنقاد لعنفوان الاقتضاب، ومتى حُرِّفت الحروف أو عُرِّجت، حتى إنها تثبج وتعمَّى، منقولة من أفق ديني إلى صعيد دنيوي، بذلت لرغبة التوازن وسائل منقطعة النظائر، فيصبح جدول الخطوط مبعث اندفاعات لا تنفك تبث النشاط في جملة الصِّيَغ الزخرفية (اللوح ٤أ، ٤ب). ومثل هذا الخط المستطرف كمثل «الرمي» من الرقش؛ إذ إنه متى خرج على أحكام الترتيب لعناصر الصورة دنا من «الفن المجرد»، وربما شارك «الرمي» في هذه الجهة، فينضم إليه، حتى يحسن الدخول إلى منازل النهج العقلي (اللوح ١٣أ، وتزويقة الغلاف العربي، والغلاف الإفرنجي).

٩

إن هذا الجو الذي يحفُّ به الدين، مباشرة أو مداورة، يهب له قدرة تترفع عن الأشباه، وهذا يعلل ما يبدو في ضروب التنميق من ضياع شخصية الفنان؛ فجميع المُنمِّقين — وقد حَثَّتهم فطرة غامضة — يغترفون من فيض روحانيٍّ واحد، ويستنبطون من جوف الواقع المحقَّق لحظات متوافقة وهيئات متطابقة، وهم في ذلك الاستلهام يجعلون إيمانهم أمرًا محصَّلًا بين أيديهم. وإذا أتت ساعة الإنجاز عاد الفنان — على غير تفصيل ولا تمييز — إلى سلامة سريرته؛ ذلك بأن الإنسان إن سَوَّلت له غريزته الغِرَّة أنه يَسَعُ الأشياء كلها فسرعان ما يتجلَّى له، حين يتفكر فيُسلِّم لربه، أنه لا يسع شيئًا؛ ذلك شأن الذين آمنوا واتقوا وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (البروج: ٢٠)، الله الذي قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (التكوير: ٢٩)؛ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (ق: ٤٣).

فحياة الفرد — بما هي عليه من ذل الحاجة ومهانة العجز — يسلبها كيانَها حال من الوَلَه الانفعالي، وله سابح في وجدانيات مشتركة، مُوجَّه إلى تكوين عالم ذي أشكال تتلخَّص فيها لمحات الجماعة.

على أن الفن الإسلامي — بالجملة — لا يشكو ضياع الشخصية، كما قال عليه، فما هو بملقًى إلى الصُّنَّاع وحدهم، ولا إلى «المُقلِّدين» كما يزعم كثير. أوَلا يكون المُنجِز فنانًا متى أخرج الفِكْر السائر في المِلَّة من القوة إلى الفعل، وهو يُحكِم تطبيق الأداء على ما في الأنفس مجتمعة من تَوَقان؟

حوى ذلك التنميق معانيَ هي من وراء الطبيعة، جعلته نسيجَ وَحْدِه وأمدَّته بالهِمَّة المتصلة، ثم يسَّرت لسلطانه أن ينبسط في البلدان العربية والمُستعرِبة حتى مضى إلى فارس، وهناك انبعثت الصِّيَغ القديمة في تصوُّر لم يتحرك به خاطر من قبل، وبذلت قيادها إلى صنعة مُستجدَّة.

ولما كانت هذه الصفوة من دقائق الزينة تهتز طراءة وظرفًا وانطلاقًا خلبت المُزخرِفين النصارى من سوريِّين وكبدوكيِّين، ومن أقباط وبيزنطيِّين، حتى من إيطاليِّين وإسبانيِّين. فهؤلاء القوم الذوَّاقون أسرعوا إلى تلك الزينة (اللوح ١٦أ، ١٦ب) مع أن الذي تلقَّوه من آبائهم في صناعة الترقين كان وافرًا على بهجة (اللوح ١٥).

ومما يورث الأسف بعد كل ذلك أن التنميق الإسلامي تحدَّر — على تعاقُب السنين — إلى ركام من رواسم مطروقة أي طَرْق، حتى إنها همدت وخَوْت، وكان ذلك المصير محتومًا؛ فمِمَّا لا يخفى على أحد أن كل نمط من أنماط الفن يَفتُر آجلًا أو عاجلًا حتى الجمود إذا هو تمنع أن يتجدَّد من الباطن، ثم إن التجريد المُفرِط مساقه إلى الرَّكاكة، إذا دبَّرته فكرة تحصرها شواغل هي هي، ويحيط بها جدب تستريح إليه يومًا بعد يوم، جدب الثقافة التي تتحلَّل، ذلك فضلًا عن أن مزاج الفنان إذا تألَّب عليه عنف التخرُّج والتخمُّس غَلَّه وأَذَلَّه.

ومهما يك المصير فإن بهاء الزخرف الإسلامي يلمع بين يدَيِ الناظر في الفنون لمعانًا لا تكاد رفَّاته العجيبة تلقى أشباهها في فَلَك الذوق الخالص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤