الباب الأول

بص طائر وترزي حائر مع أم شفوق ووزير مرموق

دقَّ جرس التليفون في شقَّتي، وكنتُ أعلم مُسبقًا أن هذه المكالمة من صديقتي الوفية، تُريدني أن أستيقظ مبكرًا في الساعة الرابعة صباحًا. كانت تعلم أنني مسافرٌ في إجازتي الصيفية، كما كانت على علمٍ سابقٍ بأنه يجبُ عليَّ أن أكون بمطار القاهرة الدولي في السادسة والثلث صباحًا؛ أي قبل موعد إقلاع الطائرة بساعتَين على الأقل، حسب تعليمات شركة السياحة «إير فرانس»، التي كنتُ سأطير على مَتْن إحدى طائراتها.

كان عليَّ القيام ببضعة أعمالٍ بسيطةٍ في حدِّ ذاتها ولكنها بالغة الأهمية بالنسبة لي؛ كنزع منصهرات النور (الكوبسات)، وهذا إجراءٌ وقائيٌّ لمنع حدوث حريق بالشقة أثناء غيابي، قد يُسبِّبه التيار الكهربي، وإغلاق حُجرات الشقة بالمفاتيح، وهذا أمرٌ قد يبدو تافهًا ولكنه عظيم الأهمية من الناحية الوقائية أيضًا، وقد ينساه المرء في عَجلته إذا لم يكن لديه مُتسعٌ من الوقت.

وفي الساعة الخامسة دقَّ جرس الباب، ففتحتُه، فإذا بابن أختي «أمين»، الطالب بالسنة النهائية بكلية طب جامعة القاهرة. وكان قد تطوَّع مشكورًا بنقلي أنا وحقائبي إلى المطار في سيارته الفيات ١٢٨، التي اشتراها له أبوه الطيِّب قبل أن يرحل عن الدنيا. قدَّمها له هدية لتفوُّقه في دراسته. وإنِّي لأتنبأ لهذا الشاب بمستقبلٍ باهرٍ لِمَا يتحلَّى به من خُلق دمثٍ جميل، ولإحساسه بالمسئولية بصورةٍ رائعةٍ تُبشِّر بالخير. عاونَني أمين بساعدَيه القويَّين، فحمل عنِّي بعض أمتعتي الثقيلة بروح رياضية واهتمامٍ صادق ومحبةٍ أصيلة دون تأفُّف ولا تذمُّر. وكنتُ أعلم أنه يسهر الليل أحيانًا يستذكر دروسه استعدادًا لأداء آخر امتحان له للحصول على بكالوريوس الطب.

حملَتنا السيارة في سهولةٍ ويسرٍ دون توقف، وكانت الطريق خالية تمامًا إلا من ظاهرة تستأهل التسجيل. أبصَرْنا الفتياتِ الشاباتِ واقفاتٍ عند محطات الأوتوبيس في الخامسة والنصف صباحًا أو بعدها بقليل، ساعياتٍ إلى أعمالهن في تلك الساعة المبكرة، ولكنني لم أرَ شابًّا واحدًا يذهب إلى عمله في مثل ذلك الوقت المبكر. تحيةً منِّي لكفاح الفتاة المصرية.

ما إن وصلنا إلى مطار القاهرة حتى فُوجئتُ بازدحامٍ شديد خارجه؛ سيارات خاصة وتاكسيات وحقائب مُتناثرة تَسُد الطريق، ورجال وسيدات وأطفال كلهم وقوف على قارعة الطريق. شيء يُضايق جدًّا ويثير الأعصاب والقلق معًا. تكاد لا تستطيع أن تشُقَّ طريقك إلى داخل المطار. والناس لا تبالي. لا تتحرك لتفسح لك الطريق. يا له من عدم اكتراثٍ صارخ مطلق! كان لا بد لي من استخدام كتفي في دفع الناس من أمامي. والغريب أن أحدًا منهم لم يتبرَّم من هذا ولم أسمع ما يسيء إلى سمعي أو يضايق أذني، وكأنهم يقولون: «لا عليك، هذا أمرٌ طبيعي عادي، ادفع واخبط وزق كما تشاء.» وكان البحث عن مكتب شركة الطيران «إير فرانس» صعبًا وشاقًّا، تكاد اللافتات المكتوبة لا تُظهِر لك شيئًا ولا تُرشِدك بسهولة، فكان عليَّ أن أسأل في حذَرٍ وإحدى عينَيَّ على الذي أسأله والعين الأخرى على حقائبي التي تركتُها بعيدًا عني قليلًا. لا أمان طالما أن الناس في هذه الفوضى البالغة وهذا الزحام الشديد. حقًّا، ما أسهل أن يفقد المرءُ نفسه في هذا الخِضَم المتلاطم من الكتل البشرية المكدَّسة بغير نظام! فما بالُ حقيبةٍ صغيرة متروكة فوق أرض قاعة استقبال المسافرين؟! وأخيرًا ظهر لي حمَّال تسلَّم حقائبي ونقلها إلى حيث مكاتب السياحة والإجراءات الأخرى اللازمة. تسامحَت شركة إير فرانس، وقبلَت بعض الزيادة في وزن حقائبي … الخدمة بهذه الشركة سريعة وممتازة، والتفاهم الودي واضحٌ جلي. لم يضايقني في هذا الجزء من الإجراءات إلا وقوفي لمدةٍ طويلة أمام ضابط الجوازات. كان، على غير العادة، شديد البطء في إنجاز عمله. وهذا ما لم أتعوَّده من قبلُ في رحلاتي السابقة التي سافرتُ فيها إلى كثير من بلاد الدنيا؛ إذ كانت إجراءات جواز السفر لا تستغرق أكثر من دقيقة. وعلى العموم، والشيء بالشيء يُذكَر، يُذكِّرني وقوفي الطويل هذا أمام ذلك الضابط بالوقفة الطويلة المُمِلة التي عانيتُ شرَّها في مطار بوخارست برومانيا في العام الماضي، والتي لم يفُتني أن أشرح تفاصيلها في الصفحات الأولى من كتابي «شباب إلى الأبد»، الذي يروي تفاصيل جولتي في ربوع مستشفيات الدكتورة العالمية آنا أصلان مكتشفة عقار ﻫ٣ لإعادة الشباب إلى الكبار والمسنين ذكورًا وإناثًا.

لم أشترِ شيئًا من السوق الحرة الموجودة بأرض المطار. وماذا يمكنك أن تشتريه منها سوى الروائح العطرية والسجاير؟ وهذه كلها يُمكن شراؤها بسهولة أكثر على متن الطائرة بأسعار قد تقلُّ عمَّا في تلك السوق.

توجَّهتُ إلى كافيتيريا المطار. الخدمة في هذه المرَّة أفضل بكثير منها في العام الماضي. تلبية الطلبات سريعةٌ ومنتظمة مع النظافة الواضحة في كل شيء. أخذَت منِّي النادلة «أمنية» اللطيفة المعشر والمنظر معًا، عشرين قرشًا ثمنًا لقدَح القهوة دون أي زيادة. كما لاحظتُ أنها تقوم على خدمة المسافرين بابتسامةٍ حلوة وصراحةٍ طيبة ونشاطٍ جَم. كانت تقدِّم شطائر الجبن واللحم مع المُخللات، وكان التوست وفيرًا لذيذ الطعم. هكذا كان يوحي إليَّ منظره وأنا أنظر إليه يُقدم للزبائن. كانت «أمنية»، تلك الفتاة الجميلة المثقفة والجامعية، لا تقدِّم الطلبات فحسب، بل وتنظِّف النَّضَد الطويل المستدير الذي يفصلها عن الزبائن، تساعدها في هذه المهمة الشاقة فتاةٌ أخرى لا تقلُّ عن أمنية ظُرفًا وبراعة في خدمة المسافرين. ولا شك في أن هذا الجزء من الخدمة قد تحسَّن بشكلٍ ملموس عمَّا كان عليه في مثل هذا الوقت من العام الماضي.

من الأمور الأخرى البيِّنة، ما لاحظتُه بجلاء في تحسُّن مستوى النظافة بالمطار، وقد آلمَتْني هذه الظاهرة في الأعوام السابقة كلما همَمْتُ بالسفر. كان يحزُّ في نفسي تدهوُر مستوى النظافة كلما قارنتُه بمستوى النظافة التي نراها ونلمسها واضحةً جلية في أي مطارٍ آخر من مطارات معالم.

حدث وأنا أحتسي القهوة التركية في الكافيتيريا أن دفع جاري، الذي لا أعرفه بالمرَّة، ثمن قدَح القهوة التي شربتُها. دفعه خطأً؛ فقد ظنت أمنية، أنني وجاري صديقان مسافران معًا في رحلةٍ واحدة؛ إذ ظهرنا أمامها في وقتٍ واحد ومتجاورَين. ولمَّا كان كل واحدٍ منا قد طلب نفس الشيء «واحد قهوة»؛ لذلك التبس عليها الأمر فحصَّلَت الثمَن من صديقي المزعوم هذا، وطبعًا لم يكن صديقي «ولا حاجة»، فلم ألاحِظ شيئًا مما جرى بينه وبين تلك النادلة. كما أنني لم أفطِن إلى الخطأ الذي تورَّطَت فيه «أمنية»، أو بمعنًى أصح، تورَّط فيه ذلك الرجل الغريب، إلا عندما تقدَّمتُ لأدفع ثمن القهوة التي شربتُها، فأخبَرتْني أمنية بأن صديقي الذي انصرف قد دفع ثمَن قهوته وقهوتي. وهذا يدُل على منتهى الأمانة؛ إذ كان بوسعها أن تأخذ مني الثمن وتضَعه في جيبها، ولكن نفسها الأبيَّة تعفُّ عن مثل ذلك العمل الحرام. مسكينٌ جاري ذاك، دفع عن طِيب خاطر أربعين قرشًا ثمنًا لفنجان قهوة مصرية بالمطار. عندئذٍ رأيت أن أطلب قدحًا آخر لكي أحسَّ بأنني دفعتُ شيئًا في مقابل ما شربتُه.

كانت مفاجأةً سارة لي عندما همَمتُ بمغادرة مكاني من فوق المقعد العالي الملاصق لنَضَد الكافتيريا، فإذا بي أرى أمامي، وجهًا لوجه، صديقي الأستاذ مصطفى دغيش، مدير شركة مصر للطيران فرع أثينا. وكان مصطفى يرتدي حُلةً ذات لونٍ رماديٍّ زاهٍ، اشتراها، على حدِّ قوله، من تايلاند في بانكوك. كان لقاؤنا حارًّا، وعلمتُ منه أنه قدِم من أثينا إلى القاهرة في مهمةٍ عاجلةٍ لن تستغرق أكثر من ساعاتٍ يعود بعدها إلى مَقرِّ عمله بمطار أثينا مديرًا لشركة مصر للطيران هناك.

تمَّت باقي الإجراءات بسرعةٍ مثيرة وسهولةٍ مدهشة حتى وجدتُ نفسي داخل الأوتوبيس الذي سوف يُقِلني إلى حيث تربضُ الطائرة … ما كِدتُ أتخذ لنفسي مكانًا بالطائرة حتى فُوجئتُ بمن يمُد لي يده مسلِّمًا في حرارة وبشدة، قائلًا: «لعلك تتذكرني. أنا تلميذٌ سابقٌ من تلاميذك بمدارس التربية القومية.» فسألتُه: «هل أنت مسافرٌ إلى باريس أم إلى مدينة نيس مثلي؟» قال: «إلى باريس بحثًا عن عمل في فترة الإجازة الصيفية.» فشكرتُه على هذه التحية الجميلة التي تنمُّ عن حبِّ الطالب لأستاذه، وتمنَّيتُ له رحلةً موفقة، فسألَني عما إذا كان بوسعي أن أزوِّده بأسماء بعض أصدقائي بفرنسا عسى أن يساعدوه في العثور على عملٍ سريع، فاعتذرتُ له لعدم وجود عناوين أصدقائي معي في ذلك الوقت، كما أنني لا أحفظ تلك العناوين في ذاكرتي.

دخلتُ الطائرة فإذا بها عملاقٌ ضخم، مترامية الجوانب من الداخل، مقسَّمة إلى ثلاثة صفوف بطولها بينها ممرَّان، يتسع عرضها لثمانية مقاعد. بكلٍّ من الصفَّين الجانبيَّين مقعدان، والأربعة الأخرى تجري كلها في الصف الأوسط الطولي. كنا نجلس ثمانيةً ثمانية في كل صفٍّ مُستعرض. الطائرة مُريحةٌ جدًّا، والخدمة فيها ممتازةٌ رائعة. والمضيفات أرقُّ من النسيم العليل. وبهذه الطائرة مائتان وخمسون مقعدًا كانت كلها مشغولة. وكان بها تسعةٌ من المضيفين والمضيفات يقومون على خدمة هذا العدد الهائل من المسافرين.

وإذ كان مقعدي قريبًا من مدخل الطائرة، فقد فُوجئتُ بدخول وزير الصحة الدكتور الجراح إبراهيم بدران. لم أستطع أن أمنع نفسي من القيام فورًا وتلقائيًّا، وتحية الوزير العالِم بما يستحقه من تقدير وتبجيل، فسلَّم عليَّ الوزير بحرارةٍ حلوة تنمُّ عن أصالة المنبت وعراقة النجار. لم ينسَ الدكتور بدران أيام الطفولة، وكيف كنا نلعب سويًّا في أيام الإجازة الصيفية؛ فقد كنا جيرانًا ومن سكان حَي واحد هو حَي جاردن سيتي، كما كانت هناك صداقة بين أخواتي وأخواته. هذا فضلًا عن أننا كنا زملاء بمدرسةٍ واحدة هي المدرسة الإبراهيمية الثانوية. حقًّا، كم من وزيرٍ جليل ورجلٍ عظيم مشهور من رجالات مصر في الوقت الحاضر، قد تخرَّجوا فيكِ أيتها المدرسة العريقة العظيمة، يوم أن كان ناظرها هو المرحوم الأستاذ جعفر النفراوي، أشَد نُظَّار عصره قسوةً وصرامة، وشدةً وضراوة! كان الأستاذ النفراوي يحكم الإبراهيمية بيدٍ من فولاذ، يُقوِّم كل اعوجاج بمنتهى الشدة في غير ما هوادةٍ أو لين. كنا نلمس فيه الرجولة مجسَّمة، وكان عَلمًا فريدًا في دنيا التقويم الخلقي والتربية القويمة الصالحة لخلق جيلٍ أصيل يخدم الوطن بأمانةٍ وإخلاص.

جلسَت إلى يساري بالطائرة سيدةٌ طاعنة في السن، جاذَبتْني أطراف الحديث على الفور، فقالت: «إلى أين تسافر؟» قُلت: «إلى فرنسا.» قالت: «أنا مسافرةٌ إلى كندا لزيارة ابني المهندس الذي هاجر إليها منذ عام ١٩٦٨ واستقر هناك. لقد أصَرَّ على أن أقوم بزيارته.» ثم سألَتني في قلقٍ واضح: «هل عندك فكرة عن كندا؟» قُلت: «نعم. عندي فكرةٌ طيبةٌ عن تلك البلاد؛ إذ سبق لي أن هاجرتُ إليها وعشتُ فيها أربع سنواتٍ طوال. إنها بلادٌ جميلة، وكل شيء فيها مُريحٌ وممتع. ولا بُد أن ابنك ينعم بخيرات تلك البلاد التي لا أول لها ولا آخر.» قالت: «تعذَّب ولدي في بادئ الأمر، وضايقوه جدًّا، ولكنهم يعاملونه الآن معاملةً حسنة لا إجحاف فيها ولا ظلم.» ثم استطردَت تقول: «أصرَّ ولدي على أن أزوره.» قُلت: «حسنًا، ولكن هل عملتِ حسابًا لبرد كندا الشديد؟» قالت: «بكل تأكيد، حقائبي مليئة بالملابس الشتوية الثقيلة. ولئن أردتَ الحق، أنا قلقةٌ أشد القلق بخصوص هذه الرحلة، وكثيرًا ما أسائل نفسي عما إذا كنتُ سأتحمل مشقاتها.» فطمأنتُها وأفهمتُها أنها مُقبلةٌ على رحلةٍ ممتعة وبلادٍ مريحة جدًّا وبالغة الثراء والرخاء بصورة ستجعلها لن تندم بحالٍ ما على أنها زارتها أو نعمَت برؤية معالمها. وفجأةً انقطع الحديث بيننا عندما أمسكَت هذه السيدة بصحيفة أخبار اليوم لتقرأ بإمعانٍ وشغفٍ أنباء القبض على زعيم عصابة جمعية التكفير والهجرة بعد حادث اغتيال المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبي، ذلك الحدث الذي هزَّ مشاعر المصريين جميعًا لبشاعته وبُعده عن الإنسانية المتعارف عليها بين أفراد الشعب المصري، أحد الشعوب المتمسكة بقواعد الدين وذوات الأصول الأخلاقية العريقة، والتي لا ترضى بأية حالٍ أن تُنتهك حُرمات بيوت الناس في جُنح الليل ويُنتزَع منها رب الأسرة أمام أولاده وذويه، بقوة السلاح، ليُنقل إلى حيث لا يعلم أحد، ثم ليُقتل بالرصاص في قسوة. وهذه لغة أهل الغاب التي لا يعرفها شعب مصر الآمن الأمين. أرجو من عدالة السماء أن تحكم على هؤلاء الوحوش بالإعدام، وعلى أفراد هذه الجماعة المُلحِدة التي لا تتكلم إلا بلغة السلاح، بالسجن مدى الحياة بعد أن يُجلَدوا في ميدانٍ عام ليكونوا عِبرةً لغيرهم من ذوي النفوس الشريرة. صَدِّقوني إن أية أحكام غير هذه لن يرضى بها أي فردٍ مصري، بل وشعوب العرب العريقة الأرومة جميعًا بغير استثناء.

ها أنا ذا أسمع قائد الطائرة يُعلن لنا عن اسمه، فيقول: «أنا دي سانت بيير، أقود طائرة من طراز «إيربص». ولعله يقصد «الأوتوبيس الطائر في الفضاء» ورحلتي رقما ١٢٢. سأطير بكم أولًا، إلى مدينة نيس في جنوب فرنسا، ثم إلى باريس العاصمة. ستستغرق رحلتي أربع ساعاتٍ كاملة.» وبعد ذلك طلب منا أن نشُد أحزمة المقاعد حول خواصرنا، كما حذَّرنا من التدخين، وخصوصًا الجالسين في المقاعد التي تبدأ من الصف التاسع وما بعده؛ ذلك لأن الصفوف الثمانية الأولى مخصَّصة لمن لا يدخِّنون؛ ومن هنا جاء مقعدي في هذه الصفوف المتقدمة، كما حظر علينا قائد الطائرة التصوير الفوتوغرافي داخل المجال الجوي المصري. وكان يُلقي تعليماته هذه في لهجةٍ هادئة تتصف بروح المحبة والثقة والاعتداد بالنفس.

كان المفروض أن تُقلِع الطائرة في الساعة الثامنة والثلث صباحًا. وإحقاقًا للحق، أغلِق باب الطائرة فعلًا في ذلك الوقت بالضبط. وأعلن قائد الطائرة، على الفور، أن الطائرة ستُقلِع في مدى خمس دقائق. كانت لا تزال رابضةً فوق أرض المطار ومحركها يدور بسرعةٍ وبلا توقف … وما إن اقتربَت الساعة التاسعة حتى تحركَت الطائرة وارتفعَت بنا في جو السماء دون أن يشعر أي واحدٍ منا بذلك. وما كِدنا نجد أنفسنا في الجو حتى دبَّت الحياة داخل الطائرة، وبدأ الركاب ينتقلون تاركين أماكنهم كما لو كانوا في دار عرضٍ سينمائي في فترة الاستراحة. عندهم حق؛ فالطائرة فسيحةٌ جدًّا ومملوءة بمختلف الأجناس. راح الكل يتحدَّث ويتسامر. وبينما ينعم هؤلاء بهذه المتعة النادرة، كانت هناك حركة من نوع آخر يقوم بها أفراد طاقم الطائرة الذين كان عليهم خدمة الركاب جميعًا. شرعوا يُوزِّعون علينا الفوط الورقية المعطرة، ثم كُتيِّبًا يضم خرائطَ دقيقة جدًّا لكل بقعة من بقاع الدنيا، والكُتيب محفوظٌ داخل كيس أنيق من البلاستيك الشفاف، ومع هذا الكتيب قائمةٌ في ألوانٍ جذَّابة تُرشِدك إلى كل ما يمكنك أن تشتريه على متن الطائرة من مختلف ماركات العطور وأربطة العنق الحريرية السولكا، وكافة صنوف المشروبات الروحية، علاوةً على أشهر أنواع السجاير والسيجار، والأسعار، طبعًا، بالعملة الصعبة؛ بالفرنك الفرنسي، أو الدولار الأمريكي، علمًا بأن الدولار الأمريكي يُعادل خمسة فرنكات إلا ربعًا. هكذا أخبرني أحد المضيفين البالغ عددُهم تسعة تقريبًا، عندما سألتُه مستفسرًا عن ذلك.

سرعان ما أحضروا لنا طعام الإفطار، وأنا، بدون خجلٍ أو حياء، من أشدِّ المعجبين بتناول وجبات الطعام التي تُقدَّم على متون الطائرات؛ فعادةً ما يقدمون لك طعامًا لذيذًا شهيًّا. هذا ما لاحظتُه في الطائرات الأجنبية. غير أنني سأحجِم عن الكلام عما تقدِّمه شركة مصر للطيران لزبائنها الركاب؛ فإنها — حسب خبرتي فيما مضى — لا تقدِّم لهم طعامًا يُشبع جوعهم أو يُدخل البهجة على نفوسهم … لا أدري تعليلًا لذلك، ولكن مصر — بلدي الحبيب — دائمًا متقاعسة متخلِّفة، فيا أيها المسئولون، لماذا تسمحون بأن تطير عوراتنا معنا إلى خارج مصر فيراها من يجب ألَّا يراها، ويُحس بها من يجب ألا يُحس بها؟ أيها المسئولون، احرصوا على أن تجعلوا لمصر نافذةً واحدة نقيةَ الهواء ذكيةَ الأريج والرائحة، حتى ولو كانت رائحة الورد البلدي ولا أكثر.

فوجئتُ أن الطبق الرئيسي هو عجَّة البيض «أومليت»، فتضايقتُ جدًّا؛ لأن البيض مُحرَّم عليَّ بأمر الطبيب، وطلبتُ من المضيف أن يعوِّضني عن خسارتي في هذا الطبق الرئيسي، فاعتذر لي، في بادئ الأمر، قائلًا: «إننا نقدِّم لك وجبة إفطار. والبيض كما تعلم، شيءٌ رئيسي في وجبة الصباح.» ولكنه سرعان ما جذب الطبق من أمامي، وأمهَلني قليلًا، ثم ما لبث أن عاد ومعه طبقٌ آخر به قطعتان من الجبن الفرنسي المغلف بالورق الفضِّي، فشكرتُ له اهتمامه وحُسن اختياره؛ لأنني من هُواة «الجبن الفاخر»، ويا ليتَه اكتفى بهذا القدر فحسب، وإنما جاءني بعد قليلٍ بطبقٍ به ما يزيد على عشرين قطعة من هذا الجبن المغلف، وضَعه أمامي، وقال: «تفضل، يا سيدي. كلُّ هذا الجبن لك.» فأذهلَتني هذه المفاجأة، بل أذهلَني هذا الكرم الحاتمي الذي غمَرني به واحدٌ من شعب فرنسا، لا شك في أنه لم يسمع أو يعرف شيئًا عن حاتم الطائي. ومن يدري؟ فربما يكون قد قرأ عنه.

كان تصرُّف هذا المضيف حدثًا تشدَّقت به جارتي المصرية الجالسة عن يساري، وجاري الأرمني الذي عرَّفني بنفسه قائلًا: «أنا ترزي أرمني اسمي تارزيان من سكان الإسكندرية. أنا الآن في طريقي إلى لندن لزيارة ابني المقيم هناك منذ خمسة أعوام. ذهب إليها ليدرس علم الحساب الآلي (كومبيوتر)، فأتمَّ دراسته ونجح وحصل على شهادةٍ علمية ساعدَته على أن يمارس العمل، أولًا كمساعد لغيره، ثم سرعان ما استقلَّ وراح يعمل الآن لحسابه الخاص. وابنتي موجودةٌ معه الآن إذ سافرَت لزيارته منذ ثلاثة أشهر. وأنا الآن ذاهبٌ لزيارته أيضًا تاركًا باقي أفراد أسرتي بالإسكندرية. أما عن نفسي فقد تركتُ تركيا وأنا شابٌّ يافع، وهاجرتُ إلى لبنان. ومن لبنان جئتُ إلى مصر، وكانت سنِّي وقتذاك لا تتعدى الثامنة عشرة؛ لذا أعتبر نفسي مصريًّا إسكندرانيًّا.»

راحت جارتي المصرية، السيدة أديل عياد، تُصغي معي باهتمام إلى قصة جاري الأرمني. ولم تتردَّد في أن تُخبرني عن اسمها واسم ابنها الطبيب الأخصائي في أمراض القلب. قالت إن الدكتور سمير عياد حصل على دبلوماتٍ عالية من الخارج. ولولا أن أوراقه تعطَّلَت لصاحَبَني في هذه الرحلة. ثم أخرجَت من حقيبة يدها شريطًا ورقيًّا طويلًا يصوِّر ضربات القلب، كما مدَّت يدها نحوي بخطاب باللغة الإنجليزية، كتبه ولدُها الدكتور سمير كي يعرف بها أي طبيب في الخارج وبالحالة المرضية التي تُعاني منها والدتُه وأسماء العقاقير الطبية التي تتعاطاها.

مضت السيدة أديل تتكلم، قالت، إنها في السابعة والستين من عمرها. وإن سر نجاح أولادها في الطب وفي الهندسة يرجع إلى عطفها على أخيها الذي احتضنَتْه دون سائر إخوتها السبعة ودَعَته إلى أن يعيش معها؛ إذ كان يعاني من تخلُّفٍ عقلي يتطلب عنايةً خاصة وصبرًا طويلًا وجلدًا شديدًا وطولَ أناة ما كان ليقدرَ عليها أحدٌ آخر من إخوتها أو أخواتها. ولكنها أحسَّت بمحبةٍ فطرية وعطفٍ شديد على ذلك الأخ المتخلف عقليًّا، واعتبَرت وجوده معها بركةً لها ولأولادها. أما وقد مات ذلك الأخ العزيز، فقد أصبح في مقدورها أن تُسافر دون أن تحمل همًّا. فلما علم ابنها الموجود بمدينة أدمنتون عاصمة ولاية ألبرتا بشمال كندا بخبر وفاة خاله، ألحَّ عليها في أن تزوره. ثم أخرجَت من حقيبة يدها خطابًا عليه عنوان باللغة الإنجليزية، وقالت: «هذا خطاب من زوجة ابني إلى أخيها الذي سبق أن فشل في كلية الطب بعد أن رسب مرةً في السنة الإعدادية ومرتَين في السنة الأولى، فاضطُر إلى الهجرة إلى كندا حيث درس الهندسة وحصل على شهادةٍ علمية وتزوج واقتنى سيارة. وبعد أن كان فاشلًا بلا مستقبل في مصر، غدا الآن ناجحًا موفقًا وثريًّا في كندا.» ثم استطردت تقول: «والمطلوب مني الآن هو أن أُسلِّم إليه هذا الخطاب؛ إما باليد عندما أصل إلى كندا، أو أُرسله إليه بالبريد.»

تقترب مني الآن عربة يَدٍ يدفعها اثنان، واحدٌ من كل طرف. إنهما يبيعان للركاب السجاير والسيجار والمشروبات الروحية بنفس أسعار السوق الحرة، فاشتريت خرطوشة سجاير إذ يُسعدني جدًّا أن أوزِّعها على موظفي الفندق ونُدل المطعم الذي من عادتي أن أتناول فيه طعامي. كما أن هناك خدماتٍ أخرى يُقدِّمها لك الناس في كل مكانٍ تذهب إليه، فتُعبِّر لهم علبة السجاير هذه عن شكرك، كما أنهم يقبَلونها منك وهم سعداءُ مسرورون.

تقدَّم مني فجأة الطالب الذي قدَّم نفسه إليَّ في أوتوبيس المطار، جاء يقول: «أشعر بألمٍ مُمِض في كُلْيَتي … ساعدني أرجوك. اشرح حالتي للمضيفة عسى أن تساعدني … أريد كُرسيًّا منبسطًا كالفراش أستطيع أن أتمدَّد فوقه.» فاعتذر المضيفون إذ لا يعرفون شيئًا عن آلام الكُلْيَة، كما أن جميع مقاعد الطائرة مشغولة فلا يمكن تحقيق طلب المريض، ولكنَّ المضيف الفرنسي الكريم ذا الكرم الحاتمي، لم يلبث أن توجَّه إلى كُرسي المريض ودفَعه إلى الوراء قَدْر المستطاع، معتذرًا عن عدم إمكانه القيام بما هو أكثر من ذلك، فشكرتُ له تعاطفه وروحه السمحة وحُسن استعداده لخدمة ركاب الطائرة حتى ولو كانت في غير دائرة اختصاصه.

من الجميل أن من حق الركاب جميعًا أن يشربوا بالمجان ما طاب لهم من مياهٍ معدنية أو كوكاكولا، وهذه مِيزة لم أجدها في طائرات أية شركةٍ أخرى سواء أكانت مصرية أو أجنبية. غير أن صديقي الأستاذ ميخائيل شنودة وهو من هواة الرحلات إلى البلاد الأجنبية، مثلي، أخبرني ذات مرة بأنه سافر إلى المجر والنمسا بطائرات شركة ماليف Malev المجرية، فكانوا يقدِّمون لهم الشاي والقهوة والنبيذ وعصير الفاكهة والمياه المعدنية والكوكاكولا وغير ذلك، طوال الوقت، بالمجَّان أيضًا. كما أيَّد كلامي عن طائرات شركة إير فرانس؛ إذ لاحظ هذا عندما سافر إلى باريس بطائرة لتلك الشركة، وزاد على كلامي بأن مضيفي تلك الطائرة قدَّموا لهم أقراصًا كبيرة من الشيكولاتة قُطر كلٍّ منها اثنا عشر سنتيمترًا تقريبًا، وكان المضيف يدير وجهه بعيدًا عنك وهو يقدِّم لك هذه الأقراص عسى أن تأخذ أكثر من قُرصٍ واحد دون أن تستحي منه فلا تأخذ غير قُرصٍ واحد.

أرى بعض الركاب الآن نيامًا، يغُطون في النوم اللذيذ ملء جفونهم، رغم أن محركات الطائرة تُحدث أزيزًا عاليًا لا يمكن إغفاله. وحتى السيدة أديل نائمة الآن أيضًا. وإلى جوار جاري الأرمني تنام عائلةٌ بأكملها نومًا عميقًا جدًّا ملتحفين، وهم ثلاثة، البطاطين التي زوَّدَتهم بها الطائرة.

يا لها من ظاهرةٍ غريبة كل الغرابة! طاقم الطائرة بأكمله يعمل دائبًا بلا كللٍ أو تكاسل، بلا توقف، كلهم وقوف في حركةٍ لازبة دائمة، والابتسامة لا تفارق وجوههم، ذكورًا وإناثًا. يبدو أن العمل بالنسبة لهم متعةٌ بالغة يؤدُّونه بنفسٍ راضية تمام الرضى واستعداد واضح بيِّن، دون تأففٍ أو تذمر أو تبرُّم، لا المضيفات متهاونات، ولا المضيفون متواكلون، الكل هنا يعمل سواسية بلا تفرقةٍ عنصرية أو غير عنصرية، الكل راضٍ تمامًا عمَّا يعمل، لا غضاضة ولا تواكل ولا تخاذل. حقًّا ما أحلى القروش التي تتقاضاها تلك الفئة التي تعمل على ظهور الطائرات المحلِّقات بين الأرض والسماء!

أسمع قائد الطائرة يتكلم، يعلن اقتراب الطائرة لأن تهبط عند مدينة نيس أو كورت دازور بساحل فرنسا الجنوبي. إنه يطلب منا مرةً أخرى أن نربط الأحزمة حول خواصرنا، وملازمة مقاعدنا، والامتناع تمامًا عن التدخين. الصمت يُخيِّم داخل الطائرة، والكل الآن في سكونٍ مطبق. حقًّا، ما أصعب هذه اللحظة، لحظة هبوط تلك الطائرة العملاقة بكل ما فيها ومَن فيها وهي تزن مئات الأطنان، ومع ذلك تهبط كالعصفور الصغير في سهولةٍ ويُسر بفضل براعة قائدها ودقة أجهزتها المؤسسة على النظريات العلمية الرائعة! فسبحان من علَّم الإنسان ما لم يعلم! لا تَقِل لحظة الهبوط هذه صعوبةً عن لحظة الصعود. قلوبنا الآن متعلقةٌ بالله أكثر منها في أي لحظةٍ أخرى. والله المُسلِّم أولًا وأخيرًا.

وأخيرًا، هبطَت الطائرة بسلام فشكرًا لله. كان على المسافرين إلى باريس أن يبقَوا في أماكنهم بالطائرة، وعلى القاصدين نيس أن يغادروها.

نزل من الطائرة عددٌ كبير من الركاب، وكنتُ أنا واحدًا منهم. وأبرزتُ جواز سفري وانتهت هذه الخطوة الأولى الهامة، ودخلتُ صالة استلام الحقائب فلم أجد صعوبةً في العثور على حقائبي الثلاث الكبيرة، ولكن كان عليَّ أن أحجز لنفسي حُجرة في فندق، كما كان عليَّ أن استبدل الدولارات الأمريكية التي معي بفرنكاتٍ فرنسية؛ لذلك ناديتُ حمَّالًا فرنسيًّا كان يدفع أمامه عربة لحمل الأمتعة وطلبتُ منه أن يساعدني في نقل حقائبي الثلاث بشرط أن ينتظرني حتى أحجر الحجرة وأستبدل العملة، ولكنه رفض الانتظار، وأشار عليَّ بأن أتركها بجوار حائطٍ زجاجي قريب ثم أعود بعد قضاء تلك المهام، وفعلًا عملتُ بمشورة ذلك الرجل، ولم أكن أتصوَّر هول ما يُخبِّئه لي القدَر، وما ينتظرني من حزن وقلق بعد لحظات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤