الباب الثالث عشر

ساعاتٌ أخيرة وتأملاتٌ قريرة

حاولتُ أن أنام ليلة الأمس فلم أستطع، وفجأةً أحسستُ بآلامٍ شديدة مُبرِّحة في المعدة. قمتُ أفتح حقائبي عسى أن أجد دواءً يشفيني من المغص، ولكنني، للأسف، لم أجد شيئًا.

كانت ليلةً شاقة جدًّا بالنسبة لي. أكاد أن أجزم بأنني لم أذُق فيها طعم النوم على الإطلاق، ولما كان عليَّ، في الغد، أن أستعدَّ للسفر إلى فرنسا مرةً أخرى، أسعفَني نادل المطعم بالفندق بشرابٍ ضد المغص، أفادني قليلًا، فنفحتُه من أجلِه مبلغًا طيبًا. لم أجد صعوبةً في العثور على تاكسي أوصلَني إلى موقف الأوتوبيس الأصفر الذي يحمل المسافرين إلى المطار. تقاضى منِّي سائق التاكسي ١٣٠ بيزيتا بينما كان أجر الأوتوبيس ٣٥ بيزيتا فحسب. وصلتُ إلى المطار في أمان، واتجهتُ إلى شركة الطيران «أيبريا»، وهي الشركة الإسبانية التي ستنقلني إلى نيس، فطلبَت مني الموظفة أجرًا عن الوزن الزائد وقَدْره ١٣ كيلو جرامًا. أصرَّت عليَّ أن أدفع، وكان لا بد من أن أدفع، فدفعتُ ١٠٢٠ بيزيتا أجرًا للوزن الزائد. ذهبتُ إلى كافيتيريا المطار لأشرب شيئًا ساخنًا يُدفِئ معدتي، وفي الوقت نفسه أكتب بعض السطور في وصف الرحلة.

بينما أنا في الكافيتيريا، إذ بالإنجليزيَّين اللذَين كانا معي في رحلة رؤية معالم المدينة، يظهران فجأة. وبمجرد رؤيتهما إيَّاي استأذنا في الجلوس معي فأذنتُ لهما، فدار بيننا حديثٌ طويل عن أمانة الشعب الإسباني، وشعورك بالأمان التام عندما تعيش وسط أهل إسبانيا، ورُحنا نتندَّر بذلك. وأعطياني عنوانَيْهما لعلني أرغب في مراسلتهما، وربما كنت ذا نفع لهما إذا ما زارا مصر في يومٍ ما. شعَرتُ بصدق الرجلَين. ولأول مرة أعرف أن كلًّا منهما يحمل لقب دكتور رغم البساطة المتناهية التي تبدو عليهما في ملابسهما. وألحَّا عليَّ في أن أشرب شيئًا عن حسابهما فأجبتُهما إلى ما طلبا. ولما حان موعد انصراف كل واحدٍ منا إلى طائرته، لم ننسَ قُبلة الوداع، فقبَّل كلٌّ منا زميله وودَّعه في حرارة.

ركبتُ متن الطائرة الإسبانية الصغيرة «ثيودا الميديا» التي تتسع لمائة راكبٍ فحسب. جاء مقعدي إلى جوار فتاةٍ بالغة الرقة، نظرَت إليَّ مبتسمةً في حنان لمستُه يتدفق من عينَيها، فتجاذبنا أطراف الحديث، فعرفتُ أنها طالبة بالسنة النهائية بالجامعة، وأنها ستعمل مُدرِّسة بعد التخرج بمرتب يبلغ حوالي ٣٠٠٠٠ بيزيتا في الشهر الواحد. كما علمتُ أنها تركب الطائرة لأول مرة، وأنها خائفةٌ بعض الشيء، وستمكُث شهرًا عند عمتها التي تُقيم في مونت كارلو بفرنسا بالقرب من نيس. سألتُها عما إذا كانت تحب، فقالت: نعم، أحب زميلي في الجامعة منذ عامَين. وسألتُها عما إذا كانت ستتزوج ذلك الشاب الذي تُحبه، فقالت: هذا ما لا أستطيع أن أجزم به. فقُلت: وهل تنتظرين من زوج المستقبل أن يُسهِم في تأثيث بيت الزوجية؟ قالت: هذا هو المفروض. كما أن والدي سيساعد كذلك في تأثيث ذلك البيت. لا بد أن نُسهم جميعًا في إنجاح ذلك الأمر.

علمتُ منها أن لها أختًا واحدة أصغر منها وليس لها إخوة، وسألتُها عما إذا كانت تُحب أن تزور بلاد الشرق ولا سيما مصر، فأجابت: أحب هذا كثيرًا لأنني أقرأ الكثير عن مصر وآثارها وتاريخها العريق القديم. ثم أخرجَت قطعةً من الورق كتبَت عليها اسمَها كاملًا وعنوانَها، فوعدتُها بالمراسلة، ولكني طلبتُ منها أن تغفر لي أخطائي في اللغة الفرنسية التي قد أقع فيها عندما أكتبُ إليها؛ لأنني لا أكتب باللغة الفرنسية إلا نادرًا، فقالت: وأنا أيضًا لا تخلو خطاباتي من أخطاءٍ إملائية وأخرى من ناحية الآجرومية. فضحكنا معًا؛ إذ لن يُعيِّر أحدنا الآخر.

الطائرة تستعدُّ الآن للهبوط في مطار نيس. كانت الرحلة مريحةً هادئة، والمضيفات رقيقات خدومات، قدَّمن لنا طعامًا لا بأس به، تناولناه مسرورين.

انتهت إجراءات المطار على خير دون أية مشاكل، وكأن الله أراد أن يُصلِح ذات البين بيني وبين الحمَّال الفرنسي الذي سبق أن ارتبتُ في أن تكون له يد في ضياع حقائبي بمطار نيس؛ فما كِدتُ أن أقترب من الباب المؤدِّي إلى الطريق العام حتى وجدتُه عائدًا فالتقينا وجهًا لوجه، فتركتُ حقائبي في الحال، وذهبتُ إليه معتذرًا بشدة وقبَّلتُه من خدِّه وتعانقنا. كان قد بلغه خبر عثوري على الحقائب وكيف نُقلَت خطأً، فقال: إنني ألتمس لك العذر كل العذر فيما بدر منك في ذلك اليوم. ولو أنني كنتُ مكانك لفعلتُ أكثر مما فعلتَ أنت. عندئذٍ استراح قلبي وتصافَينا وتمنى كلٌّ منا للآخر دوام الصحة والسعادة.

أقلَّني التاكسي إلى فندق «أفينيدا» حيث أقمت في المدة السابقة بنيس، وحيث كنتُ قد تركتُ حقيبة أمانة طرفهم.

دفعتُ لسائق التاكسي الثلاثين فرنكًا التي طلبها. بيد أنني عندما دخلتُ الفندق اعتذرَت الموظفة لعدم وجود أماكن، وأن الحجرة المحجوزة لي كانت بتاريخ ٢٧ من هذا الشهر، ولكنني جئتُ قبل الميعاد ودون إخطارٍ سابق، وفشلتُ في إقناع الموظفة بالظروف التي دفعَتْني إلى تقديم موعد سفري، فكان عليَّ أن أبحث عن حجرةٍ خالية بأي فندق. وكم كنتُ سعيد الحظ أنني بعد خمس دقائق تقريبًا، عثرتُ على حجرة لي بفندق لا يبعُد عن فندق «إفينيدا» سوى بضع خطوات، بسعر ٣٦ فرنكًا في الليلة مع الإفطار. كان صاحب الفندق كهلًا سمح الوجه أنيق الملبس. قال: اذهب وأحضِر حقائبك واصعَد إلى الدور الثاني. فقلتُ له: لن أغيب أكثر من خمس دقائق. وفعلًا كنتُ عند كلمتي. وجدتُه ينتظرني عند الدور الثاني أمام باب المصعد، ففتح لي الحجرة رقم ٦. وما كان أشد سروري عندما فوجئتُ بحجرةٍ فسيحة بالغة الأناقة والنظافة. وكان لها بابٌ جانبي يفتح على حمَّامٍ فسيح. كِدتُ لا أصدِّق نفسي، ودُهشتُ غاية الدهشة عندما سألَني بقوله: في أي ساعةٍ تريد إفطارك غدًا صباحًا؟ وماذا تريد أن نقدِّمه لك للإفطار؟ عندئذٍ ندمت على الفرنكات الكثيرة التي دفعتُها في الفندق السابق؛ فما دفعتُه أجرًا للنوم ليلةً واحدة بذلك الفندق، فندق أفينيدا، كان يساعدني على النوم ليلتَين ونصف ليلة في هذا الفندق الهادئ المريح. سلَّمني صاحب الفندق مفتاح الحجرة ثم سألني قائلًا: متى تعود من الخارج في هذه الليلة؟ قُلت: أنا لا أسهر بعد الثانية عشرة أبدًا. قال: نحن نغلق أبواب الفندق في الحادية عشرة مساء، ولكني سأعطيك هذا المفتاح الثاني كي تفتح به باب الفندق، ولكن يجب أن تُغلق الباب من الداخل مرةً أخرى بعد أن تدخل. وراح يؤكِّد عليَّ بشدة ضرورة إقفال الباب مرةً أخرى بعد دخولي، فطمأنتُه بما في الكفاية.

انتهت هذه المشكلة بأسرع مما كنتُ أتصور. وعلى بُعد خطواتٍ قليلة من الفندق، وجدتُ نفسي أمام المحل الذي أخبرَتْني الموظفة التي به ألا أقلق؛ فلا يمكن للحقائب الثلاث أن تضيع هكذا بسهولة، أو أن يسرقها أحد في مثل تلك الفترة الوجيزة، وطمأنَتْني. ما إن رأَتْني هذه الموظفة حتى حيَّتني وسألَتني عن سبب غيابي، فأفهمتُها بأنني كنتُ في إسبانيا ورجعت منها اليوم فقط. ولما عرفَت أنني مسافر غدًا صباحًا إلى أثينا أعطتني عنوانَها فوعدتُها بالمراسلة.

عاودني المغص بشدة. فشربتُ قدحًا من الشاي الساخن مع عصير الليمون. المغص عنيدٌ لا يريد أن يفارقني أو يتوقف. فعوَّلتُ على الذهاب إلى صيدلية لشراء دواء ضد المغص. شرحتُ للطبيب الصيدلي حالتي فاهتَم بها وجاءني بدواء في صورة شراب. طلبت منه أن يفتح الزجاجة ويُسعفَني بقليل منه. وفعلًا جاء بكأس مدرَّجة وصبَّ فيها من الزجاجة حتى تدريجٍ معين، ثم صب فوق الدواء مقدارًا مماثلًا من الماء، ونصحني بألا آكل قبل ساعة، وألا آكل فاكهة أو لحومًا. على أنه كان لا بد لي من استشارة طبيب إذا لم يكُفَّ المغص حتى صباح الغد، فشكرتُه على إنسانيته واهتمامه بأمري تاركًا بقية الزبائن ينتظرونه إلى أن ينتهي من خدمتي. كان ثمَن الدواء مساويًا لما دفعتُه ثمنًا لقدَح الشاي الذي شربتُه في المقهى منذ لحظات.

لأول مرة في حياتي أقضي ساعتَين كاملتَين دون أن أعمل فيهما شيئًا مفيدًا. جلستُ على مقعد في مقهًى كبيرٍ معروف. راودَتْني فكرة مراقبة الناس؛ الجالسين في المقهى والمارِّين أمامه فوق الطوار. ولستُ أدري كيف احتملتُ كل هذه المدة دون سأمٍ أو مللٍ. أنسَتْني تصرُّفاتُ الناس وحركاتُهم كل شيء عن نفسي وعن الكون الممتد حولي. وقد أسعدَني كثيرًا أنني اكتشفتُ أن وجوه الناس حلوةٌ وسمحة ومقبولة. الكل راضٍ بحاله وبنصيبه، فحتى ذلك الذي يتوكَّأ على العُكاز، كان يبتسم. والعجوز التي لوى الدهر يدَها على العصا وأحنَى ظهرها، كانت تجد زوجها إلى جانبها تتكئ عليه في سيرها. وكان الطفل يمشي بين والدَيه كأنه السيد الآمر الناهي؛ إذ يحسُّ بأنه روح والدَيه وقُرَّة أعينهما. لم أجد إنسانًا واحدًا برمًا بالحياة. حتى تلك الفتاة الجميلة ذات البنطلون الممزَّق التي كانت تنفثُ النيران من فمها كي تجمع بعد ذلك ما يجود به الناس عليها من دريهمات. كانت تجد في هذا العناء لذةً وسعادة؛ إذ قد عرفَت، على الأقل، سبيلًا للكسب الحلال. إن اللعب بالنار لعبةٌ خطيرة كما يقول المثل الإنجليزي ما ترجمتُه «ليس أصدق تحت الشمس من أنك لا يمكن أن تلعب بالنار دون أن تحترق.» كانت هذه الفتاة الشجاعة تملأ فمها بالبنزين في الهواء، فيمتلئ الفضاء بالنيران المتوهجة. كانت سعادتها في أن ترى النار تنطلق من فمها وكأنها تُحدِّث الناس بأقذع الألفاظ وأشدها إيلامًا، أو قل: لعلها كانت تُذكِّر الناس باليوم العظيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون، في ذلك اليوم نار لا ترحم كما فيه نعيم مُقيم. ومع ذلك كان الناس لا يعطونها إلا القليل جدًّا مكافأةً لها على هذا السبيل الشريف الذي اختارته لنفسها. قلوب الناس عامرةٌ وزاخرة بالرحمة والشفقة والمحبة؛ قلوبهم مليئة بخشية القدَر ورهبة صاحب الأقدار.

أسعدَني أن أُراقب عمل النادل الفرنسي. يا له من عملٍ شاقٍّ مرهق يعجز عن ممارسته الشخص المرفَّه. إنه رجلٌ جُبل على خدمة الناس، يجد في ذلك سعادةً بالغة، لا يريد من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا ولا يهدف إلى البقشيش. إنه يخدمك فقط. يتلقى النادل الفرنسي عشرة طلباتٍ مختلفة في آنٍ واحد، ويعود بها جميعًا بعد لحظات دون أن ينسى طلبًا واحدًا. إنه لا يستريح أبدًا ولا يعرف ما هي الراحة. كانت المقاعد تمتلئ فيقوم بخدمة جميع شاغليها، ثم تفرَّغ منهم لتمتلئ بغيرهم وهو أسعد ما يكون حالًا. ويمتاز النادل الفرنسي بالأدب الجم والهدوء التام والطاعة ورقة الحديث، وفوق كل هذا بالحلم؛ فهو لا يغضب أبدًا، يتعامل مع شتى طبقات الناس ومختلف أجناسهم ومشاربهم وهو ثابت الجنان هادئ الطبع يُقَيِّم الناس ويحترمهم في أدبٍ ولياقة. جاءت لحظة تمنَّيتُ أن أصير مثله في الحياء والتحكم في هدوء الأعصاب ومسايرة الناس مهما تعدَّدَت طباعهم وتضاربَت ميولهم وتصرفاتهم، إنه في نظري طبيبٌ نفساني حائز على أرقى الشهادات الجامعية. لقد أثبت لي النادل الفرنسي أن الجامعات في كافة أنحاء العالم قد تعجز فلا يمكنها أن تُعلِّم الناس ما يَعلمه هو من الناس وعن الناس. لقد اتخذ النادل الفرنسي من الناس جامعةً له. كل شخصٍ منهم معلمٌ خاص له؛ فهو بذلك جامعةٌ متنقلة في معالجة النفوس البشرية، وفي إرضاء جميع الأهواء والمشارب، بلا عناء ولا تعب ولا تأفف أو امتعاض ولا ملل أو سأم أو تبرُّم.

لاحظتُ أن الراجلين أسعد حالًا من الراكبين. ينعم الراجلون بمن معهم وبمن حولهم. الراجل يرى أكثر ويتأمل أكثر ويبطئ أكثر وأكثر، فيرتاح ويسعد. أما الراكبون فمحكومٌ عليهم بالسرعة وبعدم التوقف، هم في هلع دائم من مراقبة رجل المرور، وفي خوفٍ مستمرٍّ من الحوادث التي قد يتعرَّضون لها. الراجل لا يشتهي أن يرى أكثر مما تساعده قدماه على أن يرى، وعندئذٍ يراه جيدًا وبإمعان؛ فهو سعيدٌ قانعٌ بقدمَيه شاكر لهما فضلَهما عليه. في السير صحة وشفاء، وفيه متعة وصفاء، ومزيد من الفطنة والذكاء. الراجل يتمخطر ويتبختر، وقد يهدف أو لا يهدف. إنه حرٌّ بمعنى الكلمة. قد يحلو له أن ينتقل من طوار إلى طوار، ومن مقهًى إلى آخر. وقد يروقه أن يُغمِض عينَيه دون خوفٍ ولا وجل، وينثني أو ينحني حتى يكاد رأسُه أن يصل إلى قدَمَيه كي يُحكِم رباط حذائه أو يُزيل عنه غبارًا، أو ليلتقط شيئًا من الطريق. إنه، وهو ينعم بكل ذلك، لا يبالي إن كان يحمل نقودًا أو كان خاليَ الوفاض؛ فهو لا يحتاج إلى وقود أو زيت كما تحتاج سيارة الراكب. معه من الوقود ما يكفيه إلى ما شاء؛ فمن مشى كثيرًا كثُر زاده واشتدَّت ساقه وطال عمره وعلت سقامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤