الباب السادس

كوبي من ميامي يحقِّق مرامي

في صباح الأربعاء حزمتُ جميع أمتعتي استعدادًا للسفر إلى إسبانيا. طلبتُ من موظفة الفندق أن تتصل بشركة الطيران «إير فرانس» لتأكيد حجز مكانٍ لي على مَتْن طائراتهم المسافرة إلى إسبانيا في ذلك اليوم، ولكن موظفة الشركة قالت إنني تأخرتُ كثيرًا عن ميعاد تأكيد الحجز وقد شُغلَت جميع الأماكن فليس لي مكان على الطائرة. غير أنها، بعد عذابٍ ونقاش ورجاء وتوسُّل، قبلَت وهي تنصحني بألا أقع في هذا الخطأ مرةً أخرى: يجب تأكيد الحجز قبل موعد السفر بمدة ٧٢ ساعة على الأقل. فشكرتُها.

كان عليَّ أن أقضي الصباح متجولًا خلال نيس لآخر مرة؛ فربما لا أراها بعد ذلك طول حياتي، ومن يدري؟ فقد أجيء إليها مرةً ثانية؛ فمثلًا، لا بد لي من أن أعود إليها في السابع والعشرين من هذا الشهر، فأبيتَ فيها ليلةً واحدة، أطير بعدها إلى أثينا باليونان، ولكني لا أعتبر هذه زيارة، بل مجرَّد محطة نوم لا أكثر ولا أقل.

عُدتُ إلى فندق أفينيدا في الساعة الواحدة لأحمل حقائبي وأنصرف، ولكن الموظفة نصحَتْني بأن أعود في الساعة الثانية بعد الظهر. كان أمامي ساعةٌ كاملة قضيتُها في جولةٍ بتلك المدينة. دخلتُ شوارعَ لم يسبق لي أن مشيتُ فيها. المتاجر كلها في مرتبةٍ واحدة من الرُّقي والذوق. لا يُوجد بينها متجرٌ واحد «نشاز» أو تبدو عليه أمارات الضعف المادي أو الذوق أو من ناحية الجمال والجاذبية.

كنت بمدخل الفندق في الساعة الثانية تمامًا حيث قابلَتني الموظفة بابتسامة، واستدعت لي تاكسيًا بالتليفون، على الفور، فجاء بعد دقائقَ معدودات. لم آخذ معي كل حقائبي، بل تركتُ حقيبةً واحدة أمانة بالفندق إلى أن أعود في السابع والعشرين من هذا الشهر الجاري.

لم يطلب السائق منِّي أكثر من ثلاثين فرنكًا دفعتُها له شاكرًا، وطلبتُ من أحد الشيَّالين أن يحمل حقائبي إلى حيث مكتب شركة إير فرانس، ففعل وطلب منِّي أربعة فرنكات. والنظام البديع الذي لفَت نظري هنا أنه مكتوبٌ بحروفٍ مطرَّزة على الجانب الأيسر العلوي من حُلة الشيال، عبارة «الحقيبة فرنكان». لاحظتُ هذا في المطارات وفي محطات السكك الحديدية، فيا ليتنا نأخذ بهذا النظام في مصر فنرحم المسافرين من جشع الشيالين وتعنُّتهم. إلى هنا وكل شيء يتمُّ بخير والحمد لله. إلا أنه عندما قدَّمتُ تذكرتي لموظفة الشركة ووضعتُ حقيبتي على الميزان، صاحت فيَّ تقول: عندك وزن زائد، عندك ١٥ كيلو زيادة على الوزن المسموح به، قد أتسامح في خمسةٍ منها، ولا بد من دفع أجر نقل العشرة الأخرى. وعبثًا حاولتُ إفهام تلك الموظفة بأن نقودي قد لا تساعدني على الدفع؛ إذ أصرَّت بشدة على الدفع، وحوَّلَتني بحركةٍ عصبيةٍ إلى الصرَّاف الذي طالبني بمائة فرنك، فانزعجتُ وأخبرتُه بأنه ليس معي سوى خمسين فرنكًا، فقال: إذن، فلن تسافر. فتَّشتُ في جيوبي فعثرت على عشرة فرنكاتٍ أخرى قدمتها له، فقال: عشرة لا تكفي. بحثتُ مرةً ثانية فوجدتُ عشرة فرنكاتٍ أخرى قدَّمتُها له صاغرًا وأنا أقول بانزعاج: هذا هو كل ما معي. عندئذٍ بدأ يُحرِّر الإيصال اللازم وأرفَقه بالتذكرة. وفجأةً اكتشفت أنني نسيتُ جواز السفر لدى الموظفة الأولى التي عند الميزان، فرجعتُ إليها بسرعة ولكني لم أجده عندها، وكان موضوعًا داخل كيس من البلاستيك هو والمفكِّرة التي أُدوِّن بها هذه المذكرات، فأخذتُ أجري كالمجنون من شبَّاكها إلى شبَّاك الصراف. أبحث هنا وهناك علَّني أجده ولكن دون جدوى. اختفى الكيس وبه جواز السفر والمذكِّرات. يا للمصيبة العظمى! هذه محنةٌ أدْهَى وأمَرُّ من محنة الحقائب. أظلمَت الدنيا في عيني وصارت أضيق من سَم الخِياط (الإبرة)، وضقتُ ذرعًا بالحياة … فستقوم الطائرة بعد دقائقَ وأنا الآن بلا جواز سفر. أمامي الآن مشكلة لن أستطيع حلها ولا بشِقِّ النفس أو حتى طلوع العين؛ فلن أتمكن من السفر إلى إسبانيا أو إلى أي بلدٍ آخر، حتى بلدي مصر. بدأتُ أصرخ كالمأفون. سألتُ الموظفة عمَّا إذا كانت قد رأت الكيس النايلون. كنتُ أشعر في قرارة نفسي بأنها لم تمسَّه، لا هي ولا الصراف. غير أن أملي وروحي تعلقا بهما. تذكَّرتُ الحمَّال، فقلت في نفسي: ربما أكون قد تركت الكيس بمحتوياته فوق عربته الخشبية. رُحتُ أبحث عن الحمَّالين فلم أجد أحدًا منهم قريبًا عدا واحدًا لم يكن هو الذي حمل حقائبي. كان موقفي يدعو إلى الرثاء. اقترب مني أحد رجال الشرطة فاستنجدتُ به وأفهمتُه مشكلتي. فلم يرفع رأسه إلى وجهي، ولكنه مشى معي مرةً أخرى من عند الموظفة إلى حيث نافذة الصرَّاف، فما إن رآني الصراف حتى صاح قائلًا: أنا لم آخذ منك شيئًا إلا النقود. قُلت: هذا صحيح، أنا لا أشك فيك، ولكن عساي أن أكون قد تركتُ جواز سفري سهوًا أمام نافذتك. وفي هذه اللحظة بالذات، حدث ما لم يكن في الحسبان، جاءت موظفة الشركة، من تلقاء نفسها، وفي يدها الكيس الذي به جواز السفر والمذكِّرات، وقالت: هاك الكيس. قالت هذا في غضب، فخطفتُ الكيس من يدها دون أن أسألها أين وجدَته ولا كيف وجدَته. لم يكن يعنيني كيف عثَرَت عليه. المهم أنني عثرتُ عليه بمحتوياته. كانت هذه لحظةً عصبية أخرى تعرَّضتُ لها. دعني أصارحك بأنها هزَّت كياني هزةً شديدةَ لم أُفِق منها، ولا حتى وأنا أكتب هذه السطور فوق ظهر الطائرة التي ستصل بي بعد ساعة وأربعين دقيقة إلى مدريد عاصمة إسبانيا؛ حيث أبدأ جولةً جديدة من رحلتي في قُطر من أشهر أقطار الدنيا جمالًا وسِحرًا وفتنة.

كانت الطائرة، في هذه المرة، أصغر حجمًا في تلك التي أقلَّتني من القاهرة إلى نيس. أنا الآن على متن طائرة من طراز «كارافيل»، تحمل ٨٦ راكبًا، بوسطها من الداخل ممَرٌّ واحد يفصل بين ثلاثة مقاعد على الجانب الأيمن ومقعدين على الجانب الأيسر.

كل شيء داخل الطائرة لونه «بمبي» صارخ. أما الستائر التي تفصل بين الدرجتَين الأولى والثانية وطاقم الطائرة، فكلها باللون البنفسجي. وزَّعَت علينا المضيقة الجوية أكياسًا بديعة الشكل من البلاستيك بداخلها «مكسرات» لذيذة الطعم جدًّا. يقوم الآن مضيفٌ جوي له شاربٌ كبير أصفر ولكنه جميلٌ منسق يتفق مع وجهه الباسم الضحوك. إنه يوزِّع على الركَّاب المشروبات التي يطلبونها سواء أكانت غازية أم روحية. لاحظتُ الآن أن للمضيف حاجبَين أصفَرَي اللون جدًّا. كل شيء في رأس هذا الرجل أصفر اللون بصورةٍ ملفتة للنظر.

تجلس إلى جواري الآن سيدةٌ إسبانية الأصل، لم أستطع التحدث معها لأنها لا تتكلم الإنجليزية ولا الفرنسية، ولا لوم عليها؛ فأنا أيضًا لا أتكلم الإسبانية. تجلس عن يميني سيدةٌ إسبانية أخرى ومعها ابنتها. لاحظتُ، وقد تكون هذه ملاحظةً خاطئة، أن للإسبان وجوهًا نحيلةً وأنوفًا طويلة، مدبَّبة الطرف أو مستديرة استدارةً خفيفة. أما لون البشرة فقمحي كلون بشرة المصريين تمامًا. سألتُ المضيف عن نوع العملة الشائعة في إسبانيا، فقال: البيزيتاس، وتُختصر إلى بيزيتا. ولما سألتُه عن قيمة الدولار بالبيزيتا اعتذر بأنه لا يعرف، فسألتُ السيدة الجالسة إلى جواري، وكنتُ أحسبها إسبانية، لعلها تدُلني. وجدَت صعوبةً في فهم سؤالي ثم قالت أخيرًا إن الدولار يساوي ٣٦ بيزيتا. وبعد قليل فهمتُ أنها من كولومبيا بجنوب أمريكا، وليست من سكان إسبانيا. اشترك معنا الراكب الثالث الجالس بجوار مقعدَينا، وكان أمريكيًّا. سألتُه عن قيمة الدولار بالبيزيتا، فقال إنه لا يعرف القيمة بالضبط، ولكنه يُرجِّح أن الثمن قد يصل إلى مائة بيزيتا. وهنا التبس الأمر عليَّ تمامًا، ورأيتُ أن أنتظر لحين تحويل العملة من المصرف الموجود داخل المطار.

قدَّم لي مضيف الطائرة كوبًا من البيرة، ولكني قبل أن أشربه سألتُه عما إذا كانت المشروبات على حسابنا أو على حسابهم، فقال: كل شيء هنا، يا سيدي بالمجان. غير أن جاري الأمريكي طلب كأسًا من الويسكي فأخذ منه المضيف ثلاثة فرنكاتٍ فرنسية.

لم تقدِّم لنا الطائرة وجبة غداء، وهذا نادرًا ما يحدث. لقد أكلَت علينا شركة الطيران وجبةً ضرورية كنتُ في مسيس الحاجة إليها.

انتهزتُ فرصة اقتراب المضيفة منِّي وطلبتُ منها كيسًا من المكسرات كالذي سبق أن قدموه لنا ففاجأتني بأن أحضرَت لي كيسَين، فشكرتُها من كل قلبي؛ إذ كان الجوع يقضم أحشائي.

أخرجَت جارتي الكولومبية جهازًا حاسبًا (كومبيوتر) صغيرًا في حجم الكفِّ، وراحت تُجري عليه بعض العمليات الحسابية. استطعتُ أن أفهم منها أن ذلك الجهاز يعمل بالكهرباء، ولكنه يعمل الآن بالبطاريات، وأنه ما من شخصٍ في أمريكا لا يحمل جهازًا حاسبًا مثل الذي معها. كان جهازًا من ماركة «شارب». وكانت البطاريات به صغيرة جدًّا وغريبة الشكل قد لا تُوجد في أسواقنا المصرية.

يبدو جليًّا أن عالم التكنولوجيا سوف يكتسح العالم كله، وأن الآلات ستحلُّ محل البشر في يومٍ من الأيام. ويا لها من كارثة عندما تعمُّ البطالة المجنونة الشرسة جميع بلاد الدنيا! عندئذٍ ينقلب الناس إلى وحوشٍ كاسرةٍ ولصوص وقتلةٍ مجرمين. ومن يدري؟ ربما يجد الإنسان لنفسه باب رزقٍ جديدًا، ليس معروفًا لنا الآن.

أقبلَت على جارتي فتاةٌ على قَدْرٍ عظيم جدًّا من الجمال وتحدثَت إليها، فلم تلبث جارتي الكولومبية هذه أن فتحَت حقيبتَها وأخرجَت منها ورقةً مالية أعطَتها للفتاة، فسألتُ جارتي: هل أنتِ ماما وهذه ابنتك؟ ونطقتُ كلمة «ابنتك» بالإنجليزية، ففهمَت جارتي قصدي وقالت: لا، إنها «أميكا». تعني «صديقة». أمكنَني أن أفهم هذه الكلمة الإسبانية لأنها مشتقَّة من الكلمة اللاتينية «أميكا» للمؤنث و«أميكوس» للمذكر. كما أن اللغة الإنجليزية أخذَت هذه الكلمة وصاغت منها كلماتٍ أخرى تُفيد معنى «الصداقة والأخوة». عنَّ لي أن أسأل جارتي عن اسمها فقالت «روزيا» ولعلَّها تقصد كلمة «روز» أو «روزا» بمعنى «وردة» بلغتنا نحن.

يتنقل جميع الركاب على ظهر الطائرة ويتكلمون وتَم الاختلاط والتعارف. معظم المسافرين أصدقاء أو أقارب أو عائلاتٌ مترابطة العلاقات بين أفرادها.

قائد الطائرة يُعلن اقتراب هبوطها في مطار مدريد. أخذَت الطائرة تهتز بشدة بين آنٍ وآخر. لاحظتُ الرعب يرتسم على وجه جارتي الكولومبية، فراحت تُصَلِّي. ولعل الله قد استجاب لصلاتها ودُعائها. ولئن أردتَ ألحق، فاسمح لي بأن أقول لك: ما أضعفَ الإنسان وهو في الفضاء، مُعلَّق بين الأرض والسماء، يطير بأجنحة لا يتحكَّم هو فيها، ويقوده عقل ليس عقله، وعيون ليست عيونه، بل يقوده إنسانٌ آخر مثله لو أخطأ لقتل عشرات الناس بلا ذنب اقترفوه ولا جريرة تورَّطوا فيها! قد لا تشعر بهذا الإحساس إلا وأنت في جوف طائرة تشُق طريقها وسط الهواء.

هبطَت الطائرة بسلام والحمد لله، فخرجنا منها في هدوءٍ تام. ومشينا قليلًا حتى بلغنا مبنى المطار. مطار مدريد ضخمٌ وفسيح وهائل. لم تكن الحركة به شديدة، ولكنه يدُل على عظمة إسبانيا متمثلة في مطاراتها المترامية الأطراف. سارت الأمور داخل المطار في سهولةٍ ويسر، وسيولةٍ عجيبة ونظامٍ رائع. قابلَني بعد مكتب الجوازات، مصرف المطار فحوَّلَت بعض ما معي من نقد أجنبي. أعطاني المصرف ٨٥ بيزيتا مقابل كل دولار. أي بسعر يقل ١٥ بيزيتا عن السعر الذي ذكره الأمريكي. وبعد مسيرة خطواتٍ قليلة، وجدتُ الموظف الذي يقوم بحجز الأماكن في الفنادق. وجدتُ كل هذه الخطوات الهامة ماثلةً أمامي قبل وصولي إلى مكان التقاط حقائبي. أرَتْني موظفة الفنادق ثلاثةً منها مصوَّرة من الخارج ومن الداخل، فوقع اختياري على فندقٍ فاخر، فاتصلَت به الموظفة فوجدَت لي فيه حجرة سعرها ٨٠٥ بيزيتا في الليلة الواحدة؛ أي ما يعادل عشرة دولارات تقريبًا. وكان هذا من فنادق الدرجة الثالثة في إسبانيا. قالت الموظفة: تستطيع أن تذهب مع هذا الشاب الواقف إلى جوارك هنا، فهو ذاهبٌ إلى نفس الفندق، ويمكنكما أن تتقاسما أجرة التاكسي. فأعجبَتْني هذه الفكرة خصوصًا وأنني لاحظتُ أن ذلك الشاب يتكلم الإسبانية بطلاقةٍ مذهلة. أغلب الظن أنها لغته الأصلية. مشى هذا الرجل إلى جواري أولًا، ثم أخذ يتلكأ ويتباطأ، مما جعلني أفهم أنه يخشى صحبتي لأنه لا يعرفني، فرأيتُ أن أشُقَّ طريقي بنفسي. كانت الموظفة قد نصحَتْنا بأن نأخذ الأوتوبيس الأصفر حتى موقفه النهائي ثم نأخذ بعد ذلك تاكسيًا. وما إن خرجتُ من باب المطار حتى وجدتُ «جون بيرميس» يتفاوض مع أحد الحمَّالين، ولكن الحمال عندما أبصرني ترك جون واتجه نحوي، فاعتذرتُ له بأنني أُفضِّل أن أحمل حقائبي بنفسي إلى حيث يقف الأوتوبيس الأصفر. ورحتُ أتلفَّت يمنةً ويسرةً بحثًا عن ذلك الأتوبيس الأصفر فلم أجد له أثَرًا. تحدَّثتُ مع جون بالإنجليزية، فأفهمني أن الحمال يريد ٣٥٠ بيزيتاس كي ينقله وحده إلى الفندق بالتاكسي. ويريد الآن ٧٠٠ بيزيتاس كي ينقلنا كلَينا. ثم غمز لي بعينه يُناشدني ألا أقبل، وفعلًا رفضتُ تمامًا. سِرتُ وراء جون وعلى مسافةٍ منه، ليست بالقريبة، كما أنها ليست بالبعيدة. رأيتُ الأوتوبيس الأصفر، فتحاملتُ على نفسي وحملتُ حقائبي إلى هناك. وضعتُ الحقائب في مخزن السيارة الخلفي وصَعِدت، كما صَعِد معي جون بعد أن دفع كلٌّ منا ٣٥ بيزيتاس، فانطلق بنا الأوتوبيس داخل أنفاقٍ طويلةٍ ضخمة، وقطع مسافاتٍ طويلة داخل شوارعَ فسيحةٍ مارقًا وسط منازلَ ضخمةٍ كالطود. وأخيرًا دخل بنا في نفقٍ هائل تحت الأرض ثم وقف في موقفه النهائي حيث خرجنا، فوجدنا عددًا لا يُحصى من التاكسيات ينتظر ركاب الأوتوبيس القادمين من المطار، فركبنا واحدًا منها. وكان جون قد استفسر من سائق الأوتوبيس عن نظام التاكسي في إسبانيا. قال لي جون: ندفع ١٠ بيزيتاس عن كل حقيبة، ١٥ بيزيتاس عن كل فرد نظير ركوب التاكسي، ثم ندفع بعد ذلك ما يحسبه العدَّاد. اتفقنا على أن ندفع الأجر مناصفةً فيما بيننا. لم تكن المسافة قصيرة من موقف الأوتوبيس الأصفر إلى مكان فندق «ريزيدينسيا». وإذ شعَرنا بأن الفندق بعيدٌ عن وسط البلد. رأينا من الأوفَق أن نُلقيَ نظرةً على الفندق أولًا ونستفهم من موظف الاستقبال. أكَّد لنا الموظف — كما أطلَعنا على الخريطة — أننا نبعُد عن البلد مسافة تستغرق عشرين دقيقة، على الأقل، سيرًا على الأقدام، فسألته: هل تعرف فندقًا يقع في وسط البلد؟ قال: أعرف واحدًا. ثم اتصل تليفونيًّا بذلك الفندق، فأخبره الموظف هناك بأنه لا يُوجد حاليًا سوى حُجرة واحدة بسعر ٨٣٠ بيزيتاس، فوافقتُ في الحال، وحزنَني أنني سأنفصل عن جون إذ كنت أودُّ أن أفيد من إلمامه بالإسبانية كي يُسهل لي متاعبي وتحركاتي، ولكن جون أوصاني بأن أتصل به تليفونيًّا من الفندق الذي سأصل إليه لو أنني وجدتُه نظيفًا ولائقًا ومريحًا. كما أشار عليَّ بأن أحجز له حجرة بذلك الفندق من الغد، فوعدتُه بذلك.

سار بي التاكسي مدةً طويلة مخترقًا شوارع قد تضيق جدًّا جدًّا، إلى شوارع أخرى قد تتسع جدًّا جدًّا. وأخيرًا وصلنا إلى شارع جوزي أنطونيو حيث يقع الفندق. وعلى بُعد عشرين مترًا من مدخل الفندق، أنزلني السائق، وطلب مني ٢١٥ بيزيتاس، علاوةً على المائة بيزيتاس التي أخذها من جون نظير نقله إلى الفندق الأول معي.

كان الفندق في الدورَين الثالث والرابع من مبنًى يُطِلُّ على الشارع العمومي، فراح السكان يتأففون وهم يرَوْن حقائبي أمام باب المصعد. كان هذا تعطيلًا لهم. استعملتُ الذوق أولًا ثم ثانيًا، ولكني اكتشفتُ أن الذوق لا ينفع، وسيتركني في مكاني إلى ما شاء الله ولا يدعُني أصعد إلى حيث يُوجد الفندق، فحسمتُ الأمر وصَعِدتُ أنا وحقائبي تاركًا السكان وقوفًا. استقبلَني موظف الفندق. كان إلمامه بالإنجليزية طفيفًا. أرشدَني إلى حجرة، ادَّعى أن سريرها لشخصَين مع أنه في عرفي لا يتسع إلا لشخصٍ واحد ليس غير، فأمر مساعده بأن يُريَني حجرةً أخرى فرأيتُ هناك سريرًا ضيقًا تمامًا، فآمنتُ بأن الرجل يصدُقني القول. كان أجر الحجرتَين واحدًا، فآثرتُ أن آخذ الحجرة ذات الفِراش الواسع.

طلبتُ من موظف الاستقبال بهذا الفندق أن يتصل بفندق صديقي، أو على الأصح زميلي جون، ففعل، ولكن للأسف لم يكن جون هناك إذ خرج لشئونه، فتركتُ له رسالةً مع الموظف المسئول.

خرجتُ لأول مرة إلى الشارع أستكشف المدينة فعثَرتُ على كافيتيريا تُقدِّم المشروبات الخفيفة كما تُقدِّم الطعام أيضًا. خُيِّل إليَّ أن أسعارها باهظة. وإذ وجدتُ نفسي وجهًا لوجه أمام النادل، تحدَّثتُ إليه بالإنجليزية، فردَّ عليَّ بالفرنسية، فحمدتُ الله على أنني وجدتُ أحدًا يعرف لغةً غير الإسبانية، فقلت له: أنا جائعٌ، هل الطعام عندكم غالي السعر؟ قال: لا. فخشيتُ أن أصدِّق كلامه ثم أقع في المحظور فأندم، فقلت له: أُفضِّل أن أتناول الآن شرابًا. جئني بأي شيء. فإذا به يأتيني بزجاجةٍ كاملة من النبيذ الأحمر. فسألتُه قبل أن يفتحها: كم تساوي؟ قال: ٣٥ بيزيتاس. فعرفتُ أن هذا سعرٌ مناسب ومعقول جدًّا لمثل هذه الزجاجة الكبيرة الحجم. فتح الرجل الزجاجة وصبَّ لي منها ملء قدَح صغير، وأفهمني أنه يمكنني أن أعُبَّ من الزجاجة ما يطيب لي، ووضع إلى جوار الكأس قصاصةً صغيرة من الورق مدونًا بها الثمن، التقطتُها فوجدتُ السعر المكتوب هو السعر الذي قاله لي تمامًا: ٣٥ بيزيتاس. غير أن النادل ما لبث أن عاد وأخذ الزجاجة من أمامي ودخل بها الكافيتيريا. نسيتُ أن أذكُر لك أنني أجلس في المقاعد التي تطلُّ على الطريق العام. وبعد أن فرغتُ من الكأس الأولى سألتُه إن كان في مقدوري أن أتناول كأسًا أخرى من زجاجتي التي فتحتها منذ دقائق ثم حملتها بعيدًا، قال: طبعًا، طبعًا. وجاءني بالزجاجة فعلًا وصبَّ لي منها ملء الكأس وانصرف ثم عاد إليَّ ووضع بجوار الكأس قصاصة الورق بالثمَن. عندئذٍ فقط أدركتُ الخطأ، وفهمتُ أن ثمَن الكأس الواحد ٣٥ بيزيتاس وليس ثمَن الزجاجة الكاملة.

جلس إلى جواري شابٌّ إسباني مع حبيبته الفاتنة. وكانت شمس النهار تُشرِق ساطعةً قوية رائعة بينما ساعتي تُشير إلى التاسعة والنصف مساءً فخشيت أن يكون هناك فرق في الوقت بين فرنسا وإسبانيا، فسألتُ ذلك الشاب عن الساعة فأجابني بأنها التاسعة والنصف مساءً أي مثل ساعتي تمامًا، وأراني ساعته، فسألتُه عن فندقٍ رخيص، فوصف لي واحدًا لا يبعُد كثيرًا عن فندق ماجستيك الذي نزلتُ بهن، فعوَّلتُ في نفسي على أن أبحث عنهم، وسألتُه عن مطعم رخيص الأسعار فلم يستطع أن يدُلني. كانت حبيبته «لورديس» تفهم الفرنسية، أما هو، واسمه «ليجو» فكان لا يعرف غير الإسبانية. ومع ذلك، كان يُحاوِل أن يفهم ألفاظي الفرنسية. ويبدو أنه فهمها؛ لأنه كان يُجيبني بما يفيد أنه فهم مضمونها. كان هذا أول احتكاكٍ لي مع الشعب الإسباني، خرجتُ منه بأنه شعبٌ متعاون ومساعد إلى حدٍّ كبير.

غادرتُ ذلك المقهى لأبحث عن الفندق الذي وصفَه لي ليجو، ولكنني التقيتُ في الطريق بمطعمٍ تفوح منه رائحة الطعام شهيةً لذيذة جذَّابة، فلم أستطع مقاومتَها ودخلتُ. لم يفهم أحد كلامي، وفجأةً ظهر لي شابٌّ مفتول العضلات، كان واقفًا مع الآكلين، وخاطبَني بالإنجليزية في طلاقة. أفهمتُه مشكلتي، فتطوَّع مشكورًا، بأن يُساعِدني. أشار عليَّ ببضع أكلاتٍ اختارها لي … راقَتني هذه الأكلات فأجلسوني في الحال إلى مائدةٍ مستديرة أشبه ما تكون بوضم الجزار الذي يقطع عليه اللحم ويكسر العظام، ولكنها كانت أقل ارتفاعًا من الوضم.

جاءني النادل بقِطَع من لحم الضأن داخل سفُّود من الحديد. كان ذلك اللحم طيبًا جدًّا ولذيذًا وشهيًّا، ثم أحضر لي طبقًا من شرائح السجق فوجدتُها هي أيضًا طيبة المذاق وكان لونها أحمرَ غريبًا، ولكنها لم تكن حريفةً بالمرة. وبعد ذلك جاءني بطبق من الفخَّار به سمك بكلاه غارق في مرقٍ أبيض اللون لم أذق له مثيلًا في حياتي من حيث الجودة ولذة الطعم وحلاوة النكهة.

بعد أن انتهيتُ من تناول وجبة العشاء التي كلفَتْني ٣٠٠ بيزيتاس غير البقشيش؛ أي أكثر قليلًا من ثلاثة دولارات ونصف. جاءني الشاب الكوبي الذي رفض أن يُفصِح لي عن اسمه، وأصَرَّ على أن أُسمِّيه «صديقًا كوبيًّا من ميامي»، وسألني عن الطعام الإسباني وهل أعجبني، فقُلت: الطعام لذيذٌ جدًّا وشهي وطازج وجيد الطهو. قال: أنا أتردَّد على هذا المطعم كل يومٍ آكل فيه ما تشتهيه نفسي. وفجأةً سألَني عن اسمي وعن جنسيتي، فقُلت: «مصري من القاهرة.» قال: من بلد السادات؟ قلت: نعم. قال: إنني معجبٌ غاية العجَب بشجاعة السادات، وأعتقد أنه رجلٌ مُخلصٌ يريد أن يُنهي الخلافات التي بينكم وبين إسرائيل حتى لا تتعرَّضوا لحروبٍ جديدة تُرهِقكم بشريًّا واقتصاديًا. تحية منِّي إلى شخصه العظيم. فشكرتُه ودهشتُ لاطلاعه على مشكلة الشرق الأوسط وما يجري فيها. قُلت: تقول إنك كوبي، هذا مفهوم ولكن كيف تكون كوبيًّا من ميامي، وميامي في الولايات المتحدة الأمريكية؟ فضحك وقالت: أنا كوبي من بلد الزعيم كاسترو، غير أنني أُقيم في ميامي بأمريكا. قُلت: هل أنتَ هنا في إجازة، ولماذا اخترتَ إسبانيا بالذات؟ قال: هنا أستطيع أن أتفاهم مع الناس لأنني أتكلم معهم بلغتهم، ولا أجد مشقَّةً في الحياة بينهم. كما أنني أحِب الطعام الإسباني؛ إذ يختلف عن الطعام الأمريكي، وطريقة تقديمه جذَّابة. ثم سألني بقوله: كنتَ منذ لحظات تكتب، فهل أنت كاتبٌ؟ قُلت: لا، بل أُسجِّل خواطري ومشاهداتي إبَّان رحلتي. قال: وهل ستُدوِّن الحديث الذي دار بيننا؟ قُلت: بالطبع، لأنه لولاك ما أمكنني أن أتفاهم مع أصحاب هذا المطعم، ولما حظيتُ بالوجبة الشهية التي تناولتُها. قال: أشكرك على هذا الشعور، ولكنني سعيد، في الواقع، إذا قدَّمتُ لك هذه المساعدة البسيطة. على فكرة، قد أزور القاهرة في نهاية هذا العام، فهل تُشجِّعني على ذلك أم لك رأيٌ مخالف؟ قُلت: مرحبًا بك في مصر أم الدنيا. ثم قدَّمتُ له بطاقتي وعليها اسمي وعنواني ورقم تليفوني وألححتُ عليه في أن يتصل بي بمجرد وصوله إلى أرض القاهرة. شكرني هذا الصديق الكوبي من ميامي، وشدَّ على يدي مودِّعًا.

خرجتُ من المطعم وبدأتُ أبحث عن الفندق الرخيص الذي دلَّني عليه السيد ليجو. كان قد ذكَر لي أن الفندق يقع قريبًا من مكتبة «لاميبا» فسألتُ أكثر من شخص من أهالي مدريد عن هذه المكتبة، ولكنهم جميعًا عجزوا عن إرشادي إلى مكانها؛ لذلك، عُدتُ أدراجي إلى فندقي حيث أخذتُ حمامًا ساخنًا، واستسلمتُ إلى نومٍ لذيذ، فلم أستيقظ إلا في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤