الباب السابع

مدريد فخمة بمبانيها الضخمة

هرعت إلى قاعة الطعام الملحقة بالفندق كي أتناول طعام الإفطار. القاعة الفاخرة وثيرةٌ دافئة. كل شيء فيها لونه أخضرُ داكن، وفي أحد جوانبها بار لا يفصله عن موائد الطعام إلا حاجز من خشب الأبنوس المُحلى بالنقوش العميقة الحفر.

يقوم بخدمة جميع نزلاء الفندق الراغبين في تناول طعام الإفطار نادلٌ واحد فقط. كان دائب الحركة كالمكوك، لا يتوقف أبدًا. كان يخدم النزلاء بالدور، فطال انتظاري أكثر من ساعة. رثيتُ لحال ذلك الرجل. لا يكاد ينتهي من خدمة الجالسين حول إحدى الموائد حتى يتركوها، ويُزيل ما عليها من أطباق وملاعق وشوكات ومفرش، فإذا بنزلاء جُدد. ومن جديد يضع مفرشًا نظيفًا آخر ويأتي بأطباق وأكواب وفناجين وملاعق وشوكات نظيفة وأباريق مليئة بالشاي وباللبن وبالماء، وملَّاحات وفُوَط من الورق … إلخ إلخ.

بعد الإفطار، عوَّلتُ على أن أبحث عن مكتب سياحةٍ داخلية. فسألتُ موظف الاستعلامات بالفندق، وكان رجلًا غير الرجل الذي استقبلَني بالأمس، فحَمِدتُ الله على أنه كان يفهم الإنجليزية ويتكلمها بسهولةٍ أكثر من الموظف السابق، فقُلت له: هل لك أن تدُلني على مكتب سياحة كي أقوم بزيارةٍ سريعة داخل المدينة استكشف فيها معالمها الأولى؟ قال: يمكنكَ أن تحجز تذكرةً من عندي. وفي الحال، أخرج تذكرةً وطلب مني ٤٠٠ بيزيتاس ثمنًا لها؛ أي حوالي خمسة دولارات، فدفعتُها له ثم سألتُه: هل سيأتي الأوتوبيس إلى الفندق ليأخذني؟ قال: لا، بل أنت الذي تذهب إليه وستجده منتظرًا أمام رقم ٦٨ من هذا الشارع الذي به الفندق. إنها شركة «جوليا» التي تقوم بهذه الخدمات للسائحين. رأيتُ من الأصوب والأفضل أن أبحث عن مكان هذه الشركة أولًا حتى لا أتأخر عن الميعاد المحدَّد وهو الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر. وكانت مدة الجولة ثلاث ساعات فقط. لم أجد عناء في العثور على مَقَر الشركة فأفهَمَني الموظف المسئول بها أن الأوتوبيس ينتظر الجميع أمام مقر الشركة، ثم نصحَني بأن أقوم برحلةٍ أخرى إلى طليطلة؛ إمَّا لقضاء يوم كامل بها، أو لمدة نصف يومٍ فقط، ولكل رحلةٍ سعرها طبعًا.

بعد أن هدأ بالي ورتَّبتُ خطة سيري لعصر ذلك اليوم، قمتُ بجولة على قدَميَّ فيما يعتبرونه أكبر شوارع مدريد، ألا وهو شارع «جوزي أنطونيو». يتحمل عرض ذلك الشارع مرور ست سيارات في آنٍ واحد، ثلاث منها جيئة والثلاث الأخرى ذهابًا. أما كل طوار فعرضُه قد يصل إلى أحد عشر مترًا. المباني ضخمةٌ عالية على الجانبَين؛ بعضها عتيقٌ كالح اللون، بينما البعض الآخر جديدٌ زاهي اللون. وأما المتاجر فتملأ الشارع بأكمله. والإسبان يعرضون بضائعهم عرضًا لا بأس به، ينمُّ عن كثير من الذوق الراقي. وصناعة الأحذية هنا متقدمةٌ جدًّا، غير أن أسعارها باهظة جدًّا. وكذا الملابس غالية الثمن بدرجةٍ مذهلة. المطاعم والمقاهي في غاية البذَخ وفَرْط الزخرف، والأسعار فيها محدَّدة، وخصوصًا أسعار المشروبات بكافة أنواعها العادية والروحية، والنادل الإسباني لا ينتظر منك نفحة، ولكن يسُرُّه أن يحظى منك بشيء مهما قلَّ مقداره. ويتحلَّى النادل بالأدب الجم. أنت هنا حُرٌّ سعيد، لا أحد يتدخل في حريتك الشخصية، لا أحد يقترب منك مستغلًّا كونك أجنبيًّا غريبًا عن البلد. إنها بحق بلادٌ آمنة جدًّا. الشوارع غاصَّة بالسياح من جميع أنحاء الدنيا. معظم السائحين من الأمريكيين، يفدون في صورة عائلاتٍ كاملة؛ الأب والأم والأولاد. الأمريكي لا يتحرك إلا وعينُه على الخريطة. يقرؤها ويستطيع الوصول بواسطتها إلى الأماكن التي يرغب في مشاهدتها، بسهولةٍ ويُسرٍ دون أن يُضطَر إلى سؤال غريبٍ قد يُضَلله أو لا يفهمه. حقًّا، ما أمهَرَ الأمريكيين في شئون السفر والترحال وفن الانتقال من مكانٍ إلى آخر! ومما يؤيد هذا القول، أن «جون» الأمريكي الذي التقيتُ معه بالأمس، كان يحمل معه كتابًا ضخمًا فيه كل شيء عن إسبانيا؛ بلدًا بلدًا، فيه قوائمُ كاملة بأسماء الفنادق وعناوينها وأسعار حُجراتها. هذا الكتاب موسوعةٌ عظيمةٌ تُساعِد المسافر إلى إسبانيا على عدم التورُّط في شيءٍ يجهله.

ذهبتُ إلى مكتب شركة السياحة في الثالثة والربع، فوجدتُ حشدًا هائلًا من الناس تجمَّع أمام شركة «جوليا»، وكانت الأوتوبيسات العديدة في الانتظار.

ازدحَم الأوتوبيس الذي رَكبتُه، وامتلأَت جميع مقاعده بالركاب. بدأ المرشد الإسباني كلامه إلينا بأن تمنَّى لنا رحلةً سعيدة موفقة نشاهد فيها معالم مدينة مدريد عاصمة إسبانيا.

بدأ الأوتوبيس سيره في شوارعَ ضيقةٍ كثيرة التقاطعات. لاحظتُ أن الشوارع الجانبية والفرعية لا تقل نظافة عن الشوارع الرئيسية.

شاهدت تمثالًا للكاتب الإسباني الذائع الصيت والكثير التصانيف «سرفانتس» الذي كتب القصة المشهورة «دون كيشوت» الزاخرة بالخيال الرائع والدعابات الكثيرة اللطيفة.

نحن هنا أمام دار الأوبرا الملكية، المبنى ضخمٌ جدًّا، أبيض اللون، تحيط به مجموعة من التماثيل تُزيِّن جُزأه العلوي.

مَرَرنا بميدان يشبه إلى حدٍّ كبير ميدان العتبة الخضراء في مصر، تقوم فوق أحد مبانيه ساعةٌ ضخمة وتتوسَّطه نافورةٌ ضعيفة المنظر والمظهر.

أمامي الآن البرلمان الإسباني، والمرشد يقول لنا إن الملك كارلوس، مليك البلاد، سوف يفتتح البرلمان الجديد قريبًا. يقع البرلمان القديم في ميدان «لاس كورتيس» الشهير.

تقوم في أحد الميادين نافورةٌ بالغة الضخامة بداخلها تمثال بوسايدون إله البحر عند اليونان، يحمل رمحه الثلاثي الشعاب، ويقود أفراسه القوية والجامحة والشرسة.

توقف الأوتوبيس أمام المبنى الرئيسي للبريد، فلاحظتُ أن صناديق البريد كلها من النحاس الأصفر اللامع، فتبدو للعين كأنها مصنوعةٌ من الذهب النضار.

أرى الآن قوسًا من أقواس النصر ضخمة الحجم ولكنها لا تصل في جمالها إلى ما وصلَت إليه قوس النصر القائمة بمدينة باريس، والتي تُعتبر من أشهر معالمها التي ينبغي على السائح ألا تفوته رؤيتها. وحدث أن رأيتُها في مرة سابقة في يوم ١٤ يوليو؛ أي يوم عيد الجمهورية الفرنسية، وقد مرَّ بجانبها العرض العسكري احتفالًا بذلك العيد، وهاك الوصف الذي أذكُره:

في الساعة العاشرة صباحًا مرَّت من فوق قوس النصر بميدان الشانزلزيه محطة «إتوال دي جول»، ثلاثُ طائراتٍ حربية ضخمة؛ يخرج من مؤخر اليمنى تيار من الغاز الأحمر يتكون منه شريطٌ طويل، ويخرج من الطائرة الوسطى غازٌ أبيض ناصع البياض، ومن الطائرة اليسرى غازٌ أزرق، فيتكون من هذه الشرائط الغازية الثلاثة علَمٌ فرنسي يملأ سماء باريس ويستمر لمدةٍ طويلة. وبعد تلك الطائرات، أسرابٌ من مختلف أنواع الطائرات الحربية الكثيرة الأشكال والأحجام ظلت تُحلق بعضها خلف بعض لمدة ساعتَين. ومن لطيف ما رأيتُ أسرابُ الحمام الأبيض، كل سربٍ يتألف من مئات الحمامات، تخرج من قمة القوس وتطير في الجو وكأنها تريد أن تُنافِس الطائرات، ولكن هيهاتَ لها. المهم أن منظرها كان طريفًا بديعًا. وعلى الأرض بدأَت شتَّى فرق الجيش تسير في نظامٍ بديع، وبالطبع كان بالعرض فرقةٌ رمزية من كل نوع؛ المشاة والصاعقة والبحرية وغيرها. وبعدها جاءت فِرق السيارات المدرعة وأنواعٌ كثيرة من السيارات الحربية لم أعرف نوعها ولا الغرض منها. وبعد تلك جاءت مختلف أنواع الدبابات أخذَت تمرُّ مدةً طويلة وكأنها لا تنتهي. وبعدها جاءت سيارات المدافع المضادة للطائرات وسيارات الرادار وشتَّى أنواع المدافع التي يُخطئها الحصر، وجاءت فرق الإسعاف والإنقاذ والإطفاء. كل هذا يسير في نظامٍ رائع إلى جانب قوس النصر. وما أثار إعجاب الألوف المؤلفة التي اجتمعَت لمشاهدة ذلك العرض، هو البوليس النسائي، فتيات باريسيات بارعات الجمال والفتنة والإغراء في زيٍّ موحد جميل المنظر وقد وضعن القبعات على رءوسهن بصورةٍ جذابة، يسرن برشاقة في مشيةٍ عسكرية أيديهن تتحرك معًا كأنها يدٌ واحدةٌ وأرجلهن تتحرك معًا، والحق يُقال إن منظر العرض العسكري كله كان في كفَّة ومنظر البوليس النسائي وحده في كفَّةٍ أخرى ترجح الكفة الأولى. وما يدعو إلى الإعجاب والتقدير أن كل تلك الحشود الهائلة من المتفرجين كانت تقف في نظامٍ بديع لا ترى واحدًا يزاحم غيره أو يدفعه، بل الكل واقفٌ في مكانه لا يتحرك.

دخل بنا الأوتوبيس حديقةً ضخمة تقوم بها تماثيل من العاج سامقة الارتفاع؛ بعضُها لنساءٍ شهيرات، وبعضٌ آخر لقوَّاد حروب يمتطون صهوات جيادهم الحربية القوية العضلات.

رأيتُ بداخل تلك الحديقة جزءًا منها خاصًّا بالأطفال يلعبون فيه، وهو مزوَّد بالكثير من الأراجيح المتنوعة والزحافات وبكل ما يُكسِب الطفل قوة ونشاطًا منذ نعومة أظفاره. يذهب الأطفال إلى تلك الحديقة بصحبة أمهاتهم، ينعمون باللعب الهني، ويتمتعون بقضاء وقت بهجةٍ ومرح.

تركونا نتجوَّل في أرجاء هذه الحديقة البالغة الاتساع والبعيدة الأطراف، والتي يُخيَّل إليَّ أنها في اتساع متنزَّه «هايد بارك» بلندن، مع الفارق في الاستعمال.

تتوسَّط هذه الحديقة بحيرةُ ماءٍ ضخمة تطفو على سطحها الزوارق والقوارب؛ بعضُها من المطاط، وبعضٌ آخر من الخشب، وبعضٌ ثالث من المعدن، تتهادى فوق صفحة الماء تهاديَ الفتيات الحسان، يركبها الشباب والصغار للمتعة والترفيه عن النفس. ولعل بحيرة مريلاند عندنا بمصر الجديدة، صورةٌ مصغَّرة من هذه البحيرة الصناعية التي دبَّجَتها يد الإنسان وأودعَت فيها كل ما يُدخِل السرور والبهجة على النفوس، وتبدو متعة للعين بجمالها وروائها وجوِّها الذي يوحي بشواطئ البحار.

على أحد جوانب هذه البحيرة مبنًى جميل المنظر يتألف كله من أعمدةٍ رخامية تحمل فوق تيجانها تمثالًا ضخمًا للملك ألفونس الثاني عشر وهو ممتطٍ صهوة جواده شامخَ الرأس مرفوعَ الهامة. المبنى كله ناصع البياض. أما التمثال فمن البرُنز الداكن السواد. وتتناثر حول القاعدة عددٌ من التماثيل الرخامية لأسُودٍ رابضةٍ تُوحي إليك بالقوة والجبروت، وتنعكس على أجسامها أشعة شمس الأصيل، فتبدو حمراء كاللهب، ولعل هذه هي التي وصفها الشاعر بقوله:

وتخالها والشمس تجلو لونَها
نارًا وألسنها اللواحس نَورًا

أفهمَني النادل أن الملك كارلوس، ملك إسبانيا الحالي، من ذرية الملك ألفونس، الذي أرى هنا تمثاله الشامخ. إنه جده الثالث.

انتهزتُ فرصة عودتنا إلى الأوتوبيس والتقائي بالمرشد الإسباني، فرجوتُه ألا يُكثر من الشرح باللغة الإسبانية، خصوصًا وأن جميع الركاب يتكلمون الإنجليزية فأبدى الامتعاض وقال في صلَف: الإسبانية لغتي وأنت الآن في إسبانيا. لستُ مسئولًا عن لغتك. لو أنكَ ذهبتَ إلى نيويورك مثلًا، لخاطبك المرشد بالإنجليزية. فيجب أن تحمَدَ الله على أنني أشرح لك أحيانًا، بعض ما تراه، بالإنجليزية. فتعجَّبتُ من منطق هذا الرجل الجاهل ومن لهجته البعيدة عن الذوق واللياقة. لقد نسي حضرتُه أن الرحلة لسياح أجانب معظمهم من الأمريكيين وليست لأهل البلد الإسبان حتى يشرحَ لهم بلغتهم. جميع شركات السياحة في العالم تستخدم مرشدين يعرفون لغاتٍ أجنبية ليُشجِّعوا السياحة والإقبال على شركاتهم أو يستخدمون أشرطة بعدة لغاتٍ تشرح في سماعات بأية لغة يريدها السائح.

ذكَّرني ذلك المرشد الجلف الجاهل، بنظام السياحة في اليونان، وكيف أنهم يُقسِّمون السياح إلى أفواج حسب لغاتهم، فيذهب مع كل فوج مرشد أو مرشدة يتقنان لغة الركاب، سواء أكانت الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو الإسبانية أو غير ذلك. وفضلًا عن هذا فإن المرشدة اليونانية لا تخاطبك باللغة اليونانية إطلاقًا. إنها تنسى تمامًا لغتها الأصلية. وهذا النظام في نظري رائعٌ يرقى بفن السياحة ويجعلها مُجديةً مفيدة للسائح الذي تجشَّم المتاعب، وركب الأخطار، وكلَّف نفسه كل هذه النفقات كي يفهم ويتعلم شيئًا جديدًا.

تتجه السيارة بنا الآن إلى حي «سالامنكا» بمبانيه القديمة العتيقة التي شُيِّدَت في بداية هذا القرن؛ أي مضى عليها الآن ما لا يقل عن ستين أو سبعين سنة.

حتى الآن، لم أبصِر شيئًا يستَحِق التسجيل، كل شيء عادي، مبانٍ ضخمة ومتاجرُ عديدة وسياراتٌ لا حصر لها، رابضة أو جارية. غير أن الشيء الوحيد الذي لفت نظري فعلًا هو نظافة الشوارع جميعًا، مهما يكن طولها قصيرًا أو عرضها ضيقًا. كما أن المباني شاهقة ضخمة. حقًّا، إن عينك لا تقع على فيلَّا أو على منزلٍ صغير هزيل قليل الارتفاع. لفت نظري مبنَيان بالغا الضخامة خاليان تمامًا من الشُّرفات والنوافذ، وهذا أمرٌ لم أرَ مثله في أي بلدٍ من بلاد الدنيا.

من أجمل النافورات، تلك النافورة التي تُطلِق المياه عاليًا فتسقط فوق مجموعة من الدلافين، فتقفز هذه في الفضاء منطلقةً كالصواريخ من قلب مياه النافورة.

تتَّجه بنا السيارة الآن إلى حي التسويق، أو على الأصح حي المنطقة التي تُناظِرها عندنا منطقة شارعَي قصر النيل وسليمان باشا. لم يكن ذلك الحي الإسباني مزدحمًا بالناس بالصورة المؤذية التي وصل إليها الحال عندنا.

من أجمل المباني التي شاهدتها في جولتي هذه، تلك المباني التي شُيِّدَت من أولها إلى آخرها من الزجاج، والغريب أنها عاليةٌ بحقٍّ ليس لها حوائط من الطوب، بل كلها من الزجاج الخالص، وبذا صار منظرها جميلًا طريفًا جذابًا، ولكن يا ويل من كان بيته من زجاج!

نظام الأنفاق متقدِّمٌ جدًّا في إسبانيا. وقد راقني أن لاحظتُ أن جميع الأنفاق التي تجري تحت الأرض، على الرغم من طولها الواضح، نظيفة جدًّا. وكنتُ أراها أحيانًا متشعبةً متقاطعة متفرقة كأنها أخطبوط ذو مئات الأذرُع.

نسيتُ أن أذكُر لك شيئًا عن الطقس، الشمس هنا ساطعةٌ حارقة كشمس مصر تمامًا، الجو جميلٌ مُحتمَل في الظل. والرطوبة تكاد تكون معدومةً فلم أشعر بوجودها إطلاقًا؛ لذا يمكنني أن أعتبر أن الطقس هنا محتمل وليس عندي أي تعليقٍ عليه. والشمس تغرُب هنا في ساعةٍ متأخرة جدًّا من الليل، والنهار بالغ الطول.

ذهبنا إلى حي الجامعات الإسبانية وما يُحيط بها من حدائقَ شاسعة. رأيتُ مبنى كلية الطب وكلية العلوم، ومبنى قسم الأحياء. وكلها مبانٍ ضخمةٌ قوية. كما رأيتُ كلية الفنون الجميلة. كانت المباني كلها خالية من الأساتذة والطلبة، بل والمارة أيضًا. ولا تقل كلية الاقتصاد عن مثيلاتها من الكليات الأخرى. وحي الجامعات فسيحٌ واسعٌ جدًّا لا يمكن قطعه سيرًا على الأقدام بسبب اتساعه العظيم.

كذلك رأيتُ كلية الآداب، والملاعب الشاسعة التي يُمارس فيها الطلاب رياضاتهم التي يَهوَونها، كالسباحة والتنس والجمباز. وليست مباني الجامعة كلها من طرازٍ واحد، بل كان لكل كليةٍ شكلها الخاص الذي يميِّزها عن غيرها.

أمامي الآن التليفريك يجري فوق أسلاكه الممتدة عَبْر الفضاء. منظره جميل جدًّا؛ فهو صندوقٌ مقفل يجري معلَّقًا على سلكٍ متينٍ من الصُّلب مشدودٍ بين نقطتَي الابتداء والانتهاء. وغالبًا ما تكون إحدى النقطتَين أو كلتاهما على جبل أو تلٍّ. وهم يستعملونه هنا للترفيه لا أكثر ولا أقل، أي كضربٍ من ضروب النزهة والتسلية. أما في سويسرا مثلًا فيستعمل كوسيلة انتقالٍ أساسية بين الجبال. وهناك تجده من أنواعٍ متعددة وأشكالٍ متباينة؛ منه المقفل والمفتوح، والصغير والكبير، كما أنه من ألوانٍ عديدة.

أخذَنا المرشد إلى كازينو كي يشرب كل واحدٍ منَّا شرابًا خفيفًا على نفقة الشركة. كان علينا أن نُبرِز تذكرة الأوتوبيس. ولعل هذا هو خيرُ ما خرجنا به من هذه الجولة.

تجاذبتُ أطراف الحديث مع جاري في مقعد الأوتوبيس، فإذا به رجلٌ إنجليزي من لندن. كان رأيه كرأيي من أنه لا يُوجد أي شيءٍ غريب أو طريف في مدريد يمكن للمرء أن يستمتع برؤيته؛ فهذه المدينة العظيمة عبارة عن شوارعَ لا أول لها ولا آخر، ولا أطول منها أحيانًا.

عاب الإنجليزي أيضًا السياحة الإسبانية، وأنها ليست كما يُشيعون عنها من حيث الجودة وحسن الخدمة والمعاملة وسرعة القيام بخدمات السياح. وأخبرني بأنه ذهب إلى ملهًى ليلي ليُشاهد رقص الفلامينكو، فدُهش لأنه كان الشخص الوحيد مع صديقه البلجيكي داخل الملهى. ولمَّا حانت الساعة الثالثة صباحًا، بدأ المتفرجون من الإسبان يفدون إلى الملهى، فأردف صديقي الإنجليزي هذا يقول: كيف يستطيع الإسبان أن يعملوا بنشاطٍ في اليوم التالي، طالما لم يتركوا الملهى قبل الخامسة والنصف صباحًا؟

قدَّمني ذلك الإنجليزي إلى صديقه البلجيكي، وكان هذا الأخير يحمل كتابًا عن إسبانيا يشبه الكتاب الذي كان بالأمس مع جون الأمريكي. بالطبع كان الكتاب طبعةً أخرى مختلفة. ومن عجبٍ أنني لما تصفَّحتُ ذلك الكتاب اكتشفتُ أن أول طبعة منه ظهرت في عام ١٩٢٩م، ثم أُعيد طبعه عشرات المرَّات. طبعًا مع التعديات اللازمة التي تجعله صالحًا للعصر الذي أُعيد فيه طبعه. عجبًا! إن مصر، بكل ما فيها من مناطقَ سياحية، لم يُحاول شخصٌ واحد أن يضع كتابًا كدليل للسائحين يضُم كل المعلومات المفيدة للسياح الأجانب، والتي تُساعِدهم على تعرُّف خُطاهم في شيء من الأمان والثقة. على أن يكون بهذا الدليل أسماء جميع الفنادق من كافة الدرجات وأسعار غرفها صيفًا وشتاء، وعناوين تلك الفنادق وأرقام تليفوناتها. وكذا أسعار الوجبات والمأكولات بصفةٍ تقريبية وأنواع الفواكه الموجودة في كل موسمٍ وأسعارها بالتقريب، وأرقام تليفونات الإسعاف والحريق وبوليس النجدة والبوليس السياحي، وإجراءات البريد والتلغراف، وأشهر متاجر العاديات، وأسعار الذهب والفضة والعملات الأجنبية، والعقوبات في حالة التهريب، ومواعيد القطارات، وأسعار السفر إلى كل بقعةٍ سياحيةٍ في أرض مصر بشقَّيها. كما يجب أن تكون به خريطة للقاهرة خاصة ولمصر عامة مُبيَّنًا بها أشهر الأماكن السياحية. لست أريد دليلًا به وصف الآثار التي تركَها قدماء المصريين والأهرامات، وإنما أُريد أن يتضمن ذلك الكتاب كل المعلومات التي يحتاج إليها السائح، وكم يُكَلفه مثلًا قضاء يومٍ كامل في زيارة الأهرام وفندق مينا هاوس أو صحارى سيتي ليلًا، وأسهل الطرق لتحقيق ذلك، وأسماء شركات السياحة الداخلية وعناوينها وأرقام تليفوناتها، مع خريطة توضِّح أماكن الفنادق ومكاتب السياحة والخدمات التي يستطيع الفندق تأديتَها للسائح من تحويل العملة أو الخدمة البريدية أو التلغرافية أو استدعاء التاكسي … إلخ. كما أُشير على وزارة السياحة بأن تفكر في هذا الدليل جديًّا ولديها المعلومات الكافية، والحمد لله، لإعداد مثل هذا المرشد السياحي الهام كي لا يُحس السائح بأن أرض مصر ستنهب أمواله، وكي يستطيع أن يعمل حسابه مُقدَّمًا قبل المجيء إلى مصر. كما أن مثل هذا الكتاب سيكون مورد رزقٍ وفير لكل شابٍّ طموح يمكنه الاضطلاع به.

ذهبنا بعد ذلك إلى إحدى ضواحي مدريد حيث البيوت كلها متوسطة الارتفاع وحيث تتناثر الفيلَّات. وأبصرتُ في تلك الضاحية، قطعة أرض مخصَّصة للرياضة ولعب التنس، كان بها عشرات من الصغار والشباب عرايا أو شبه عرايا بالمايوهات. ربما كان فيها حمَّام سباحة لم تقع عليه عيني.

دهشتُ عندما سمعتُ المرشد يلفتُ نظرنا إلى مبنًى يقول إنه معبدٌ من معابد قدماء المصريين أهدَته مصر إلى إسبانيا. ربما لم يعرف أن هناك مصريًّا بين ركاب الأوتوبيس، أو أن الركاب جميعًا من السذاجة بحيث يتصوَّرون انتقال مبنًى بأكمله من مصر إلى إسبانيا عَبْر البحر وفوق اليابسة!

وقف بنا الأوتوبيس، وتركونا ندخل سوق العاديات والتحف والخزفيات، شيء رائعٌ فعلًا، كل المعروضات في غاية الروعة بديعة الشكل وجذابة المنظر فضلًا عن إتقان الصُّنع والمهارة الفنية، سيوفٌ ذهبيةٌ، وتروسٌ حديدية وأطباقٌ موشَّاة من كافة الأحجام غاية في الجمال الصارخ، حُليٌّ للسيدات من أبدع ما ابتكره العقل البشري وأتقنَته يد الإنسان، مصنوعات من الجلد مطرزةٌ بديعة، ملابس صوفية سميكة تنمُّ عن الذوق في التفصيل وطباعة الألوان والزخرف السليم، ولكني لاحظتُ أن الأسعار لا تشجِّع أحدًا على الشراء؛ إذ هي مرتفعة جدًّا جدًّا. هذا وإن كان الأمريكيون يُقْدِمون على الشراء بشراهة، فيبدو لي أن الأمريكي لا يهمُّه سعر السلعة قَدْر اهتمامه باقتنائها. وهو يُقبل على شراء الحُلي المصنوعة من الذهب، لعلمه أن الذهب في أمريكا أغلى منه في أية بقعةٍ أخرى من بقاع العالم، باستثناء فرنسا وسويسرا.

القصر الملكي مُنيفٌ حقًّا، تمتد أمامه ساحةٌ كبيرة تُشكل ميدانًا واسعًا به تمثالٌ جميل تحيط به الخضرة في تنسيقٍ بديع.

لم يكن القصر مُحاطًا بالجنود أو الحرس، اللهم إلا عددًا لا يزيد على أصابع اليد الواحدة يقفون عند الباب الداخلي للقصر. كما أن الأسوار الضخمة العالية كانت بلا حراسة.

عُدتُ إلى فندقي متعبًا مكدودًا؛ إذ كانت الشمس الشديدة اللظى تسقط فوق أم رأسي طوال وجودي داخل الأوتوبيس. لقد أجهدَتني كما أجهدَتني رؤية المباني الضخمة المتراصة، فتكاد مدريد أن تكون خالية من المعالم. وحتى حدائقها واسعةٌ جدًّا ليس لها حدود فلا تُشعِرك بالأمان. ليس فيها الدفء، جرداء، خالية من التنوع والطرافة، فتكاد الأشجار أن تكون واحدةً في كل مكان تذهب إليه، أشجار الشارع العام هي نفس أشجار الحدائق الخاصة، وهي أيضًا أشجار الحدائق العامة.

خرجتُ إلى الطريق أستكشف، وبعد مسافةٍ قصيرة ألقيتُ نفسي في ساحةٍ كبيرة خاوية، لا معالم فيها للأناقة، ساحةٌ عامة جرداء عبارة عن بلاط وأحجار ورمال وعددٍ قليل من الأشجار العتيقة المهملة. وتُحيط بهذه الساحة بعضُ الأرائك الخشبية تجلس فوقها السيدات الصغيرات والمسنَّات ويلعب بجوارهن أطفالهن. ومما لفت نظري هنا أن الأولاد يلعبون وحدهم بينما تلعب البنات وحدهن بعيدًا عن الصبيان. تُمسِك البنات بحبلٍ طويلٍ يقفزن فوقه بعدة طرقٍ متباينة؛ من الوراء ومن الأمام وبساقٍ واحدة وبالساقَين معًا. أما الأولاد فكانت لعبتهم المفضَّلة هي لعبة «امسك حرامي».

جلس إلى جواري شابٌّ إسبانيٌّ اسمه مانويل يعمل مهندسًا معماريًّا، فتجاذبتُ معه الحديث وعلمتُ منه أنه كان يعمل بالجزائر لمدة ثلاث سنوات التقط خلالها بعض الكلمات العربية ولكنه نسيها. كما علمتُ منه أن رواد هذه الساحة الصغيرة كلهم من سكان البيوت المجاورة. جلسَت إلى جواري فتاةٌ إسبانية، التزمَت جانب الخفر والحياء، وتنظر حولها فقط، ولا تُكلِّم أحدًا ولا أحد يُكلمها … اكتشفتُ أنها تعرف القليل من الإنجليزية، تعلمَته في المدرسة. كانت منطويةً على نفسها، كعادة الشعب الإسباني الذي لا يقبل الغريب بسهولة أو بسرعة، رغم أنه يلقاك في بعض الأحيان هاشًا باشًا، ولكنه في الحقيقة لا يميل إلى الاسترسال معك في حديثٍ طويل.

لم أرَ في ذلك المكان كله سوى كلبٍ واحد ليس غير، وكان كبير الحجم أسود اللون. ولو كانت هذه الساحة في فرنسا لما رأيت فيها موطئًا لأحد غير الكلاب. انصرفَت الفتاة الإسبانية في هدوءٍ وأدب، وانحنت انحناءة بسيطة، مودِّعة.

استمر الحديث بيني وبين مانويل، فسألتُه: هل الطلاق شائعٌ في إسبانيا؟ قال: هذا يتوقف على سن الزوجين، فإن كان الزوجان فوق الخمسين؛ أي بعد سن الكهولة، قلَّت نسبة الطلاق. أما في سن الكهولة، أي بين الثلاثين والخمسين، فتكثُر نسبة الطلاق. وأما الشباب بين العشرين والثلاثين فيعيشون معًا ويعاشرون بعضهم بعضًا معاشرة الأزواج دون زواج رسمي. ثم سألتُه: أرى جميع أفيشات الأفلام تُصوِّر النساء عرايا، وبعض المناظر مخلٌّ بالآداب، فهل الأفلام الجنسية الصارخة مباحةٌ في مدريد، ويراها الشباب والكهول والشيوخ بلا قيود؟ قال: بالفيلم الواحد ثلاثة أو أربعة مناظر فقط، يظهر فيها الرجال أو النساء عرايا، ولكن الجنس لا يُمارس في الأفلام. وعادةً ما تكون هناك قصةٌ غرامية يدور حولها موضوع الفيلم، فتسعى الأفيشات وراء جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين عن طريق الإثارة. سألتُه: هل بهذه المدينة كثيرٌ من الملاهي الليلية؟ قال: نعم. عندنا ملاهٍ ليلية وكباريهات كثيرة، ولكن معظمها مكلفٌ يتطلب نفقاتٍ باهظة. فطلبت منه أن يذكُر لي اسم كباريه رخيص قريب من حيث نجلس. قال: عندك كباريه «كانا ستيروس» في شارع باربيري، وأسعاره معتدلةٌ معقولة، ولكن العمل به لا يبدأ قبل الثانية عشرة ليلًا.

في تلك اللحظة أقبل طفل في الرابعة من عمره يلهث ويرتمي على حِجر مانويل، قائلًا: بابا، بابا، عيني تؤلمني؛ إذ ضربوني عليها. فأمسكه أبوه وقبَّل العين، ثم استأذن في الانصراف، وشدَّ على يدي مودِّعًا وهو ينصرف مع ابنه. والحقيقة أن مانويل هذا شابٌّ ظريف ومتعاون ومتفاهم.

تركتُ المكان بدَوري إذ كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء، وشعَرتُ بالجوع، ففكرت في أن أبحث عن مطعم يُقدم ألوانًا مغرية من المأكولات. وقعَت عيني على مطعم، فدخلت، فاستقبلَني النادل مُرحِّبًا وأجلسني في منطقته التي يخدم هو زبائنها. ولما اكتشف أنني لا أتكلم الإسبانية، طلب منِّي أن أذهب معه إلى مائدةٍ طويلة وُضعَت فوقها عيناتٌ من شتى أنواع الوجبات التي يقدِّمها ذلك المطعم، لأختار منها ما يحلو لي. لم يكن هذا النظام غريبًا عليَّ. إنهم يفعلون ذلك أيضًا في اليونان؛ حيث تدخل الثافرن؛ أي المطعم الشعبي، وما أكثر هذه المطاعم وأروعها! فتجد أمامك مباشرةً الأسماك واللحوم وكافة أنواع المأكولات الأخرى موضوعة في صفٍّ طويل. وما عليك إلا أن تُشير بإصبعك إلى الصنف الذي تريد أن تأكل منه، فيدوِّن النادل كل شيء تطلبه في فاتورة معه. بعد ذلك تجلس إلى المائدة التي تروقك، فيأتيك النادل بكل ما طلبتَه كالمدوَّن في الفاتورة.

من الأمور التي لاحظتُها في المطاعم الإسبانية خلوُّها من الموسيقى. تكاد الموسيقى تكون معدومةً في تلك المطاعم. ولعل سبب ذلك أن الشعب الإسباني لا يتكلم بصوتٍ منخفضٍ قط؛ فأصوات الناس كلهم عاليةٌ مسموعة أشبه بالصياح منها بالكلام العادي المقبول؛ لذلك لا تحتمل أعصابُهم ضربات الموسيقى التي قد تمنعهم متعة التراشق بالألفاظ العالية.

انتهى اليوم الثاني من إقامتي في مدريد، بأن عثرتُ على فندقٍ آخر يؤجِّر الحجرة المفردة مقابل ٦٧٥ بيزيتاس؛ أي أقل ١٥٥ بيزيتاس عمَّا أدفع في فندق ماجستيك؛ لهذا اعتزمتُ أن أترك الدور الثالث في صباح الغد، وأنزل إلى الدور الثاني، لأوفِّر لنفسي ١٥٥ بيزيتاس يوميًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤