مقدمة

العالم العربي كله يذكر أبا العلاء في هذه الأيام ذكرى محبٍّ له، معجب به. والعالم الغربي يشارك في هذا الذِّكر الذي يملؤه الحب والإعجاب. وقد كان أبو العلاء سيِّئ الظن بنفسه، سيِّئ الظن برأيه؛ وهذه آية التواضع ومعرفة الإنسان قَدْرَ نفسه. وكان أبو العلاء سيِّئ الظن بالناس محبًّا لهم مع ذلك رفيقًا بهم، ينصحهم ما وجد إلى نصحهم سبيلًا، يلين لهم حينًا ويعنف بهم أحيانًا؛ وهذه آية الفِطنة وذكاء القلب والتعمق لحقائق الأشياء. وكان أبو العلاء سيِّئ الظن بالتاريخ، وبما يسميه الناس خلودًا في التاريخ، وكان أبغض شيء إليه أن يُقْدم الإنسان على الخير ليُذْكَرَ في حياته أو بعد موته بأنه خيِّر، أو يحجم الإنسان عن الشر ليذكر في حياته أو بعد موته بأنه تقيٌّ نقيٌّ؛ إنما كان أبو العلاء يحب أن يُقْدَمَ على الخير لأنه الخير، وأن يُحْجَمَ عن الشرِّ لأنه الشر. لم يكن يكره شيئًا كما كان يكره انتظار الجزاء. كان عفيف النفس والخلق والرأي والعقل جميعًا. ومن أجل هذا لم يكن حلو الأثر في نفوس الذين يعرفونه ولا يألفونه، ولم يكن عَذْبَ الصوت في آذان الذين يسمعون له دون أن يُطيلوا الاستماع إليه، ولم يكن محبَّب النفس إلى الذين يتَّصلون به، فيرون منه هذه الخشونة التي تأتي من صراحة الخُلق، وهذه الغلظة التي تأتي من إِيثاره للحق.

وأراد أبو العلاء أن يترجم عن نفسه؛ فترجم عنها كما استطاع: كانت نفسًا حازمة صارمة؛ فترجم عنها في حزامة وصرامة، وازورَّ الناس عن معانيه، ثم كانوا عن ألفاظه أشدَّ ازورارًا. ضاق به أكثرهم، ولم يكن يأنس إليه منهم أحد، وارتفعت معانيه وألفاظه عن أكثرهم، ولم يكد يخلُص إلى تلك ولا يطمئن إلى هذه إلا الأقلُّون عددًا. ومع ذلك فأبو العلاء فذٌّ في الأدب العربيِّ كله، وصل من حقائق الأشياء إلى ما لم يصل إليه أديب عربيٌّ قبله أو بعده. ومع ذلك فأبو العلاء فذٌّ يُعَدُّ من هذه القلة الضئيلة التي يمتاز بها الأدب العالميُّ الرفيع على اختلاف العصور وتباين أجيال الناس وتفاوت حظوظ هذه الأجيال من الحضارة ورقيِّ الشعور. فإذا فخر الأدب اليوناني القديم بأبيقور، وإذا فخر الأدب اللَّاتيني القديم بلوكريس، وإذا فخرت الحضارة الأوروبية الحديثة بأدبائها وفلاسفتها المتشائمين، فمن حق الأدب العربيِّ أن يفخر بأبي العلاء؛ فليس أبو العلاء أقل من أحد من هؤلاء الممتازين خطرًا ولا أهون منهم شأنًا، ولعله أن يمتاز منهم بفنون من الأدب والعلم لم يظفروا بها ولم يشاركوا فيها؛ فقد كان أبو العلاء فيلسوفًا عميق الفلسفة، صادق النظر في أمور الحياة والأحياء، وكان أبو العلاء شاعرًا، رفيع الشعر نقيَّه خلَّابه، يبلغ به من الروعة الهادئة في كثير من الأحيان ما لم يبلغه الفحول من شعراء العربيَّة في قديمها وحديثها، وكان أبو العلاء أديبًا، وعى من الأدب ما لا نعرف أن أحدًا من أدباء العرب وعى مثله، وكان أبو العلاء صاحب خيال نفَّاذ، يصعد إلى أرقى ما يستطيع الخيال أن يبلغ، وينفذ إلى أعمق ما يستطيع الخيال أن ينفذ إليه، ثم كان أبو العلاء فوق هذا كله إنسانًا ممتازًا بأدق ما لكلمة الامتياز من معنى: لم يؤذ أحدًا، وإنما أحسن إلى الناس جميعًا بما قدَّم إليهم من نصح، وبما أورثهم من هدى، ثم سار سيرة نقيَّة لم يسرها أحد من المسلمين؛ فارتفع عن الصغائر إلى أرقى ما يستطيع أن يرتفع، وتنزه عن الشر والإثم كأحسن ما يستطيع الإنسان أن يتنزه عنهما.

فإذا ذكره العالم العربيُّ الآن محبًّا له مُعْجَبًا به، بعد أن مضى على ميلاده عشرة قرون، فإنما يردُّ هذا العالم إليه أيسر حقه وأهونه، وإنما يُرَدُّ إلى أبي العلاء حقه كاملًا يوم يحبه الناس ويُعْجَبون به حبًّا وإعجابًا لا يقومان على الغرور والافتخار بالماضي القديم والاعتزاز بالتُّراث المجيد، فلم يكن أبو العلاء يحفل بشيء من هذا، وإنما يقومان على قراءة آثاره وفهمها ونقدها. وليس من المهم أن نقبل آراءه ومعانيه؛ فهذا أهون الأشياء؛ إنا لنعجب بأفلاطون وأرسططاليس، وبكثير من الشعراء والفلاسفة والعلماء في اللغات المختلفة والآداب المتباينة، وما أكثر ما نرفض من آرائهم. فالحياة في تغيير مستمر، والعقل في رقيٍّ متصل، والإنسان متواضع مهما تبلغ به الكبرياء. فليس على النوابغ بأس ألا نقبل منهم كل ما تركوا لنا، وإنما علينا نحن البأس كل البأس ألا نقرأهم ولا نفهمهم ولا ننقدهم ولا نَصْدُرَ في حكمنا عليهم عن القراءة والفهم والنقد.

وقد كتبت عن أبي العلاء ما أذن الله لي أن أكتب، وأظن أني قد عرَّفته بعض التعريف إلى هذا الجيل الحديث. ولكنِّي لم أؤدِّ إليه من ذلك إلا بعض حقه، وما زالت له عليَّ حقوق كثيرة أرجو أن يُعينني الله على تأدية بعضها؛ فقد عرَّفت أبا العلاء إلى خاصَّة الناس، وأحب أن أعرِّفه إلى عامَّتهم، وأن أعرِّفه إلى عامتهم بالترْجمة الصحيحة عنه، والتفسير الدقيق لشعره، فلو قد نشرت اللزوميات في عامة المثقفين لما فهمها أكثرهم؛ لأن أبا العلاء لم ينشئ اللزوميات لعامَّة المثقَّفين، بل لست أدري! لعله أن يكون قد أنشأها لنفسه، وللذين يرقَوْن إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة. فما الذي يمنع أن أُيَسِّر اللزوميات للذين لا يستطيعون أن يقرءوا شعرها العنيف الذي لا يخلو من غرابة، والذي تَزْوَرُّ عنه أذواق المتعمقين للأدب العربي، فضلًا عن الذين لم يأخذوا من هذا الأدب إلا بأطراف يسيرة قصيرة؟

وأنا أعلم كثيرًا من الناس سينكرون عليَّ هذه الترجمة، سينكرها بعضهم لأنها تُشيع التشاؤم وتُسبغ على الحياة ألوانًا قاتمة، وما ينبغي أن نشيع التشاؤم في الشباب، ولا أن نصوِّر لهم الحياة إلا مشرقةً باسمة، ولكني مع ذلك لا أُشفق على الشباب من تشاؤم أبي العلاء؛ فالحياة أقوى وأنضر من تشاؤم المتشائمين. وما ينبغي أن تكون الحياة حلوة مسرفة في الحلاوة؛ فربما دعا ذلك إلى شيء، من الغَثَيَان والإسراف في الرضا والابتسام، قد يجعل الحياة فاترة خائرة قليلة الحظ من هذه الشدَّة التي تكوِّن الرجولة، وتخلق المروءة، وتجعل الشباب قادرين على أن يلقَوا المِحَن والخطوب بشيء من الجَلَد والشجاعة والصبر.

والشباب في حاجة إلى شيء من التشاؤم يزهِّدهم في الحاضر، ويرغِّبهم في المستقبل، ويدفعهم إلى الإصلاح، ويزيِّن في قلوبهم حب الرقيِّ، وليس شبابنا في حاجة إلى أن يلتمسوا التشاؤم عند «نتشه» و«شوبنهور»، ولا إلى أن يلتمسوا النقد الخُلقي والاجتماعي عند «لارشفوكو» وأمثاله من نقاد الأخلاق والاجتماع، وعندهم أبو العلاء قد امتلأت آثاره بالنقد السياسي والخُلقي والاجتماعي، وبتصوير الرجولة ومُثُلها العليا. فليلتمس شبابنا هذه المعاني عند أسلافهم من شعراء المسلمين وفلاسفتهم، وعند أبي العلاء منهم خاصة.

وليقرأ شبابنا بعد ذلك هذه الخواطر والمعاني والآراء عند الفلاسفة والأدباء المتشائمين في اللغات الأخرى، قراءة الغنيِّ المستطلع، لا قراءة المعدم الذي يلتمس الثروة عند غيره والثراء منه قريب.

وسينكر قوم هذه الترجمة؛ لأنها لون جديد من ألوان الأدب العربيِّ الحديث. أليس غريبًا أن نترجم إلى العربية شعرًا هو من صميم العربية؟ بلى! ليس ذلك غريبًا؛ وإنما الغريب ألا نترجم هذا الشعر. فما دامت الثقافة تتسع وتَنتَشِر، وما دام جمهور المثقَّفين يعظم ويضخُم من يوم إلى يوم؛ فلا بدَّ من أن نقرِّب إليهم أدبنا القديم، ونزينه في قلوبهم، ونصله بأذواقهم، فليس كل الناس قادرًا على قراءة اللزوميات، والفصول والغايات، ورسالة الغفران، وفهمها. ومع ذلك فيجب أن يعرف المثقفون جميعًا هذه الآثار وغيرها معرفة حسنة، وإلا انقطعت الصلة بين الحديث والقديم، وأصبح مكان الأدب العربي القديم من المثقَّفين المعاصرين مكان الأدب اللاتيني من الفرنسيين والإيطاليين. والله يعصم الأدب العربي القديم من أن تُقْطَع الصلة بينه وبين الأجيال العربية إلى آخر الدهر.

وأنا مع ذلك أذيع هذه النماذج من ترجمة اللزوميات، ومعها النصوص الكاملة من شعر أبي العلاء. فمن استطاع أن يقرأ هذه النصوص دون أن يحتاج إلى ترجمتها فليفعل وخَلَاه ذمُّ، ومن استطاع أن يقرأ الترجمة وعجز عن قراءة النص فليفعل، وحَسْبُه ما يظفر به من الفائدة، ولكن قومًا بين أولئك وهؤلاء سيقرأون النص وسيقرأون الترجمة، وسيوازنون بين الصوت والصدى، وما أشكُّ في أنهم سيجدون صوت أبي العلاء أعذب في نفوسهم وأحب إلى قلوبهم من صداه الذي تصوِّره الترجمة؛ لأني أنا أجد صوت أبي العلاء أعذبَ في النفس وأحب إلى القلب من كل صوت ومن كل صدى.

طه حسين
القاهرة، يونيو سنة ١٩٤٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤