المرابي المفقود

الجزء الأول

في وقت مبكر من ظهيرة يوم دافئ ورطب في شهر نوفمبر، سار توماس إلتون في حزن عبر ساحة مارجيت، وهو ينظر إلى البحر ذي اللون الأزرق الصافي الذي تُحيط به سماءٌ زرقاء أكثرُ صفاءً، ثم وجَّه بصره نحو المرفأ، حيث بدأ المد المنحسر للتو في الكشف عن الأرض الموحِلة. لقد كان مشهدًا كئيبًا، فحاول إلتون التخفيفَ من كآبته عبر متابعة عددٍ قليل من الصيادين وعددٍ أقلَّ من المتنزِّهين الذين يسيرون بينما تُلاحقهم ظلالهم المشوَّهة على الرصيف المبتل؛ ومِن ثَم وقعَت عيناه على رجل يرتدي ملابسَ أنيقة وقف يحتمي من الرياح بجدارٍ كي يتمكَّن من إشعال سيجار.

صنَّف أحد الساخرين المعاصرين أولئك الاسكتلنديين الذين ينتشرون بكثرة في جنوب أفريقيا إلى مجموعتَين: أولئك الذين ينحدرون من اسكتلندا وأولئك الذين ينحدرون من فلسطين. وهكذا فإن شيئًا ما في منظر الظهر العريض للرجل، وفي مظهر الشعر الأسود المجعد والثياب الضخمة، أوحى لإلتون أنه اسكتلندي من النوع الأخير. وفي الواقع، لقد تنامى بداخله شكٌّ في أن شكل هذا الرجل مألوف لديه على نحوٍ غير مريح، مما دفعه إلى إبطاء خطواته ومراقبته. ابتعد الرجل عن الجدار بعد أن أشعل سيجاره، نافثًا سحابة من الدخان الأزرق اللون، ثم سحب مظروفًا من جيبه، وقرأ شيئًا مكتوبًا عليه. ثم استدار بسرعة — وكذلك فعل إلتون، ولكن ليس بالسرعة الكافية. ونظرًا لأنه كان الشخص الوحيد المتواجد في تلك الساحة الخالية، فقد رآه الرجلُ على الفور. ابتعد إلتون ببطء، لكنه لم يكَد يسيرُ عشر خطوات حتى شعر بالصفعة المتوقَّعة على كتفه وسمع الصوت الذي يعرفه جيدًا.

إذ قال الرجل: «اللعنة، أُراهن أنك كنت تُحاول أن تتجاهلني يا توم.»

التفت إلتون كما لو كان قد فُوجِئ لكن تمثيله كان سيئًا، وقال: «مرحبًا يا جوردون! عجبًا؛ من كان يتوقع أن يراك هنا!»

ضحك جوردون ضحكة سمجة وهو يقول: «بالتأكيد ليس أنت، كما هو واضح؛ فأنت لا تبدو سعيدًا لرؤيتي هنا. بينما يُسعدني أن أراك، وخاصة أن أرى الأمور تسير على ما يُرام معك.»

سأله إلتون: «ماذا تقصد بذلك؟»

«أقصد أنك تقضي عطلتك الشتوية مستمتعًا بالبحر، مثل دوق لعين.»

قال إلتون: «أنا لست في عطلة، لقد كنت مرهقًا جدًّا لدرجة أنني اضطُرِرت إلى إجراء نوع من التغيير؛ لكنني أحضرت عملي معي، وأعمل عليه لمدة سبع ساعات كاملة كل يوم.»

قال جوردون: «هذا صحيح. مثل النملة. لا شيء يُضاهي العمل الدَّءوب! لقد أحضرت عملي معي أنا أيضًا؛ قُصاصة صغيرة من الورق عليها ختم. وأنت تعرف ما هو مكتوب فيها يا توم.»

«أعلم. ولكن موعد السداد هو الغد، أليس كذلك؟»

«أليس كذلك، لعنة الله عليك! إن موعد السداد هو اليوم تحديدًا، العشرين من الشهر. لهذا السبب أنا هنا. لمعرفتي بضَعفك في مسألة تحديد التواريخ، ولأن لديَّ عمليةَ تحصيلٍ صغيرةً في كانتربري؛ لذا قررت أن آتي، وأُوفر عليك النفقات غير الضرورية الناتجة عن النسيان.»

فهم إلتون التلميح، فأصبح وجهه عابسًا.

«لا أستطيع السداد يا جوردون؛ لا أستطيع حقًّا. ليس لديَّ نقود، ولن أحصل عليها قبل أن أحصل على أجري مقابل مجموعة الرسومات التي أعمل عليها الآن.»

صاح جوردون، وهو ينتزع السيجار من بين شفتَيه الغليظتَين وهو يمطُّهما متبرمًا: «أوه، ولكن يا للأسف! ها أنت ذا، تُهدِر نقودك في جولات على شاطئ البحر، وتخفض دخلك بضربة واحدة بمقدار أربعة جنيهات إسترلينية في السنة.»

طالبه إلتون بالتوضيح قائلًا: «وكيف سيحدث ذلك؟»

قال جوردون مستنكرًا: «عجبًا؛ يا لك من رجل غير عملي! هناك فائدة صغيرة على المبلغ مقدارها ربع العشرين جنيهًا. إذا سدَّدته الآن، فهو عشرون. وإذا لم تُسدد، فسيُضاف إلى أصل الدين ويُصبح عليك أربعة جنيهات أخرى في السنة. لماذا لا تُحاول أن تقتصد أكثر من هذا، أيها الصبي العزيز؟»

نظر إلتون بازدراء إلى مصاص الدماء الذي أمامه؛ إلى ذلك الوجه الممتلئ المزرقِّ بفعل حلاقة شعر الذقن الكثيف، والحواجب السوداء السميكة، والأنف المتدلي، والشفاه الحمراء الغليظة التي تقبض على السيجار، وعلى الرغم من أن إلتون كان رجلًا هادئ الطباع، إلا أنه شعر برغبة عارمة في أن يضرب ذلك الوجه الذي لا يُشبه البشر، مستشعرًا متعة غير مألوفة. لكنه لم يُظهر شيئًا من هذه الأفكار في رده؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقول كل ما يتمنى لدائن يُمكن أن يُدمره بكلمة.

فقال: «يجب ألا تكون قاسيًا جدًّا عليَّ يا جوردون، أعطني القليل من الوقت؛ فأنا أفعل كل ما بوُسعي، كما تعلم. أكسب كل قرش يُمكنني كسبه، وأُسدد أقساط بوليصة التأمين بانتظام. وسأحصل على نقود مقابل هذا العمل في غضون أسبوع أو أسبوعَين، ومِن ثَم يُمكننا تسوية الأمر.»

لم يردَّ جوردون على الفور، وسار الرجلان ببطء باتجاه الشرق، وكان منظرهما المتناقض يُثير الفضول؛ فأحدهما متأنق، مرح، تبدو عليه سمات الثراء؛ والآخر شاحب ومكتئب، وبدا بتلك الملابس الناعمة غير المزغبة والحذاء المرقع والقبعة ذات الحواف اللامعة، كشخص كريم المَحتِد يُصارع الفقر.

كانا قد اجتازا الرصيف للتو، واقتربا من المرسى، عندما تحدث جوردون قائلًا:

«ألا يُمكننا النزول من هذا الرصيف الذي تعلوه بِرَك المياه بكثرة؟» ثم استرسل وهو ينظر إلى حذائه الأنيق الملمع بعناية: «أليس من الأفضل أن نسير بالأسفل على الرمال؟»

قال إلتون: «أوه، نعم بالقطع، من هنا حتى فورنس، وربما أكثر جفافًا من الرصيف.»

قال جوردون: «إذن هيا بنا ننزل.» وبِناءً عليه نزَلا عبر الطريق المنحدر خلف المرسى. كانت الرمال المنبسطة التي خلَّفها المد المتراجع سلسة وثابتة مثل الأسفلت، وكان السير عليها أمتعَ بكثير.

قال جوردون ساخرًا: «يبدو أننا نمتلك المكان لنا وحدنا، باستثناء بضع من الدوقات أمثالك.»

وأثناء حديثه، كان يُلقي نظرة خبيثة من طرْفٍ خفي على الرجل المكتئب بجواره لتحديد مدى إمكانية ممارسة المزيد من الضغط عليه، وما هو الناتج المحتمل لذلك؛ لكنه سرعان ما أشاح بوجهه عندما وجَّه إلتون إليه نظرة تحمل الازدراء والكراهية. ساد الصمت مرة أخرى؛ لأن إلتون لم يردَّ على الملاحظة الأخيرة؛ ثم نقل جوردون معطف الفراء الثقيل الذي كان يحمله من ذراع إلى أخرى. وقال: «لم أكن بحاجة إلى إحضار هذا الشيء الفظيع، لو كنتُ أعرف أن الجو سيُصبح دافئًا للغاية هكذا.»

سأله إلتون المهذب بطبعه: «هل أحمله عنك قليلًا؟»

أجاب جوردون: «إذا سمحت أيها الصبي العزيز، حيث من الصعب التعاملُ مع معطف ومظلة وسيجار في آنٍ واحد.»

فأعطاه المعطف مع تنهيدة ارتياح، وبعد أن نصَب ظهره وأخذ شهيقًا عميقًا، قال: «أفترض أن أحوالك قد بدأت في التحسن الآن يا توم؟»

هز إلتون رأسه في إحباط ثم أجاب: «لا، إنه نفس العمل الشاق الممل.»

قال جوردون بنبرة المستشار المقنعة: «لكن من المؤكد أنهم قد بدَءوا في اكتشاف مواهبك الآن.»

قال إلتون: «هذه هي المشكلة، كما ترى، ليس لديَّ أي موهبة، وقد أدركوا الحقيقة منذ فترة طويلة. أنا مجرد عامل باليومية، وليس لي راتبٌ شهري أو أسبوعي ثابت.»

«تقصد القول إن المحررين لا يُقدرون الموهبة عندما يرونها.»

قال إلتون: «لا أعرف، لكنهم يُقدرون بشكل جهنمي عدم وجودها.»

نفث جوردون سحابة عظيمة من الدخان ورفع حاجبَيه متأملًا. ثم قال بعد برهة: «هل تعتقد أنك تمنحهم فرصة عادلة؟ لقد رأيت بعضًا من أعمالك. أتعلم؛ إنها عتيقة ومتزمتة للغاية. لماذا لا تُجرب شيئًا أكثر حيوية؟ أكثرَ مرحًا أيها الفتى العجوز؛ شيء بسيقان وأحذية ذات كعوب عالية. أتفهم ما أعنيه، أيها الفتى العجوز؟ كعوب عالية مع سيقان ممتلئة جميلة ولكن ليست مفرطة السِّمنة عند الكاحل. هذا يجب أن يُثير إعجابهم، أليس كذلك؟»

عبَس إلتون وقال بازدراء: «إنك تُفكر في الرسومات التي تُنشَر في مجلة «هولد مي أب»، لكنك مخطئ. يُمكن لأي أحمق أن يرسُم زجاجة شمبانيا مقلوبة بحذاء فرنسي في نهايتها.»

قال جوردون: «لا شك، أيها الفتى العزيز، لكنني أتوقع أن هذا النوع من الحمقى يعرف كيف يكسب النقود.»

قال إلتون بحدة: «يبدو أن الكثير من الحمقى يعرفون ذلك جيدًا.» ثم شعَر بالأسف لأنه تحدث؛ لأن جوردون لم يكن حقًّا رجلًا لطيفًا، وكان تعبير وجهه يُشير إلى أنه قد فهم أن إلتون يقصده هو بهذه الجملة. لذا، مرة أخرى، سار الرجلان في صمت.

ثم قادتهما خطواتهما إلى حافة الصخور المغطاة بالأعشاب، وهناك، من تحت كومة عالية من أعشاب البحر الطافية، انطلق سلطعون أخضر كبير وهدَّدهما بمخالبَ مرفوعة. فتوقف جوردون وحدق في المخلوق بدهشة طفولية، ثم نخسه بمظلته، وتساءل بصوت عالٍ عما إذا كان يصلح لتناوله كطعام. وفجأة انطلق السلطعون، كما لو كان منزعجًا من الاقتراح، وابتعد وبدأ يتجول فوق الصخور المكسوة بالطحالب الخضراء، ثم غطس في بركة كبيرة عميقة. لاحقه جوردون متمايلًا على الصخور الزلقة، حتى وصل إلى حافَة البركة، التي انحنى فوقها، وهو يتفحص بمظلته وسط الحافة العشبية في فضول. لقد كان مهتمًّا جدًّا بطريدته لدرجة أنه لم ينتبِه للسطح الزلق الذي يقف عليه. ومِن ثَم كانت النتيجة كارثية. إذ بدأت إحدى قدمَيه فجأة في الانزلاق إلى الأمام، وعندما حاول استعادة توازنه، تبعَتها الأخرى على الفور. للحظة، كافح بشكل محموم لاستعادة توازنه، فتناثرت المياه تحت قدَمَيه، وهو يدهس الأرض كما لو كان يرقص على الحافة. وبعد ذلك، جَفَلت الطيور البحرية بفعل صيحة رعب، وحلَّقت مظلة ذات مقبض عاجيٍّ عبر الصخور، ووقع السيد سولومون جوردون في أعمق جزء من البركة. كان رد فعل السلطعون غيرَ معلوم. أما رد فعل السيد جوردون فهو غير مناسب للنشر؛ ولكن، عندما نهض من وقعته، مثل عريس بحر متأنِّق، عبر عن مشاعره بوفرة من الصفات التي جعلت إلتون على حافة الهستيريا.

قال إلتون: «من الجيد أنك قد أحضرت معطفك.» فقط ليقول أيَّ شيء بدلًا من أن ينفجر في ضحك مبرر للغاية. لم يردَّ الرجل العبري — على الأقل، لم يَرُد أيَّ رد يُمكن ذكره هنا حرفيًّا — ولكنه مال نحو المعطف الذي بسَطه إلتون له كي يَرتديَه، مادًّا ذِراعَيه المتقطرتَين. وبعد أن ساعده إلتون على ارتداء المعطف وزرَّره، سارع إلتون لاستعادة المظلة (وأيضًا ليشبع رغبته في ابتسامة عريضة)، وبعد أن أحضر المظلة، انحنى مستخدمًا إياها في استعادة القبعة التي كانت تطفو فوق سطح البركة.

كان من المدهش ذلك التغييرُ الذي أحدثَته آخرَ دقيقة أو دقيقتَين. فقد انعكس موقفا الرجلَين الآن تمامًا. إذ على الرغم من ملابسه البالية، بدا إلتون كأنه يسير برشاقة مقارنة برفيقه المرتجف الذي يسير بجانبه بخطوات بائسة قصيرة، متقلصًا إلى أعماق معطفه الذي يتدثَّر به، مثل حلزون مذعور في قوقعته، وقد انتفخ خدَّاه وهو يلعن الكون بشكل عام بقدر ما تسمح له به أسنانه المصطكَّة.

سارا مسرِعَين لبعض الوقت على طول المنحدر بجوار المرسى دون تبادُل أيِّ ملاحظات أخرى؛ ثم فجأة سأل إلتون: «ماذا ستفعل يا جوردون؟ لا يُمكنك السفر وأنت في هذه الحالة.»

سأله جوردون: «هل يُمكنك إقراضي بعض الملابس؟» فكر إلتون مليًّا؛ إذ كان لديه بدلة أخرى، وهي أفضل من تلك التي يرتديها، وهو يحرص على الحفاظ عليها بحالة جيدة كي يرتديها في المناسبات التي تتطلب مظهرًا لائقًا. ثم نظر بارتياب إلى الرجل الذي بجانبه وأخبره شيئًا ما أن البدلة العزيزة من المحتمل أن تتلقى معاملة أسوأ مما كانت معتادة عليها. لكن ضميره لا يسمح له بترك الرجل يرحل في ملابس مبللة.

فقال له: «لديَّ بدلة احتياطية؛ وهي بالتأكيد لا تليق بأناقتك، وقد لا تُناسب حجمك، لكنني أظن أنك ستكون قادرًا على تحملها لمدة ساعة أو ساعتَين.»

تمتم جوردون: «على أي حال ستكون جافة، لذا لا يُهمني مدى أناقتها. كم يبعد منزلك عن هنا؟»

في واقع الأمر لم يكن إلتون يمتلك منزلًا؛ لكنه يسكن في غرفة صغيرة في منزل صغير عتيق مبنيٍّ من الحجر الصوَّان في نهاية زقاق ضيق مسدود في الحي القديم من المدينة. ولا يحتاج الدخولُ للغرفة أيَّ مقدمات رسمية مثل رن جرس أو طرق باب؛ بل يُمكن دخولها عبر باب يُطل على الشارع، ثم عبور غرفة صغيرة، وفتح باب ما يُشبه بابَ خِزانة ضيقة، ثم صعود درجات سلم ضيق وضئيل للغاية، وكانت تُطِل بشكل غير متوقَّع على واجهة. ومِن ثَم؛ باتباع هذا الإجراء، وصل الرجلان إلى غرفة نوم وجلوس في الوقت نفسه؛ وهذا يعني أنها كانت غرفة نوم، ولكن بالجلوس على السرير تتحول إلى غرفة جلوس أيضًا.

نفخ جوردون خدَّيه ونظر حوله باشمئزاز وهو يقول: «أعتقد أنَّ عليك أن ترن الجرس وتطلب بعض الماء الساخن، أيها الصبي العجوز.»

ضحك إلتون بصوت عالٍ ثم صاح: «أرن الجرس! أي جرس ذلك الذي تُريدني أن أرنَّه؟ إن ملابسك هي الشيء الوحيد الذي يحتمل أن نحصل منه على الماء إذا عصَرناها بقوة.»

قال جوردون: «حسنًا، استدعِ الخادمة.»

ضحك إلتون مرة أخرى وقال: «يا رفيقي العزيز، لا يوجد هنا خدم. هناك فقط مالكةُ المنزل وهي لا تصعد إلى هنا أبدًا؛ إذ إنها بدينة للغاية بحيث لا يُمكنها صعود السلم، علاوة على أنها عرجاء. لذا فأنا أعتني بغرفتي بنفسي. أما أنت فستُصبح بخير إذا جفَّفت جسمك جيدًا.»

تأفَّف جوردون، وخلع معطفه وهو يتململ، بينما أخرج إلتون من خزانة الأدراج البدلة الموعودة والملابس الداخلية اللازمة. فأمسك جوردون بقطعة منها مع ابتسامة سخرية، وراح يرمقها بازدراء شديد.

ثم قال: «أرى أنك لست بحاجة إلى وضعِ علامة تمييز عليها. إذ ليس من المرجَّح أن يطمع فيها أحد.»

من المؤكد أن تلك الملابس الداخلية كانت أسوأ في كل شيء من الملابس الداخلية الناعمة الفخمة التي كان يخلعها، لكنها تتميز بشيء واحد فقط؛ أنها جافة وهو ما كان يُواسيه لتقبُّل هذا التغيير المخزي.

كانت الملابس ملائمة إلى حدٍّ بعيد بالرغم من الاختلاف بين جسدَي الرجلَين؛ لأنه بينما كان جوردون رجلًا نحيفًا في الأساس ثم أصبح سمينًا، كان إلتون رجلًا عريضًا أصبح نحيفًا. وهذا، بطريقة ما، جعلهما متقارِبَين في الحجم.

تابع إلتون عملية التبادل ولاحظ حذر جوردون في نقل مختلِف الأشياء من جيوبه الخاصة إلى الملابس المستعارة من دون أن يراها إلتون؛ الذي سمع رنين العملات، وشاهد الساعة الذهبية الفاخرة والسلسلة الضخمة، ولاحظ باهتمام المحفظة الجلدية الكبيرة التي خرجت من جيب الصدر للمعطف المبلل. التي رآها بوضوح بسبب أن جوردون نفسه قد فحصها عن قرب، وفتحها حتى يطمئنَّ على محتوياتها.

ثم قال: «لحسن الحظ أنها ليست محفظة جيب عادية؛ لو كانت كذلك، لتعرَّض إيصالك للبلل، وكذلك شيء أو شيئان صغيران آخَران لم أكن لأستطيع إنقاذهما من المياه المالحة. وبالحديث عن الإيصال يا توم، هل أُسلمه لك الآن؟»

قال إلتون: «يُمكنك إذا أردت، لكن كما أخبرتك؛ ليس لديَّ نقود.» فتمتم جوردون: «أمر مؤسف، أمر مؤسف.» ودفع المحفظة في جيب صدره، أو على وجه الدقة جيب صدر إلتون.

بعد بضع دقائق، خرج الرجلان معًا في بعد أن أسدَل الليل ستاره، وبينما كانا يمشيان ببطء خارِجَين من الزقاق المسدود، سأل إلتون: «هل ستذهب إلى المدينة الليلة يا جوردون؟»

فأجابه: «كيف يُمكنني ذلك؟ لا يُمكنني الذَّهاب بدون ملابسي. لا، سأذهب مسرعًا إلى برودستيرز. حيث يُدير أحد عملائي فندقًا صغيرًا هناك. سيكون عليه أن يستضيفَني الليلة، وإذا كان بإمكانك تنظيفُ وتجفيف ملابسي يُمكنني أن أعود لأخذها غدًا.»

بعد الاتفاق على هذه الترتيبات، ذهب الرجلان، بناءً على اقتراح جوردون، لتناول الشاي في أحد المطاعم على الشاطئ؛ وبعد ذلك، مرة أخرى بناء على اقتراح جوردون، انطلقا معًا على طول طريق الجرف الذي يُؤدي إلى برودستيرز عن طريق كينجزجيت.

قال جوردون: «يُمكنك أن تسير معي إلى برودستيرز، سأتحمَّل تكلفة عودتك بالقطار.» وقد وافق إلتون على هذا الاقتراح، ليس لأنه كان يرغب في رفقة الرجل الآخر، ولكن لأنه لا يزال لديه بصيصُ أمل في أن يحلَّ المشكلة البسيطة المتعلقة بسداد القسط.

ومع ذلك، لم يفتح الموضوع على الفور. وعلى الرغم من أنه يكره ويحتقر هذا العنكبوت البشري الذي جعلَته الضرورة رفيقه في الوقت الحالي، فقد بذل جهدًا حثيثًا للاسترسال معه في حوار ممتع. وهو أمر لم يكن سهلًا؛ لأن جوردون، مثل معظم الرجال الذين يتركَّز اهتمامهم على مجرد جمع المال، كان ينظر بلا مبالاة إلى شئون الحياة العادية. فيما يتعلق بذوقه الفني فقد ألمح إليه بالفعل، وبالنسبة إلى ذوقه في باقي الأمور، فهو يكمن في الاتجاه نفسه. المال أولًا، كهدف في حدِّ ذاته، ثم تأتي بعده تلك المتع الأكثرُ بدائيةً وفظاظةً التي يستطيع المال شراءها. كان هذا هو الأفق الذي يُحيط بمجال رؤية السيد سولومون جوردون.

ومع ذلك، كانا قد قطَعا مسافة كبيرة في طريقهم قبل أن يلمح إلتون إلى الموضوع الذي يحتلُّ الصدارة في عقلَيهما.

حيث قال بعد فترة طويلة: «اسمع يا جوردون، ألا يُمكنك منحي مزيدًا من الوقت لسداد هذا القسط؟ لا يبدو من العدل الاستمرارُ في زيادة أصل الدَّين بهذه الطريقة.»

أجاب جوردون: «حسنًا، أيها الصبي العزيز، هذا خطؤك، كما تعلم. إذا كنت فقط تتذكر التواريخ وتضعها في اعتبارك، لم يكن ذلك ليحدث.»

قال إلتون: «لكن فكِّر فيما أُسدِّده لك. لقد اقترضتُ منك في الأصل خمسين جنيهًا، وأنا الآن أُسدِّد لك ثمانين جنيهًا سنويًّا بالإضافة إلى قسط بوليصة التأمين. هذا يقترب من مائة جنيه في العام؛ أي حوالي نصف ما أتمكَّن من كسبه وأنا أعمل في عبودية مثل رجل زنجي. إذا ضغطتَ عليَّ أكثر من ذلك، فلن تترك لي ما يكفي كي أظلَّ على قيد الحياة؛ مما يعني حقًّا أنني لن أستطيع السداد لك مطلقًا.»

ساد الصمت لبرهة؛ ثم قال جوردون بجفاف: «أنت تتحدث عن عدم السداد، أيها الصبي العزيز، كما لو كنت قد نسيت إيصال الأمانة.»

جزَّ إلتون على أسنانه، بينما يتصاعد غضبُه بسرعة، لكنه تمالك نفسه.

ثم أجاب: «بالطبع لم أنسَه؛ فذاكرتي ليست ضعيفة لهذه الدرجة، كما أنك قد أرسلت لي كمًّا كبيرًا من إنذارات السداد.»

قال الآخر: «لقد كان من الضروري أن أفعل يا توم؛ فأنا لم أُقابل مطلقًا رجلًا مهمِلًا في الوفاء بالتزاماته مثلك.»

وهنا فقد إلتون أعصابه تمامًا فصاح:

«هذه كذبة ملعونة! وأنت تعرف ذلك، أيها الطُّفيلي مصَّاصَ الدماء، يا لك من ملعون قذر.»

توقف جوردون في مكانه مذهولًا ثم قال:

«اسمع يا صديقي، أنت مخطئ في تصورك هذا. ولو كنتُ وقحًا مثلك، لأوسعتُك ضربًا وإهانة.»

صاح إلتون: «يا لك من واهم؛ أنت تضربني أنا!» بينما راح يفرك أصابعه من فرط الغضب، ليس للمرة الأولى، وقد أوشك أن يُقدِم على ارتكاب فَعلة تشفي غليله من كل ما عاناه على يد هذا المرابي الجشع. فاسترسل صائحًا: «لا شيء يمنعك الآن، كما تعلم، لكنك أكثرُ جُبنًا من أن تتعارك معي؛ إذ إن عبادة المال تسري في دمك.»

قال جوردون: «لو استمرَّت وقاحتك؛ فسترى.»

رد إلتون ببرود: «حسنًا، يُسعدني أن أُخبرك أنك لست سوى دودة مصَّاصة للدماء في هيئة بشرية. ما رأيك في ذلك؟»

فألقى جوردون معطفه والمظلة فوق العشب على جانب الطريق، وصفع إلتون عمدًا على وجهه.

جاء الرد على الفور على هيئة لكمة هائلة باليد اليسرى على الأنف العبرية الطويلة المقوسة. وهكذا بدأ العراك واستمر مع كل الغضب والكراهية المتراكمة من جهة والألم الجسدي الحاد من جهة أخرى. كان إلتون بارعًا في تحركاته، وعلى الرغم من ذلك، كان عليه أن يُفسح المجال لِخَصمه الأكثر وزنًا وتغذية وهياجًا. وبغض النظر عن العقوبة التي نالها، اندفع اليهودي الغاضب نحوه وانقضَّ عليه بكل ثقله وراح يدفعه إلى الوراء على العشب الأخضر.

فجأة، صاح إلتون محذرًا، لأنه يعرف حدود المكان جيدًا ورآها من قبل في وضح النهار.

«احترس يا جوردون! تراجع أيها الأحمق!»

لكن جوردون الذي أعماه الغضب، اعتبر ذلك محاولةً من إلتون للإفلات منه، فواصل دفعه أكثر. لكن إلتون توقف عن العراك على الفور في رعب مميت. وصرخ محذِّرًا مرة أخرى، وبينما كان جوردون لا يزال يدفعه، ويُهاجمه بشراسة، فعل إلتون الشيء الوحيد الذي كان ممكنًا، ألقى بنفسه على الأرض. وعندئذٍ، في غمضة عين حدثت الكارثة. إذ اندفع جسد جوردون إلى الأمام بقوة القصور الذاتي، وتعثر في جسد إلتون المنبطح، وترنح إلى الأمام بضع خطوات، ثم سقط. سمع إلتون أنينًا مكتومًا تلاشى بسرعة واختلط بصوت سقوط التراب والحجارة. فقفز واقفا على قدَمَيه، ونظر حوله فلم يجد أثرًا لجوردون.

ومِن ثَم وقف مذهولًا لبضع لحظات من هول المفاجأة بسبب الشيء الفظيع الذي حدث. ثم زحف برهبة نحو الحافة غير المرئية للجرف، وأرهف السمع.

لم يكن هناك أي صوت باستثناء صوت تكسر الأمواج على الصخور وصراخ طائر بحر غير مرئي. ولم يكن من المجدي أن يُحاول النظر لأسفل الجرف. فعلى الرغم من قربه منها؛ لم يكن قادرًا حتى الآن على تمييز حافة الجرف من الشاطئ المظلم بالأسفل. وفجأة تذكر وجود منحدر ضيق يهبط من الجرف إلى الشاطئ. فعبر نطاق العشب الأخضر مسرعًا، والتقط معطف جوردون ومظلته، ثم اتجه نحو المنحدر الوعر وهبط مسرعًا. وفي الأسفل، استدار إلى اليمين، ثم هرول فوق الرمال الناعمة، وتفحص الشاطئ المظلم عند سفح الجرف.

سرعان ما اتضحت له في مقابل السماء المظلمة هيئة التبة الصغيرة التي كان هو وجوردون يقفان عليها؛ وفي نفس اللحظة تقريبًا، اتضحت له من ظلام الشاطئ بقعة أكثرُ ظلمة وسط كوكبة من البقع الصغيرة البيضاء. وبينما كان يقترب تجسدت أمامه البقعة المظلمة؛ على هيئة جثة مخيفة مع أطراف ممدودة ورأس مشوَّه بشكل غريب. فتقدم إلى الأمام مرتعدًا ونطق اسم الرجل. ثم أمسك بيده المترهلة ووضع أصابعه على معصمه، لكن ذلك ما لبث أن أكد وفاة الرجل مثلما فعل ذلك الرأس المشوَّه. كان الجسد مستلقيًا على وجهه، ولم يكن لديه الشجاعة كي يقلبه على ظهره؛ ولم يعد لديه أدنى شك أن عدوه قد مات. فوقف وسط ركام الحجر الجيري المتساقط وهو ينظر إلى هذه الجثة الهامدة، متسائلًا في حيرة عما يجب أن يفعله. هل يذهب ويطلب المساعدة؟ جاء الجواب على ذلك في هيئة سؤال آخر. كيف وقعت هذه الجثة على الشاطئ؟ وما الجواب الذي يجب أن يُقدمه على الأسئلة المحتومة؟ وسرعان ما نشأ في عقله، بسبب الرعب مما حدث، رعبٌ أكبر مما قد يحدث نتيجةً لذلك.

وبعد مرور دقيقة واحدة، انسل الرجل المصاب بالذعر مسرعًا، صاعدًا إلى أعلى المنحدر الضيق وانطلق نحو مارجيت، وكان يتوقف من حين لآخر كي يسترق السمع خشية أن يراه أحد، وانسل مبتعدًا عن الطريق متسترًا بالظلام، ليدخل المدينة عبر الطريق الداخلي.

بالكاد زار النومُ عينَي إلتون في تلك الليلة داخل غرفته في منزل الحجر الصوَّان العتيق. إذ راحت ملابس الرجل الميت، التي استقبلته عند وصوله، والملقاة على حامل المناشف حيث تركها، تُطارده طوال الليل. وفي الظلام، هاجمته الرائحة النفَّاذة للقماش المبلل مذكرة إياه بوجودها، وبعد كل غفوة قصيرة، ينتبه مفزوعًا ويُضيء شمعته على عجَل؛ فقط لإلقاء ضوئها الخافت المهتز على تلك الملابس المبتلة الغارقة. وراحت أفكاره، التي لا يملك السيطرة عليها، كدأب أفكار الليل، تنتقل بشكل عشوائي من الماضي غير السعيد إلى الحاضر غير المستقر، ومِن ثَم إلى المستقبل الذي لا يُمكن التنبؤ به. وبمجرد أن أضاء الشمعة كي ينظر هذه المرة في ساعته ليرى ما إذا كان موعد المد قد حان أم لا، وهو يأمُل في أن يسحب المدُّ جثة المرابي من الشاطئ كي يبتلعها البحر؛ لم يتمكن من أن يستريح مرة أخرى حتى أتى وقت ارتفاع المياه ومرت عليه فترة. ووسط خضمِّ أفكاره برز سؤال وظل يتكرر مثل لازمة مفزعة، وهو ماذا سيحدث عندما يُعثَر على الجثة؟ هل يُمكن اكتشاف صلته بصاحبها، وإذا حدث ذلك، فهل سيُتَّهَم بالقتل؟ وفي نهاية المطاف غلبه النعاس ونام حتى قرعت مالكةُ المنزل باب السلم لتُعلن أنها أحضرت إفطاره.

وبمجرد أن ارتدى ملابسه خرج مسرعًا. لكنه لم ينسَ أن يُخفي ملابس جوردون، التي لا تزال رطبة، ومعطفه الثقيل وحذاءه وقبعته الأنيقة داخل صندوقه، ووضع المظلة في أكثر ركن مظلم من الخِزانة. ولم يكن هذا تخوفًا من أن أي شخص قد يصعد إلى الغرفة، ولكنه بسبب أنَّ حِرص المجرم على السرِّية المزعجة قد تمكَّن منه. ثم ذهب مباشرة إلى الشاطئ، لم يكن يدري لماذا قادته قدماه إلى هناك، لكن دافعًا لا يُقاوَم حثه على الذَّهاب ليرى ما إذا كانت الجثة لا تزال هناك أم لا. فنزل نحو مرسى المراكب الصغيرة واتجه شرقًا فوق الرمال الناعمة، وبحث عن الجثة مع توقع مخيف بوجود حشد صغير حولها أو رسول متعجل ذاهب للإبلاغ عن العثور عليها. تفحصت عيناه المكان من سفح المنحدرات، فوق الصخور حتى خط الأمواج المتكسرة البعيد، وهو يُهرول باتجاه الشرق، مقتربًا من المكان الذي يخشى أن ينظر إليه. ومثلما ترك المدينة خلفه، ترك وراءه شخصًا أو اثنَين من المتسكعين على الشاطئ، وعندما استدار حول فورنس بوينت، لم يعد يرى أحدًا منهم وتقدم بمفرده. وبعد مرور أقلَّ من نصف الساعة، انحسرت المياه عن لسان الشاطئ المميت وراء بياض الأمواج.

لم يجد أحدًا على طول ذلك الشاطئ المنعزل، وعلى الرغم من أنه، مرةً أو مرتَين، هُرِع نحو كتلة من الأخشاب الطافية أو كومة من الأعشاب البحرية، فإن الجثة التي كان يبحث عنها لم تظهر بعد. فاجتاز مدخل المنحدر واقترب من لسان الشاطئ، وقد تلاحقَت أنفاسه وهو ينظر حوله بخوف. كان بإمكانه بالفعل رؤية الكتل الكبيرة من الحجر الجيري التي سقطت، وعندما نظر إلى الأعلى، رأى الجزء الذي تكسرت منه تلك الكتلُ في قمة الجرف. ولكن لم يكن هناك أيُّ أثر للجثة. فاستمر في السير ببطء أكثرَ الآن، وهو يُفكر فيما إذا كانت قد انجرفت إلى البحر، أو أنه قد يجدها في الخليج التالي. وعندئذٍ، وبعد أن تجوَّل حول لسان الشاطئ، رأى فتحة سوداء عند سفح الجرف، والتي لم تكن سِوى مدخلِ كهف عميق. فاقترب ببُطء أكثر، وهو يتفحَّص الخليج الصغير، وينظر بقلق إلى الكهف الذي أمامه. وقد افترض أن الجثَّة من الممكن أن تكون قد انجرفت إلى هناك. كان ذلك محتملًا جدًّا. لقد انجرفت بالفعل أشياء كثيرة إلى هذا الكهف، لأنه زاره ذات مرة وكان مندهشًا من كمية الأعشاب البحرية وطرح البحر التي تراكمت بداخله. لكنها كانت فكرة غير مريحة. إذ سيُصبح الأمر مروعًا بشكل مضاعف أن يرى منظر الجثة الفظيع في الإضاءة الخافتة للكهف. ومع ذلك، بدا أن الممر المظلم يجتذبه، خطوة بخطوة، حتى وقف عند المدخل ونظر إلى الداخل. كان مكانًا غريبًا، باردًا ورطبًا، والسقف والجدران المتعرجة ملطخة بالأخضر والأرجواني والأسود مع نبات الأشنة الذي يُغطيه. ذات مرة، حكى أحدهم لإلتون، أن المهربين كانوا يختبئون في هذا الكهف، الذي يتصل بممرٍّ تحت الأرض؛ وأن موقع المراقبة القديمَ للمهرب ما زال قائمًا. وهو نفق ضيق، موجود أعلى الجرف، يُطِل على خليج كينجزجيت؛ وحتى بعض آثار درجات الصعود غير الممهَّدة التي تُؤدي إلى موقع المراقبة لا يزال من الممكن تتبعها، ولم يكن من الصعب تسلُّقها. وفي الواقع، لقد صعد إلتون، في زيارته الأخيرة للكهف، إلى ذلك الموقع ونظر من خلال فتحة التجسُّس. وهو يتذكر ذلك الآن، بينما يقف محدقًا بعصبية في الظلام، ويُجهد عينَيه ليرى ما طرحه المحيط منذ ذلك الحين.

في البداية لم يكن يرى سوى الرمال الناعمة قرب المدخل. وبعد ذلك، عندما أصبحت عيناه أكثرَ اعتيادًا على الظلمة، تمكن من تمييز كومة كبيرة من الأعشاب البحرية على أرضية الكهف. فتسلل إلى الداخل، وعيناه مثبتتان على الكتلة العشبية، وعندما ترك ضوء النهار خلفه، أصبحت ظُلمة الكهف أكثر وضوحًا. تركَت قدماه الرمل الصلب وداست على الكتلة الرطبة من الأعشاب، وفي صمت الكهف صار بإمكانه الآن أن يسمع بوضوح طقطقة تُشبه المطر لبراغيث الرمل القافزة. فتوقف للحظة للاستماع إلى الصوت غير المألوف، بينما أخذت ظلمة الكهف تقل رويدًا رويدًا مع اعتياد عينَيه عليها.

وعندئذٍ، على الفور، رأى الجثة. فمن بين كومة من الحشائش على بُعد خطوات قليلة، رأى حذاءً؛ حذاءه هو على وجه التحديد، لقد ميزه بسبب الرقعة على النعل؛ وعند رؤيته للمنظر بدا قلبه وكأنه قد توقف. على الرغم من أنه توقع نوعًا ما أن يجدها هنا، إلا أن وجودها بدا كأنه قد أصابه بصدمة رعب من هول الموقف.

كان يقف ساكنًا، وهو يحدق مشدوهًا في الحذاء وكومة الأعشاب المنتفخة، عندما طرق مسامعَه صوتُ امرأة تُغني.

ومِن ثَم قفز مفزوعًا. وكان دافعه الأول هو الهرب من الكهف. لكن مع التفكير لبرهة وجد أنه تصرف مجنون. وعندئذٍ تزايد اقتراب الصوت، وتصاعدت ضحكة طفل بصوت عالٍ هادر. فنظر إلتون في رعب إلى المدخل المضيء للكهف، وتوقع في أي لحظة أن يرى أمامه مجموعة من الناس. وإذا حدث ذلك، فسينتهي أمره، لأنه سيُصبح قد شُوهد بالفعل بجوار الجثة. وفجأة تذكر فتحة التجسس وموقع المراقبة، وكلاهما كان غيرَ مرئي عبر المدخل؛ فاستدار وركض مسرعًا فوق الحشائش المبتلة حتى وصل إلى بقايا الدرجات. وتسلقها على عجل حتى وصل إلى الموقع الموجود داخل تجويف ضخم، في اللحظة نفسها التي أنبأه فيها دوي الأصوات أن الغرباء قد دخلوا الكهف. أصاخ السمع ليلتقط ما يقولونه ويعرف ما إذا كانوا سيدخلون إلى مسافة أبعد. فميَّز صوت طفل هو ذلك الذي سمعه لأول مرة، وكان الصدى المجوف لطبقة صوته الرفيع غريبًا للغاية بينما يتردد رَجْعُ الصدى من الجدران المتعرجة. لكنه لم يستطع سماع ما قاله الطفل. في حين كان صوت المرأة مميزًا تمامًا، وبدت الكلمات واضحة للغاية.

حيث كانت تقول: «لا يا عزيزي، من الأفضل ألا تدخل. إنه بارد ومبتل. اخرج إلى ضوء الشمس.»

تنفَّس إلتون الصُّعَداء. لكن المرأة كانت على حق أكثر مما تتخيل. لقد كان باردًا ومبتلًّا، ذلك الجسد تحت الأعشاب المتشابكة السوداء. لذا من الأفضل الخروج إلى ضوء الشمس. هو نفسه كان بالفعل يتوق إلى الهروب من برد وكآبة ذلك الكهف. لكنه لم يتمكَّن من الهرب بعد. فعلى الرغم من أنه بريء في الواقع، فإنه كان في موضع يُشير إلى أنه هو القاتل. لذا يجب أن ينتظر حتى يُصبح الشاطئ خاليًا، ثم يتسلل، للإسراع بعيدًا دون أن يُلاحظه أحد.

ومِن ثَم تسلل بحذر إلى النفق القصير وأطل من خلال الفتحة عبر الخليج. وعندئذٍ كاد قلبه أن يتوقف. إذ رأى تحت الفتحة مباشرة، على الشاطئ المشمِس، مجموعة صغيرة من الزوار وقد جلسوا على بُعد خطوات من مدخل الكهف؛ وبينما هو يُتابع المشهد، اقترب رجل من السلم الخشبي أسفل الجرف حاملًا كرسيَّين للاستلقاء. لذا، في الوقت الحاضر، لم يكن من الممكن أن يهرب على الإطلاق.

ومِن ثَم عاد إلى موقع المراقبة وجلس في انتظار فرصة للهرب؛ وبينما هو جالس، أخذ يُفكر مرة أخرى في الجثة الراقدة تحت الأعشاب. ترى كم من الوقت ستبقى هناك غيرَ مكتشَفة؟ وماذا سيحدث عندما يتم العثور عليها؟ ما الذي يُمكن أن يُشير إلى صلته بها؟ بالطبع، كان هناك اسمه على الملابس، لكن لم يكن هناك جريمة في ذلك، إذا كان فقط قد واتته الشجاعة للإبلاغ عن الواقعة في الحال. لكن الوقت قد فات الآن للتفكير في هذا. علاوة على ذلك، ومَضت فكرة في ذهنه فجأة، كان هناك إيصالٌ في محفظة القتيل، مذكور فيه اسمه وأنه مدين له. من الواضح أن وجود هذا الإيصال، بجانب تقاعسه عن الإبلاغ عما حدث، يُمثلان دليلًا قاطعًا ضده. ولكن ما إن أدرك الأهمية المروعة لهذه الوثيقة حتى أدرك أيضًا أنها لا تزال في متناول يده. فلماذا يتركها في محفظة القتيل لتُمثل دليلَ اتهام ضده؛ دليلًا كاذبًا بالطبع؟

نهض ببطء وتسلل عبر النفق، وراح يُراقب مرة أخرى. فوجد الناس يجلسون بهدوء على كراسيهم، حيث يقرأ الرجل في كتاب بينما يحفر الطفل في الرمال. ونظر إلتون عبر الخليج ليتأكد من عدم اقتراب أي شخص آخر، وبعد ذلك، نزل الدرجات على عجل، ومشى عبر طبقة الأعشاب الكبيرة، يقود أمامه جيشًا من براغيث الرمل. وارتجف عند التفكير فيما هو مقدم على فعله، وبدا أن برودة الكهف قد اعترته منتجة عرقًا باردًا.

ثم وصل إلى الكومة الصغيرة التي خرج منها الحذاء، وبدأ، مرتجفًا وبيد مترنحة، في رفع الحشائش اللزجة المتشابكة. وبينما كان يُنحِّي جانبًا المجموعةَ الأولى، أطلق شهقة مذعورة، ثم تمالك نفسه بسرعة. كانت الجثة راقدة على ظهرها، وبينما استمر يرفع الحشائش كشف عن … ليس الوجه، لأن الجثة كانت بلا وجه. ربما كانت قد اصطدمت إما بالجرف أو بحجر على الشاطئ — ولكن لا داعي للخوض في التفاصيل — لقد وجدها بلا وجه. وعندما استرد رِباطة جأشه قليلًا، تلمس إلتون مرتجفًا بين الحشائش حتى وجد جيب الصدر الذي سحب منه المحفظة بسرعة، التي أصبحت الآن لزجة ومبتلة ومثيرة للاشمئزاز. وبينما ينهض ممسكًا بها في يده ظهر خيال شخص أمام مدخل الكهف، فتوقف عن الحركة كما لو أنه قد تحول فجأة إلى حجر. كان ثمة رجل، على ما يبدو صياد أو بحَّار، يمر على بُعد نحوِ ثلاثين ياردة من مدخل الكهف، وفي أعقابه يُهرول كلبٌ هجين. فتوقف الكلب، ورفع أنفه حيث بدا وكأنه يتشمم الهواء. ثم بدأ يمشي ببطء وريبة نحو الكهف. استمر الرجل في سيره وسرعان ما اختفى من أمام المدخل؛ لكن الكلب ما زال يقترب من الكهف، ويتوقف بين الحين والآخر بأنف مرفوع.

بدت الكارثة حتمية. لكن في تلك اللحظة، ارتفع صوت الرجل عاليًا وغاضبًا، وهو يُنادي على الكلب. فتردد الحيوان وهو ينقل بصره بحزن من سيده إلى الكهف. ولكن عندما تكرر الاستدعاء، استدار على مضض وهرول مبتعدًا.

أكمل إلتون النهوض وأخذ نفَسًا عميقًا. وبينما ينهمر العرق البارد على وجهه، ويرتعش قلبه وترتجف ركبتاه، استطاع بصعوبة أن يعود إلى موقع المراقبة. يا له من خطر بشع نجا منه بأعجوبة! لأنه لو كان قد أكمل وقفته أمام الجثة، ولو كان الرجل قد دخل الكهف، لكان قد قبض عليه متلبِّسًا بسرقة وثيقة إدانته من الجثة. وفي هذا الصدد، أصبح أفضل حالًا قليلًا الآن، مع وجود محفظة الرجل الميت معه، فقرر على الفور إخراج الإيصال وإتلافه وإعادة المحفظة لمكانها. ولكن التفكير في الأمر كان أسهل من تنفيذه. كان الإيصال قد ابتل تمامًا بماء البحر، لذا لم يتمكن من إشعال النار فيه. وفي نهاية المطاف، مزقه إلى قطع صغيرة وابتلعها عمدًا واحدة تلو الأخرى.

لكن إعادة المحفظة كانت أمرًا لا يقدر عليه الآن. وقرر أن ينتظر حتى ينصرف الناس لتناول الغداء، ثم يدفعها تحت الحشائش وهو يفر مبتعدًا. لذا جلس مرة أخرى وغرق في بحر أفكاره التي لا تنتهي.

لقد تخلص من الإيصال الآن؛ وبهذا ينتفي الدافع لارتكابه الجريمة. ولم يتبقَّ سوى الملابس التي تحمل علامات واضحة للغاية. إنها ستُشير بالتأكيد إلى علاقته بصاحب الجثة، لكنها لن تُقدم أي دليل على وجوده وقت وقوع الكارثة. ثم فجأة خطرت له فكرة أخرى مذهلة. من الذي سيستطيع التعرف على الجثة؛ الجثة التي ليس لها وجه؟ يُمكن ذلك عبر المحفظة، هذا صحيح، لكن بإمكانه أن يأخذها معه، وهناك خاتَم في الإصبع وبعض الأشياء في الجيوب يُمكن التعرف عليها. لكن — بدا كأن صوتًا يهمس له — هذه الأشياء متحركة أيضًا. وإذا أخذها فماذا بعد؟ إذن فسيُصبح الجسد هو جسدَ توماس إلتون، فنان بائس فقير، لا صديق له، لن يبذل أحدٌ مشقة طرح أي أسئلة عنه.

لقد فكر بعمق في هذا الوضع الجديد. فهو أمام اختيارَين؛ إما الخطر الوشيك بالتعرض للشنق من أجل جريمة قتل لم يرتكبها، أو التنازل عن هُويته إلى الأبد والانتقال إلى بيئة جديدة.

ابتسم ابتسامة باهتة. هويته! وهل هي ذات قيمة ليُقايضها بحياته؟ أمس فقط كان سيُسعده أن يتنازل عنها باعتبارها الثمنَ المجرد للتحرر من مصاص الدماء الذي استحوذ عليه.

ومِن ثَم؛ أدخل المحفظة في جيبه وزرر معطفه. لقد مات توماس إلتون. وهذا الرجل الآخر، الذي ليس له اسم حتى الآن، يجب أن يخرج، كما قالت المرأة، إلى ضوء الشمس.

الجزء الثاني (رواه الطبيب كريستوفر جيرفيز)

لقد زاد مؤخرًا بشكل كبير، لأسباب متعددة، كمُّ نزاعات التأمين التي تولَّى ثورندايك التحقيقَ فيها. حيث زاد عدد شركات التأمين التي تستعين به في مثل تلك النزاعات بانتظام، ومنذ قضية بيرسيفال بلاند المتميزة، أصبحت ممارسةً روتينية لدى شركة جريفين أن تُرسل جميع النزاعات التي تحتاج إلى التقصِّي والتحقيق إليه كي يُحقق فيها ويُقدم عنها تقريره.

[ملحوظة المؤلف: ستَرِد قضية بيرسيفال بلاند بعد هذه القضية في الكتاب: من الواضح أن ترتيب القصص قد تغير.]

وبخصوص واحدة من تلك القضايا، زاره السيد ستوكر، أحد كبار موظَّفي تلك الشركة، في عصر أحد أيام شهر ديسمبر؛ وعندما وضع حقيبتَه على المنضدة واستقرَّ براحة أمام المدفأة، تحدث في صُلب القضية بدون مقدمات.

إذ قال: «لقد أحضرت لك قضية تحقيق أخرى؛ إنها قضية غريبة إلى حدٍّ ما، وستجدها مثيرة جدًّا لاهتمامك. ومن جهتنا نحن، فهي لم تُثِر أي اهتمام خاصٍّ بالنسبة إلينا، باستثناء أنه يبدو كما لو كان الطبيب التابع لنا غيرَ دقيق إلى حدٍّ ما.»

فسأله ثورندايك: «وما هو الشيء الذي سيُثير اهتمامي أنا في هذه القضية؟»

قال ستوكر: «سأُقدم لك تصورًا عامًّا عنها، وأعتقد أنك ستتَّفق معي على أنها قضية من النوع الذي تُحب أن تتولَّى التحقيق فيه.»

«في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، اكتشف بعض الرجال الذين يجمعون الأعشاب البحرية لاستخدامها كسماد، جثَّة ترقد تحت كتلة متراكِمة من الأعشاب في أحد كهوف كينجزجيت، في جزيرة ثانيت. ونظرًا لأن المد كان يرتفع وقد خَشُوا أن يسحب الجثة إلى البحر، وضعوا الجثة في عربتهم ونقلوها إلى مارجيت، حيث أُجري بالطبع تحقيق، وقد تُوصِّل للحقيقة التالية: أن الجثة هي لرجل يُدعى توماس إلتون. تم التعرف على هُويته من خلال علامات الاسم على الملابس وبطاقات الزيارة وخطابَين عُثِر عليهما في الجيوب. ومن العنوان الموجود في الخطابين، تبيَّن أن إلتون كان يُقيم في مارجيت، وعند الاستفسار في هذا العنوان، أكدت السيدة العجوز مالكة المنزل، أنه مفقودٌ منذ أربعة أيام. وقد اصطُحِبت السيدة إلى المشرحة، حيث تعرفَت في الحال على الجثة وأكدت أنها جثةُ إلتون. ومِن ثَم تبقَّى فقط تحديد كيفية دخول الجثة إلى الكهف؛ ولا يبدو أن هذا يُمثل صعوبة كبيرة؛ لأن العنق قد كُسِر بضربة قوية دمرَت الوجه عمليًّا، وكانت هناك أدلة واضحة على كسر جزء من قمة الجرف، على بُعد أمتار قليلة فقط من موقع الكهف. لذا يبدو أنه لم يكن هناك شكٌّ في أن إلتون قد سقط من أعلى الجرف البارز على الشاطئ. والآن، يُمكن للمرء أن يفترض في وجود تلك الأدلة على هذا السقوط من حوالي مائة وخمسين قدمًا، والوجه المحطَّم والرقبة المكسورة، أنه ليس هناك مجالٌ للشك بشأن سبب الوفاة. وأعتقد أنك تتفق معي يا دكتور جيرفيز؟»

أجبتُه: «بالتأكيد، يجب الإقرار بأن كسر العنق هو حالة تسبب الوفاة.»

قال ستوكر متفقًا في الرأي: «هذا صحيح تمامًا، لكن صديقنا، المحقِّق الجنائي المحلي، رجل لا يأخذ أي شيء على أنه أمر مسلَّم به، وهو يُشبه توماس ديديموس للغاية، الذي يبدو أنه يتفق مع الدكتور ثورندايك على أنه إذا لم يكن هناك تشريحٌ بعد الوفاة، فلا يوجد تحقيق. لذلك أمر بإجراء تشريح لاحق، وقد بدا لي إجراءً سخيفًا غير ضروري، وأعتقد أنه حتى أنت ستُوافقني الرأي يا دكتور ثورندايك.»

لكن ثورندايك هز رأسه وهو يقول:

«لا على الإطلاق، على سبيل المثال، قد يكون من الأسهل بكثير دفعُ رجل مخدر أو مسموم من فوق جرف بدلًا من دفع نفس الرجل وهو في حالته الطبيعية. إن مظهر الحادث العنيف هو قناع ممتاز لأشكال القتل الأقلِّ وضوحًا.»

قال ستوكر: «هذا صحيح تمامًا، وأفترض أن هذا هو ما اعتقده المحقِّق الجنائي. على أي حال، حدث تشريح الجثة، وكانت النتيجة غريبة للغاية؛ لأنه وجد أن المتوفَّى كان مصابًا بمرض تمدد الأوعية الدموية الصدرية الدقيقة، التي انفجرت. والآن، بما أنه من الواضح أن الأوعية الدموية المتمددة قد انفجرت وهو على قيد الحياة، فإن هذا يجعل سبب الوفاة — حسبما فهمت — غير مؤكَّد؛ على أي حال، لم يتمكَّن الطبيب الشرعي من تحديد ما إذا كان المتوفَّى قد سقط من فوق الجرف نتيجةَ انفجار الأوعية الدموية المتمددة أم أن انفجارها قد حدث نتيجة السقوط من فوق الجرف. وبالطبع، نحن لا يُهمنا الطريقة التي حدث بها الانفجار؛ لكن السؤال الوحيد الذي يُهمنا هو، كيف يُمكن أن يُصاب رجل مؤمَّن عليه منذ فترة وجيزة بتمدد الأوعية الدموية من الأساس.»

فسأله ثورندايك: «هل دفعتم مبلغ بوليصة التأمين بموجب المطالبة؟»

«لا، بالتأكيد لا. نحن لا ندفع قيمة أي مطالبة حتى نحصل على تقرير منك. ولكن، في واقع الأمر، هناك ظرف آخرُ يُسبب التأخير. إذ يبدو أن إلتون قد رهن بوليصة التأمين الخاصة به لمرابي أموال، اسمه جوردون، وهو الذي قدم المطالبة، أو على وجه الدقة، قدَّمها كاتبٌ لديه، اسمه هايامز. وفي واقع الأمر، إن لدينا الكثيرَ من التعاملات مع هذا الرجل جوردون، وفي المرات السابقة كان يتعامل معنا دائمًا بنفسه؛ ولأنه رجل مخادع إلى حدٍّ ما، اعتقدنا أنه يجب عليه توقيعُ المطالبة بنفسه. وهذه هي المشكلة؛ لأنه يبدو أن السيد جوردون قد سافر إلى الخارج، ومكان وجوده غير معروف لهايامز؛ لذلك لم نقبل أن نأخذ إيصال استلام من هايامز، وعليه ستظل المسألة معلقة حتى يتمكَّن هايامز من التواصل مع مديره. والآن، يجب أن أُسارع بالانصراف. لقد أحضرت لك، كما سترى، جميع الأوراق، وفي ذلك وثيقة التأمين وسند الرهن.»

بمجرد رحيله، جمع ثورندايك حزمة الأوراق وصنَّفها وفقًا لأهميتها. وفي البداية ألقى نظرة سريعة على نموذج التقديم، ثم نسخة من إفادات المحقق الجنائي.

ثم قال: «إن الأدلة الطبية كاملة ومستوفاة للغاية. ويبدو أن المحقق الجنائي والطبيب الشرعي على حد سواء قد قاما بعملهما على أكمل وجه.»

فقلت: «بالنظر إلى أن الرجل سقط كما يبدو من فوق جرف، فليس للأدلة الطبِّية أهميةٌ أولى. لكن الأمر الأكثر أهمية هو معرفة كيفية سقوطه.»

أجاب ثورندايك: «هذا صحيح تمامًا، ومع ذلك، يحتوي هذا التقرير على بعض الأمور المثيرة للفضول. إذ كان المتوفَّى يُعاني من تمدد الأوعية الدموية في قوس الشريان الأورطى؛ ربما كان هذا حديثًا إلى حد ما. لكنه كان يُعاني أيضًا من أعراض طفيفة لمرض خلقي في الشريان الأورطى، مع تضخُّم تعويضي كامل. ولديه أيضًا طقم كامل من الأسنان الاصطناعية. والآن، ألا تجد يا جيرفيز أنه أمر غريب إلى حد ما أن الرجل الذي فحصَت شركة التأمين حالته الصحية قبل خمس سنوات وأمَّنَت عليه بعد أن وجدته لا يُعاني من أي أمراض، بل وضعته في فئة الدرجة الأولى، يُصبح، في تلك الفترة القصيرة، في فئة من ترفض الشركة التأمين عليهم نظرًا لتردِّي حالتهم الصحية؟»

قلت: «نعم، يبدو بالتأكيد كما لو أن الرجل كان سيئ الحظ للغاية. ولكن ماذا يقول نموذج التقديم؟»

ثم أمسكت النموذج وألقيتُ نظرة سريعة عليه. بِناءً على نصيحة ثورندايك، حدثت توصية للأطباء الذين سيُجرون الفحوصات لحساب شركة جريفين بأن يُقدموا تقريرًا شاملًا ووافيًا أكثر مما هو معتاد في بعض الشركات. وفيما يخص هذه الحالة، تُوضح الإجابات العادية على الأسئلة أن القلب يتمتع بصحة جيدة وأن الأسنان جيدة بشكل استثنائي، وبعد ذلك، في الملخَّص في نهاية التقرير، كتب الطبيب الملحوظة التالية: «إن مقدم الطلب رجل سليم ويتمتع بصحة جيدة للغاية؛ وليس لديه أي عيوب جسدية على الإطلاق، باستثناء تصلُّب عظمي في المفصل الأول من الإصبع الثالث من اليد اليسرى، الذي ذكر أنه كان بسبب إصابة قديمة.»

نظر ثورندايك نحوي بسرعة وهو يسأل: «أي إصبع قلت؟»

فأجبته: «الإصبع الثالث من اليد اليسرى.»

نظر ثورندايك بعناية إلى الورقة التي كان يقرؤها ثم قال: «إنه أمر غريب جدًّا، لأنني أرى أن طبيب مارجيت يقول إن المتوفَّى كان يضع خاتمًا يستخدمه كختم في الإصبع الثالث من يده اليسرى. والآن، بالطبع، لا يُمكنك وضع خاتم في إصبع مصاب بتصلب عظمي في المفصل.»

فقلت: «لا بد أنه قد أخطأ في الإصبع، أو أن طبيب فحص التأمين أخطأ.»

أجاب ثورندايك: «هذا ممكن تمامًا، لكن ألا يبدو الأمر غريبًا جدًّا؛ ففي حين أن طبيب التأمين يذكر التصلب العظمي، الذي لم يكن مهمًّا من وجهة نظر التأمين، فإن الطبيب الشرعي الحريص للغاية الذي قام بإجراء التشريح لم يذكره، على الرغم من أنه، نظرًا لحالة الوجه الذي لا يُمكن التعرف عليه، كان له أهمية حيوية من أجل تحديد الهُوية؟»

اعترفت بأنه أمر غريب جدًّا بالفعل، ثم استأنفنا فحص أوراق القضية. لكنني لاحظت الآن أن ثورندايك قد وضع التقرير على ركبته، وكان يُحدق في نار المدفأة وهو غارق في تفكير عميق.

قلت: «أكاد أجزم أن صديقي العالم قد توصَّل لبعض الأمور المهمة في هذه القضية.»

رد عليَّ بأن سلمَني حُزمة الأوراق، وأوصاني بالاطلاع عليها.

فقلت له: «شكرًا لك، لكنني أعتقد أنك قد قطفت كل الخوخ.»

ابتسم ثورندايك بمتعة وهو يقول: «إنه ليس بخوخ يا جيرفيز، إنه فقط توت، لكنها كومة معتبرة من التوت.»

أعَرتُه كامل انتباهي (وكأنني طالب علم حديثُ السن) بينما استرسل هو قائلًا: «إذا أخذنا العناصر الصغيرة غيرَ المثيرة للاهتمام وأضفناها معًا، فسترى أن هناك قدرًا كبيرًا جدًّا من التناقضات، حيث إنه:

في عام ١٩٠٣، كان توماس إلتون، البالغ من العمر واحدًا وثلاثين عامًا وقتها، يمتلك مجموعة كاملة من الأسنان السليمة. وفي عام ١٩٠٨، عندما بلغ السادسة والثلاثين، فقدَ أكثر من نصف أسنانه. مرة أخرى، في سن الحادية والثلاثين، كان قلبه بصحة جيدة للغاية. وفي سن السادسة والثلاثين، أصبح يُعاني من مرض مزمن قديم بالشريان الأورطى، مع تضخُّم تعويضي كامل، وتمدد في الأوعية الدموية الذي قد يكون بسببه. وعندما فُحِص جسده وقت التأمين عليه كان لديه تشوُّه واضح في الإصبع غير قابل للشفاء؛ ولم يذكر الطبيب الشرعي مثل هذا التشوه عند تشريح الجثة.

يبدو أنه سقط من فوق جرف؛ وقد انفجرت أيضًا الأوعية الدموية المتمددة. والآن، من الواضح أن انفجار الأوعية الدموية قد حدث أثناء الحياة؛ لكن هذا يُؤدي عمليًّا إلى الموت الفوري. لذلك، إذا كان السقوط عرضيًّا، فإن الانفجار يجب أن يكون قد حدث أثناء وقوفه على حافة الجرف، أو أثناء السقوط، أو عند الارتطام بالشاطئ.

في المكان الذي سقط فيه على ما يبدو، يبعد ممر المشاة نحو ثلاثين ياردة عن حافة الجرف.

من غير المعروف كيف وصل إلى تلك البقعة، أو ما إذا كان بمفرده في ذلك الوقت.

شخص ما يُطالب بخَمسمائة جنيه كنتيجة مباشرة لوفاته.

هناك، كما ترى يا جيرفيز، سبع حيثيات، ليس أيٌّ منها مذهلًا في حد ذاته، ولكنها تُصبح موحية عندما تُفكر فيها مجتمعة.»

فقلت: «يبدو أن لديك شكًّا في هُوية الجثة.»

فأجاب: «نعم لديَّ، إذ إن الهوية لم تثبت بشكل واضح.»

«ألا تعتقد أن الملابس وبطاقات الزيارة قد حددتها.»

أجاب: «إنها ليست أجزاء من الجسد، وبالطبع، فإن الاستبدال أمرٌ بعيد الاحتمال. لكنه ليس مستحيلًا.»

قلت: «والمرأة العجوز …» لكنه قاطعني صائحًا:

«عزيزي جيرفيز، أنا مندهش مما تقول. كم مرةً حدث في حدود معرفتنا أن النساء تعرَّفن على أجساد الغرباء تمامًا على أنها أجساد أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن؟ يحدث الشيء كل عام تقريبًا. أما بالنسبة إلى هذه المرأة العجوز، فهي شاهدت جثة بوجه لا يُمكن التعرف عليه، مرتدية ملابس المستأجر المفقود. بالطبع، لقد تعرفت على الملابس وليس الجثة.»

وافقتُه الرأي قائلًا: «أعتقد ذلك. يبدو أنك تقترح إمكانية حدوث تلاعب.»

أجاب: «حسنًا، إذا فكرت في هذه النقاط السبع، فستتفق معي على أنها تُقدم تناقضًا تراكميًّا يستحيل تجاهله. وتنصبُّ الأهمية الكلية للقضية على مسألة الهوية؛ لأنه إذا لم تكن هذه جثة توماس إلتون، إذن يبدو أنها قد أُعِدَّت عن عمد لتزوير هُويتها، ومن شأن هذا الإعداد المتعمَّد أن يعنيَ بوضوح محاولة إخفاء هوية شخص آخر.»

ثم استرسل، بعد وقفة: «ومِن ثَم، هناك هذا السند. الذي يبدو عاديًّا تمامًا ومختومًا بشكل صحيح، لكن يبدو لي أن سطح الورقة قد تغير قليلًا في مكان أو مكانَين وإذا وضعنا الورقة أمام الضوء، تبدو الورقة أكثر شفافية في تلك الأماكن.» قام بفحص الوثيقة لبضع ثوانٍ باستخدام عدسة جيبه، ثم مرر لي العدسة والوثيقة وقال: «ألقِ نظرة عليها يا جيرفيز، وأخبرني برأيك.»

فحصتُ الورقة عن كَثب، وأخذتها أمام النافذة للحصول على ضوء أفضل؛ وبالنسبة إليَّ أيضًا، يبدو أن الورقة قد تغيرت في أماكن معينة.

فسألني ثورندايك عندما أعلنتُ تلك الحقيقة: «هل اتفقنا على مواضع الأماكن المعدَّلة؟»

أجبته: «هناك ثلاثة مواضع؛ اثنان عند الاسم، توماس إلتون، والثالث لأحد الأرقام الموجودة في رقم البوليصة.»

قال ثورندايك: «بالضبط، والمغزى واضح. إذا كانت الورقة قد عُدِّلت بالفعل، فهذا يعني أنه تم محو اسم آخر ووضع اسم إلتون بدلًا منه؛ وبهذا الترتيب، بالطبع، سيتم تأمين الختم المؤرخ بشكل صحيح. وهذا — تعديل وثيقة قديمة — هو الشكل الوحيد للتزوير الممكن بختم مؤرَّخ ومطبوع.»

سألته: «أليست ضربة حظ، أن يحصل المزور على وثيقة لا تحتاج إلا إلى هذَين التعديلَين؟»

أجاب ثورندايك: «لا أرى شيئًا مميزًا في الأمر، إن أيَّ مُرابي أموال يحمل بالقطع عددًا من الوثائق من هذا النوع، ولاحظ أنه لم يكن ملزمًا بأي تاريخ معين. وأي تاريخ في غضون عام أو نحو ذلك من إصدار البوليصة سيفي بالغرض. إن هذه الوثيقة هي، في الواقع، مؤرَّخة، كما ترى، بعد حوالي ستة أشهر من إصدار البوليصة.»

فقلت: «أفترض أنك ستَلفت انتباه ستوكر إلى هذا الأمر.»

أجاب ثورندايك: «يجب إبلاغه بالطبع، لكنني أعتقد أنه سيكون من المثير للاهتمام في المقام الأول أن نزور السيد هايامز. لعلك لاحظت أن هناك بعضَ الأمور الغامضة في هذه القضية، وسلوك السيد هايامز، خاصة إذا ثبت أن هذه الوثيقة حقًّا مزورة، يُشير إلى أنه قد يكون لديه بعض المعلومات الخاصة حول هذا الموضوع.» ثم ألقى نظرة خاطفة على ساعته، وبعد بضع لحظات من التفكير، أضاف: «إذن لِمَ لا نقوم في الحال بزيارة قصيرة غير رسمية للسيد هايامز. ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الحذر والحصافة، إذ إن لدينا قدرًا ضئيلًا للغاية من المعلومات والقرائن. هل ستأتي معي؟»

إذا كانت لديَّ أي شكوك، فإن ملاحظة ثورندايك الأخيرة قد خلصَتني منها؛ لأن المقابلة على ما يبدو ستُصبح مواجهة صعبة؛ إذ من المفترض أن السيد هايامز ليس غِرًّا ساذَجًا، وبالتأكيد لم تكن الأمور واضحة تمامًا أمام ثورندايك، الذي يحتقر تمامًا الخداعَ من أي نوع، والذي رفض عقلُه المنظم أن يتصرف أو يتحدث بما يتجاوز معلوماته. لذا فإن تلك المقابلة على ما يبدو ستكون ساخنة للغاية.

رُفِع الستار عن السيد هايامز، كما يقول الكتَّاب المسرحيون، في مكتب صغير يقع فوق أحد المباني الشاهقة في شارع الملكة فيكتوريا. وهو رجل ضئيل الحجم، شاحب المظهر ومتكلف، مع حاجبَين كثيفَين وأنف ضخم.

عندما دخلنا المكتب سأله ثورندايك بثقة: «هل أنت السيد جوردون؟»

بدا السيد هايامز وكأنه يُواجه شكًّا لحظيًّا حول هذا الموضوع، لكنه أجاب في النهاية بأنه ليس جوردون. ثم أضاف ببراعة: «لكن ربما يُمكنني تأدية ما تريده من المهام مثله تمامًا أيضًا.»

وافقه ثورندايك وقال مؤكدًا على نحو له معنًى: «أنا واثق من ذلك.» ومِن ثَم قادنا إلى غرفة معزولة داخلية، حيث لاحظت أن ثورندايك قد حدَّق للحظة في خِزانة حديدية كبيرة.

قال السيد هايامز، وهو يُغلق الباب متفاخرًا: «والآن، كيف يُمكنني أن أخدمك؟»

أجاب ثورندايك: «أُريدك أن تُجيب عن سؤال أو سؤالَين حول المطالبة التي قدمتَها لشركة جريفين بخصوص توماس إلتون.»

تغير سلوك السيد هايامز على نحو مفاجئ؛ إذ بدأ بسرعة في تقليب الأوراق، وفتحِ وإغلاق أدراج مكتبه، في جوٍّ من الانشغال المضطرب.

ثم سأل بحِدة: «هل أرسلك موظَّفو شركة جريفين إلى هنا؟»

أجاب ثورندايك: «لم يطلبوا مني ذلك على وجه التحديد.»

قال هايامز وهو يقفز من كرسيه: «إذن، لا يُمكنني السماح لك بإضاعة وقتي. لست هنا للإجابة عن ألغاز من توم أو ديك أو هاري.»

نهض ثورندايك من كرسيِّه. وقال بلطفٍ تام: «إذن هل أفهم من هذا، أنك تُفضل أن أتواصل مع أعضاء مجلس الإدارة، وأترك لهم حرية اتخاذ أي إجراء ضروري.»

سأله السيد هايامز وهو ينتفض واقفًا: «ما هو الإجراء الذي تُشير إليه؟ ومن أنت؟»

أخرج ثورندايك بطاقة ووضعها على المكتب. وعلى ما يبدو أن السيد هايامز قد رأى الاسم من قبل، لأنه فجأة ازداد شحوبًا وصار أكثر جدية.

ثم سأل: «ما هي طبيعة الأسئلة التي كنت ترغب في طرحها؟»

أجاب ثورندايك: «إنها بخصوص هذه المطالبة؛ السؤال الأول هو، أين السيد جوردون؟»

قال هايامز: «لا أعرف.»

فسأله ثورندايك: «إذن أين هو في ظنك؟»

أجاب هايامز: «ليس لديَّ أيُّ فكرة على الإطلاق.» وقد ازداد شحوبه وراح ينظر في كل مكان ما عدا نحو ثورندايك.

قال الأخير: «حسنًا، السؤال التالي هو، هل أنت مقتنع بأن لدَيه حقًّا في هذه المطالبة بالفعل؟»

أجاب هايامز: «لم أكن لأتقدَّم بها للشركة لو لم أكن مقتنعًا.»

قال ثورندايك: «بالفعل، والسؤال الثالث هو؛ هل أنت مقتنع بأن سند الرهن قد نُفِّذ على الوجه الأكمل؟»

أجاب هايامز، الذي كان يزداد شحوبًا وتوترًا في كل لحظة: «لا يُمكنني قولُ أي شيء عن ذلك، لقد حدث قبل أن أتولى القضية.»

قال ثورندايك: «شكرًا لك.» «أنت تفهم بالطبع سبب إجراء هذه الاستفسارات.»

قال هايامز: «أنا لا أفهم شيئًا.»

قال ثورندايك: «إذن، ربما كان لديَّ تفسير أفضل. نحن نتعامل، كما تُلاحظ يا سيد هايامز، مع قضية رجل مات ميتة عنيفة وفي ظروف غامضة إلى حدٍّ ما. كما نتعامل أيضًا مع رجل آخر اختفى تاركًا شئونه كي تحل نفسَها بنفسها؛ ومع مطالبة يُقدمها طرفٌ ثالث نيابة عن الرجل الوحيد ذي الصلة بالمتوفَّى. عندما أقول إن المتوفَّى لم يتم التحقُّق تمامًا من هُويته وإن الوثيقة المؤيدة للمطالبة تُشير إلى أمور غريبة على وجه التحديد، عندئذٍ ستفهم أن الأمر يستدعي مزيدًا من الاستفسار.»

ساد الصمت لفترة طويلة. وقد وصل شحوبُ السيد هايامز إلى أقصى درجة، ونظر إلى كلِّ ركن في الغرفة، كما لو كان حريصًا على تجنُّب النظرة الحجرية التي صوَّبها زميلي إليه.

سأله ثورندايك، بعد فترة الصمت: «هل ستمتنع عن مساعدتنا؟»

وضع السيد هايامز حامل القلم في فمه وجز عليه بأسنانه في قلق، وهو يُفكر في السؤال. وفي النهاية، انفجر بصوت مضطرب: «اسمع يا سيدي، إذا قلت لك ما أعرف، هل ستتعامل مع المعلومات على أنها سرِّية؟»

أجاب ثورندايك: «لا يُمكنني الموافقة على ذلك يا سيد هايامز، قد يرقى الأمر إلى التغاضي عن جناية. لكن سيكون من الحكمة أن تُخبرني بما تعرفه؛ إذ إن الوثيقة أمر جانبي، قد لا يُثيرها عملائي أبدًا، لكن ما يشغلني حقًّا هو موت هذا الرجل.»

بدا على هايامز الارتياح بشكل واضح فقال: «إذا كان الأمر كذلك، فسأُخبرك بكل ما أعرفه، وهي معلومات قليلة للغاية، وهي كما يلي: بعد يومَين من مقتل إلتون، جاء شخص ما إلى هذا المكتب في غيابي وفتح الخِزانة، لقد اكتشفت هذه الحقيقة في صباح اليوم التالي. فتح شخصٌ ما الخزانة وعبث بجميع الأوراق. وهو لم يكن جوردون، لأن جوردون يعرف مكان كل الوثائق؛ كما لم يكن لصًّا عاديًّا، لأنه لم يسرق أموالًا أو أشياء ثمينة. وفي الحقيقة، لقد سرق شيئًا واحدًا؛ هو إيصال الأمانة، الموقَّع من إلتون.»

سأله ثورندايك: «هل سرق سند الرهن أيضًا؟» فأجابه هايامز، بعد أن قضم جزءًا من حامل القلم، بأنه لم يفعل.

قال ثورندايك: «كما لم يسرق البوليصة بالطبع.»

أجاب هايامز: «لا، ولكنه بحث عنها. حيث فكَّ ثلاث حُزم من البوليصات وبعثرها، ولكن هذه البوليصة تصادف وجودها في درج بمكتبي وكان لديَّ المفتاح الوحيد.»

فسأله ثورندايك: «وماذا تستنتج من هذه الزيارة؟»

أجاب هايامز: «حسنًا، لقد فُتِحت الخزانة بالمفاتيح، وكانت مفاتيح جوردون — أو على أي حال، لم تكن مفاتيحي — والشخص الذي فتحها لم يكن جوردون؛ والأشياء التي أُخِذت — أو على الأقل الشيء الوحيد — تخص إلتون بشكل رئيسي. بطبيعة الحال، لقد ساورني الشك؛ وعندما قرأت عن العثور على الجثة، تزايد الشك.»

«وهل لديك أي رأي حول الجثة التي عُثر عليها؟»

فأجاب: «نعم، لديَّ؛ رأيي هو أنها جثة جوردون، حيث كان جوردون يضغط بشدة على إلتون كي يحصل على النقود، لذا دفعه إلتون من فوق الجرف ونزل وألبس ملابسه للجثة. بالطبع، هذا فقط رأيي. وقد أكون مخطئًا؛ لكنني لا أعتقد أنني كذلك.»

في واقع الأمر، لم يكن السيد هايامز مخطئًا. حيث استُخرِجت الجثة المدفونة، عقب تشكيك ثورندايك في هوية المتوفى، وأظهر الفحص أنها جثة سولومون جوردون. ومِن ثَم، رُصِدت مكافأة قدرها مائة جنيه لمن يُدلي بمعلومات عن مكان إلتون. ولكن لم يتمكَّن أحدٌ من الحصول عليها قط. لكن خطابًا، يحمل علامة بريدِ مرسيليا، مرسَلًا من الرجل المفقود إلى ثورندايك، أعطى تفسيرًا معقولًا لوفاة جوردون؛ كما أكد أنها قد حدثت عرَضيًّا في الوقت الذي تصادف فيه أن جوردون كان يرتدي بدلة من ملابس إلتون.

بالطبع، ربما كان هذا التفسير صحيحًا، أو مرة أخرى، ربما كان خاطئًا؛ ولكن سواءٌ كان صحيحًا أو خاطئًا، فقد اختفى إلتون عن الأنظار ولم يعرف أحدٌ عنه شيئًا منذ ذلك الحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤