الفصل الأول

العوامل البعيدة في معتقدات الجماعات وأفكارها

فرغنا من البحث في تركيب القوة المدركة عند الجماعات وعرفنا كيف تشعر وكيف تفكر وتتعقل، ونريد الآن أن نبحث في كيفية تولد آرائها واعتقاداتها وكيفية حلول هذه الآراء والمعتقدات واستقرارها في نفوسها.

العوامل التي تولد الآراء والاعتقادات في الجماعات قسمان: بعيدة، وقريبة.

فأما العوامل البعيدة فهي التي تهيئ الجماعات لقبول بعض المعتقدات دون بعض، أعني أنها التربة التي تنبت فيها أفكار جديدة ذات قوة وأثر مدهشين، وظهور تلك الأفكار يكون فجأة، فقد تشبه في انبثاقها والعمل بها انقضاض الصاعقة، إلا أن الواقع أنها نتيجة عمل سابق طويل ينبغي البحث عنه.

وأما العوامل القريبة فهي التي تأتي بعد هذا العمل الطويل ولا أثر لها بدونه، ووظيفتها تكوين الاعتقاد الداعي إلى الفعل، أعني أنها تقوم الفكر وتقذف به إلى الخارج مع جميع ما يحتمل من النتائج، فهي التي تدفع الجماعات فجأة إلى القيام بما تمكن من نفسها من الأعمال، وهي علة القلاقل والاعتصابات والتفاف الجم الغفير حول رجل يرتفع بذلك إلى الأوج أو ضد حكومة تهبط إلى الدرك الأسفل.

تتعاقب هذه العوامل بقسميها في جميع حوادث التاريخ العظيمة، ففي الثورة الفرنساوية، وهي أكبر مثال لتلك الحوادث، كانت العوامل البعيدة هي كتب الفلاسفة وعسف الشرفاء وتقدم العلم، وهي التي هيأت روح الجماعات، ثم جاءت العوامل القريبة مثل خطب الخطباء ومعارضة الملك في إجراء إصلاحات لا تعد شيئًا كبيرًا، وهي التي أثارت الجماعات بالسهولة.

ومن العوامل البعيدة ما هو عام، بمعنى أنه يؤثر في معتقدات كل جماعة، وفي آرائها، وهي الشعب والتقاليد والزمن والنظامات والتربية.

وسنبحث في شأن كل واحد من هذه العوامل.

(١) الشعب

بدأنا به لأن له المقام الأول بين العوامل، فله وحده من الأثر ما يربو على آثارها كلها. وقد وفينا البحث فيه حقه في كتابنا (النواميس النفسية لتطور الأمم)، حتى لم يعد من المفيد أن ترجع إليه هنا إذ بينا هناك ما هو الشعب من حيث التاريخ، وكيف أنه متى كملت مميزاته يصير بمقتضى الوراثة نفسها ذا قوة عظمى، وتكون له روح ترجع إليها اعتقاداته ونظاماته وفنونه وجميع عناصر مدنيته، كذلك بينا أن قوة الشعب تبلغ حدًّا يتعذر معه انتقال أحد هذه العناصر من أمة إلى أخرى بدون أن يتغير تغيرًا عامًّا، وخصصنا أربعة فصول منه لشرح هذه القضية لكونها حديثة العهد. ولأنه يصعب فهم التاريخ بدونها هناك؛ يرى القارئ أنه رغم ظواهر الحال التي قد توجب اللبس يستحيل أن تنتقل اللغة أو الدين أو الفنون أو أي عنصر من عناصر المدنية من أمة إلى أخرى إلا إذا أصابها التغير والتحول. نعم إن البيئة والأحوال والحوادث تشخص مقتضيات الزمن الذي هي فيه، وقد يكون لها تأثير كبير لكنه تأثير عرضي على الدوام إذا تضارب مع مقتضيات الشعب، أعني مع سلسلة تلك المؤثرات الوراثية.

على أنَّا سنعود إلى ذكر شأن الشعب في كثير من فصول هذا الكتاب، ونوضح أنه لقوته يسود على غيره من مميزات روح الجماعات، وأن ذلك هو السبب في اختلاف جماعات كل بلد مع جماعات البلد الآخر من جهة المعتقدات وخطة العمل اختلافًا كبيرًا، وكذا المؤثرات التي تتأثر بها.

(٢) التقاليد

التقاليد عبارة عن ماضي الأمة في أفكارها وحاجاتها ومشاعرها، فهي تشخص روح الشعب، ولها في القوم تأثير عظيم.

تقدم علم تركيب الأجسام من يوم أن بَيَّن علم التكوين مقدار تأثير الماضي في تطور الكائنات، وسيتقدم علم التاريخ أيضًا حينما ينتشر هذا الاكتشاف؛ لأن انتشاره لم يعم، بدليل أن كثيرًا من أقطاب السياسة لا يزالون على أفكار أهل القرن الماضي ممن كانوا يتخيلون أنه يتيسر للأمة أن تنخلع عن ماضيها وتنشئ نفسها من جديد غير مستهدية في ذلك إلا بنور العقل وحده، وفاتهم أن الأمة جسم منظم أوجده الماضي، فهي كغيرها من الأجسام لا تستطيع الانتقال من طور إلى طور إلا بتراكم آثار الوراثة فيها على مهل.

والذي يقود الناس ولا سيما إذا اجتمعوا إنما هي التقاليد، وهم لا يسهل عليهم أن يغيروا منها سوى الأسماء والأشكال.

وليس هذا مما يوجب الأسف؛ إذ لولا التقاليد ما كان هناك شيء يقال له روح قومية ولا حضارة ممكنة، ألا ترى أن هم الناس منذ وُجدوا أن يكون لهم شنشنة تقاليد، فإذا زال نفعها اجتهدوا في هدمها. والحاصل أنه لا مدنية إلا بالتقاليد، ثم الرقي موقوف على هدمها. والصعوبة في إيجاد التوازن بين التقلب والبقاء، إلا أنها صعوبة كبرى، فإذا تأصلت في الأمة عادات وتمكنت منها أخلاق عدة أجيال تعذر عليها الانتقال، وأصبحت كالأمة الصينية غير قادرة على التحسن، ولا تؤثر فيها الثورات العنيفة؛ لأنها لا تأتي إلا بإحدى نتيجتين: فإما أن الحلقات التي تقطعت من السلسلة تنضم وتلتحم ببعضها فيعود الماضي إلى التربع في سيادته بدون تغيير ما. وإما أن تبقى تلك الحلقات منثورة، فهي الفوضى وخليفتها التقهقر والانحطاط.

لذلك كان أكبر النعم التي يجب أن تصبو إليها الأمة هي المحافظة على النظامات التي ورثتها، وأن تسير في الانتقال بها من طور إلى أكمل منه على مهل وبلا اهتزاز، ذلك مطلب عزيز المنال ولم يفز به إلا دولة الرومان في الأزمان الخالية، وأمة الإنكليز في الأزمان الحاضرة.

وأشد الناس محافظة على الأفكار التقليدية وأصعبهم مراسًا في معارضة من يحاول تبديلها: هي الجماعات، خصوصًا الجماعات التي تتكون منها فئات معينة. وقد سبق لي أن أفضت الكلام على تمسك الجماعات بالماضي، وبيَّنت أن أشد الثورات عنفًا لا تؤدي إلا إلى تغيير في الألفاظ، ومن شهد في آخر القرن الماضي هدم الكنائس وطرد القسوس وإعدامهم والاضطهاد العام الذي كان واقعًا على أهل الكثلكة، كان يظن أن السلطة الدينية قد بادت ولم يبقَ لها أثر، لكن لم يمضِ إلا بضع سنوات حتى قام الناس ينشدون معابدهم، فاضطرت الدولة إلى إعادة الدين الذي طمست بالأمس معالمه. ومما يوضح ذلك بأجلى بيان ما ذكره (فوركروا) أحد رجال الثورة في تقريره إذ ذاك ونقله عنه (تاين)، قال: «إن ما هو مشاهد في كل مكان من إقامة صلاة يوم الأحد والتردد على الكنائس يدل على أن مجموع الفرنساويين يطلب الرجوع إلى عاداته الأولى، ولم يعد في الإمكان مقاومة هذا الميل في الأمة؛ لأن السواد الأعظم في حاجة إلى الدين وإلى العبادة وإلى القسوس. ومن خطأ بعض فلاسفة العصر الحاضر — وهو خطأ وقعت أنا فيه أيضًا — القول بإمكان إيجاد تعليم عام يكفي لإزالة الأوهام الدينية. ووجه الخطأ أن في الدين سُلوانًا للقسم الأول من المساكين، من أجل ذلك يجب أن تترك للأمة قسوسها ومعابدها وعبادتها.»

هكذا اختفت التقاليد برهة ثم استردت سلطانها، وهو مَثل ليس كمِثله مَثل يبين سلطان التقاليد على النفوس، وليست الأشباح التي لا يستهان بها هي التي تسكن المعابد، ولا في القصور يقيم عتاة المستبدين، أولئك يبادون في طرفة عين. إنما الذي لا قبل لنا به هم أولئك الأرباب الذين تمكنوا في النفوس، فتحكموا في الأرواح، فلا يزول ملكهم إلا بفعل الزمان رويدًا رويدًا وجيلًا بعد جيل.

(٣) الزمان

أهم العوامل في المسائل الذي يبحث عنها علم الاجتماع هو الزمان، كما أنه كذلك في المسائل التي يبحث عنها علم الأجسام المنظمة، فهو الموجد الحقيقي الوحيد وهو الهادم القوي الوحيد. هو الذي كون الجبال من حبيبات الرمال ورفع الخلية الحقيرة التي اشتملت على أصل الوجود النوعي إلى مقام الإنسان، وكل ظاهرة وكل حادثة لا تتغير ولا تتحول إلا بالزمان. ولقد أصاب من قال إن النملة إذا امتد أمامها الزمن وَسِعها أن تجعل الجبل الرفيع مهادًا، ولو أن موجودًا تمكن من تصريف الزمان كما يشاء لكان صاحب القوة التي يعترف بها المؤمنون للواحد الديان.

بحثُنا هذا قاصر على تأثير الزمان في آراء الجماعات ومعتقداتها، وهو فيها له كذلك الأثر العظيم، فهو القاهر فوق أكبر المؤثرات الأخرى من التي لا تكون بدونه كالشعب وغيره، وهو الذي يولد المعتقدات فينميها ثم يميتها، ومنه تستمد قوتها وبفعله يتولاها الضعف والانحلال.

والزمان هو بالأخص محضر آراء الجماعات ومعتقداتها أو هو مهيئ التربة التي نبتت فيها، ولذلك صح وجود بعض الأفكار في زمن وامتنع وجودها في زمن آخر. وهو الذي يذكر المعتقدات بعضها فوق بعض، وكذا الأفكار، فيهيئ بذلك قيام الآراء والمذاهب في العصور المتتابعة، لأنها لا تنبت صدفة ولا توجد اتفاقًا، بل إن لكل واحد منها جذورًا تمتد في زمن بعيد، فإذا انبثقت فإنما الزمان هو الذي هيأ تفتح أزهارها، وإذا أردت أن تعرف كنهها فارجع إلى ماضيها. هي بنات الماضي وهي أمهات المستقبل، وهي إماء الزمان على الدوام.

نتج من هذا أن الزمان هو صاحب السيادة الحقيقة فينا، وما علينا إلا أن نتركه يعمل لنرى كل شيء يتحول ويتبدل. نحن الآن في فزع شديد من مقاصد الجماعات التي تهددنا ومما تنبئنا به من تقويض أركان الهيئة الحاضرة، ومن الانقلاب المنتظر فيها، ولكن الزمان سيتكفل وحده بإعادة التوازن بيننا. قال موسيو (لافيس): «ما من نظام يقوم في يوم واحد، بل لا بد في تقرير النظامات السياسية والاجتماعية من مرور الأعصر والأجيال، فقد بقي نظام حكم الشرفاء مضطربًا غير واضح عدة قرون حتى تبين وتأصلت له قواعد يعرفها الناس، كذلك قطعت الملوكية المطلقة قرونًا قبل أن تهتدي إلى الأصول المنظمة التي تدير بها حكومة البلاد، وكم من اضطراب وقع في أدوار هذا الانتقال.»

(٤) النظامات السياسية والاجتماعية

لا يزال الناس يذهبون إلى أن النظامات تُقوِّم معوجَّ الهيئة الاجتماعية، وأن تقدم الأمم أثر من آثار إتقان تلك النظامات وإصلاح الحكومات، وأنه يمكن إحداث الانقلابات الاجتماعية بواسطة الأوامر والقوانين. كان هذا مذهب الثورة الفرنساوية في بدايتها، وإليه يذهب الآن أيضًا من اتخذوا مجرد الخوض في الاجتماعات مذهبًا.

ذاك وهم تأصل في الأفكار لما تبدده التجارب على تكرارها، وقد ضاعت فيه متاعب الفلاسفة والمؤرخين الذين تصدوا لبيان فساده، لكنهم لم يلاقوا صعوبة في إقامة الدليل، على أن النظامات بنات الأفكار والمشاعر والأخلاق، وأن الأفكار والمشاعر والأخلاق لا تتغير بتغيير القوانين، وأن الأمم لا تختار نظاماتها كما تشتهي، كما أنها لا تملك اختيار لون أعينها وشعر رءوسها، بل إن النظامات والحكومات ثمرة الشعب الذي هي فيه، فليست هي التي تخلق زمنها، ولكنها هي التي أوجدها زمانها، وليست الأمم محكومة كما يشاء لها الهوى أنى تشاء، بل كما تشاء أخلاقها وطباعها. وكما أن كل نظام لم يستقر إلا بعد قرون عدة كذلك ينبغي لتغييره قرون عدة. وليس للنظامات قيمة نوعية في ذاتها، فلا هي حسنة لذاتها ولا هي رديئة لذاتها. وأن ما صلح منها لأمة في زمان يجوز أن يكون مضرًّا في أمة أخرى.

لهذا كان من المحقق أن الأمة لا تملك كل الملك تغيير نظاماتها، نعم في إمكانها أن تبدل أسماءها بواسطة الثورات العنيفة والاضطرابات القوية، لكن اللب يبقى كما كان. أما الأسماء فهي عناوين لا يلتفت إليها المؤرخ الذي ينقب عن حقائق الأشياء، ألا ترى أن أعظم أمة ديمقراطية في الأرض هي الأمة الإنكليزية مع كونها تعيش تحت إمرة حكومة ملكية، وأن أكبر أمة حفها الاستبداد هي الجمهوريات الإسبانية الأمريكية رغم نظامها الجمهوري الذي يحكمها؛ ذلك ما يعترف به للإنكليز أعظم الجمهوريين تقدمًا في الولايات المتحدة. وإني أذكر للقراء ما جاء في جريدة (فروم) الأمريكية ونقلته عنها مجلة المجلات الصادرة في ديسمبر سنة ١٨٩٤، قالت: «لا ينبغي أن ينسى الناس حتى الذين هم من أكبر أعداء الشرفاء أن إنكلترا هي أول أمم الأرض في الديمقراطية، أعني الأمة التي بلغ فيها احترام حقوق الفرد غايته، والتي بلغ أفرادها من الحرية أعلى مقام.» وبالجملة، قائد الأمم أخلاقها وطباعها لا حكوماتها، تلك قضية حاولت بيانها في كتابي السابق، وأثبتها بأوضح دليل وأقوى مثال.

لذلك كان من العبث جدًّا إضاعة الزمن في خلق نظام جديد من جديد، بل لا فائدة من شد رحال علم المعاني والبيان لخلق مثل هذا النظام، فإن ذلك من عمل الجهلاء. والحاجة والزمان هما الكفيلان بإعداده إذا عقل الناس وتركوا هذين العاملين يعملان. هذا الذي اعتمد عليه الإنكليز السكسونيون، وهذا هو الذي يقوله لنا مؤرخهم العظيم (ماكولي) ضمن كلام يجب على أدعياء السياسة في الأمم اللاتينية أن يحفظوه على قلوبهم. بدأ المؤرخ ببيان ما أحدثته القوانين الإنكليزية من الآثار الطيبة على ما يظهر بها من الرداءة والتناقض والبُعد عن المعقول، ثم قارن بين نظام إنكلترا والبضعة عشر نظامًا التي اختنقت بين تقلصات الأمم اللاتينية في أوروبا وأمريكا، وأوْضَحَ أن الأول لم ينله التغيير إلا على مهل جزءًا بعد جزء بتأثير الضرورة لا بتأثير النظر العلمي أبدًا، ثم قال: «القواعد التي سار عليها المائتان وخمسون برلمانًا من عهد حنَّا إلى عهد فيكتوريا في مداولاتها وقراراتها، هي أنها ما اهتمت مطلقًا بحسن التنسيق، بل كان كل همها في الفائدة، ولم ترفع شاذًّا لشذوذه، ولم تأتِ بجديد إلا إذا تحققت أن حرجًا استولى على النفوس من أجله، ولم تجدد إلا بمقدار ما تتفادى من هذا الحرج، ولم تقرر مبدأ أعم من الضرورة التي اقتضته.»

ولو أردنا بيان كون القوانين في كل أمة منتزعة من روحها، وأنه لا يمكن لذلك تغييرها عنوة وقسرًا لَلَزِم أن نأتي على كل قانون ونخوض في كل نظام، فمثلًا يجوز الجدل فلسفيًّا في هل حصر السلطة وإرجاعها في النهاية إلى يد واحدة أفضل من تفريقها، أم العكس أولى. لكن إذا رأينا أمة مؤلفة من عناصر مختلفة قضت ألف عام فوصلت بعد ذلك إلى حصر السلطة وجمعها، ورأينا من جهة أخرى أن ثورة عظيمة جاءت لتحطم كل نظام ولده الزمان قد احترمت هذا الحصر وبالغت فيه؛ كان لنا أن نقول: إن هذا النظام هو ابن الضرورة التي لا مفر منها، وإنه شرط من شروط حياة تلك الأمة، وأن نرثي لحال أولئك الذين قصرت أحلامهم من السياسيين الذين يذهبون إلى وجوب إبطال ذلك النظام. ولو أن الصدفة ساعدتهم على نيل ما يبتغون لكانت نتيجة ذلك قيام حرب أهلية يستطير شررها والعودة عاجلًا إلى حصر السلطة بأشد مما هي عليه. والذي يقارن بين المنافسات الدينية والسياسية الشديدة القائمة في أجزاء البلاد الفرنساوية والناشئة على الأخص من اختلاف عناصر الأمة وبين ميل البعض إلى تجزئة السلطة وتوزيعها أيام الثورة وعقب الحرب الفرنساوية الألمانية، يتبين له أن العناصر المختلفة التي لا تزال حية في بلادنا لا تزال بعيدة عن الامتزاج والاتحاد، وأن أحسن عمل جاءت به الثورة هو حصر السلطة وجمعها وتقسيم البلاد تقسيمًا اعتباريًّا لا طبيعيًّا إلى أقسام متعددة توصلًا إلى مزج الأقاليم القديمة وخلط سكانها بعضهم ببعض. فإذا أمكن اليوم تحقيق ما يصبو إليه أولئك الذين لا يقرأون عواقب الأعمال من التجزئة والتوزيع أدى ذلك إلى اضطرابات تهرق فيها الدماء وتقتل النفوس، ولا يغفل عن ذلك إلا من نسي تاريخنا.

نتج مما تقدم أن التأثير الحقيقي في روح الجماعات لا يكون من طريق النظامات، وإذا لفتنا الذهن إلى الولايات المتحدة رأيناها ترفل في حلل الرخاء وتخطر في جلباب السعادة بفضل نظاماتها الديمقراطية، ثم إذا رجعنا إلى الجمهوريات الإسبانية الأمريكية — ألفيناها وهي متمتعة بنظام مثله تتعثر في أذيال التقهقر والفوضى، وحكمنا بأنه لا دخل لتلك النظامات لا في سعادة الأولى ولا في شقاء الثانية، وبأن الذي يحكم الأمم إنما هو أخلاقها. وكل نظام لا يندمج مع هذه الأخلاق ويمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار وهو ستار لا يدوم. نعم، قامت حروب دموية وهبت ثورات عنيفة، وستقوم حروب وتهب ثورات والغرض منها كان ويكون إلزام الأمم بنظامات يعتقد الناس أنها مجلبة السعادة كاعتقادهم في آثار الأولياء والصالحين. وقد يقال إن النظامات تؤثر في نفوس الجماعات لأنها تفضي إلى مثل تلك الحروب والثورات. والصحيح أن لا تأثير لها البتة؛ لأنا قد عرفنا أنها لا قيمة لها في ذاتها سواء كان الغلبة لها أم عليها، وإنما الذي يؤثر في الجماعات أوهام وألفاظ، وعلى الأخص الألفاظ، تلك الألفاظ الخيالية القوية التي سنبين سلطانها.

(٥) التربية والتعليم

لكل عصر أفكار تسود فيه وإن كانت في الغالب من قبيل الخيالات، وقد بينا في غير هذا المكان ما لتلك الأفكار من القوة وما هي عليه من القلة.

ومن الأفكار السائدة في هذا العصر أن في التعليم قدرة على تغيير الرجال تغييرًا محسوسًا، وأن نتيجته التي لا يشكون فيها هي إصلاحهم، بل إيجاد المساواة بينهم. ذكروا ذلك وكرروه فصار أحد المذاهب الثابتة عند الديمقراطيين، وأصبح التعرض له من أصعب الأمور، كما كان من الصعب التعرض لسلطان الكنيسة في الزمن السابق.

ولكن آراء الديمقراطيين في هذا الموضوع كما هي في كثير من الموضوعات الأخر مناقضة كل المناقضة لما أثبته علم النفس، ولما دلت عليه التجارب، فمما أثبته الكثيرون من كبار الفلاسفة بلا عناء خصوصًا (هربرت سبنسر) كون التعليم لا يزيد في تهذيب الإنسان ولا في سعادته، ولا يغير من غرائزه وشهواته التي تلقاها بالوراثة، وأنه إذا ساء طريقه كان ضرره أكبر من نفعه. وأيد علماء الإحصاء هذه النظريات، فقالوا إن الميل إلى الجرائم يزداد بانتشار التعليم، أو هو يزداد بانتشاره على طريقة مخصوصة، وإن ألد أعداء الهيئة الاجتماعية وهم الفوضويون ينسلون غالبًا إلى مذهبهم ممن حازوا السبق في المدارس. وأشار موسيو (ادلف جيو)، وهو أحد أعاظم القضاة أنه يوجد الآن في كل أربعة آلاف مجرم ثلاثة آلاف متعلمون وألف واحد أميون، وأن عدد الجرائم زاد مدى خمسين سنة من (٢٢٧) جريمة لكل مائة ألف نسمة إلى (٥٥٢)، أعني بنسبة (١٣٣) في المائة، ولاحظ أيضًا هو ورفقاؤه أن الجرائم تكثر بين الشبان الذين أبدلوا تعلم المهن على يد المعلمين بتعلمها في المدارس الإجبارية المجانية.

نعم مما لا يشك فيه إنسان أن التعليم إذا حسنت طرائقه ينتج نتائج عملية ذات فائدة كبيرة، فإذا هو لم يرفع درجة التهذيب ويؤثر في رقي الأخلاق، فإنه ينمي الكفاءات الفنية، ولكن من سوء الحظ أن الأمم اللاتينية أسست التعليم على قواعد غير صحيحة ولا سيما منذ خمس وعشرين سنة، ومع كون فطاحل العلماء مثل (بريال) و(فوستيل دي كولانج) و(تاين) وكثير غيرهم قد انتقدوها لا تزال تلك الأمم على خطئها فيها. وقد شرحت أنا أيضًا في كتاب لي، أصبح قديمًا، أن طريقة التعليم الحالي عندنا تحول القسم الأكبر ممن يتلقونه إلى أعداء للهيئة الاجتماعية، وتزيد كثيرًا في أصحاب أشد المذاهب الاشتراكية ضررًا.

وأول خطر ينجم عن هذه التربية المسماة بحق تربية لاتينية آتٍ من بنائها على قاعدة يحكم علم النفس بفسادها. ذلك أنهم قالوا إن الحفظ عن ظهر القلب يربي الذكاء ويقوي الفطنة، ثم انتقلوا من هذا إلى وجوب الإكثار من الحفظ ما استطاعوا، وصار المتعلم في المدرسة الابتدائية والعالية حتى الذي يتلقى علوم الأستاذية لا يعمل إلا للحفظ، وهو في ذلك كله لا يدرب مداركه ولا يمرن ملكة الإقدام على العمل من نفسه؛ لأن التعليم في نظره ينحصر في إلقاء المحفوظ وفي الخضوع. قال موسيو (جول سيمون) وهو أحد وزراء المعارف الأقدمين: «إن حفظ الدروس عن ظهر قلب وكذا حفظ متن في النحو أو مختصر، وحسن الإلقاء، وحسن التقليد، تربية هي من الهزء بمكان، إذ كل همة يبديها المتعلم في هذه السبيل عبارة عن الاعتقاد بأن المعلم مصون عن الخطأ، وذلك لا ينتج إلا نقصنا وضعفنا.»

ولو أن ضرر هذه التربية كان قاصرًا على عدم فائدتها لاكتفينا بالعطف على أولئك الأطفال المساكين الذين يحفظون في المدرسة نسب (كلوتير) ومصارعات (نوستيري) وفصيلات الحيوان وغير ذلك، بدلًا من أن يتعلموا أشياء كثيرة أخر نافعة، لكن ضررها أكبر من ذلك، فهي تولد في نفس المتعلم سآمة شديدة من حالته التي هو عليها بمقتضى نشأته، ورغبة شديدة في الانسلاخ عنها، فلا الصانع يبغي البقاء على صنعته ولا الفلاح يميل إلى الدوام في فلاحته، وأقل الناس في الطبقة الوسطى لا يختار لأبنائه عملًا إلا في وظائف الحكومة. والمدرسة لا تربي رجالًا قادرين على الحياة، وإنما تخرج عمالًا لوظائف ينجح فيها الإنسان دون أن يهتم بقيادة نفسه ولا أن يتقدم إلى عمل من ذاته. فهي توجد في أسفل سلم الهيئة الاجتماعية جيوشًا من الصعاليك الممتعضين المتهيئين دائمًا للثورة. وفي أعلاه طبقتنا الوسطى الفارغة الحذرة المغفلة التي تعتقد اعتقادًا دينيًّا في قدرة الحكومة وبعد إمكانها، وهي مع ذلك لا تنفك عن القدح فيها والتي تخطئ ثم توآخذ الحكومة بما أخطأت، والتي لا تقدر على القيام بعمل لا يد للحكومة فيه.

أما الحكومة التي تصنع حملة الشهادات من تلك المختصرات فلا يسعها أن تستصنع منهم إلا القليل، وتترك الباقين بالضرورة بلا عمل، فوقعت بذلك بين ضرورة تغذية أولئك والصبر على عداء هؤلاء. احتشد ذلك الجمع العظيم من حملة الشهادات يحاصر جميع الوظائف من القمة إلى القاعدة، أي من الكاتب الصغير إلى المعلم فالمدير، وصرنا نرى التاجر لا يجد إلا مع الشفقة نائبًا يتولى أعماله في المستعمرات. ونشاهد الألوف من الشهادات مكتظة أمام باب كل وظيفة مهما صغرت. ويوجد الآن في مديرية السين وحدها من المعلمين والمعلمات عشرون ألفًا لا عمل لهم ترفعوا عن المعامل والمصانع وشخصوا إلى الحكومة يطلبون القوت منها، ولما كان عدد الذين يختارون منهم قليلًا، فعدد الغضاب كثير بالضرورة، وهؤلاء مستعدون لكل نوع من أنواع الثورة والهرج تحت قيادة أي رئيس كان وكيفما كان الغرض. ذلك لأن اكتساب معارف لا يجد صاحبها سبيلًا إلى استعمالها هو من أنجع الوسائل في تهيئة المرء إلى الخروج على أمته.١

ومن الواضح أن الوقت قد فات لمقاومة هذا التيار، وإنما التجارب وهي آخر مرب للأمم، ستُظهر لنا خطأنا، فهي التي تبرهن على ضرورة الإقلاع عن استعمال تلك الكتب الرديئة وإبطال هذه الامتحانات التعسة واتباع طريقة تعليم فني عملي يرد النشء إلى المصانع والمعامل والمشروعات الاستعمارية، وغير ذلك من الأعمال التي يجتهد أولئك النشء في الهرب منها.

هذا التعليم الفني الذي تطلبه الآن العقول النيرة هو الذي تلقاه آباؤنا وهو الذي حافظت عليه الأمم التي تحكم الدنيا بقوة إرادتها وبما أوتيت من الإقدام الذاتي في الأعمال، والقدرة على التصرف بالمشروعات.

كتب أحد كبار المفكرين موسيو (تاين) صفحات في هذا الموضوع ما أجلها، وسأنقل للقراء طرفًا عنها فيما يلي، فأبان بأوضح برهان أن تربيتنا في الماضي كانت تماثل التربية عند الإنكليز أو الأمريكان في الوقت الحاضر أو ما يقرب من ذلك، ثم أتى بمقارنة جميلة بين الطريقة اللاتينية والطريقة الإنكليزية، وأعرب بأفصح لسان عن نتائج الاثنتين.

ولو كان الاكتساب السطحي لتلك المعارف الكثيرة وإجادة تلاوة تلك الكتب التي لا عد لها مما يرقي ملكات العقل فينا، لأجهدنا النفس لاحتمال مضار التربية التي تعودناها، ولو لم تخرج إلا عطلة ممتعضين، فهل لها هذا الأثر؟ لا، والأسف يملأ قلبنا أن الإدراك والتجارب والإقدام والخلق هي عدة الحياة ولا نجاح إلا بها، وليس شيء من ذلك في الكتب. الكتب معاجم يستفيد المرء من مراجعتها، لكن مما لا فائدة فيه نقل الفصول المطولة منها إلى الدماغ.

أما كون التعليم الفني يربي العقل بما لا ينال من التربية العلمية الجارية، فذلك ما شرحه مسيو (تاين) شرحًا وافيًا إذ قال: «لا تتولد الأفكار إلا في مولدها الطبيعي الاعتيادي، والذي ينبت بذورها هو المؤثرات الكثيرة المختلفة التي يتأثر بها الشاب كل يوم في المصنع والمعدن والمحكمة ومكتب المحامي ودائرة الأشغال والمستشفى، ومن مشاهدة الآلات والعدد والأدوات، ومن العمليات، ومن اجتماع المبتاعين والفعلة، ومن العمل نفسه، ومما يصنع رديئًا كان الصنع أو حسنًا غالي الثمن أو رخيصًا. هذه هي الملتقطات الصغيرة التي تتناولها العين والأذن أو الأيدي أو الشم أيضًا التقاطًا غير مقصود، حيث تجتمع وتختمر وتأخذ لها حيزًا تنتظم فيه من نفس الشاب فترشده عاجلًا أو آجلًا إلى تركيب جديد أو تبسيط مركب أو طريقة اقتصاد، أو تحسين اختراع، والشاب الفرنساوي محروم من هذا الامتزاج النفسي؛ فقد غابت عنه كل هذه العناصر السهلة التناول الضرورية في الوقت الذي هو أحوج للاستفادة منها، لأنه مقصور مدى سبع سنين أو ثمانٍ في المدرسة بعيدًا عن التجارب الشخصية السهلة القريبة المنال التي تحصل في الذهن صورة قوية صحيحة من الأشياء والناس، وتكسب معرفة الطرق المختلفة لاستعمال ذلك كله، فضاع على تسعة من العشرة وقتهم وتعبهم مدى سنوات ما كان أنفعها وأكبر أهميتها، بل قد كانت تكون الحد الفاصل بين بؤس ماضٍ ومستقبلٍ سعيد، إليك أولًا نصف الذين يتقدمون إلى الامتحان أو الثلثين أنهم لا ينجحون، وأخرج من بين الناجحين نصفهم أو ثلثيهم، وهم الذين أبلاهم الدرس فلا يعودون ينفعون، كلفوهم بما لا يطيقون إذ طلبوا منهم يوم يجلسون على مقعد أو أمام لوحة أن يكونوا مدى ساعتين أشبه بمعجم يلقي على السامعين جملة من العلوم التي يبحث فيها عن جميع ما علم الإنسان، والواقع أنهم كانوا ذلك أو ما يقرب منه مدة ساعتين، ولكنهم لا يبقون كذلك بعد مضي شهر من الزمان، فلا يقدرون أن يجوزوا الامتحان مرة أخرى لأن معارفهم كانت كثيرة كثيفة فتسربت من عقولهم، ثم هم لا يكسبون منها جديدًا، لأن الملكات ألقت سلاحها ونضب ماء الإثمار منها. إذ ذاك يبرز الشاب وعليه مخايل الرجل التمام، وهو في الغالب الرجل الذي قد فرغ منه. هذا الرجل يجمع إليه نفسه ثم يتزوج ويوطن النفس على أن يدور في دائرة معينة، وأن يستقر على الدوران في الدائرة عينها وينزوي إلى العمل الضيق الذي أقام فيه وصار يؤديه بانتظام، ولا شيء بعد ذلك. هذه هي الثمرة في المتوسط، ولا شك في أن الوارد لا يساوي المنصرف. أما في إنكلترا وفي أمريكا كما كان في فرنسا قبل سنة ١٧٨٩، فإنهم يستعملون عكس ذلك وعندهم تساوي الثمرة ما صرف أو تربو عليه.»

وبعد ذلك شرح لنا هذا المؤرخ المجيد الفرق بين طريقتنا وطريقة الإنكليز السكسونيين، فأبان أن ليس لهؤلاء من المدارس الخصوصية الكثيرة ما لنا، وأن التعليم عندهم لا يتلقى من الكتاب بل من الشيء نفسه، فالمهندس مثلًا يتكون في المصنع لا في المدرسة، وهو ما يسمح لكل واحد أن يصل في حرفته إلى الحد الذي تصل إليه قدرته العقلية فيكون عاملًا أو رئيس عمال إذا قعد به الذكاء عند هذا القدر، وهو مهندس إذا قاده استعداده إلى هذا الدرج. تلك هي الطريقة الديمقراطية المثلى وفيها الفائدة الصحيحة للأمة، لا التي تجعل مستقبل المرء كله معلقًا على نتيجة امتحان يؤديه الطالب وهو في التاسعة عشرة أو المتممة للعشرين مدة سويعات معدودة، قال موسيو (تاين):

يدخل التلميذ والعود أخضر في المستشفى أو المعدن أو المصنع أو مكتب المتشرع، فيتعلم ويقضي زمن التمرين كما يفعل كاتب المحامي أو المبتدئ في الحرفة عندنا، ويكون قد تلقى أولًا بعض دروس عامة مختصرة أوجدت فيه محيطًا تعشش فيه الملاحظات التي تعرض له من يوم دخوله، ومع ذلك يجد كل يوم بجانبه دروسًا فنية يختلف إليها في أوقات الفراغ، ويتمكن بما يستفيده منها من ترتيب تجاربه وتنسيقها كلما اكتسب شيئًا منها. هذا نظام تنمو فيه القدرة العملية وتتقدم من نفسها بحسب ما تسمح به ملكات التلميذ وتسير في طريق العمل المستقبل الذي اختار التمرن عليه منذ الآن. وبهذه الواسطة يتمكن الشاب بسرعة من أن ينتزع من نفسه كل ما ملكت، ويصير منذ الخامسة والعشرين وأحيانًا قبل ذلك إن ساعدته كفاءته ومادته منفذًا نافعًا، بل مبدئًا مقدامًا مندفعًا من ذاته، فهو عجلة في الآلة، وهو أيضًا المحرك لها.

أما في فرنسا حيث سارت الطريقة الأخرى وصارت تقرب من طريقة أهل الصين في كل جيل، فإن مجموع القوى الضائعة عظيم.

ثم استنتج ذلك الحكيم الكبير مما تقدم النتيجة الآتية التي تدل على مخالفة تربيتنا اللاتينية لمقتضيات الحياة مخالفة تعظم كل يوم، فقال: امتد زمن التحضير النظري في أدوار التعليم الثلاثة: الطفولية والصبا والشباب، وقد زادت المواد على حد الطاقة والتلميذ جالس على المقعد وعيناه في الكتاب انتظارًا ليوم الامتحان، يوم ينال الشهادة، يوم تتقرر الرتبة، يوم تعطى الإجازة أو الامتياز، لا انتظارًا لشيء آخر. وقد أعدوا لذلك أردأ الوسائل فأخضعوا التلميذ لنظام تأباه الطبيعة وتنفر منه دواعي الاجتماع، فأجلوا التمرين العملي وقصروا التلامذة في حجور المدارس وربوهم تربية جسمانية صناعية وشحنوا الذهن شحنًا ماديًّا بالمواد، وأجهدوا الفكرة وكلفوهم فوق المستطاع غير ملتفتين إلى المستقبل ولا مهتمين بسن الرجولة ولا بالوظائف التي لا بد للطالب من القيام بها إذا اكتمل، ولا ناظرين إلى الوجود الحقيقي الذي أضحى على وشك الهبوط إليه، ولا بالجمع المتلاطم الذي يجب تطبيعه بطبائعه أو إخضاعه لأحكامه قبل الانطلاق فيه، ولا بالمعترك الإنساني الذي يلزم المرء فيه أن يأخذ أهبته ويتقلد عدته ويتدرب ويتقوى ليتمكن من الكفاح، ويبقى قائمًا على قدميه. مدارسنا لا تُكسب الشاب هذا المتاع على ضرورته وكونه أهم ما يجب أن يقتنى، لا تكسبه ملكة حسن التمييز ولا مكنة الإرادة ولا صلابة الأعصاب، بل على الضد من ذلك بدلًا من أن تجهزه وتهيئه، فإنها تضعفه وتبعد وجه الشبه بينه هو ومستقبله القريب المحتوم، لذلك تراه غالبًا يسقط في أول خطوة يخطوها بين الناس، ويكون في بداية أمره كلما مد يده للعمل تولاه الكمد وأخذه الخزي زمانًا طويلًا، وقد يصير كالأعرج ويبقى كذلك دائمًا. تجربة قاسية ذات خطر تضطرب فيها الأخلاق ويختل ميزان العقل ويخشى من البقاء هكذا على الدوام، فقد انكشف الستار وولى الخيال وعظم اليأس واشتد الأسى.٢

كأني بالقراء يظنون أنا قد بعدنا عن موضوعنا روح الاجتماع، لكن ما زلنا فيه لأنه يجب علينا لمعرفة الأفكار والمعتقدات التي تتولد الآن في الجماعات أن نعرف كيف هُيئت الأرض التي تنبت فيها، فالتعليم الذي يعطي الأمة هو المرآة التي يرى فيها مصيرها يومًا من الأيام، والذي يبذل منه الآن لشباننا يدل على مستقبل مظلم جدًّا. كذلك نفوس الجماعات إنما تتحسن، أو تفسد من بعض الجهات بواسطة التربية والتعليم، لهذا وجب أن نعرف كيف هيأت الطريقة المتبعة عندنا في التعليم روح جماعاتنا، وكيف أنها بعد أن كانت لاهية بنفسها أو لا تشتغل بغيرها تحولت إلى جيش كثيف من الممتعضين مستعد لتنفيذ ما يشير به المتهوسون أهل التخيلات أو المتفيهقون تجار الكلام، فالآن نحن نعلم أن الاشتراكيين والفوضويين يربون في المدارس، وأن فيها تحضر أوقات انحطاط الأمم اللاتينية عما قريب.

هوامش

(١) على أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالأمم اللاتينية، بل تشاهد في بلاد الصين لكونها محكومة أيضًا بنظام قوي من «المندران»، والمندرانية تنال هناك كما هو الحال عندنا بطريق الامتحان، وهو عندهم عبارة عن تلاوة الطالب كتبًا ضخمة عن ظهر قلبه. والصينيون الآن يرون في جيش المتعلمين الذين لا عمل لهم طامة كبرى على الأمة، كذلك الحال في الهند، فمن يوم أن فتح الإنكليز فيها المدارس لمجرد تعليم الوطنيين لا لتربيتهم كما يفعلون في إنكلترا ظهرت فيها طائفة مخصوصة من المتعلمين يقال لهم (يابوس)، إذا لم يجدوا وظيفة انقلبوا أعداء ألداء أشداء ضد الحكومة الإنكليزية، وكانت نتيجة التعليم سرعة انحطاط أخلاق جميع اليابوس الذين دخلوا الخدمة منهم والذين لم يدخلوها. وقد أفضتُ الكلام عن ذلك في كتاب (تمدن الهند)، ولاحظه أيضًا جميع المؤلفين الذين زاروا تلك البلاد الواسعة.
(٢) راجع تاين (النظام الحالي جزء ٢ صفحة ١٨٩٤)، وهذه الصفحات هي آخر ما كتب تاين تقريبًا، وفيها خلاصة تجارب ذلك الحكيم العظيم، ولكني مع الأسف أرى أساتذة مدارسنا الذين لم يقيموا زمنًا خارج فرنسا لا يدركونها على أن التربية هي الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها التأثير في نفس الأمة. ومن سوء الحظ أنه لا يكاد أحد عندنا يدرك أن طريقة التعليم التي نجري عليها هي من أشد عوامل الانحطاط العاجل، وأنها لا ترفع قيمة نشئنا بل تحط منه وتفسده. ومما يفيد القراء أن يجمعوا بين ما كتب (تاين) والمشاهدات المتعلقة بالتربية في أمريكا التي ذكرها موسيو (پول بورجيه) في كتاب (بحر آخر)، فقد لاحظ هو أيضًا أن تربيتنا لا تخرج إلا أواسط محدودة كفاءتهم، فلا إقدام على العمل من أنفسهم ولا إرادة فيهم أو فوضويين. قال: «وهما نموذجان تعسان للرجل المتمدن إذا خاب بانحطاط أخلاقه وعجزه، أو فقد الرشد فصار آلة هدم وتخريب.» ثم جاء بمقارنة جديرة بالإمعان بين مدارسنا الفرنساوية التي هي مصانع إتلاف والمدارس التي تربي الرجل للحياة تربية تفوق الوصف، هناك يتبين الفرق بين الأمم الديمقراطية الصحيحة والتي ليس لها من ذلك إلا ما جاء على ألسنة خطبائها لا الذي رسخ في عقولهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤