الفصل الخامس

المجالس النيابية

المجالس النيابية جماعات مختلفة العناصر غير اسمية، وهي تتشابه كثيرًا في صفاتها وإن اختلفت طريقة تكوينها بحسب الأمم والأزمان، ولروح الشعب فيها أثر هو إضعاف تلك الصفات أو تقويتها، إلا أنه لا يمنع من ظهورها البتة. وتتشابه المجالس النيابية في البلاد المختلفة كاليونان وإيتاليا والبرتقال وإسبانيا وفرنسا وأمريكا من حيث المداولات والقرارات تشابهًا عظيمًا، فتتشابه الصعوبات الناشئة عن ذلك أمام جميع الحكومات.

النظام النيابي هو أقصى ما تصبو إليه الأمم المتحضرة في العصر الحاضر؛ لأنه يعبر عن فكر سائد في الناس — وإن كان علم النفس يراه خطأ — وهو أن العدد الكثير أقدر من العدد القليل على البت في الأمور بالعقل والرويَّة والاستقلال.

والصفات المميزة للجماعات توجد في المجالس النيابية من بساطة الأفكار، وسرعة الانفعال وقابلية التأثر برأي الغير، والغلو في المشاعر ونفوذ القواد، إلا أن لها بمقتضى تكوينها الخاص بعض صفات لا تشترك فيها مع بقية الجماعات، وإليك بيانها:

أما بساطة الأفكار فمن أهم مميزات المجالس النيابية، فتشاهد عند جميع الأحزاب خصوصًا عند الأمم اللاتينية الميلَ إلى حل المسائل الاجتماعية العويصة بأبسط المبادئ النظرية وبقوانين عامة يطبقونها على جميع الأحوال. ومن الواضح أن المبادئ تختلف باختلاف الأحزاب، لكن الرجل في الجماعة يرمي دائمًا إلى تقدير تلك المبادئ بأكثر من قيمتها ويذهب فيها إلى آخر ما تؤدي إليه من النتائج، لذلك كانت الأفكار التي تمثلها المجالس النيابية هي المتطرفة.

وأكمل مثال لبساطة المجالس النيابية جماعة (اليعاقبة) أيام ثورتنا الكبرى، فقد كانوا كلهم من أرباب المذاهب وكلهم من المناطقة، وكانت رءوسهم ملأى بالكليات المقولة بالتشكيك، لذلك كان همهم تطبيق المبادئ المقررة من غير التفات لظروف الأحوال، فصح ما قيل عنهم من أنهم عبروا الثورة ولم يروها. فهم قوم اتخذوا مبادئهم مرشدًا وظنوا أنهم يتمكنون بها من خلق هيئة اجتماعية جديدة، ويرجعون بالمدنية الراقية إلى مدنية كانت للأمة قبل تطورها الحالي، كذلك كانت الوسائل التي استعملوها في تحقيق أحلامهم من أبسط الوسائل، فإذا اعترضتهم عقبة استعملوا العنف في تذليلها وكانت الروح السارية فيهم جميعًا واحدة وإن كانوا فرقًا شتى.

وأما التأثر بالرأي فقابلية المجالس النيابية له شديدة، والتأثير يأتي من قِبل القواد ذوي النفوذ كما هو الشأن في الجماعات كلها، إلا أن لقابلية المجالس النيابية في هذا الباب حدودًا واضحة يجب ذِكرها.

فلكل عضو رأي ثابت في المسائل المتعلقة بإقليمه لا يمكن زحزحته عنه ولا تؤثر فيه حجة أو دليل، فلو بُعث (ديموستين) ما أمكنه أن يقنع عضوًا بعدم وجوب حماية المهن التي لبعض أصحابها النفوذ الأول في الانتخابات، ذلك لأن التأثير الذي وقع عليه أولًا من الناخبين أوجد له رأيًا ثابتًا، وعطل فيه ملكة الاقتناع بما يخالفه. ولعل أحد نواب مجلس العموم الإنكليزي ممن طال عهدهم فيه كان يشير إلى تلك الأفكار التي رسخت من قبل في ذهن كل عضو حتى صارت لا تقبل التغيير ولا التعديل لتأثير ضروريات الانتخاب؛ حيث قال: «سمعت مدى خمسين عامًا قضيتها في (ويستمنستر) آلافًا من الخطب، فالقليل منها حملني على تغيير رأيي، ولكن لم يكن لواحدة منها أن تحملني على تغيير صوتي عند الاقتراع.»

وإذا دارت المناقشة في مسألة عامة كإسقاط الوزارة أو تقرير ضريبة جديدة … وهكذا، تقلبت الآراء وظهر نفوذ القواد، لكنه لا يساوي ما لهم في الجماعات الاعتيادية؛ إذ لكل حزب قواد قد يعادل نفوذهم نفوذ قواد الحزب الآخر، فيصبح الأعضاء بين مؤثرين متضادين؛ ولذلك يترددون، فيقر الواحد منهم على أمر وبعد ربع ساعة يعمل بنقيضه، كأن يقبل في القانون نصًّا يهدم المبدأ الذي أقامه عليه. مثال ذلك: الإقرار على قانون يبيح لأصحاب المعامل حق اختيار العمال وطردهم ثم الإقرار في الجلسة ذاتها على تعديلٍ يجعل هذا الحق أثرًا بعد عين.

وضح مما تقدم أن لكل مجلس في كل دور أفكارًا ثابتة وأخرى غير ثابتة، ولما كان الغالب فيما يعرض عليه هو المسائل العامة، كان التردد في الآراء هو الغالب لما يجتمع في نفس كل عضو من تأثير الناخبين وتأثير القواد في المجالس.

على أن القواد هم أصحاب الكلمة في أغلب المسائل التي ليس للأعضاء فيها رأي ثابت من قبل. وضرورة أولئك القواد ظاهرة؛ لأنهم يوجدون في كل هيئة نيابية عند جميع الأمم بعنوان رؤساء الفرق، أولئك الرؤساء هم السلاطين في كل مجلس، لأن الرجل في الجماعة لا يستغني عن السيد، ومن هنا كانت قرارات المجالس النيابة لا تمثل إلا رأي عدد صغير من أعضائها.

والقليل من تأثير القواد في تلك المجالس راجع إلى فصاحتهم، وكثيره مستمد من نفوذهم، برهانه أنهم إذا فقدوا نفوذهم انعدم تأثيرهم.

وهذا النفوذ شخصي لا دخل فيه للاسم والشهرة. ومن غرائب الأمثلة ما أتى به موسيو (جول سيمون) في عرض كلامه في مجلس نواب سنة ١٨٤٨ الذي كان عضوًا فيه، قال:

لم يكن لويز نابليون شيئًا مذكورًا قبل أن يتم له السلطان بشهرين.

ارتقى (فكتور هيجو) منبر الخطابة فلم ينل نجاحًا، بل سمعه الناس كما يسمعون (فيلكس پايات) ولكنهم لم يصفقوا له مثله. قال لي (فولايل) عن (پايات) إنه لا يحب أفكاره ولكنه كاتب كبير وهو أكبر خطباء فرنسا، كذلك (إدجار كينيه) على علمه وقوة مفكرته لم يكن له شأن يذكر، فإن صيته ذاع قبل افتتاح المجلس، فلما جاء إليه تخلفت عنه شهرته.

والمجالس النيابية هي المكان الوحيد في الأرض الذي يضعف فيه نور الذكاء الفائق، فليس هناك للفصاحة قيمة إلا ما وافق منها أحوال الزمان والمكان، ولا اهتمام إلا بالخدم التي أديت للأحزاب لا للوطن. وإذا كانت المجالس النيابية قد أكبرت شأن (لامارتين) سنة ١٨٤٨ و(تيير) سنة ١٨٧١ فما ذلك إلا بتأثير الضرورة الشديدة الحالة، ولهذا بعد أن زال الخطر شفي الناس من واجب الشكران ومن الخوف معًا.

نقلتُ هذا القول للاستفادة من الحوادث الواردة فيه لا من البيان الذي اشتمل عليه لأنه يدل على علم ناقص جدًّا بأحوال النفس؛ إذ الجماعة لا تكون كذلك إذا عرفت لقائدها ما قد يكون أداه من الخدم للوطن أو للأحزاب على حد سواء. والجماعة إنما تطيع قائدها موقنة بسلطان نفوذه فيها من دون أن يقترن ذلك عندها بمنفعة أو شكران.

لذلك إذا كان للقائد نفوذ كبير فتسلطه عظيم، وكلنا يعرف هذا النائب الشهير الذي كانت له الكلمة العليا عدة سنين بما أوتي من النفوذ حتى فقد مركزه على إثر بعض الحوادث المالية. كانت إشارة منه تكفي لقلب الوزارة، وقد أوضح أحد الكتاب مقدار تأثير ذلك النائب في الكلمات الآتية: إنا مدينون لموسيو فلان وحده بكوننا اشترينا التونكين بثلاثة أضعاف ما تساويه، وبكوننا لم نضع في مدغشكر إلا قدمًا متزعزعة، وبكوننا غبنا في مملكة كاملة جنوب نهر النيجر، وبكوننا أضعنا ما كان لنا من النفوذ الخاص في الديار المصرية، إلا أن نظريات موسيو (فلان) قد كلفتنا من الخسائر أكثر من مصائب نابوليون الأول.١

على أنه لا ينبغي تشديد النكير على هذا القائد وإن كان قد كلفنا كثيرًا؛ لأن أكثر نفوذه جاءه من تتبع الرأي العام، ولم يكن الرأي العام إذ ذاك في المسائل الاستعمارية كما هو عليه الآن. ومن النادر أن يسبق القائد الرأي العام، والغالب أنه يسير خلفه ويتبعه في الخطأ.

للقائد في إقناع قومه وسائل غير النفوذ هي التي ذكرناها مرارًا، ولا بد له في قيادتهم من أن يكون قد وقف على حقيقة الروح السارية فيهم ولو من طريق الوجدان، وعرف طريقة الكلام معهم، فينبغي له على الأخص أن يعرف ما لبعض الألفاظ من التأثير الذي يجذب نفوس السامعين، وأن يكون على جانب من الفصاحة المخصوصة التي تقوم بالتوكيد الشديد الخالي من الدليل وبالصور الآخذة المحلاة بالحجج الناقصة، هذه فصاحة موجودة في كل مجلس من المجالس النيابية حتى البرلمان الإنكليزي الذي هو أكثرها اعتدالًا.

قال الحكيم الإنكليزي (ماين): «من السهل أن نقرأ دائمًا مداولات لمجلس العموم مدارها تبادل كليات ضعيفة وشخصيات حادة، فلمثل هذه الصيغ الكلية تأثير كبير في خيال أهل الديمقراطية المحضة، ومن الميسور على الدوام جعل الجماعة تقبل القضايا العامة إذا قدمت لها بألفاظ جذابة، ولو كانت من القضايا التي لم يحققها أحد، وربما كانت لا تحتمل التحقيق.»

يؤخذ من ذلك أنه لا حد لتأثير «الألفاظ الجذابة» المذكورة، وكم أتينا على بيان قوة الألفاظ والجُمل، وما ينبغي أن يختار منها مما يمثل صورًا مؤثرة. وإليك جملة تمثل ما تقدم اقتطفناها من خطابة أحد قواد مجالسنا: «يوم يركب السياسي الأفين والفوضوي السفاك ظَهْرَ باخرة واحدة تقودهما إلى منفاهما في الأراضي الحمية، ذلك هو اليوم الذي يتحادث فيه الرجلان، ويظهر كل واحد منهما لأخيه ممثلًا إحدى صورتي نظام اجتماعي واحد.»

فالصورة التي يمثلها هذا المقال واضحة، وقد شعر خصوم الخطيب كلهم أنهم مهددون بها، فهم يرون الأراضي الحمية مقرونة برؤية الباخرة التي تقودهم إليها، لأنهم من حزب أولئك السياسيين الذين يهددهم ذلك العقاب. هنالك تولاهم الفزع الذي كان يدخل قلوب «المتعاهدين» إذ يسمعون (روبسبيير) يهددهم بمنجلة٢ الإعدام فيدينون له على الدوام.

من مصلحة القواد أن يأتوا بالمبالغات التي لا يجوز في العقل تصورها، فمن ذلك ما أكده الخطيب الذي نقلنا عنه الصورة المتقدمة ولم يعارضه أحد معارضة تُذكر من أن أرباب المصارف المالية والقسوس يواسون الذين يقذفون قنابل الديناميت، وأن مديري الشركات المالية الكبرى يستحقون الجزاء الذي يستحقه الفوضويون. لمثل هذه التوكيدات دائمًا أثر في الجماعات، ولا يرمى الخطيب بالتطرف كيفما بالغ وأكد، كما أنه لا حرج عليه وإن تعسف في الطعن واشتد في الهجاء، ولا نظير لهذه الفصاحة من حيث التأثير في السامعين لأنهم إن جنحوا للمعارضة خافوا تهمة الخيانة أو الاشتراك مع المجرمين.

سادت هذه الفصاحة في المجالس النيابية في كل زمان كما قدمنا وهي تشتد في أزمنة الشدة، ومن أفيد المطالعات قراءة الخطب التي كان كبار الخطباء يقولونها في مجالس الثورة، فقد كانوا يشعرون بالحاجة إلى قطع الكلام حينًا فحينًا لتقبيح الجرم وتمداح الفضيلة، ثم تنهمر الشتائم من أفواههم على الظالمين، ويقسمون أنهم إما أن يعيشوا أحرارًا وإما أن يموتوا، ويقف الحاضرون يصفقون كمن بهم جنة، ثم يسكن جأشهم فيجلسون.

قد يكون القائد أحيانًا ذكيًّا متعلمًا، ولكن ذلك يكون مضرًّا به في الغالب؛ لأن الذكي يميل إلى بيان ما في المسائل من أوجه التعقيد، ويقبل المناظرة والتفاهم؛ وذلك يؤدي إلى التسامح والإغضاء ويكسر كثيرًا من حدة العقيدة، وحدة العقيدة لازمة للرسل. وكان أكبر القواد في الأمم خصوصًا قواد الثورة الفرنساوية من قصار العقول جدًّا، وكان أكبرهم تأثيرًا أشدهم قصرًا في العقل، فإن الإنسان ليدهش مما يراه من التخبط عند مطالعة رسائل أعظمهم قدرًا وهو «روبسبيير»، ومن لم يقرأ غيرها من ترجمة حياته لا يجد ما يعلل به قوة ذلك المسيطر الجبار. قال بعضهم يصفها: «صيغ كلية جارية على كل لسان وشقشقة في الفصاحة المحفوظة من كتب التربية والتعليم على الطريقة اللاتينية اجتمعتا في نفس خلوها أكثر من انحطاطها، نفس تكاد لا تعرف من وسائل الهجوم أو الدفاع إلا ما تعوده التلاميذ من قول الواحد منهم لزميله: «هل من مبارز؟» وليس هناك رأي ولا تدبير ولا شاردة عنف ممل وشدة مسئمة، فإذا فرغ القارئ من تلك المطالعة المملة شعر بالحاجة إلى قول «أف» كما كان يفعل الرجل الظريف (كاميل ديمولان).»

من المفزعات ما يناله الرجل ذو النفوذ من السلطة إذا صدقت عقيدته وقصر عقله، على أنه لا بد لاستجماع ذلك في الإنسان حتى يستهين بالصعاب ويعرف كيف يريد. وللجماعات شعور كالإلهام يهديها إلى معرفة الرجل الذي أودعت فيه قوة العزيمة المبنية على صدق العقيدة فتدين لسلطته.

إنما ينجح الخطباء في المجالس النيابية بما لهم من النفوذ لا بقوة البراهين التي يقيمونها، وأصدق شاهد على ذلك أنه إذا وقع لأحدهم ما يفقدهم نفوذه فإنه يفقد معه تأثيره، أعني قدرته على إدارة الآراء كما يشاء.

وأما الخطيب المجهول الذي يذهب إلى الجلسة بعد أن يكون قد أعد خطابته ودعمها بالحجج ولم يكن لديه إلا الحجج والأدلة، فلا رجاء له حتى في الإصغاء إليه. وقد وصف موسيو (ديكوب) وهو أحد النواب، ومن علماء النفس المدققين النائب الذي لا نفوذ له في السطور الآتية: «إذا استوى — الموصوف — على منبر الخطابة أخرج من محفظته أوراقًا فنشرها أمامه على الترتيب وشرع يخطب مطمئنًا، وهو يفتخر في نفسه بأنه سيبث عقيدته لتسكين روح سامعيه؛ لأنه وزن أدلته وحررها، وأعد شيئًا كثيرًا من الإحصاءات والحجج، وأيقن أن الحق في جانبه وأن مُعارِضه لا يثبت أمام الحقيقة الناصعة التي يأتي بها. هكذا يبدأ معتمدًا على صواب رأيه وإصغاء إخوانه لاعتقاده أنهم لا يطلبون إلا السجود أمام الحق. وبينما هو يخطب إذ تأخذه الدهشة من اضطراب الحاضرين، ثم يتقزز بالضوضاء الناتجة من ذلك الاضطراب، ويتساءل كيف لا يسود السكون؟ وما السبب يا ترى في هذا الانصراف العام؟ وما الذي يدور على ألسنة أولئك الذين يتحادثون فيما بينهم؟ وما السبب القوي الذي يحمل ذاك على ترك مجلسه؟ يتساءل الخطيب هكذا والحيرة تعلو جبهته، فيفرك حاجبيه ويمسك عن الكلام، ويشجعه الرئيس فيعود بصوت مرتفع، فيزيد الأعضاء في عدم الإصغاء إليه، فيجهر ويهتز، فتزداد الجلبة حواليه، ويعود لا يسمع نفسه فيمسك عن الكلام مرة أخرى ثم يخشى أن يدعو سكوته إلى أصوات (الأقفال الأقفال)، فيرجع إلى خطابته بما فيه من قوة. وهناك تعلو الجلبة ويختلط الحابل بالنابل مما لا يقدر على وصفه الواصفون.»

ومن خواص المجالس النيابية أنها إذا تحرك شعورها وارتقت في الهياج إلى درجة معلومة تصير كالجماعات العادية المختلفة العناصر سواء بسواء، فتغلو إلى النهاية في مشاعرها، وتذهب إلى أقصى مراتب الشجاعة وآخر درجات التطرف في القسوة؛ إذ ذاك لا يصير الرجل نفسه بل يبعد عنها بعدًا يحمله على تقرير ما يخالف منافعه كل المخالفة.

والذي يقرأ تاريخ الثورة الفرنساوية يدرك إلى أي حد تفقد المجالس شعورها وتخضع لما يطلب منها وإن خالف أعز المنافع لدى أفرادها. كان من أكبر الضحايا أن يتنازل الشرفاء عن امتيازاتهم، ومع ذلك فعلوه غير مترددين ذات ليلة من ليالي «الدستورية»، وكان تنازل المتعاهدين عن تقديس أشخاصهم منذرًا لهم بالويل والدماء، ولكنهم فعلوا وما خشوا تقتيل بعضهم بعضًا، ولا أرهبهم اعتقاد كل واحد منهم أنه مسوق إلى الإعدام لا محالة كما يسوق هو اليوم إخوانه إليه، غير أنهم كانوا قد وصلوا إلى حالة من التهيج جعلتهم كآلات تتحرك من نفسها على ما وصفنا، فلم يعد هناك من الاعتبارات ما يقوى على صدهم عن اتباع الهوى المتمكن من صدورهم. إليك ما قاله أحدهم (بيلوفارين) مما يوضح ما ذكر: «ما كنا لنريد القرارات التي يلومنا الناس من أجلها قبل أن نصدرها بيومين اثنين بل بيوم واحد، ولكن المحنة هي التي كانت تمليها»، وما أصدق ما كتب.

كانت جلسات التعاقد منفردة باللاشعور كما عرفت بالهياج، قال تاين: «لقد أقروا وشرعوا ما كانوا يجزعون له أشد الجزع ولم يكتفوا في ذلك بالحماقيات والجنونيات، بل شرعوا الآثام وقتل الأبرياء وإعدام الأصدقاء، وانضم حزب الشمال إلى حزب اليمين، وقرر معه بالإجماع وسط التصفيق الشديد إرسال (دانتون) إلى المنجلة، وكان رئيسه الطبيعي وموجد الثروة وقائد زمامها ومال اليمين إلى الشمال، فقرر معه بالإجماع وسط التصفيق الشديد أفظع الأوامر التي أصدرتها الحكومة الثورية، وبين أصوات الإعجاب والنشوة تدفق الميل والانعطاف نحو (كولوت ديربوا) و(كوطون) و(روبسبيير)، فجدد (المتعاقدون) انتخاب أعضاء الحكومة الثورية وإبقاءها على منصة الحكم، وهي الحكومة القاتلة التي كان يبغضها السهل لجرمها ويمقتها الجبل لأنها كانت تحصده. اصطلح السهل مع الجبل واتفق القليل مع الكثير ورضي الجميع بمساعدة قاتليهم على إعدامهم، ثم في يوم ٢٢ من الشهر تقدمت رقاب تلك الحكومة إلى التقطيع، وبعد ذلك بقليل تقدمت إليه أيضًا تلك الرقاب عقب خطاب روبسبيير.»

قد يكون الوصف أقتم ولكنه الحق الواقع، والصفات المتقدم ذكرها توجد في المجالس النيابية المتهيجة التي سكرت بخمر فكر من الأفكار فتصبو كالقطيع المتحرك يسوقه كل دافع، وقد وصفها على هذه الحال موسيو «سبوللر» وهو شوري لا يشك أحد في صدق أفكاره الديمقراطية وصفًا دقيقًا نذكره للقراء نقلًا عن (المجلة الأدبية) ويرى القارئ فيه جميع المشاعر المتطرفة التي قدمنا ذكرها، وتتمثل فيها التقلبات الشديدة التي تنتقل بها الجماعات من الضد إلى الضد من لحظة إلى أخرى. قال موسيو «سبوللر»:

إن التنافر والحسد وسوء الظن ثم الثقة العمياء والآمال التي لا نهاية لها أوردت الحزب الجمهوري حتفه، فلقد كان له من السذاجة ما لا يساويه إلا سوء ظنه المطلق، لا يدرك شرعية الأمور ولا يفقه للنظام معنى، ذعر وآمال لا تنتهي، حالتان يستوي فيهما الريفي والطفل، فسكونهما يضارع قلقهما ووحشيتهما تماثل طاعتهما، ذلك شأن المزاج الذي لم يرتب والتربية التي انعدمت، لا يندهشان لأمر وكل أمر يفقدهما الصواب، يرتجفان ويرهقان، وفيهما الإقدام والشجاعة، فيقتحمان النار، ويجفلان من الظل، ويجهلان العلل والمعلولات، ويسارعان إلى الفتور مسارعتهما إلى التهوس. فيهما استعداد للفزع والذهول، ويتخبطان من الإفراط إلى التفريط، فلا يعرفان الوسط ولا القدر الذي ينبغي أبدًا، ألين من الماء تنعكس فيهما جميع الألوان، ويتشكلان بكل الصور، أي رجاء في حكومة تؤسس فوقهما.

لكن من حسن الحظ أن جميع الصفات التي أتينا على ذكرها في المجالس النيابية لا تظهر دائمًا؛ لأن تلك المجالس لا تكون جماعات إلا في بعض الأحايين، والغالب أن كل عضو من أعضائها يحفظ ذاتيته على استقلال، ومن هنا صح لها أن تسن من القوانين الفنية ما هو حسن للغاية. نعم، إن الذي يضع هذه القوانين إنما هو اختصاصي واحد يحضرها في سكون مكتبته، وكل قانون أقره المجلس هو صنع فرد واحد لا صنع المجلس كله، ولكن القوانين التي وضعت بهذه الكيفية هي أحسن ما يشرع، وإنما يكون القانون ضارًّا إذا أدخلت عليه في الهيئة تعديلات رديئة فجعلته من صنع الجماعة، ذلك لأن صنع الجماعة أحط درجة من عمل الفرد دائمًا وفي كل مكان. والاختصاصيون هم الذين ينجون المجالس النيابية من الوقوع في الأعمال المضرة التي لا يهذبها الاختبار، فالاختصاصي يكون عند ذلك قائدًا وقتيًّا يؤثر في المجالس ولا تأثير للمجلس فيه.

المجالس النيابية هي أحسن الوسائل التي اهتدت إليها الأمم في حكم نفسها وبالأخص في التخلص ما استطاعت من نير المظالم الشخصية مع ما عليه المجالس المذكورة من صعوبة الحركة. وهي على التحقيق أرقى أشكال الحكومات إن لم يكن عند الكافة، فعند الفلاسفة والمفكرين والكُتاب وأهل الفنون والعلماء، وبالجملة عند كل عنصر من العناصر التي تتكون منها ذروة الحضارة في الأمم.

على أننا إذا نظرنا إليها من الجهة العملية لا نرى لها إلا ضررين كبيرين: الأول تبذير الأموال تبذيرًا لا مناص منه، والثاني الترقي في تحديد الحرية الشخصية.

فأما الضرر الأول فهو نتيجة عدم تبصرة الجماعات الانتخابية، فإذا قدم أحد الأعضاء طلبًا لسد حاجة اجتماعية ديمقراطية ولو في الظاهر كتقرير معاش لجميع العملة أو زيادة مرتبات بعض خدمة الريف والمعلمين وهكذا، لا يسع الأعضاء الآخرين أن يرفضوه لخوفهم من الناخبين حتى لا يظهروا بمظهر من لا يهتم بمصالحهم ولو كانوا على يقين من أن الطلب يبهظ الميزانية ويفضي إلى تقرير ضريبة جديدة، إذن يستحيل عليهم الرفض. أما نتائج الزيادة في المصروفات فهي بعيدة ولا تأثير لها في أشخاصهم إلا قليلًا، بخلاف ما لو رفضوا الطلب، فإن النتيجة تتجلى يوم يضطرون للوقوف أمام الناخبين، وما ذلك اليوم ببعيد.

وهناك سبب قوي آخر يستلزم زيادة المصروفات وهو الاضطرار لمنح المصروفات المحلية؛ إذ لا يجرأ عضو في المجلس على رفض طلبها لكونها في منفعة الناخبين مباشرة، ولأنه لا يتمكن من نيل ما يريده لمركزه إلا إذا أقر ما يطلبه زملاؤه لمراكزهم.٣

وأما الضرر الثاني وهو التدرج في تقييد الحرية الشخصية تدرجًا قهريًّا كذلك فهو ضرر محقق، وإن كان أقل وضوحًا من الأول. وهو نتيجة القوانين العديدة التي لا تدرك المجالس النيابية نتائجها تمامًا لبساطة أفكارها، ولكونها تحسب أنها مضطرة لتقنينها وليست القوانين إلا قيودًا.

والظاهر أنه لا مفر من هذا الخطر لأن إنكلترا نفسها لم تتمكن من اتقائه مع أن نظامها النيابي أكمل النظامات لأن النائب الإنكليزي أكبر النواب استقلالًا أمام ناخبيه، وقد أشار (هربرت سبنسر) منذ زمن بعيد إلى أن الزيادة الظاهرية في الحرية الشخصية لا تلبث أن تتبع بنقص حقيقي فيها. ثم عاد إلى هذه النظرية في كتابه الذي سماه (الفرد والحكومة)، ومما قاله: «جرى التشريع منذ ذلك الحين على النحو الذي أشرت إليه، فما أسرع ما كثرت اللوائح القسرية وكلها ترمي إلى تحديد الحرية الشخصية، وذلك من طريقين: الأول أن كل سنة قد أربت على سابقتها في كثرة اللوائح التي تلزم الأفراد بواجبات كانوا أحرارًا منها، وتفرض عليهم أعمالًا كانت مباحة إن شاءوا فعلوها وإن شاءوا أهملوها. والثاني زيادة الضرائب العامة التي يجب على الأفراد القيام بها، وذلك يحرمهم من ثمرات كسبهم بقدر ما يزيد في المال الموكول صرفه إلى مشيئة الموظفين العموميين.»

وهذا الترقي في تحديد الحريات يظهر في جميع البلاد بصورة واحدة لم يذكرها (هربرت سبنسر)، وهي أن أحداث تلك القوانين المقيدة ينتج حتمًا زيادة عدد الموظفين المكلفين بتنفيذها، ثم هو يقوي نفوذهم، ومآل أولئك الموظفين بهذه الطريقة صيرورتهم سادة البلاد المتمدنة الحقيقيين؛ لأن طائفتهم هي التي لا ينالها أثر التقلبات المستمرة التي تطرأ على حكومة البلاد؛ ولذلك كانت سيطرتها شديدة على قدر ثبوت قدمها في الوظائف، فهي الطائفة الوحيدة التي لا تبعة عليها من أعمالها ولا شخصية لأحد في مجموعها، وهي باقية على الدوام، ومن المعلوم أن أشد صور الاستبداد هي التي اجتمعت فيها تلك الصفات الثلاث.

إن الاستمرار على سَن هذه القوانين واللوائح المقيدة لحرية الناس والتي تحيط بكل حركة من حركاتهم وإن صغرت بسور من الإجراءات (البيزنطية) من شأنه أن يضيق دائرة العمل الذي لا قيد فيه، لكن الأمم قد خدعت في خيالها فحسبت أن الإكثار من القوانين توكيد لضمان الحرية والمساواة، وصارت تقبل كل يوم قيدًا ثقيلًا.

على أنها لا مهرب لها من نتيجة هذا الرضا، فإن التعود على احتمال النير كل يوم يفضي بها إلى تطلبه وفقدان ملكة الإقدام وقتل العزيمة، فتصبح حينئذٍ أثرًا بعد عين والآلات تنفعل بحركة غيرها لا إرادة ولا صلابة ولا قوة.

وإذا فقد الإنسان المقدمات في نفسه اضطر إلى طلبها في غيره، وكلما ازداد عدم اهتمام الأفراد وضعفهم اشتدت سطوة الحكومة وقويت شوكتها بالضرورة، هنالك تضطر إلى إبدال إقدامهم على الأعمال بإقدامها والقيام مقامهم في الأخذ بيد المشروعات كلها والتداخل في تنظيم سير الأفراد دونهم لأنهم أضاعوا ملكة ذلك كله، وتصبح الحكومة مكلفة بأن تعمل كل شيء وتدير كل شيء وتحمي كل شيء فتصير إلهًا قادرًا، إلا أن التجربة دلت على أن قدرة مثل هذا الإله لم تكن قوية ولم تدم إلا قليلًا.

والظاهر أن الترقي في تقييد الحريات عند بعض الأمم التي تظن أنها متمتعة بها لما هي فيه من الإطلاق الصوري ناشئ من هرمها كما ينشأ عن هرم أي نظام كان، وذلك نذير دور الانحطاط التي لم تنج منه مدنية حتى الآن.

وإذا قسنا الحاضر بالماضي ورجعنا إلى العلامات التي تبدو من كل صوب، حكمنا بأن عددًا كبيرًا من مدنياتنا الحاضرة قد وصل إلى أقصى حدود الهرم الذي هو طليعة الانحطاط، والظاهر أنه لا بد لجميع الأمم من عبور هذه السبيل؛ لأن التاريخ يروي لنا أنه دور كثيرًا ما تجدد.

ولقد يسهل بيان الأدوار التي تتقلب فيها المدنيات بقول موجز، وهو الذي نريد أن نختم به هذا الكتاب، فلعل فيه توضيحًا لأسباب قوة الجماعات.

إذا سبرنا المدنيات التي سبقت مدنيتنا في حالتيها الرقي والانحطاط فما الذي نعثر عليه؟

نعثر في فجر هذه المدنيات على خليط من الناس مختلف الأجناس جمعتهم عفوًا الهجرة والإغارات والفتوحات، ولكونهم اختلفوا في المحتِد وتباينوا لغة ودينًا لم يكن بينهم من الرابطة العمومية إلا سلطة الرئيس على ضعف اعترافهم بها. وفي تلك المجامع المختلطة نشاهد صفات الجماعات بأرقى صورها، فلها منها الائتلاف الوقتي، والشجاعة والضعف، والاندفاع والقسوة، وعدم ثبات شيء من ذلك، إن هم إلا قوم متوحشون.

ثم دار الزمان فأدى وظيفته، وأخذت جامعة البيئة وتكرار التناسل وحاجات المعيشة الاجتماعية تؤثر أثرها شيئًا فشيئًا، وبدأت أجزاء المجموع المختلفة تمتزج بعضها ببعض، وتكون شعبًا أي تركيبًا ذا صفات عامة ومشاعر متشابهة تمكنها الوراثة كل يوم. هكذا صارت الجماعة أمة وآن لهذه الأمة أن تخرج من دائرة الهمجية.

على أنها لا تخرج منها إلا إذا تكوَّن لها مقصد عام تشخص إليه، وذلك لا يتم إلا بعد مجهودات طويلة، ومغالبات متجددة على الدوام، وبدايات يخطئها الحصر. وسواء كان المقصد العام ألوهية روما أو تعظيم أثينا أو نصرة الله، فهو يكفي لتوحيد أفكار أفراد الأمة وهي في دور التكوين، هنالك تتولد مدنية جديدة بما تقتضيه من النظامات والعقائد والفنون، وينجر الشعب وراء مقصده ويصل إلى ما ينيله الأبهة والجلال والقوة والإعظام. نعم تعرض له أحوال يكون فيها جماعة، إلا أنه يكون له خلف صفاتها المتقلبة ذلك الموجود القوي، أعني روح الشعب، فهي التي تقيد تقلباته وتحددها وتضع للمصادفات نظامًا مسنونًا.

فإذا أتم الزمان صنعه الإيجادي يبدأ بصنعه الإعدامي الذي لم ينج منه عابد ولا معبود، فتقف المدنية عند وصولها إلى حد معين من الشوكة والتشعب، ومتى وقفت أسرع إليها الانحطاط لا محالة، فقد اقتربت الشيخوخة ودنت ساعة الأجل.

علامة تلك الساعة التي لا مفر منها تكون دائمًا ضعف اليقين بالمقصد الذي اتكأت عليه روح الشعب، وكلما انزوى عود هذا الخيال اندكت صروح الدين والسياسة والاجتماع التي كانت تستمد حياتها منه.

كلما انزوى خيال الشعب فَقَدَ هو علة امتزاجه، وداعي وحدته، وموجِد قوته، وتمت شخصية الأفراد، وعظم الذكاء فيهم، غير أن ذلك يصطحب بحلول الأثرة الشخصية المفرطة محل الأثرة القومية.

ووراؤه انطماس الأخلاق، وضعف القدرة على العمل، ويصبح ذلك التركيب الذي كان يكون أمة — أي وحدة وإن شئت فقل كتلة — جمعًا مؤلفًا من أفراد غير مؤتلفين، لا رابطة بينهم إلا الجامعة الصناعية الآتية من التقاليد والنظامات. ومتى وصل الناس إلى هذه الحال من افتراق المنافع واختلاف النزعات وعدم الاهتداء إلى طريقة يحكمون بها أنفسهم جدوا في طلب من يقودهم في جميع أعمالهم وإن صغرت، فتأتي الحكومة بسلطانها وتبتلع كل شيء.

وإذا تم فقدان الخيال تم فقدان روح الأمة، فتعود خليطًا من الناس كلٌّ يعمل على شاكلته، وترجع إلى ما كانت عليه في بدايتها جماعة لها منها جميع الصفات الوقتية، فلا شعور، ولا أمل، هنالك تنعدم أساطين المدنية، وتمسي هدفًا لحوادث الاتفاق، وتصير العامة سلطانة في الناس، وتبدو طلائع المتوحشين، وقد يلوح على المدنية أنها باقية في بهائها لأن محياها لا يزال يضيء بما أكسبته الأجيال الطويلة من البهجة والرواء، ولكن الحقيقة أنه بناء أكله السوس وفَقَدَ دعائمه واستعد للسقوط بأية عاصفة.

فمن همجية إلى حضارة وراء مقصد في الخيال، ومن حضارة إلى انزواء، فموت حين يضمحل الخيال، هذا مدار حياة الأمم.

هوامش

(١) لعل المؤلف يشير إلى موسيو كليمانسو الذي سمي هدام الوزارات، ولو تأخر صدور هذا الكتاب إلى الآن لغير المؤلف رأيه في الرجل القابض اليوم على زمام السياسة الفرنساوية المتربع في رئاسة نظارها ونظارة خارجيتها، وله في السياسة العامة مقام كبير (م).
(٢) آلة إعدام تفصل الرأس عن بقية الجسد.
(٣) ذكرت جريدة (إيكونوميست) في عددها الصادر بتاريخ ٦ أبريل سنة ١٨٩٥ بيانًا غريبًا للنفقات التي تتكلفها تلك المصالح المحلية في سنة واحدة، وخصوصًا السكك الحديدية، فكان كما يأتي: الخط بين (لانجاي) وسكانها (٣٠٠٠) نسمة، وهي منزوية في أحد الجبال و(پوى) خمسة عشر مليونًا. والخط بين (بومون) وسكانها (٣٥٠٠) نسمة و(كاستيل سازاران) سبعة ملايين، والخط بين (أوست) وسكانها (٥٢٣) نسمة و(سيكس) وسكانها (١٢٠٠) نسمة سبعة ملايين. والخط بين (پراد) وكفرة (أوليت) وسكانها (٧٤٧) نسمة سبعة ملايين … وهكذا. وبلغ مجموع كلفة السكك الحديدية التي تقرر إنشاؤها في سنة ١٨٩٥ وحدها، ولم يكن لها منفعة عامة مطلقًا، تسعين مليونًا، وستبلغ مصروفات تنفيذ قانون معاشات العمال ١٦٥ مليونًا بحساب ناظر المالية أو ٨٠٠ مليون بحساب (لوروابوليو) عضو جمعية العموم. ولا يخفى أن استمرار زيادة المصروفات على هذا النحو يؤدي إلى الإفلاس، وقد وصل إليه كثير من الممالك في أوروبا مثل البرتقال واليونان وإسبانيا وتركيا، ومنها ما أصبح قادمًا عليه مثل إيتاليا، إلا أنه لا داعي للاهتمام كثيرًا بما ذكر؛ لأن الناس قبلوا نقص الفائدة التي تدفعها تلك البلاد على ديونها بمقدار أربعة الأخماس من دون امتعاض كبير. وهي تفاليس محكمة التدبير تسمح لأممها بإصلاح ميزانياتها، على أن الحروب والاشتراكية والمزاحمات الاقتصادية تضمر لنا مصائب أشد وأنكى. وقد دخلنا في زمن التفكك والتحلل العام، فعلينا الرضا بالعيش يومًا بيوم، وأن لا نهتم بالغد لأنه ليس في ملكنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤