الحائر بين الكونين

حين زار الكاتب المسرحي العالمي دورينمات القاهرة، وكنتُ البادئ في دعوته، وجدت أن من الواجب — أقل الواجب — أن نُقيم له مأدبة غداء فاخرة في الأهرام. وجاءت جلستي بين أستاذنا الكبير توفيق الحكيم وبينه، ولقد دار بيننا حوار طوال الغداء لستُ أدري كيف دار؛ فدورينمات ألماني بالكاد يعرف الإنجليزية وإن كان يتكلَّم الفرنسية، وتوفيق الحكيم طليق في فرنسيته وأنا لغتي المفضلة الإنجليزية، ولكنني أفهم الفرنسية، ولا أعرف سوى ثلاث أو أربع كلمات بالألمانية. المهم أن الحديث بيننا، رغم تعدُّد اللغات، وتكسيرها ودشدشتها، لم ينقطع.

وأذكر أن توفيق الحكيم سأل دورينمات عن قراءاته وعن أحب الكُتَّاب إليه. ودُهشت جِدًّا من إجابة دورينمات؛ فقد قال له إنه لا يقرأ في الأدب كثيرًا، وقراءاته المفضلة هي دائمًا في العلم أو في الفلسفة.

دُهشت وفرحت؛ فقد كنت أظن أني الوحيد الشاذ في هذا المقام، فأنا لا تَستهويني أبدًا قراءة الروايات أو القصص أو بحوث النقد، وإنما يَستهويني إلى حد الولَهِ قراءة العلوم، وبالذات الاكتشافات الحديثة جِدًّا في العلوم مثل أحدث نظريات تركيب المادة، والتصوُّرات الجديدة لشكل الكون، وعلى وجه العموم كل ما يتصل بالطبيعة النووية أو هندسة الوراثة.

أمَّا في غير هذا فالتاريخ هو الموضوع المفضل لقراءاتي. وكم أتحسر لأني لا أجد الوقت الكافي لقراءة تاريخ كل شعب وكل شيء على سطح الأرض لأصلَ إلى جذور الحاضر وكيف كان الماضي وكيف ظلَّ يتحوَّر إلى أن أصبح الحاضر، ماذا يُمكن أن يُفصِح عن امتداداته في المستقبل.

ولهذا، حين ذهبتُ لزيارة دورينمات في غرفته بالفندق، وكانت زوجته المخرجة الألمانية المستبدة قد ذهبَت مع المرشد السياحي إلى خان الخليلي، وبقيَ معنا المترجم، في الحال انخرطت معه في جدل حول الطبيعة النووية وتركيب الذرة، وبالتالي تركيب الكون.

وأسعدني أن أجد أن الأسئلة التي حيَّرتني في تركيب الذرة، قد حيرت أيضًا دورينمات، ولكن حائل اللغة أقام بين تواصلنا سدًّا. وهكذا لم أستطع أن أسرد عليه كل تأملاتي في تلك المسألة الغريبة، مسألة المادة والكون والذرة وبالتالي المركبات والجماد والإنسان.

وكنت قد قرأت تقريبًا، ليس بشكل علمي رياضي بحت؛ إذ الطبيعة النووية تستحيل في النهاية إلى معادلات رياضية؛ إذ هكذا حطم أينشتين الذرة، بمجرد معادلات رياضية وليس بطرق معملية. إنما بشكل شبه يقيني. ولكنه في نفس الوقت مثير للخيال بدرجة لا يتصوَّرها العقل.

فالنظرية الذرية ليست حديثة، إنما هي قديمة جِدًّا تَرجع إلى عهد اليونان، حين افترض «دالتون» أن المادة مكوَّنة من جسيمات دقيقة جِدًّا سماها ذرات.

وظلَّت هذه النظرية سائدة طوال العصور الوسيطة وحتى بدايات عصر النهضة، إلى العصر الحديث؛ حيث أدلى «ماكس فرش» بدَلوِه وابتكر نظرية الكم، ثم صاحبه وتلاه العلامة الدانماركي نيل بوهر، ويُعتبَر هذان العالِمان المسئولان الأساسيان عن التصور الحديث لتركيب الذرة أو بالأصح المادة.

ذلك التصوُّر الذي يرى الذرة باعتبارها نواة ثقيلة في الوسط تُكوِّن غالبية الكتلة الذرية، وحولها تدور الإلكترونات التي تقريبًا لا وزن لها، وهو باختصار تصور يقترب تقريبًا من تصوُّرنا للكون أو المجموعة الشمسية، حيث توجد الشمس في وسط المجموعة وكأنها النواة وحولها تدور الأرض والمريخ والمشتري … إلخ. وكأنها عدو الإلكترونات الدائرة في فلك النواة.

ظهر هذا التصور قبل نظرية الكم، وجاءت مدام كوري لتكتشف أن في داخل الذرة ثلاثة أنواع من الجسيمات (غير النواة والإلكترونات)، وهي جسيمات ألفا وبيتا وجاما (أي ألف وباء وجيم)، وأن أشعة إكس ليست سوى نوعٍ من هذه الجسيمات لدَيه القدرة على اختراق الأشياء الصلبة مثل جسم الإنسان، ولكن ليس لديه القدرة على اختراق العظام مثلًا أو الرصاص.

وبظهور نظرية الكم وتطور الميكروسكوبات الإلكترونية، والطرق التكنولوجية المتطورة لفحص ما بداخل الذرة، وجد أن النواة ليست نواةً صماء كما كان يتصوَّر، ولكنها مجموعة كبيرة جِدًّا من الجسيمات المتلاصقة التي كُشف عن بعضها ولم يُكشف عن بعضها الآخر، وفي آخر صيحات الاكتشافات أيضًا وُجد أن الإلكترون نفسه ليس له وجود مادي، وإنما هو شيء يُشبه موجة البحر مصنوع من نفس المادة التي يتكون منه الفراغ داخل الذرة.

ولا تتوقَّف الاكتشافات، ولن تتوقَّف.

وليس هذا على أية حال موضوعنا.

فالموضوع الذي حيرني ولا يزال يحيرني هو هذا: إن أصغر ذرات المادة هي ذرة غاز الأيدروجين، وهي مكوَّنة من نواة واحدة يدور حولها إلكترون واحد.

وليست كل الذرات الأخرى سوى تجمع لنواتَين من الأيدروجين مع نظائر من الإلكترونات الأيدروجينية.

بمعنى أخطر أن كل المواد التي في الكون إذا حلَّلناها إلى عواملها الأولية نجد أنها مكونة من لبنة واحدة أو عدة لبنات هي ذرات الأيدروجين أو مضاعفات لها. تلك المضاعفات التي على أساسها وضع ماندليف جدول الأوزان الذرية للعناصر. فإذا كان الوزن الذرِّي للأيدروجين ١ فالزئبق مائة والأكسجين اثنين، وهكذا.

والبلوتونيوم الذي تُصنع منه القنبلة الذرية اختاروه لأنَّه من أثقل الأوزان الذرية؛ أي إن نواته مكتظَّة إلى آخرها، ومن السهل حينئذٍ ضربها بوابل من الإلكترونات يُصيبها ويُفتِّتها ويُحدث تفجُّرَها الذري.

أعود فأقول: إذا كان كلُّ ما في الكون مصنوع من مادة كونية واحدة أصلها واحد، وتَختلف عن بعضها البعض في عدد ذرات الأيدروجين الداخلة في تكوينها، أي إن الاختلاف كمِّيٌّ محْض، فلماذا تختلف أشكال الأشياء، وأنواعها؟ لماذا هذا التجمُّع الذري يُحدث حديدًا أصمَّ وتجمُّعًّا ذريًّا آخر يُحدِث خلية الإنسان العصبية التي «تُفكِّر» و«تريد» و«تعي» ما دام التركيب الداخلي للذرات واحد، فلماذا تختلف أنواع الأشياء والأجناس وأشكالها؟

أيكون هذا الاختلاف راجعًا إلى أن لكل شيء تركيب داخلي داخل ذري، وتركيب خارجي راجع إلى الشكل الخارجي الذي تتَّخذه تلك الذرات إذا تجمَّعت؟

أم أن هناك اختلافات داخل تركيب كل ذرة بحيث إنها تُنتج بجمعها شكلًا للوجود مختلفًا.

وكيف، وعلى أيِّ أساس تتجمَّع تلك الذرات وتتلاصَق لتضع الأشكال والأنواع المختلفة، فالوضع مذهل حقًّا، لكأنَّ الكون فعلًا مكوَّن من مليارات المليارات المليارات من قوالب الطوب الدقيقة التي لا شكل خارجيَّ لها، ولكنها حين تتجاذب (على أي أساس؟ لا أحد يعرف) وحين تتجمَّع يتكون لها «شكل» خارجي نُسميه جزيء البروتين أو خلية الخشب أو قطعة النحاس.

ولماذا لم تَمضِ تلك التجاذبات والتراكيب والأشكال إلى ما لا نهاية، لماذا توقَّفَت عند تكوين التسعين عنصرًا أو أكثر، وهي العناصر التي تتكون منها مادة الكون ابتداءً من النيازك إلى جسم الإنسان وعقله وكروموزومات وراثته؟

إنها ليست أسئلة، ولكنها ألمٌ مُمضٌّ يُصيبني كلما فكرت فيها ولم أجد لها حلًّا، لا في الكتب، ولا في التأمل، ولا في لحظات التصوف والتبتُّل، قوالب طوب متشابهة يصنع منها كل ما يحفل به الكون من أشياء وحياة وظواهر، كيف؟

•••

ولهذا أقول لنفسي دائمًا حين يُعييني الجواب: إننا لا نزال إلى الآن، حتى برغم كل تلك الاكتشافات والاختراعات، لا نزال «نستعمل» المادة في أبسط أشكالها، ونحن لا نَعرف سرَّها، بل إن بيننا وبين سرِّها مسافة بعيدة جِدًّا، تكاد تُقاس بملايين السنين الضوئية وبالغرور الإنساني.

إننا نتصور أننا قد وصلنا إلى عصرٍ كدنا نعرف فيه أسرار كل شيء، ولكن المُضحك أن القليل الذي وصلنا إليه لم يعرفنا إلا أننا لا نزال نجهل الكثير والكثير والكثير.

نحن لا نزال على شاطئ محيط المعرفة، نبلل سيقاننا في ماء الشاطئ ونظنُّ أننا أصبحنا في قلب المحيط العميق.

أيتها الذرات، ماذا فيك من سحر، ماذا فيك من مجهول؟ أيها الكون كيف أنت، ولماذا أنت، وكيف حدث؟

أيها الإنسان، أنت الوحيد الجاهل بالكونَين الأعظم والأصغر؛ لأنك الوحيد الواقف بينهما، الحائر بينهما، ولكنك أيضًا الوحيد في الكون الذي يدركهما معًا، يُدرك أن هناك كونًا أكبر منه بكثير وكونًا أصغر منه بكثير، وأنه سيظل دائمًا وأبدًا الحائر بين الكونين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤