البسوس وحربها المضرمة ٤٠ عامًا

ويذكر راوي هذه السيرة الملحمية — التي يتعاقَب فيها النثر والشعر الإنشادي — أن الزير سالم — أبو ليلى المهلهل — اختار الانعزال بنفسه بعيدًا عن مُلْك أخيه — الملك كليب — المترامي في سوريا الكبرى وعاصمته دمشق، وطال به المقام في عزلته تلك بوادي بير سبع الموحش في فلسطين، فظلَّ في منفاه الاختياري هذا يسمع الأنغام ويُنشد الأشعار ويشرب المدام، لمدة ثلاثة أعوام متصلة، هو وصديقه وصفيُّه الأمير «همام» بن مرة — زوج أخته «الضباع»، وأخ الجليلة زوجة أخيه.

إلى أن جدَّت أحداث أشعلتها العجوز الشاعرة أخت الملك اليمني المغتال «تبع حسان» الذي قتَله كليب ليلة عرسه بقصره بدمشق، حين تسلَّل مُتنكِّرًا تحت جلد الحيوانات الطواطم، وكذلك تسلَّل فرسانه المائة بحيلة تُذكِّرنا بما فعله اليونان لاقتحام طروادة — أي بنفس طريقة مينلاوس في استرداد هيلانة — من أَسر باريس بن بريام ملك الطروادنيِّين.

وما تتبَّع هذا من أحداث تنصيب كليب ملكًا على عرش التبع المغتال بالشام وزواجه من ابنة عمه الجليلة بنت مرة، ورحيل أهلها البكريين — «بزعامة أميرهم» «جساس» عن الشام — إلى واد بعيد يبعد «تسع ساعات» عن العاصمة دمشق، رجَّحنا أنه وادي الأردن أو فلسطين، ويرجِّح الكثير أنه شمال الجزيرة العربية؛ أي وادي مكة وتخومها، ثم مكائد ضد أخي زوجها الأصغر الزير سالم الذي أحبطها جميعها بشجاعته، وانتهت بنزوله بير صندل السباع وإخضاعه لسباعها واتخاذها موطنًا ومنفى، بل وانتقامًا لحماره، وهي حكاية طوطمية جانبية، أصبحت ترد في النصوص المدوِّنة لهذه السيرة على استحياء أو على اعتبار أنها مجرَّد نادرة أطلقها الزير؛ هربًا من مكائد زوجة أخيه الجليلة، ذاكرًا في أشعاره لأخيه كليب: «فأهل العقل لا تسمع لأنثى» بما يوحِّد بطلنا الزير سالمًا أكثر مع بقية الأبطال — الآلهة — الشمسيِّين، مثله مثل جلجاميش وعدم سماعه واستجابته لأنثاه المُطارِدة له عشتار، وشمشون مع نسائه الفلسطينيات، وآخرهنَّ دليلة الغزاوية، وهرقل مع ديجنييرا، ونيسوس — ملك نيسا التي دمَّرها الطرواديون — مع زوجته، وأخيل مع زوجته بوليكسينا Polyxene، «منذ أن لم يعد هناك سرٌّ يمكن للمرأة الأنثى استخراجه من الرجل عبر حمى الحب والعشق.»

فالزير سالم دأب على تبرير مَنفاه ببئر سبع هربًا من مُطاردات ومكائد النساء، مُتحجِّجًا لأخيه كليب ومتهكِّمًا بأخذ ثأر حماره: يا لثارات الحمار.

وليس في الأمر تهكُّم إذا ما عرفنا أننا بإزاء سيرة مُوغلة في القِدَم، كما أنها موغلة في الطوطمية والتفكير الغيبي والبدائي الخرافي.

فالأمر في هذه السيرة — كما هو الحال في مجمل سيرنا وملاحمنا العربية — لا يعدو صراعًا طوطميًّا — جليَّ المعالم — بين الحمْيَريِّين١ وخلفائهم الكلبيِّين «اليمنيين» من جانب، وبين عرب الشمال الإسماعيليِّين في الحجاز والشام وفلسطين، وهو ما سنتعرَّض له عقب الانتهاء من المعرفة بالجسد الشعبي الفولكلوري لهذه السيرة الملحمة، مع الاحتفاظ بخصائصها الفولكلورية الأنثروبولوجية قدر الإمكان.
وهنا تطلُّ بقايا الملحمة اليمنية — المتزاوجة مع ملحمتنا أو سيرتنا هذه — بخروج الملكة الشاعرة الساحرة المتعدِّدة الأسماء؛ كإيزيس وعشتار؛ فمن أسمائها: «سعاد٢ وتاج بخت وهند والبسوس»، بالإضافة إلى الاسم الذي يَرد في الأدب العربي الكلاسيكي «الهيلة»، باحثة عن ثأر أخيها المغتال في أرض الشام وفلسطيني، مُلقية الفتنة بين التحالف العدناني القيسي: «ربيعة ومُرَّة» أو تغلب وبكر، وتَشفي غليلها بالتآمُر لقتل الملك كليب قاتل أخيها التبع اليماني.

بالطبع تنسج الملحمة للبسوس فابيولاتها الغربية التي توحدها مع المتنبئة الشاعرة الطروادية «كاساندرا»، بل إنَّ قصة حبِّها وزواجها مُشابهة لما وقع بين أبولو وكاساندرا وصاحب زواجهما في النهاية.

فلقد كانت سعاد — أو البسوس — فاتنةً جميلةً فصيحة الكلام، شديدة البأس «تركب الخيل في الميدان وتبارز الفرسان»، واشترطت أن لا تتزوَّج إلا مَنْ يقهرها في ميدان القتال، وكان أن سمع بخبرها ملك عظيم اسمه «سعد اليماني» وكان ملك بلاد السرو،٣ فركب إليها وبارَزها إلى أن اقتلعها من فوق سرجها فأقرَّت له بالغلبة، وتزوجها وأقام لها حفلةً لمدة سبعة أيام، ثم عاد بها إلى بلاده التي يرجَّح أنها وادي الأردن، وظلت تَحكُم معه البلاد لمدة عشرة أعوام، إلى أن وصَلها اغتيال كليب بن مرة لأخيها الملك التبَّع حسان، فكان أن ركبت هي وبيتها وبناتها وممتلكاتها وسارت تسأل عن «حلة بني مرَّة» فأرشدوها، فسألت من فورها عن الأمير جساس، وأنشدته — كما يذكر النص — مترجمة، سواء عن طريق استخدام مترجم أو أنها هي التي ترجمت أفكارها اللغوية المخالفة للغة هذه الشاعرة الساحرة، على عادة الآلهة الأنثى الأم لمجموع القبائل المتحالفة المهاجرة أو المُغيرة، كما هو الحال بالنسبة للأمازونيات الليبيات المُحاربات، وسارَّة الإلهة الأم لقبائل إبراهيم، والجازية بإزاء القبائل الهلالية في سيرة بني هلال، وكذا اليمامة ابنة كليب التي تُسمى بها في سيرتنا هذه، كما سيرد فيما سيجدُّ من أحداث وتكشُّفات هذه السيرة العربية الكبيرة، والتي ما هي سوى تراجم ذاتية لأنساب أبطالها، وصراعات بلاطهم وهجراتهم وحروبهم التي عادةً ما تلعب فيها الإلهة الأنثى الأم دور القائد والكاهن والمَزار القمري الطوطمي.

بل إنَّ هناك جسدًا لسيرةٍ أو ملحمة تؤرِّخ لهجرةٍ تَقودها كاهنة محرِّضة يمنية قحطانية أيضًا مثل البسوس هذه، لا بأس من التوقُّف عندها قليلًا؛ للتعرف على مدى الخصائص والسمات لتلك القبائل التي تَعبد الإلهة الأنثى الأم، وتُولِي بالتالي «الخال» تقديسها الأسمى.

وهي أسطورة قحطانية عريقة تَستوجب التأنِّي، تُنْسَب أحداثها لهجراتٍ حمْيَرية مصيرية بالنسبة لمَجرى وتاريخ أحداث الشرق الأدنى، ويؤرَّخ لها بما أعقب خراب سد مأرب؛ أي مع مطلَع الألف الأولى قبل الميلاد.

فعندما وافت المنية الملك الكاهن عمران بن عامر، دعا أخاه عمرو بن مزيقيا وأنبأه بخراب البلاد، وبأهمية الزواج بالكاهنة طريفة ومات، وعامر سُمِّي ميزيقيا؛ لأنه كانت تُنسج له في كل سنة ٣٦٠ حلَّة من الذهب الأحمر،٤ وكان يأذن للناس في الدخول، فإذا أرادوا الخروج خُلعت حلَّته ومُزِّقت؛ ولذلك سُمِّي مزيقيًّا، ويقال: إنه أخذ سنَّته — أو شعيرته — هذه من ذي القرنين «يوم هتك عرشه ومزق حلته»، وهذا ويبدو أنها كانت بمثابة عيد أو شعيرة تتصل بالإلهة الزراعية الممزقة التي عادةً ما تنقضي آجالها عبر موتة بشعة — كتموز، دونيس، أوزيريس، المسيح — مرةً في كيفية تمزيق الملك لثيابه على مرأى من قومه، ومرة في طقوس هتك العرش التي يقوم بها جموع الشعب لعرش وملابس الملك أو التبَّع بطريقة موسمية محدَّدة، وبشكل أكثر تحديدًا؛ أي تبَعًا للدورة القمرية؛ حيث إن الرقم ٣٦٠ يشير إلى السنة القمرية أو الهجرية فيما بعد.

ولعلَّني هنا أرجِّح أن تسمية الزير سالم بالمهلهل مرجعها هذه الشعيرة لهتْك العرش والثياب أو هلهلتها، كشعيرةٍ إحلالية لشعائر وطقوس قتْل الملك الإلهي أو بديله — أي بديل الملك الممزق — في معظم المُجتمَعات خاصة الزراعية.

والملفت أنَّ هذه التقليدة ما تزال سارية في الحواديت والبالاد الشفاهية المصرية والعربية عن هتك العرش أو الملابس وهلهلتها.

فما إن تزوَّج عمرو بن مزيقيا الكاهنة طريفة، وكان عمرو أعظم ملك بمأرب، وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به، فكانت المرأة تمشي وعلى رأسها مقطف فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة، من غير أن تمسَّ منها شيئًا، حتى إنهم دعوا على أنفسهم: «ربنا باعد بين أسفارنا.» إلى أن أرسل الله عليهم السيل؛ فخرَّب السد، وهو ما هتَف به الهاتف أو الآتي وأخبر به طريفة في المنام حين زارها وقال لها: «ما تحبين يا طريفة: علم تطيب به نفسك؟ أو مولود تقرُّ به عينك؟ فقالت: بل علم تَطيب به نفسي. فمر بيده على صدرها، ومسَح بظاهر كفه على بطنها فعقمت، فكانت لا تلد، واتَّسعت في العلم وأُعْطِيَت منه حظًّا عظيمًا.»

وكان زوجها عمرو بن مزيقيا يكنى ﺑ «ماء المزن» أو مأرب، أو «ماه رب»، وهي كلمة أشورية بمعنى البلد والسهل والوادي، كما أنَّ «ماه» بالفارسية تعني القمر.

وكان ابن عمرو بن مزيقيا يُدْعى ثعلبة العنقاء٥ وهو «جدُّ الأنصار من الأوس والخزرج».

وأمَرت هذه الكاهنة طريفة — التي تُذكِّرنا بكاهنة سيرتنا هذه البسوس — قومها من العرب الغَساسنة بالنزول إلى الشام، فتملَّكوا عكَّاء بعد أن هادَنوا ملكها «سملقة بن حباب العكي»، ونزلوا غربيَّ عكاء.

ورفض ثعلبة العنقاء قتالهم مُتمثِّلًا قول سلفه يعرب بن قحطان: «ويل للمَنزول عليه من النازل.»

وتَروي هذه الخرافة عن تدخُّل «جذع بن سنان وهو من الجن»: فأوقع بين الغساسنة وأبناء أعمامهم أهل عكا، إلى أن قتَلهم الغساسنة ونفَوهم من الشام، ثم أشارت عليهم الكاهنة بالمسير إلى همدان فتملَّكوها، وهكذا سارت بهم إلى نجران، تستحثُّهم على القتال وتخطب في المُحاربين وترسم الخطط، وكانت تَسكنهم قبيلة قبيلة، فملكت قبائل الأزد عمان، وملكت الأوس والخزرج٦ «يثرب ذات النخل» أو المدينة، وأنزلت همدان «نحو العراق بابل»، وأنزلت عليه علبة — أو جفنة بن عامر بن غسان — دمشق، وأنزلت قبائل السراة بن غسان تهامة.

وكانت في كل مرة تقول هذه الكاهنة كلامًا مسجوعًا، كأن تقول: «خذوا البعير الشدقم، فأنجزوه وخضِّبوه بالدم، حتى تأتوا أرض جرهم»، ثم حاربوا قبائل جرهم وبني إسماعيل، «فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.»

وكانت مكة آخر مطاف تلك الهجرة القحطانية التي تزعَّمتهم هذه الإلهة الكاهنة الأم المدعوة طريفة، مثلما تزعمت سارة — الإلهة الأم — لقبيلة إبراهيم القبائل العبرية الرعوية، وضرَّتها هاجر قبيلة الهاجريِّين والإسماعيليِّين، ومثلما عبرت الأمازونيات المحاربات الليبيات بالقبائل الليبية … إلخ.

ويُنْسَب لطريفة هذه أنها أول مَنْ سمعت العروبة قبل موتها:

إن ابنة الخير لها أعجوبة
وميتة تقضي لها مكتوبة
تودي بها في ليلة العروبة

كما يُنْسَب لها تقديس ليلة الجمعة التي ماتت فيها طريفة ودُفِنَت بعقبة الجحفة.

•••

وإذا ما عدنا إلى سيرتنا هذه وكاهنتها البسوس حين زارت الأمير جساس، فأنشدته ما يُفيد «بدوام أيام الأمير جساس بن مرة، ورفع على ملوك الأرض قدرك ومكانك، ونصَرك على حُسَّادك وأعدائك.»

وما إن تعجب جساس من فصاحتها وسألها عن حالها، حتى قالت بأنها: «شاعرة أطوف القبائل والعشائر، أمدح السادات والأكابر.»

ورحَّب بها جساس ودعاها للعيش في دياره وحمايتها من كل مُعتدٍ عليها بقتله، وهنا كانت البسوس قد بلغَت مرادها، فأقامت عنده شهرين تنشر الفتنة بين القبائل والقوَّاد والأمراء، مثيرةً الأحقاد بين البكريين على حُكامهم التغلبيين أو بني ربيعة، وملكهم كليب مغتال أخيها التبَّع حسان اليماني.

وعندما وصلت ذروتها في تحريض القبائل، ووصل الأمر إلى أميرهم جساس، وملأته — بدوره — الشكوى من التغلبيِّين وتعدِّيهم على قبيلته منذ أن تملَّك عليهم كليب بعد قتل التبَّع حسان.

واتخذ جساس قراره بضرورة الاجتماع بابن عمه — زوج أخته الجليلة الملك كليب — وإعلامه «بتعديات قومه وجورهم» ومعرفة رأيه وتصرُّفه، وعلى ضوء هذا التصرف يحق لجساس التصرُّف بدوره.

إلا أن فتنة البسوس كانت قد استفحلت إلى أن وصلت مسامع الملك كليب ذاته، وتبني بني مرة لها، فتضايق وأرسل بدوره إلى أميرهم جساس لتحذيره ومطالبته بإيقافها داخل «حركات البكريين وإخراج العجوز من القبيلة.»

وواضح أن كلتا السلطتين القبليتَين لكلا البكريين والتغلبيين كانت تتوجَّس وتتجسس على الأخرى.

وهنا تأكَّد لجساس كلام قومه ومخاوفهم، فرفض الإذعان لمطالب الملك كليب وإبلاغه وكذا طَرْد العجوزة، وبدلًا من هذا واصل تجميع الجموع وتفريق السلاح على قومه وتقويتهم بآلات الحرب والكفاح، وحرص جساس على أن يجري هذا الاستعداد سرًّا بعيدًا عن عاصمة الملك كليب وعيونه، دمشق.

ولما أبلغ كليب أخذته الهواجس وازداد كدرُه وملأته الحيرة، فتذكَّرَ أخاه الزير سالم، وركب إليه في جماعة من فرسانه، وزاره في موطنه ومَنفاه الموحش «بير السباع» أو بئر سبع بفلسطين.

فاستقبَله الزير سالم مرحِّبًا، وكان ثملًا، وما إن أجلسه في مكانه اللائق حتى أخبره كليب أنه إنما جاء ليأخذه إلى القبيلة، «وأقيمك ملكًا مكاني»، فكليب قد أضحى طاعنًا في السن ولا قُدرة له على الحكم والسلطان بعد أن تغيَّرت الأحوال ووقع النزاع بين القبيلتين، وأنشد كليب:

أخي سالم اسمع ما أقول لك
ففكرك ديره والذهن ليا
أراك اليوم في زهو ولهو
ولا تدري بما قد حل فيا
بنو قيس قد وقعوا بحلف
وجساس نوى يركب عليا
فقوم وشد عزمك يا مهلهل
لأنك أنت جبار عتيا
وإلا راحت البلدان مني
وصرنا مهزلة عند البقية

وكما يذكر الراوي لم تُفلح استجارة كليب بأخيه الزير سالم سوى أنَّ الزير ضحك مستهينًا بتصوُّرات أخيه الملك، مشيرًا إلى قصره الذي شاده من جماجم أعدائه السباع التي قتَلها أخذًا بثأر حماره.

وأجاب الزير أخاه الملك كليب منشدًا بدوره:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل
أنا لي في الحرب عزمًا قويا
سباع الغاب خافت من قتالي
وتخشاني ولم تقدر عليا
فاذهب يا كليب ولا تبالي
واحكم في القبائل بالسويا٧
فإن جارت بنو بكر وخانت
فلن أترك منهم أخي بقية

ويلاحظ رفض الزير سالم للمُلْك والسلطان، ونصيحته لأخيه الملك كليب: «احكم في القبائل بالسويا.»

وهنا تقدَّم الملك كليب عائدًا متوجِّسًا من تهاون أخيه الزير سالم، الذي رفَض التخلي عن عزلته هذه في بئر سبع، والعودة معه لمشاركته الكارثة القادمة التي حلَّت بحكمه وإمبراطوريته، وهو الذي لم يُخلِّف بعدُ وريثًا لعرشه المترامي من زوجته الجليلة التي يناوئه قومها وأخوها جساس.

•••

وعلى المستوى القصصي الروائي — والذي هو ليس موضوعنا — يمكن تذكُّر أن كليب بعد أن تحوَّل إلى مجرد مخلب قطٍّ للبطش بأخيه الأصغر الزير سالم من جانب زوجته الجليلة المشحونة — بدورها — من أهلها ضد الزير، على اعتبار أنه الأخ الأصغر الذي يحقُّ له الميراث، كما هي عادة مجتمعاتنا هذه السامية في وراثة الأخ الأصغر، أَضِف إلى هذا أنَّ الجليلة كانت تَنتمي في ولائها القبائلي إلى قبيلتها مُرَّة بدلًا من قبيلة زوجها الكلبية، فهي التي أشارت على إخوانها وبيت أبيها بعدم إقدامهم على قتل أيٍّ من الأخوَين؛ زوجها الملك كليب أو أخيه الأصغر الزير سالم، على اعتبار أنها هي التي ستُوقع الفتنة بين الأخوَين بدفع زوجها الملك لقَتله، سواء بتقمُّص دور زوجة الأخ الأكبر «أنبوا» في قصة الأخوَين الفرعونية الأسرة ١٨، أو زليخة في يوسف وزليخة، حين ادَّعت اغتصاب الزير سالم لها، وما أعقب هذه مِن مُطالبته بإحضار — المستحيل — لبن اللبؤة؛ لكي تَحمل وتُخلِّف ابنًا يرث ملك التبَّع كليب — قيدوم السرايا — المترامي (من أرض الروم للكعبة دوامًا)، كما يَذكر النصُّ الفولكلوري.

ومن هنا فالجليلة في كل حالاتها تعمل — بكل حِيَل الأنثى الحَقود — على سلب إرث الأخ الأصغر المُهلهل، فسواء نجحت أحابيلها ومكائدها في التخلُّص من الزير سالم بقتله، أو بأن تلد ولدًا ذَكَرًا لكليب، فهي في كل حالاتها تتحرَّك لصالح قبيلتها وسلطتها وتسلُّطها بدلًا من قبيلة الزوج كليب بن مرة.

حتى إذا ما فشلت أحابيلها هذه، سوى مِن هدِّ كاهل زوجها الملك كليب، وإبعاد الزير سالم بوادي بئر سبع الموحش، مثلما فعلت سارة بإزاء الابن البكري إسماعيل حين أبعدته بوادي بئر سبع أولًا، ثم مكة المُوحش «غير ذي زرع».

هنا عاودت قبيلتها التدخُّل ومناوءة الملك المتصلِّب كليب الذي طعن في السن وحلَّ قتله أو هَتكُه أو هلهلته، وسلب البكريين بأميرهم الشاب جسَّاس لملكه وسلطته المترامية.

كما يلاحظ أن الجليلة — هي بدورها — قد كفَّت وتوقفت عن مكائدها ومطاردتها للزير الفتى بعد أن أحضر لها في آخر أحبولة أو مكيدة الوصفة أو الدواء الذي سبق أن أشارت به دايتها، والتي كانت في موقع طبيبتها بإحضار لبان لبؤة بصوفه تحملها الجليلة عبر فرجها لكي تحمل بابن ذكر يرث ملك أبيه كليب، بدلًا من الأخ الأصغر الزير الذي كان مِن المُقدَّر له أن يكون الوريث الطبيعي والشرعي الأصغر، كما هو المتَّبع عند معظم شعوب وحضارات وقبائل العالم القديم، وبحسب ما يسوقه سير جيمس فريزر في استطراداته في تقديم معلومات تكاد أن تصبح قانونية وشرعية، حين صادفته هذه الفكرة التي ترد بكثرة مُفرطة مصاحبة للتراث العبري في ذات المكان على أرض فلسطين بئر سبع وما حولها مصاحبةً لنسل إبراهيم وأبنائه، بدءًا من إسحق الذي كان توءم أخيه الأكبر إسماعيل، وكان قد عزَل أخاه إسماعيل من حقه في وراثة شيخ القبيلة٨ أبيهما إبراهيم بسلب أرضه وممتلكاته وبركاته، كذلك مع ابنيه؛ عيسو أو العيص، أبو العرب الأدوميين في بادية الشام بسوريا والأردن، ويعقوب الذي تسمَّى بيعقوب من جانب أمه «رفقة»، والتي كانت بدورها تسمى قبل الزواج ﺑ «لبيبة»؛٩ لأنه تعقب أخاه التوءم — عيسو أو العيص — حين ولادتهما وتسمى فيما بعد بإسرائيل، وحيله ومكائده المتوصِّلة كأنموذج حقٍّ للتاجر السامي — كما يرد في التكوين — لاستلاب بركة أخيه الأكبر عيسو ويَسلُبه حقه في الإرث والبركة من أبيهما الشيخ إسحق الذي كَلَّ بصره، ومنها حيلة ارتدائه لملابس أخيه والتخفِّي تحت جلود الماعز؛ لتَمثُّل أخيه العربي كثيف الشعر، وبذا اكتسب يعقوب — أو إسرائيل — ما ليس حقه مِن إرثٍ وبركة في أرض فلسطين الموعودة أو المغتصَبة.

وعاد يعقوب ذاته فكرَّر هذا الاستلاب مع أصغر أبنائه «يوسف»، الذي كان «ابن شيخوخته»، ففضَّله على أبنائه الكبار الأحد عشر، حين خصَّه بالرداء متعدِّد الألوان الذي ميَّزه عن إخوته، فكان أن حقدوا عليه ليُميتوه بنفس ما حدث مع الزير سالم — أي داخل البئر — بإيعاز من الجليلة، وبتضامُن خفي من جانب قبيلتها القيسية على أن يُوكل بمهمَّة التنفيذ للأخ الأكبر الملك كليب ذاته، حتى إذا ما نجح الزير سالم من الإفلات من حبائل الجميع؛ القبيلة والزوجة المغتالة والأخ الأكبر الغافل، والعودة لهم بمطالبهم، وهو دواء الجليلة ومطمع إنجابها — لبن اللبؤة — وتحقَّق له الفوز؛ كفُّوا عنه، وأولهم الجليلة التي يبدو أنها شُفِيَت وأنجبت الابن الذكر الأصغر الوريث — وهو «الجرو» — سرًّا فأبعدته مُخفِيةً كإيزيس ووحيدها حورس.

ومن هنا يتضح أن زيارة الملك كليب لأخيه الأصغر المهلهل، ببئر سبع؛ ليَهبه حقه الطبيعي في العرش والعودة به إلى القبيلة وتنصيبه ملكًا بدلًا منه، يَحمل الكثير من التكفير، وهو ما لم يَستجب له الزير سالم ويُدركه إنقاذًا لحق حفظ الميراث داخل القبيلة.

الذي لا بد وأنه كان الهدف الأقصى أو الأعلى لذلك العالم القبائلي الغابر، ومطمح سيره وبطولاته وملاحمه؛ ذلك أنَّ حفظ الميراث — وصنوه السلطة — هو الهدف الأقصى لكلا تراثنا وواقعنا العربي الماثل، فما بالنا ببؤرة العالم القديم؟

١  من سلسلة النسب العربي، يبتدئ حمير أبًا سلفًا مُباشرًا لكالب أو الكالبيين أو بني كلاب، «فمن حمير جاء بنو كلاب بن عامر بن صعصعة»، وهم الطلائع البحرية الفينيقية والفلسطينية سكان الثغور، الذين لعبوا الدور الأهم في الفتوحات العربية الإسلامية البحرانية.
٢  سماها أبوها — الذي يرجَّح أنه الملك التبَّع أسعد اليماني — سعاد؛ لأنها يوم ولادتها وردت إليه أموال السبعة أقاليم، وأمها سمتها تاج بخت؛ لأنها كانت تأكل الكثير من جوز الهند.
٣  ويرجَّح أنها بلاد الثموديين: مدن صالح — شمال الجزيرة العربية بالسعودية اليوم — والأنباط الأردنيِّين.
٤  يلاحظ أنه من خصائص هذه الحُلَل النسجية من الذهب، هو اللون الأحمر الذي يمكن رده — الفيمونولوجي — اللغوي الاشتقاقي إلى تسمية أولئك الملوك «الحمْيَريين» الأسهل نطقًا من «الأحمريين»، بما يعني أيضًا الحمر أبو بني الأحمر، وشعارهم أو طوطمهم وهو الأُرجوان الداني الفينيقي، كما يلاحظ تسميات «الحمراء» في معظم العواصم الشامية، وكذا بنو الأحمر، ثم بقية الشعارات اللونية: بنو زريقات وبنو الأصفر … إلخ.
٥  ويلاحظ أنَّ العنقاء أو الطائر «فينقس» هي ما أعطت لفينيقيا اسمها، ومنه هذه القبائل الفلسطينية البحرية؛ وذلك انتسابًا إلى التسمية الطوطمية لعمرو بن عامر بن مزيقيا، الذي تسمى بالعنقاء، واتخذ حُلَل الأرجوان الأحمر الدامي شعارًا له، وهو ما أصبح شعارًا موحدًا لكل فينيقيا أو شعوب الثغور، كما يلاحظ انتساب الزير سالم مرات متعددة لقبائل «بني عامر» الفلسطينية، وحلتها أو مواطنها بالقرب من حيفا؛ وعليه فالأمر لا يَبعد بنا بالنسبة لتسمية السلف بمزيقيا والخلف، وهو بطل سيرتنا الزير سالم أبو ليلى «المهلهل».
٦  ويلاحظ أن هذا النص العربي لهجرة هذه القبائل التي لا بدَّ من أغوار البطن الجنوبي للخزان البشري وهو الجزيرة العربية، والذي أورده الهمداني فيما تبقى من مخطوطه المُندثر «الإكليل ١٣ مجلدًا»، يذكر بنصِّه هذه القبائل والبطون، ومنها تسمية «العراق بابل».
٧  بما يشير إلى أن كليب كان بدوره — كسلفه ومغتاله التبع اليماني — طاغية متسلِّطًا.
٨  ومن أسمائه «الرجل الأحمر»، بما يصل بنا إلى أنه كان بدوره حميريًّا يمنيًّا جنوبيًّا، استوطن أرض أدوم أو بادية الشام.
٩  كما يذكر سير جيمس فريزر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤