الرجل المعلَّب
في أقصى طرف قرية ميرونوسيتسكويه، وفي حظيرة العمدة بروكوفي، نزل صيادان متأخران ليقضيا الليلة. كانا اثنين فقط: الطبيب البيطري إيفان إيفانيتش والمدرِّس الثانوي بوركين. وكان اسم عائلة إيفان إيفانيتش غريبًا ومزدوجًا: تشيمشا جيملايسكي، ولم يكن يناسبه قَطُّ، ولذلك كانوا يدعونه في المحافظة كلها باسمه واسم أبيه. كان يعيش قرب المدينة في مزرعة لتربية الجياد، وقد جاء الآن للصيد من أجل أن يستنشق الهواء النظيف. أما المدرس الثانوي بوركين فكان ينزل كل صيف ضيفًا على الكونت «ب»، وأصبح شخصًا معروفًا في هذه الناحية منذ زمن بعيد.
كانا مستيقظَين. وجلس إيفان إيفانيتش، العجوز الطويل النحيف ذو الشوارب الطويلة، قرب الباب من الخارج وهو يدخن الغليون. وكان نور القمر يضيئه. أما بوركين فكان راقدًا في الداخل على الدريس، فلم يكن ظاهرًا في الظلمة.
كانا يرويان شتى الحكايات. وبالمناسبة فقد رويا أن مافرا زوجة العمدة، وهي امرأة قوية وغير غبية، لم تذهب طوال حياتها إلى أي مكان أبعد من قريتها، ولم ترَ قطُّ لا المدينة ولا السكة الحديد، وفي السنوات العشر الأخيرة ظلَّت جالسةً خلف الفرن ولا تخرج إلى الشارع إلا ليلًا.
وقال بوركين: وما العجيب في ذلك؟ الأشخاص الانطوائيون بطبعهم، والذين يسعون إلى الاختفاء خلف قشرتهم، كسرطان البحر الراهب والقوقعة، كثيرون في هذه الدنيا. وربما كان ذلك أحد مظاهر الردة الخلقية، والعودة إلى ذلك العهد الذي لم يكن فيه جد الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا بعدُ، وكان يحيا وحيدًا في عرينه، وربما كان ذلك مجرد صورة من صور الطبع البشري، من يدري! أنا لست من المتخصصين في العلوم الطبيعية، وليس من شأني أن أتناول هذه القضايا، بل أريد فقط أن أقول إن الأشخاص الذين من طراز مافرا ليسوا ظاهرةً نادرة. ولماذا نذهب بعيدًا، فمنذ حوالي شهرين مات في مدينتنا شخص يُدعى بيليكوف، مدرس اللغة اليونانية، زميلي. لقد سمعت عنه بالطبع. كان يمتاز بأنه كان دائمًا، وحتى في الجوِّ الجيِّد لا يخرج إلا بالخُفِّ فوق الحذاء وبشمسيَّة، وحتمًا في معطفٍ ثقيلٍ ببطَّانيةٍ من القطن. وكانت شمسيَّته في كيس، وساعته في كيسٍ من الشامواه الرمادي، وعندما كان يستخرج المِطواة الصغيرة ليَبري قلمًا، يستخرجها من كيس. حتى وجهه بدا وكأنه أيضًا في كيس، فقد كان يخفيه دائمًا خلف الياقة المرفوعة. وكان يضع نظارةً سوداء، ويرتدي سُترةً بدون أكمام، ويسدُّ أذنيه بالقطن، وعندما يستقل عربةً يأمر الحوذي برفع الغطاء. وباختصارٍ فقد لوحظ لدى هذا الرجل ميلٌ مستمر وجارف إلى إحاطة نفسه بقشرة، إلى وضع نفسه فيما يشبه العلبة، التي يمكن أن تعزله وتحميه من المؤثرات الخارجية. كان الواقع يثيره، ويخيفه ويجعله في قلقٍ مستمر، وربما لكي يبرر وَجَلَه هذا، وتقززه من الحاضر، كان يمدح الماضي دائمًا وكل ما لم يكن له وجود قَطُّ. وكانت اللغات القديمة التي يعلمها بالنسبة له في الواقع هي نفس الخُف والشمسية التي يختبئ بها من الحياة الواقعية.
وكان يقول بتعبيرٍ عذب: أوه، ما أروع اللغة اليونانية، كم هي موسيقية.
وكان بيليكوف يسعى إلى إخفاء أفكاره أيضًا في عُلبة. فلم تكن واضحةً له سوى المنشورات الدورية ومقالات الصحف التي تمنع شيئًا ما. فعندما كان المنشور الدوري يمنع التلاميذ من الخروج إلى الشارع بعد الساعة التاسعة مساءً، أو تمنع مقالة: ما الحب الجسدي؟ كان ذلك بالنسبة له واضحًا ومحددًا، ممنوع وانتهينا. أما السماح والإباحة فكانا ينطويان بالنسبة له على عنصر مشكوك فيه دائمًا، وشيء غامض لا يفصح عن نفسه. وعندما يسمح في المدينة بتأسيس جمعية تمثيل أو قاعة مطالعة أو مقهى، كان يهز رأسه ويقول بصوت خافت: طبعًا هذا، يعني، عظيم، ولكن أخشى أن يحدث شيء.
وكانت كل مخالفة أو انحراف أو خروج عن القواعد تجعله مهمومًا، بالرغم من أنه لا دخل له بذلك. فإذا ما تأخر أحد من رفاقه عن الصلاة، أو سرت شائعة عن فعلة ارتكبها التلاميذ، أو شوهدت المشرفة المدرسية في ساعة متأخرة مع أحد الضباط، كان ينفعل بشدة ويردد أنه يخشى أن يحدث شيء. وفي اجتماعات مجلس التربية كان يرهقنا بحذره وريبته وأفكاره المعلبة للغاية بخصوص السلوك المعيب للشباب في مدرستَي البنين والبنات والضجة التي يثيرونها في الصفوف، آه، أخشى أن يصل الأمر إلى الرؤساء، آه، أخشى أن يحدث شيء، ولو أننا فصلنا بتروف من الصف الثاني، ويجوروف من الصف الثالث لكان ذلك حسنًا جدًّا. وماذا؟ أتدري لقد كان يثقل علينا جميعا بآهاته، وشكايته، وبنظارته السوداء على وجهه الصغير — وجه صغير كسحنة الظربان — فكنا نتنازل ونخفض درجة السلوك لبتروف ويجوروف ونعاقبهما بالحبس، وأخيرًا نفصل بتروف ويجوروف؟ وكانت لديه عادة غريبة: أن يطوف بمنازلنا. كان يأتي إلى المدرس فيجلس صامتًا وكأنه يتفحص شيئًا ما. ويظل على جلسته الصامتة هذه ساعةً أو ساعتين ثم ينصرف. وكان يسمي ذلك: «الحفاظ على العلاقات الطيبة مع الرفاق»، ويبدو أن مجيئه إلينا وجلوسه كانا صعبَين عليه، ولم يكن يفعل ذلك إلا لأنه يعتبره واجبًا عليه نحو رفاقه. وكنا نحن المدرسين نخشاه. حتى المدير كان يخافه. انظر، إن مدرسينا رجال مفكرون، قويمون جدًّا، تربوا على أدب تورجينيف وشيرين، إلا أن هذا الشخص الذي كان يسير بخُف وشمسية سيطر على المدرسة خمسة عشر عامًا كاملة. وماذا تكون المدرسة؟ بل سيطر على المدينة كلها. كانت سيداتنا في أيام السبت لا يُقمْن الحفلات المنزلية؛ خشية أن يعلم بذلك. وكان رجال الكنيسة يتحرجون من تناول اللحوم أمامه أو لعب الورق. وبتأثير هؤلاء الأشخاص أمثال بيليكوف، أصبح أهالي مدينتنا في العشر أو الخمس عشرة سنةً الأخيرة يخشون كل شيء. يخشون التحدث بصوت عالٍ، وإرسال الرسائل، والتعارف، وقراءة الكتب، ويخشون مساعدة الفقراء وتعليم القراءة والكتابة.
وسعل إيفان إيفانيتش وقد أراد أن يقول شيئًا ما، ولكنه أشعل غليونه أولًا وتطلع إلى القمر، ثم قال على مهل: نعم. أناس مفكرون، قويمون، يقرءون شيدرين وتورجينيف وأمثال بوكلي وغيرهم، ومع ذلك خضعوا له، وتحملوه، هذه هي المسألة فعلًا.
ومضى بوركين يقول: كان بيليكوف يعيش في نفس المنزل الذي أقطنه، في نفس الطابق، وبابه قبالة بابنا، وكنا نتلاقى كثيرًا، وكنت أعرف حياته المنزلية. نفس الوضع في المنزل: الروب والطاقية والنوافذ المغلقة الشيش والأبواب الموصدة بالمزاليج، وسلسلة طويلة من الممنوعات والمحظورات، وأيضًا: آه، أخشى أن يحدث شيء. أكل الصيام مضر، واللحوم ممنوعة إذ قد يقال إن بيليكوف لا يصوم، فكان يأكل السمك مقليًّا في سمن البقر، فهذا طعام ليس من مأكولات الصوم، ولكنك لا تستطيع أن تقول إنه من اللحوم. وكان لا يستخدم خادمات نساء خشية أن يُساء به الظن، وكان لديه طاهٍ يُدعى أفناسي، عجوز في حوالي الستين، سكير، ومخبول، كان جنديَّ مراسلة في وقتٍ ما، ويستطيع كيفما كان أن يعد الطعام. وكان أفناسي هذا يقف عادةً بجوار الباب، عاقدًا ذراعيه، ويدمدم دائمًا بجملة واحدة مع زفرة عميقة: ما أكثر عددهم الآن!
كانت غرفة نوم بيليكوف صغيرة، كالصندوق، وكان سريره تحت ناموسية. وعندما يأوي إلى الفراش يغطي جسمه حتى رأسه. وكان جو الغرفة خانقًا، حارًّا، والريح تعصف بالباب، وتئز في المدفأة، ومن المطبخ تتناهى الزفرات، الزفرات الشريرة.
وكان يرتعد رعبًا تحت البطانية. كان يخشى أن يحدث شيء، أن يذبحه أفناسي، أن يتسلل اللصوص، ثم يرى طوال الليل أحلامًا مزعجة، وفي الصباح، عندما نتوجه معًا إلى المدرسة، كان يلوح كئيبًا، ممتقعًا، ويبدو واضحًا أن المدرسة الكبيرة المزدحمة التي كان ذاهبًا إليها، مرعبة وكريهة إلى قلبه، وكان من الصعب عليه أن يسير معي وهو الشخص المنعزل بطبعه.
ويقول كأنما يبحث عن تفسير لمشاعره المرهقة: الضجة شديدة جدًّا في الصفوف. شيء لا مثيل له.
وهل تتصور أن مدرس اللغة اليونانية هذا الرجل المعلب، كاد يتزوج؟
وتطلع إيفان إيفانيتش بسرعة نحو الحظيرة وقال: أنت تمزح؟
– نعم، كاد أن يتزوج مهما بدا ذلك غريبًا. أرسلوا إلينا مدرسًا جديدًا للتاريخ والجغرافيا يُدعي كوفالنكو ميخائيل سافيتش، من الأوكرانيين. وقد وصل مع أخته فارنكا. كان شابًّا، طويل القامة، أسمر، بيدين ضخمتين، ويبدو من وجهه أن صوته غليظ، وبالفعل كان يتكلم وكأنه يتكلم من برميل: بو، بو، بو، أما هي فقد تخطت سن الشباب، في حوالي الثلاثين، ولكنها أيضًا طويلة القامة، رشيقة، سوداء الحاجبين، حمراء الخدين، وباختصار لم تكن فتاةً بل قطعة حلوى. وكانت مرحة، صاخبة، تغني دائمًا الأغاني الأوكرانية وتقهقه. ولأتفه الأسباب تغرق في ضحك رنان: ها ها ها. وأذكر أن أول مرة تعرَّفت فيها إلى آل كوفالنكو عن قرب كانت في حفلة عيد ميلاد مدير المدرسة. فبين المربين الصارمين المتوترين المملين، الذين يذهبون حتي لحفلات الميلاد وكأنهم يؤدُّون واجبًا، إذ بنا نري فجأةً أفردويت الجديدة وقد بُعثت من زبد الأمواج، تسير وهي تتمخطر، وتقهقه وتغني وترقص. وغنت «الرياح تعصف» بصورة مؤثرة، ثم غنت أغنيةً ثانية، ثم ثالثة، فأسرتنا جميعًا، جميعًا بمن فينا بيليكوف. وجلس بقربها وقال وهو يبتسم ابتسامةً عسلية: اللغة الأوكرانية تشبه في رقتها وموسيقاها اللطيفة اللغة اليونانية القديمة.
وراقها ذلك فراحت تروي له بتأثر واقتناع أن لديها منزلًا ريفيًّا في مركز جاياتشي، وأمها تعيش فيه، وأن هناك كمثري وشمامًا وكوسة رائعة. والأوكرانيون يسمون القرع العسلي كوسة، والكوسة «شينكي»، ويطهون حساء الكرنب من الكرنب والطماطم والباذنجان، «ما ألذه، ما ألذه، شيء خرافي».
وأصغينا نحن طويلًا، ثم سنحت لنا جميعًا نفس الفكرة.
وقالت لي زوجة المدير بصوتٍ خافتٍ: حسن لو زوجناهما.
ولسبب ما تذكرنا أن بيليكوف ليس متزوجًا، فبدا لنا غريبًا أننا لم نلاحظ ذلك من قبل، ولم نلتفت قَطُّ إلى هذا الجانب المهم في حياته. فما هو موقفه من النساء عامةً يا ترى؟ وكيف يواجه هذه المسألة الحيوية؟ لم يثر هذا اهتمامنا قَطُّ من قبل، وربما لم تراودنا حتى فكرة أن الشخص الذي يسير في جميع الأحوال الجوية في خفٍّ وينام تحت ناموسية، يمكن أن يُحب.
وقالت زوجة المدير موضحةً فكرتها: لقد تخطى الأربعين منذ زمن بعيد، وهي في الثلاثين، يُخيل إليَّ أنها ستقبَله زوجًا.
وما أكثر الأمور التي تحدث بفعل المال في الأرياف عندنا، وما أكثر ما يجري من تفاهات لا داعي لها وحماقات؛ وذلك لأننا لا نفعل أبدًا ما هو مطلوب. حسنًا، لماذا أصبحنا فجأةً في حاجة إلى تزويج بيليكوف هذا، وهو الذي لا يمكن حتى أن تتخيله زوجًا؟ لقد انتعشت زوجة المدير، والمفتشة وكل سيدات المدرسة، بل ازددن جمالًا، وكأنما عثرن فجأةً على غاية الحياة. وإذا بزوجة المدير تحجز مقصورةً في المسرح، وننظر نحن فنرى في المقصورة فارنكا ممسكةً بمروحة، وهي سعيدة، مشرقة، وبجوارها بيليكوف، صغير، منطوٍ، كأنما أخرجوه من المنزل بكماشة. وأقيمُ أنا حفلًا منزليًّا فتصر السيدات على أن أدعو بيليكوف وفارنكا. وباختصار فقد انطلقت الآلة. واتضح أن فارنكا لم تكن تمانع في الزواج. فلم تكن مرتاحةً في حياتها مع أخيها، إذ لم يكن لهما من عمل سوى الجدال والشجار طول النهار. خذ مثلًا هذا المشهد: كوفالنكو يسير في الشارع، طويلًا، عملاقًا فارعَ الجسد، في قميصٍ مطرز، وقصته تتهدل من تحت العمرة على جبينه. ويحمل في إحدى يديه رزمة كتب، وفي اليد الأخرى عصًا غليظةً بعُقَد. وتسير وراءه أخته، حاملةً كتبًا هي الأخرى.
وتجادله بصوت عالٍ: إنك لم تقرأ هذا يا ميخايليك. إنني أقول لك، أقسم إنك لم تقرأ هذا قَطُّ!
فيصيح كوفالنكو وهو يقعقع بعصاه على الرصيف: وأنا أقول لك إنني قرأته.
– آه، يا إلهي، لماذا تغضب يا منتشيك، إن حديثنا مبدئي!
فيصيح كوفالنكو بصوتٍ أعلى: وأنا أقول لك إنني قرأته.
وما إن يوجد في منزلها شخص غريب حتى ينشب بينهما الشجار. ويبدو أن هذه الحياة أرهقتها، ثم إنها أرادت أن تستقل بركنها، زد على ذلك السن أيضًا. عندئذٍ لا يكون هناك متسع للاختيار، وتصبح مستعدةً للزواج بأيٍّ كان، حتى بمدرِّس اللغة اليونانية القديمة. ثم إنه بالنسبة لمعظم آنساتنا ليس المهم من يتزوجْن، بل المهم أن يتزوجن. وأيًّا كان الأمر فقد أخذت فارنكا تبدي نحو بيليكوف ميلًا واضحًا.
وماذا عن بيليكوف؟ كان يتردد على كوفالنكو كما يتردد علينا. يأتي إليه فيجلس صامتًا. هو يصمت أما فارنكا فتغني له «الرياح تعصف»، أو تنظر إليه شاردةً بعينيها السوداوين، أو تقهقه فجأةً: ها ها ها!
وقال إيفان إيفانيتش: تلك هي اللحظة التي يمكن فيها انتزاع الخُف والشمسية منه.
– تصور، لقد اتضح أن ذلك مستحيل. لقد وضع صورة فارنكا على مكتبه، وأخذ يتردد عليَّ ويتحدث عن فارنكا، وعن الحياة الزوجية، ويقول إن الزواج خطوة جادة، وأكثر من زيارته لآل كوفالتكو، لكنه لم يغير طريقة حياته قيد شعرة، بل بالعكس، لقد أثر عليه قراره بالزواج تأثيرًا مَرَضيًّا، فهزل وشحب وجهه وبدا أنه قد غاص أكثر في علبته.
كان يقول لي بابتسامة ضعيفة ممتعضة: فارفارا سافيشنا تعجبني، وأنا أعرف أنه من الضروري لكل إنسان أن يتزوج، ولكن، كل ذلك، أتدري، حدث فجأة؟ ينبغي عليَّ أن أفكر.
فأقول له: وفيمَ تفكر؟ تزوج وهذا كل ما في الأمر.
– كلا، الزواج خطوة جادة. ينبغي أولًا أن أزن الواجبات القادمة والمسئوليات، حتى لا يحدث شيء بعد ذلك. إن هذا يقلقني جدًّا، وأصبحت لا أنام الليل. وأصارحك أنني أخاف: فلديها هي وشقيقها طريقة تفكير غريبة، إنهما يفكران، أتدري، بطريقة غريبة، وطبعها أيضًا مندفع جدًّا؟ فإذا تزوجت، فربما أقع، لا قدر الله، في ورطةٍ ما.
وكان يقول لنا وهو يهز كتفيه: أنا لا أفهم، كيف تطيقون هذا الواشي، هذه السحنة المنحطة. إيه يا سادة كيف تستطيعون العيش هنا؟ الجو لديكم خانق، قذر. فهل أنتم مربون؟ معلمون؟ أنتم عبدة ألقاب، وليس ما لديكم محراب علم، بل إدارة مناصب تفوح منها رائحة حامضة كما في كشك الشرطة. كلا يا إخوان، سأعيش معكم قليلًا ثم أرحل إلى منزلنا الريفي وأصطاد هناك السرطان وأعلِّم الأوكرانيين الصغار. سأرحل، وستبقون أنتم هنا مع يهوذاكم، ألا فلتأخذه مصيبة!
وأحيانًا كان يقهقه، يقهقه حتى تدمع عيناه، قهقهات غليظة مرة، ورفيعة حادة مرة أخرى، ويسألني بالأوكرانية وهو يُلوح بيديه: لماذا يجلس عندي؟ ما الذي يريده؟ إنه يجلس ويتطلع.
بل أطلق عليه اسم «العنكبوت». وبالطبع فقد تجنبنا أن نذكر له أن أخته فارنكا تنوي الزواج ﺑ «العنكبوت»، وعندما ألمحت له زوجة المدير ذات مرة بأنه من الخير تزويج أخته بسيِّد رصين، يحترمه الجميع مثل بيليكوف، عقد حاجبيه ودمدم ساخطًا: ليس هذا من شأني، فلتتزوج ولو ثعبانًا. أنا لا أحب أن أتدخل في شئون الغير.
فلتسمع ما حدث بعد ذلك. لقد رسم أحد الأشقياء رسمًا كاريكاتيريًّا لبيليكوف وهو يسير في خُفٍّ وسروال مشمر، وتحت الشمسية، ويتأبط ذراع فارنكا. وكتب تحت الرسم «الأنثروبوس العاشق». وهو تعبير، كما تري، مناسب بشكل مدهش. لا بد أن الرسام أنفق في هذا العمل أكثر من ليلة؛ لأن كل مدرسي مدرستي البنين والبنات، ومدرسي المعهد الديني وجميع الموظفين حصل كل منهم على نسخة من الرسم. وحصل بيليكوف أيضًا على نسخة. وتركت الصورة في نفسه أسوأ انطباع.
وخرجنا معًا من المنزل، وكان ذلك في أول مايو، يوم الأحد، وكنا قد اتفقنا نحن المدرسين والتلاميذ على أن نلتقي عند المدرسة، ثم نذهب جميعًا سيرًا على الأقدام خارج المدينة إلى الغابة، وإذا به مربد الوجه مكفهر كالغمامة.
وقال: يا لهم من أناس خبثاء، أشرار!
وارتعشت شفتاه.
حتى إنني شعرت بالرثاء له. وبينما نحن نسير إذ بنا نري كوفالنكو قادمًا نحونا على دراجة، تصور، ومن ورائه فارنكا على دراجة أيضًا، خدَّاها أحمران، هي مرهقة، ولكنها مرحة مسرورة.
وصاحت: إننا نسير إلى الأمام. يا للجو الرائع، يا للجو الرائع، شيء خرافي!
واختفيا عن أنظارنا. وتحوَّل اربداد وجه بيليكوف إلى شحوب، وبدا كأنه تسمَّر في مكانه. وتوقَّف وراح يحملق فيَّ، ثم سألني: عفوًا، ما هذا، أم إن نظري يخدعني؟ هل من اللائق لمدرِّسي المدرسة وللنساء أن يركبوا الدراجات؟
فقلت له: وما عدم اللياقة في ذلك؟ فليركبوا ما شاء لهم.
فصاح وقد أذهله هدوئي: كيف يمكن؟ ماذا تقول؟!
كان مصعوقًا لدرجة أنه لم يشأ أن يواصل السير وقفل عائدًا إلى المنزل.
وفي اليوم التالي ظل يفرك راحتيه في عصبية وينتفض، وكان واضحًا أنه في حالة سيئة. وترك الدروس، الأمر الذي حدث له لأول مرة في حياته. ولم يتناول الغداء، وقُبيل المساء ارتدى ملابس ثقيلة رغم أن الجو في الخارج كان صيفيًّا تمامًا، ومضى إلى كوفالنكو. ولم تكن فارنكا في المنزل فلم يجد سوى شقيقها.
فقال له كوفالنكو ببرود وقد عقد حاجبيه: تفضل اجلس لو سمحت.
كان وجهه ناعسًا. فقد أفاق لتوِّه من نوم بعد الغداء، وكان مزاجه معتلًّا للغاية.
وجلس بيليكوف صامتًا حوالي عشر دقائق ثم بدأ يقول: لقد جئت إليكم لأخفف عن قلبي. إنني مرهق نفسيًّا جدًّا. إن أحد الرسامين قد رسمني في صورة مضحكة مع آنسة قريبة لنا معًا. وأرى من واجبي أن أؤكد لك أنه لا دخل لي بذلك، لم أفعل من جانبي أي شيء يبرر هذه السخرية، بالعكس دائمًا أسلك مسلك الشخص القويم.
كان كوفالنكو جالسًا مكفهر الوجه وصامتًا. وانتظر بيليكوف قليلًا، ثم مضى يقول بصوتٍ خافت حزين: ولديَّ ما أريد أن أقوله لك أيضًا. إنني أخدم منذ زمن طويل، أما أنت فما زلت في بداية الخدمة وأرى من واجبي كرفيقٍ أقْدم أن أحذرك. إنك تركب الدراجة، وهذه تسلية لا تليق أبدًا بمربٍّ للنشء.
فسأل كوفالنكو بصوت غليظ: ولماذا؟
– وهل هناك داعٍ لشرح ذلك يا ميخائيل سافيتش؟ أليس ذلك مفهومًا؟ إذا كان المدرس يركب دراجة، فماذا يتبقى للتلاميذ؟ لا يبقى لهم إلا أن يسيروا على رءوسهم. وإذا كان ذلك غير مسموح به في المنشورات الدورية فهذا يعني أنه ممنوع. لقد ارتعت أمس. عندما رأيت شقيقتك غامت عيناي. المرأة أو الآنسة فوق الدراجة، هذا فظيع.
– ماذا تريد بالضبط؟
– لا أريد سوى شيء واحد أن أحذرك يا ميخائيل سافيتش. أنت رجل شاب، والمستقبل عريض أمامك، ينبغي أن يكون سلوكك حذرًا، وحذرًا جدًّا. إنك بذلك تستهتر، أوه كم تستهتر! إنك ترتدي قميصًا مطرَّزًا، وتسير في الشارع حاملًا كتبًا ما دائمًا، ثم ها أنت ذا تركب دراجة. وسيعلم المدير أنك تركب دراجةً أنت وشقيقتك، ثم يصل الأمر إلى رئيس المنطقة التعليمية، فما هو الخير في ذلك؟
فقال كوفالنكو وهو يتضرج: لا شأن لأحد بركوبي الدراجة أنا وشقيقتي. أما من سيتدخل في أموري المنزلية العائلية فسأبعث به إلى الشياطين.
فامتقع بيليكوف ونهض. وقال: إذا كنت تتحدث معي بهذه اللهجة فأنا لا أستطيع أن أواصل. وأرجوك ألا تتحدث عن الرؤساء أبدًا بهذا الشكل في حضرتي. ينبغي عليك أن تنظر إلى السلطات باحترام.
فسأله كوفالنكو وهو يحدق فيه بغيظ: وهل قلت شيئًا سيِّئًا عن السلطات؟ أرجوك دعني في حالي. أنا رجل شريف، ولا أريد أن أتحدث مع سيد مثلك. أنا لا أحب الوشاة.
وارتبك بيليكوف في عصبية، وأخذ يرتدي معطفه بسرعة وقد ارتسم الرعب على وجهه. فقد كانت تلك أول مرة في حياته يسمع فيها هذه العبارات الفظة.
فقال وهو يخرج من الباب إلى بسطة السلم: بوسعك أن تقول ما تشاء. غير أني ينبغي أن أحذرك، فربما سمع كلامنا أحد. ولكي لا يحرف حديثنا ويحدث شيء، ينبغي أن أبلغ السيد المدير فحوى حديثنا، في الخطوط العامة. يجب عليَّ أن أفعل ذلك.
– تبلغ؟ اذهب وبلغ.
وأمسك كوفالنكو من الخلف بياقته ودفعه، فتدحرج بيليكوف على السلم وهو يقرقع بخفة. وكان السلم عاليًا وشديد الانحدار، ولكنه تدحرج حتى وصل إلى أسفل سالمًا، ثم نهض وتحسس أنفه ليتأكد هل النظارة سليمة، أم لا. ولكن في اللحظة التي كان يتدحرج فيها على السلم دخلت فارنكا بصحبة سيدتين. وقفن في الأسفل ينظرن. وكان هذا أفظع شيء بالنسبة لبيليكوف. خُيِّل إليه أنه من الأفضل أن يدق عنقه أو تنكسر كلتا ساقيه من أن يصبح مسخرة. الآن ستعلم المدينة كلها، وسيصل الأمر إلى المدير ورئيس المنطقة، آه، أخشى أن يحدث شيء! إذ ربما رسموا كاريكاتيرًا جديدًا، وينتهي كل ذلك بأن يأمروه بتقديم استقالته.
وعندما نهض عرفته فارنكا. ونظرت إلى وجهه المضحك، ومعطفه المجعد، وخُفِّه، وهي لا تدرك ماذا حدث، واعتقدت أنه زلَّ وسقط، فلم تتمالك نفسها من الإغراق في الضحك بصوت أسمع البيت كله: ها ها ها!
بهذه القهقهات المدوية المجلجلة تكلل كل شيء: الخطبة، ووجود بيليكوف الدنيوي. لم يعد يسمع ما تقوله فارنكا، ولم يرَ شيئًا. وعندما عاد إلى داره بادر قبل كل شيء برفع صورة فارنكا من الطاولة، ورقد ولم يقمْ بعدها.
وبعد حوالي ثلاثة أيام جاءني أفناسي وسألني: هل يستدعي الطبيب، لأن شيئًا ما يحدث للسيد؟ فذهبت إلى بيليكوف. كان راقدًا تحت ناموسية السرير، مغطًّى بالبطانية. وصامتًا. وعندما تسأله لا يرد إلا ﺑ: لا أو نعم، ولا يزيد حرفًا. كان راقدًا، وأفناسي يجوس من حوله عابسًا، مكفهرًّا، يزفر بعمق، ورائحة الفودكا تنبعث منه كما في حانة.
وبعد شهرٍ توفي بيليكوف. وسرنا جميعًا في جنازته، كلتا المدرستين والمعهد الديني. وبعد أن تمدد في التابوت اكتسي وجهه تعبيرًا مستكينًا، لطيفًا، بل حتى مرحًا، كأنما كان سعيدًا بأنهم وضعوه أخيرًا في علبةٍ لن يخرج منها أبدًا. نعم، لقد بلغ مثله الأعلى. وفي أثناء الجنازة، وكأنما تكريمًا له، كان الجو مكفهرًّا ممطرًا، فارتدينا جميعًا الأخفاف وحملنا الشماسي. وشهدت فارنكا أيضًا الجنازة، وعندما أنزل التابوت إلى القبر أجهشت بالبكاء. وقد لاحظت أن النساء الأوكرانيات إما يضحكن وإما يبكين، وليس لديهن مزاجٌ وسط.
وأصارحك بأن دفن أناس مثل بيليكوف هو متعة كبيرة. فعندما عدنا من المقبرة كانت وجوهنا متواضعة، محايدة، إذ لم يشأ أحد منا أن يكشف عن هذا الشعور بالمتعة، الشعور الذي يشبه ذلك الإحساس الذي كان يعترينا منذ زمن بعيد، في أيام الطفولة، عندما يغادر الكبار المنزل فنمرح في الحديقة ساعةً أو ساعتين مستمتعين بالحرية التامة. آه، الحرية، الحرية!
مجرد التلميح، أو حتى الأمل الضعيف باحتمال تحققها يخلق للروح جناحين، أليس كذلك؟
عدنا من المقابر بنفوس منشرحة. ولكن ما إن مَرَّ أسبوع حتى عادت الحياة إلى مجراها السابق، حياة قاسية، مرهقة، بلا معنًى، لا تحدها ممنوعات المنشورات الدورية ولكنها غير مطلقة السراح تمامًا. لم يصبح الوضع أفضل. وبالفعل، لقد دفنَّا بيليكوف، ولكن كم بقي من أمثال هؤلاء الرجال المعلَّبين، وكم سيظهر منهم.
فقال إيفان إيفانيتش: هذه هي المسألة فعلًا.
وأشعل غليونه.
وردد بوركين: وكم سيظهر منهم.
وخرج المدرس من الحظيرة. كان رجلًا غير طويلٍ أصلع تمامًا، بلحيةٍ سوداء تكاد تصل إلى خصره. وخرج معه كلبان.
وقال وهو يتطلع إلى أعلى: القمر، القمر، انظر!
كان الوقت منتصف الليل. وإلى اليمين بدت القرية كلها. وامتد شارعها الطويل بعيدًا، حوالي خمسة كيلومترات. وكان كل شيء غارقًا في نوم عميق هادئ. لا حركة، ولا صوت، إلى درجة يصعب معها أن تصدق أن الطبيعة يمكن أن تشتمل على هذا الهدوء. وعندما ترى في الليل المقمر شارع القرية العريض بمنازله، وأكوام دريسه، وأشجار الصفصاف الناعسة، تشمل روحك السكينة. ويبدو الشارع في هدوئه هذا، وقد تغطَّى بظلال الليل هربًا من الكد والهموم والمصائب، مستكينًا، حزينًا ورائعًا، ويخيل إليك أن النجوم تنظر إليه برقة وإعجاب، وأن الشر قد اختفى من الأرض، وكل شيءٍ على ما يُرام. وإلى اليسار، عند طرف القرية يبدأ الحقل. كان يُلوح بعيدًا حتى الأفق، وعلى امتداد هذا الحقل الرحب، الغارق في ضوء القمر، لم تكن هناك أيضًا حركة ولا صوت.
وردد إيفان إيفانيتش: هذه هي المسألة فعلًا. وهل معيشتنا في المدينة، في الجو الخانق والزحام، وكتابتنا الأوراق لا حاجة إليها، ولعبنا الورق، أليس هذا علبة؟ وهل قضاؤنا لعمرنا كله بين كسالي عاطلين، ونساء حمقاوات فارغات، وتحدثُنا وسماعنا لشتى ألوان الهراء، أليس هذا علبة؟ لو أردت لرويت لك قصةً ذات موعظة.
فقال بوركين: كلا، آن لنا أن ننام. إلى الغد!
واتجه كلاهما إلى الحظيرة ورقدا على الدريس. وتغطيا ونعسا وإذ بخطوات خفيفة تتردد فجأة: دب، دب، دب، كان هناك شخص ما يسير غير بعيد عن الحظيرة. يجوس قليلًا ثم يتوقف. وبعد دقيقة يعود من جديد: دب، دب، وزمجرت الكلاب.
وقال بوركين: إنها مافرا تسير.
وسكنت الخطوات.
ودمدم إيفان إيفانيتش وهو يتقلَّب إلى الجنب الآخر: أن ترى وتسمع كيف يكذبون، ثم يرمونك أنت بالغباء لأنك تطيق هذا الكذب. أن تتحمل الإهانات والإذلال، دون أن تجرؤ على الإعلان صراحةً أنك في صف الشرفاء الأحرار، بل تُكذِّب أنت نفسك، وتبتسم، وكل ذلك من أجل لقمة العيش، من أجل ركنٍ دافئ، من أجل وظيفة حقيرة لا تساوي قرشًا، كلا، حياة كهذه لم تَعُد محتملة.
فقال المدرس: إنك تغني أغنيةً أخرى يا إيفان إيفانيتش. هيَّا ننام.
وبعد حوالي عشر دقائق كان بوركين يغط في النوم. أما إيفان إيفانيتش فكان يتقلَّب من جنب إلى جنب ويتنهد، ثم نهض، وخرج مرةً أخرى فجلس قُرب الباب وأشعل الغليون …