يوميات ٥٩

الاثنين

في الأسبوع الماضي أتيح لي أن أُحصيَ عددًا من التصرفات التي قام بها عددٌ وافر من أصدقائنا الفنانين والكُتَّاب، وكدت أغضب وأنفعل وأهيج وأبدأ أحاسب وأسأل وأعاتب لولا أني تذكَّرت حكمة لا أذكر مَنْ قائلها: الفنان هو شخص يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل.

وهكذا قلت لنفسي: إذا كنا ندَع عالمًا من الأطفال الصغار يمرح ويلعب ويتصرف دون محاسبة أو تقييد، فلماذا لا نفترض وجود عالم صغير آخر من الأطفال الكبار ندعهم يتصرفون دون أن نحاسبهم؟ لنفترض هذا ونريحهم ونريح أنفسنا، ولا نخاف ولا نعتقد أننا بهذا نعطي الفنانين رخصةً للتصرف والعبث بلا قيد أو شرط؛ فالفرق بين الطفل والطفل، والطفل والفنان، أن الأخير هو الذي يحاسب نفسه، بل إن عملية حسابه لنفسه أشقُّ وأمرُّ من أي حسابٍ آخر يلقاه ولو حتى من أقرب الناس إليه؛ إذ هي العملية التي تدفعه أحيانًا لأن يغيِّر شخصيته كُلِّيةً، وهي التي تدفعه أحيانًا لأن يُنتِج ويُبدِع، هي التي دفعت تولستوي العظيم إلى أن ينقلب من شابٍّ أرستقراطيٍّ عابثٍ إلى متصوِّفٍ اجتماعيٍّ وفلسفيٍّ وديني. لندعهم إذن يتحملون تبعة تصرفاتهم، ولا نحاول أو «نحمِّلهم» التبعة، لعل وعسى.

الثلاثاء

أتعرفون ما هو أجمل مكان في إقليمنا الجنوبي؟ إنه ليس هيلتون ولا مرسى مطروح أو بلاجات المنتزه والمعمورة. إنه — إلى الآن على الأقل — مكانٌ مهجورٌ مغمورٌ لا يطرقه أحد، ومع هذا فما رأيته فيه من جمال كاد يجعلني أتمنى أن أقضي بقية عمري فيه، وحتى إذا متُّ أُوصِي بدفني هناك. المكان دلتا النيل، أو على وجه الدقة: بداية دلتا النيل، في تلك البقعة التي يبدأ فيها مجرى النيل ينقسم إلى فرعَي رشيد ودمياط. بينها وبين القناطر مسيرة دقائق ولكن الطريق إليها شاقٌّ ومتعِب وغير ممهَّد. تعدي القناطر الأولى المقامة على بداية فرع دمياط ثم تنحرف إلى اليسار، ويقابلك جسر عالٍ كالصراط المستقيم تسير عليه إلى أن تجد بقعةً حافلةً بالأحراش المائية والمستنقعات والحدائق، إذا استطعت أن تنفذ منها وجدت نفسك في زاوية «دال» النيل تمامًا، الزاوية التي تتسع بعد هذا وتتسع حتى تصل عند البحر الأبيض إلى مئات الكيلومترات. مكان ضيِّق ولكنك تحس إذا تأملت المشهد من حولك بروعة بلادنا وأزليَّتها. النيل متسع اتساعًا لا حدَّ له، تسمع دمدمة مياهه وهديرها وهي تحوم وتتفرق حول بداية الدلتا والشواطئ البعيدة، أجمل شواطئ؛ فللنيل هناك ثلاثة شواطئ، والشمس في غروبها والقمر في شروقه، والطبيعة الخشنة في عظمتها البدائية حيث الماء، أكبر كمية من الماء العذب ممكن أن تراها عيناك، وحيث الأرض، أوسع مساحة من الأرض ممكن أن يمتدَّ إليها بصرك، هناك تحسُّ ببلادك ضخمة ومهيبة وخالدة، وحتمًا تحس بالفخر لأنك ابن تلك البلاد وصاحبها.

الأربعاء

قررت أن أمتنع عن التدخين؛ فقد ثبت لي بعد عملية حسابية بسيطة أن المدخن إنسانٌ مارقٌ مجنونٌ يجب الحجر عليه؛ واحسبوا معي: إذا كان طول السيجارة سبعة سنتيمترات، ومتوسط ما يدخنه الشخص العادي ثلاثين سيجارة في اليوم، ويظل يدخن خمسين عامًا من عمره، فإنه يدخن في حياته سيجارة طولها على الأقل أربعون كيلو مترًا؛ أي سيجارة طولها أبعد من المسافة بين القاهرة وبنها، وثمنها لا يقل عن ٣٥٠٠ جنيه، وبملحقاتها من قهوة وشاي خمسة آلاف جنيه، فتصوروا حين يدفع المدخن منا خمسة آلاف جنيه لقاء عامود من الدخان طوله أربعون كيلو يدخل صدره! ألا يُعَدُّ هذا جنونًا مُطبِقًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤