الحاجز أو الملالة

أذهلتني الحركة المسرحية القائمة الآن على قدمٍ وساق في الكويت؛ فمنذ بضع سنوات فقط ذهب الأستاذ الكبير زكي طُلَيمات إلى الكويت وأنشأ فرقة المسرح العربي هناك، واستطاع بمساعدة بعض النجوم من القاهرة وخامات كويتية طيبة أن يخلق مدرسة طُليماتية، وأن يحبب المسرح إلى الجماهير هناك. ولم يكد يمضي على هذا العام المجيد عام أو عامان حتى خرجت مدرسة أخرى — كويتية هذه المرة — تُشبه إلى حد كبير قصة ظهور «المسرح الحر» عندنا وسمَّت نفسها مسرح الخليج، وقدمت روايات كويتية مؤلَّفة أولها كان «الطين والإسمنت» من تأليف صقر الرشود، وهو شابٌّ لم يتعد الثلاثين ممتلئ بالحيوية والحماس شديد التطلُّع والطموح.

غير أن الفارق بين المسرح الحر ومسرح الخليج أن مسرح الخليج لم يكن مجرد فرقة مسرحية أخرى تقوم بتمثيل الروايات المؤلَّفة أو المترجمة، وإنما مسرح الخليج «حركة» مسرحية تُشرف عليها لجنة تقيم الندوات المسرحية وتكتب النقد المسرحي، ولها مكتبة مسرحية متواضعة، وإن كانت عامرة. واللجنة مؤلَّفة من شباب كويتيين يتابعون الحركة الفنية في البلاد العربية من كثبٍ وفي تدقيق شديد؛ هي إذن حزب مسرحي وليست مجرد فرقة. وقد استطاع هذا الحزب أن يقف على أقدامه أمام فرقة المسرح العربي الرسمية، بل واستطاع — بما قدمه — أن يجعل الدولة تقف على الحياد من الحركة المسرحية، وأن تكتفي بمنح إعانات مالية تتراوح ما بين أربعة آلاف إلى ستة آلاف دينار في العام لكل فرقة من الفرق المسرحية الأربع التي تتنافس الآن على مسارح الكويت. أما الأستاذ زكي طُليمات فقد آثر أن يفتح بنكًا آدميًّا لتمويل هذه الفِرق جميعها بالكفاءات البشرية، فأنشأ معهدًا أو نواة لمعهد تمثيل.

استرعتْ نظري هذه الظاهرة: ظاهرة بزوغ المسرح كعلامة رئيسية من علامات الحياة لدى هذا الشعب الشقيق، وظللت أتساءل عن سرِّ هذا الإقبال الشديد على المسرح سواء من ناحية القائمين على أمره أو من ناحية جمهوره، إلى أن شاهدت آخر مسرحية يعرضها مسرح الخليج هناك وهي مسرحية «الحاجز» أو «الملالة»، وهناك أدركت على الفور السبب. إن المسرح في ناحية من نواحيه يشكِّل المرآة التي يتطلع إليها المجتمع بين كل حينٍ وحين ليرى نفسه، ليرى كيف يتحدث وما هي مشاكله، وكيف وماذا يُضحكه، وإلى أين يسير؟ ومسرحية الحاجز صراع بين جيلين: الجيل القديم، ذلك الذي عاش على البحر وشقيَ حياة الشظف وعرف قيمة اللقمة والجنيه، والجيل الجديد المتمثل في شبانٍ وشابات خرجوا إلى حياة ما بعد البترول، حيث الأموال تفيض بلا حساب، وحيث لا بحر ولا متاعب ولا عُقَد. والمسرحية تدور فيما يشبه الفيلا، واحدة من تلك الفيلات التي تزدحم بها مدينة الكويت والتي تفنَّن المهندسون «ومعظمهم من المصريين» في تنميقها وزخرفتها وكأنهم يُعدُّونها لمسابقة لجمال الفيلات.

والحاجز هو ذلك الحاجز الموجود بين الجيل الجديد والجيل القديم، الجيل الجديد الذي يريد الثورة والتغيير، والجيل القديم الذي يريد الثبات والجمود والذي يمتلك في يده كل شيء؛ هو صاحب الكويت الحقيقي، وما الثائرون والثائرات عليه سوى حماقات أطفال لا تلبث بعد حينٍ أن تئوب إلى ركود وهدوء.

إن مؤلف المسرحية هو نفسه مؤلف «الطين والإسمنت» وهو — على ما سمعت أيضًا — كاتب مسرحية «صراع بين أجيال»، وقد كنت أنتظر من مسرحية الحاجز أن تنتهي بمأساةٍ يدرك معها الجيل القديم أن أفكار الجيل الجديد ليست عبث أطفال وأنها لن تئوب أبدًا إلى هدوء، وأنه إن كان يملك كل شيء فإنه قطعًا لا يملك المصير. ولكن المؤلف آثر أن ينهيها بالضوء منسكبًا على الحاجز القائم بين جيلين؛ حاجز من البترول ربما أو الثراء الذي هبط فجأة كأوراق اليانصيب.

وليست الحاجز وحدها، ولكن في السنوات القليلة الماضية قُدِّمَت على مختلف المسارح روايات مثل «الكويت سنة ٢٠٠٠»، وهي كوميديا تسخر بكل الأوضاع غير المفهومة في مجتمع يحرِّم شرب الخمر أو تجارتها على أرضه، فيضطر شبانه مثلًا إلى الذهاب إلى البصرة في العراق وقَطْعِ ١٨٠ كيلومترًا ليشربوا هناك، ثم يعودون سكارى إلى أرض الوطن. وضعٌ جعل منه مؤلف المسرحية سببًا في أنه في عام ٢٠٠٠ سيكون لدى كل كويتي مصنع للويسكي في بيته، باعتبار أن كل ممنوع مرغوب ومُبالَغ في قيمته.

إنها لظاهرة تسترعي الانتباه حقيقة، أن يحدث التناقض العميق في واقع الحياة فإذا به بعد فترة قصيرة قد أصبح حدثًا مسرحيًّا نراه على الخشبة. إن كُتَّاب المسرحيات جيل جديد من شبان نشئوا في أوضاع هم ضيقون بها أشد الضيق، وقد وجدوا في المسرح المتنفس الطبيعي الذي يستطيعون من خلاله نقد هذه الأوضاع بضراوة ومسرحتها ومسخرتها، والمسرح في هذا يقوم — مثلما يقوم عندنا هنا في القاهرة أحيانًا — بدور الصحافة والكاريكاتور. لقد شاهد المسرحية معي بعض الأصدقاء المصريين الذين يعملون في الكويت، وقد اعترف لي أحدهم أنه مع أن له في الكويت خمسة أعوام إلا أنه لم يستطع أن يدرك عن الحياة في الكويت هذا الذي أدركه من مشاهدته لعملٍ مسرحي واحد، وتلك هي المشكلة! فالحياة الاجتماعية في الكويت ظاهرة تكاد تكون معدومة، فليس هناك اختلاط بين الكويتيين وغيرهم من الجاليات العربية والأجنبية، هناك حاجز أيضًا، هو حاجز الدفاع عن النفس والتقاليد والثروة، ولكن هذا الحاجز يزول تمامًا على خشبة المسرح؛ فبالمسرحية تعيش صميم المشكلة الكويتية، مشكلة شعب كان يحيا بتقاليد ونواميس وأوضاعٍ متوارَثة منذ مئات السنين وآلافها.

ثم جاء البترول وخلق من حوله مجتمعًا جديدًا تمامًا لا يعرف الكويتي تقاليده، وإن عرفها مجَّها، وإن زاولها لبعض الحين في قلب المدينة أو في بعض العواصم العربية فهو لا يحب لهذه التقاليد أن تدخل بيته، يغلق عنها بابه. ولكن التقاليد الجديدة وقد يئست من الباب تدخل من النافذة ليزاولها أهل البيت فيما بينهم؛ ويرقصون أحدث الرقصات على نغمات البيتلز وأغانيهم، ورب البيت حائر بين أن يقف بلا حراك أمام هذا الجديد فيُتَّهم بالانغلاق والتأخر، وبين أن يسمح بالقليل أو يسمح بالكثير في غيبته فيُتَّهم من المجتمع بأنه قد جرفه التيار.

التناقض صارخ وحارٌّ وحادٌّ، والمسرح يتحول إلى جلسة عائلية صاخبة لمناقشة المشكلة: هل تعمل المرأة أو لا تعمل؟ هل تلبس «الحبرة» أو تُسْفِر؟ هل من حقها أن تحب؟ هل من حق الشاب «المتكوت» أو الذي لا يمت إلى العائلات العربية الأصيلة أن يتزوج من كويتية؟ ماذا يحفظ الأخلاق؟ أهي التقاليد أم المناعة حين تُكْتَسب بالخبرة والتجربة؟ عشرات وآلاف الأسئلة تمور بها وتفور مسرحيات الجيل الجديد، «وليس هناك لحسن الحظ جيل قديم فهو جيل جديد وأول جيل.»

والمسرح ليس إلا ناحية واحدة من نواحي الحياة في ذلك الجزء الخصب من بلادنا العربية، البلد الذي تتعايش فيه كل متناقضات بلادنا العربية وحتى عالمنا الآسيوي الأفريقي، تتعايش ولكنها تتفاعل وتتضارب ويعنف انفعالها وتضاربها في أحيان إلى درجات قد لا نستطيع تصورها، وإلى فرصة قادمة.

في كلمة

أنا لا أحب القراءة في الطائرة، ولكني استصحبت معي رواية محمد عفيفي «التفاحة والجمجمة». لم يعجبني الاسم وإن كان غلاف الكتاب قد أعجبني، ومضيت أقرأ، ولم أكتم في صدري الضحكات والقهقهات، فكتابة الفنان الموهوب محمد عفيفي لا تدفعنا إلى الضحك الصاخب، إنها تدفعنا إلى الضحك الصغير المنمنم، إلى ابتسامة طويلة تظل عالقة بلا وعيٍ بملامحنا حتى تكلَّ عضلات وجهنا وتتعب. لم أُفِقْ من القراءة إلا على صوت المضيفة وهي تطلب منا أن نربط الأحزمة ونمتنع عن التدخين إيذانًا بالوصول، وحتى وأنا أربط الحزام وأرقب الطائرة وهي تهبط من مجراها العالي لنقترب من أمِّنا الأرض، كنت أختلس النظرات إلى صفحات الرواية اختلاسًا وأنا حزين لأني سأنقطع عن القراءة بعد دقائق معدودات، وكان أول شيء فعلته بعد ذهابي إلى الفندق أني جلست أُكملها. تحية حارة إلى فناننا العذب محمد عفيفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤