المتع الصغيرة المدمرة

منذ بضعة أيام شاهدت لدورنمات مسرحية عظيمة على هيئة فيلم اسمه الزيارة. وإذا كان كامي قد نبغ في مسرح العبث، وتينيسي ويليامز قد نبغ في مسرح الجنس، فدورنمات قد نبغ في نوعٍ هامٍّ ومدرسة قائمة بذاتها من مدارس المسرح؛ المدرسة التي تعتمد على القصة (الحدوتة) أو الأسطورة الحديثة.

إن دورنمات لا يعتمد على التراث الإغريقي ولا على قصص التاريخ. إنه عبقري في خلق أسطورة العصر الحديث؛ فرواياته تعتمد على فكرة أسطورية لا يقبلها عقلنا المتحضر المثقف فقط، وإنما يؤمن بها إلى الدرجة التي ينسى فيها تمامًا أسطورية الموقف أو الفكرة، ويتابع المؤلف في محاولاته الجريئة من أجل أن يقتحم حياتنا الحديثة ويُغوِر في أعماقها معتمدًا على السلاح القوي الأخَّاذ الذي تزوده به الفكرة أو الأسطورة.

وأسطورة قصة الزيارة أسطورة بسيطة جدًّا تفترض أن فتاةً خرجت من قريتها القريبة من تريستا مطرودةً حاملةً سفاحًا، وقد تنكَّر لها حبيبها حين قاضته مطالِبَةً باعترافه بأبوَّة ابنتها منه، وأحضر شاهدَين رشاهما بزجاجتين من البراندي ليشهدا أنهما كانا على اتصال بها ليُثبت أنها فتاة عابثة وليبرأ هو من تهمة الأبوَّة. فتاة كهذه تعود بعد عشرين عامًا إلى قريتها بعد أن تكون قد نجحت في أن تتزوج مليونيرًا يملك خمسة في المائة من بترول العالم، عادت لتنتقم من أهل القرية بطريقتها الخاصة؛ فقد اشترت المنجم المجاور للقرية والمصنع وجميع مصادر الثروة والعمل وأوقفتها عن الإنتاج، فاضمحلَّ وضع القرية الاقتصادي وأصبح أهلها على شفا الإفلاس. وحينئذٍ تأتي المليونيرة لتزور القرية وتتعهَّد بدفع مليونَي جنيه لأهلها بشرط واحد: أن يقتلوا سيرج حبيبها، واعتمادًا على هذا الشرط أو الفرض الأسطوري، يبدأ دورنمات في عبقريةٍ غريبة يستعرض مواقف القرية وأهلها من هذا العرض، وكيف بدءوا بالرفض الباتِّ وانتهوا بإقامة محاكمة علنية ويحكمون على صديقهم الذي عاش بينهم أربعين عامًا بالإعدام.

وتقف المليونيرة بعد صدور الحكم وتسأل إن كان أحدٌ يشك في سلامة الحكم أو عدله؟ وتنتظر أن يُبدي واحد منهم فقط اعتراضه أو يقف ليقاوم، ولكن أحدًا لا يعترض أو يقاوم؛ حينئذٍ تُكمل المليونيرة انتقامها بأن تعفو عن سيرج ليظل حيًّا بينهم يؤرِّق ضميرهم الذي باعه كلٌّ منهم، ورضي أن يغتاله من أجل أن ينال حفنةً من المال، ولتنتقم من سيرج أيضًا حين يقضي بقية عمره بين قومٍ عرف وأدرك أنهم أحلُّوا دمه وكانوا على استعداد لسفكه من أجل أن يمتلك كلٌّ منهم تليفزيونًا أو غسالة أو فستانًا جديدًا.

إن الرواية مليئة بالرمز الموحي، وكله رمز يُسْتَوْحَى من العصر الذي نحيا فيه والذي يتحكم فيه الربح أو رأس المال؛ فكل ما تتيحه الرأسمالية من بوتاجازات وثلاجات نضعها في مقابل القيم الأساسية للحياة، وتنتصر الثلاجات والبوتاجازات والمتع الصغيرة وتكتسح أمامها القيم الكبيرة وأوَّلها حب الناس للناس.

إن في الأسطورة مبالغةً، ما في ذلك شك؛ فليس من المعقول أن يُجمِع الكلُّ على نبذ القيم في سبيل المتع الرخيصة.

إنه فيلم يغتفر لهوليود كثيرًا من السيئات التي تُنتجها والتي تُستخدَم، كما تُستخدَم البوتاجازات والتلفزيونات في الفيلم لإغراء الناس على نبذ القيم، بل هو في رأيي حدثٌ خطير في تاريخ السينما والمسرح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤