الفصل الثامن عشر

عندما خرج الضيوف إلى الحديقة حيث تنتشر كراسي الخيزران في أرجائها، انضمت إليهم لوسي، وأثناء انتظارها لمعرفةِ ما إذا كان هناك ما يكفي من الكراسي قبل أخذ كرسي لنفسها، اقتربت منها بو وقالت لها: «آنسة بيم! ها أنتِ ذا! لقد كنت أبحث عنك. أريدك أن تقابلي والديَّ.»

فالتفتت إلى زوجَين كانا قد جلسا التوةَ وقالت لهما: «انظرا، لقد وجدتُ الآنسة بيم أخيرًا.»

كانت والدة بو امرأة جميلة للغاية، وبدا عليها أنها ذهبت إلى أفضل صالونات التجميل وأغلى مراكز تصفيف الشعر تكلفةً لتبدوَ بهذا الجمال؛ حيث ساعد جمالها الطبيعي مصفِّفي الشعر في تلك المراكز؛ لأن السيدة ناش كانت تشبه بالتأكيد بو عندما كانت في العشرين من عمرها. وحتى الآن، في ضوء الشمس الساطع، لم تكن تبدو أكبرَ من ٣٥ عامًا. وكانت لديها خيَّاطة ماهرة أيضًا، وكان سلوكها ينضح بالثقة والبساطة والود، كونها امرأةً اعتادت أن تكون رمزًا للجمال طوال حياتها؛ كما اعتادت جدًّا التأثيرَ الذي تُحدِثه على الآخرين؛ لدرجةِ أنها لم تكن بحاجة إلى التفكير في الأمر، مما سمح لها بتركيز انتباهها على الشخص الذي تلتقي به.

أما السيد ناش فقد كان أشبه بالمسئولين التنفيذيين. كانت بشَرته صافية وصحية، وكان خياطًا ماهرًا ذا مظهر مهندم، وإحساس عام بالاحترافية، يجلس إلى مكتب مزيَّن بصفوف أنيقة من أوراق النشاف النظيفة على طاولات من خشب الماهوجني.

قالت بو: «يجب أن أغيِّر ملابسي. عليَّ أن أذهب سريعًا»، ثم اختفت.

بينما جلست لوسي والسيد ناش وزوجته معًا، نظرت السيدة ناش إلى لوسي بتعبير فضولي وقالت: «حسنًا، الآن بعد أن أصبحتِ هنا شخصيًّا يا آنسة بيم، يمكننا أن نسألك شيئًا نتشوق إلى معرفته. نريد أن نعرف كيف تفعلين ذلك؟»

«أفعل ماذا؟»

«إثارة إعجاب باميلا.»

قال السيد ناش: «نعم، هذا بالضبط ما نود أن نعرفه. فطوال حياتنا حاولنا ترك بعض الأثر على باميلا، لكننا ما زلنا مجرد شخصين أعزاء يتصادف أن يكونا مسئولين عن وجودها، ونحتاج إلى أن نُرضي رغباتها بين الحين والآخر.»

قالت السيدة ناش وهي ترفع حاجبها وتضحك: «ثم تأتين أنت لتُصبِحي حرفيًّا شخصًا تذكره باميلا في خطاباتها إلينا.»

قالت لوسي: «إذا كان سماع ذلك سيريحكما بأي وجه، فأنا معجبة جدًّا بابنتكما.»

قالت الأم: «إن بام فتاة لطيفة. ونحن نحبها جدًّا، لكنني كنت أتمنى لو أننا تركنا انطباعًا أقوى داخلها. فقبل ظهورك في حياتها، لم يترك أحدٌ أيَّ علامة على باميلا منذ أن تركت مربيتُها عليها علامةً عندما كانت في الرابعة من عمرها.»

قال السيد ناش: «وكانت هذه العلامة علامة جسدية.»

«نعم. كانت هذه هي المرة الوحيدة في حياتها التي تتعرض فيها للضرب.»

سألت لوسي: «ماذا حدث بعد ذلك؟»

«كان علينا طرد المربية!»

«ألم تؤمنا بالضرب؟»

«أوه، نؤمن به، لكن باميلا لم تؤمن به.»

قال السيد ناش: «لقد قامت بام بأول اعتصام في التاريخ.»

وأضافت السيدة ناش: «ظلت هكذا سبعة أيام. لم نرغب في إلباسها وإطعامها بالقوة بقيةَ حياتها؛ لذا لم يكن أمامنا خيار سوى طرد المربية. كانت امرأة ممتازة أيضًا. كان رحيلها شيئًا محزنًا جدًّا لنا.»

بدأت الموسيقى، وظهرت الألوان النابضة بالحياة للفساتين الشعبية السويدية لطالبات السنوات الأولى من خلف شجيرات الرودودِندرون الطويلة. بدأ الرقص الشعبي. وانحنت لوسي إلى الوراء في كرسيها، ولم تَعُد تفكر في غرابة أطوار بو في طفولتها، بل في إينيس، وكيف أن سحابة داكنة من الشك والخوف كانت تطغى على ضوء الشمس المبهج.

وبسبب انغماس لوسي الشديد في التفكير في إينيس، تفاجأت عندما سمِعت السيدة ناش تقول: «ماري، عزيزتي. ها أنتِ ذا. كم أنا سعيدة لرؤيتك مجددًا»، فاستدارت لوسي لتجد إينيس واقفةً خلفهن. كانت ترتدي ملابس فتيان؛ السترة الضيقة والبنطلون الضيق، وهي ملابس تذكِّرنا بالقرن الخامس عشر، وغطاء الرأس الذي يخفي كل شعرها ويعانق وجهها، مما يبرز البنية العظمية المميزة لوجهها. وبما أن عينيها الآن مظلَّلتان وغائرتان قليلًا في تجاويفهما العميقة طبيعيًّا، فإن وجهها أصبح يحمل عنصرًا لم يكن يمتلكه من قبل: الصرامة. لقد كان — ما هو المصطلح؟ — وجهًا «مصيريًّا». تذكَّرت لوسي انطباعها الأوَّلي بأن الوجوه مثل وجه إينيس هي ما يكون لها تأثير كبير على مجرى الأحداث.

قال السيد ناش وهو يتفحصها: «لقد كنتِ تبذلين جهدًا كبيرًا يا ماري.»

قالت لوسي، على أمل تحويل التركيز عن إينيس: «لقد بذلت الفتيات جميعًا جهدًا كبيرًا.»

قالت والدتها: «هذا لا ينطبق على باميلا. فبام لم تبذل جهدًا كبيرًا طوال حياتها.»

لا. قُدِّم كل شيء لبو على طبق من ذهب. أمرٌ معجز أنها كبرت لتصبح بهذه الروعة.

سألت إينيس بنبرة ودية غير مبالية: «هل رأيتموني وأنا أحرج نفسي على العارضة؟» وقد فاجأ ذلك لوسي قليلًا؛ إذ كانت تتوقَّع أن تتجنب إينيس الحديث في هذا الموضوع.

قالت السيدة ناش: «يا عزيزتي، كنا قلِقين عليكِ. ماذا حدث؟ هل شعرتِ بالدُّوار؟»

قالت بو، التي انضمَّت إليهن وربطت ذراعها بذراع إينيس: «لا، هذه فقط طريقة إينيس لجذب الانتباه. فالفتاة لا تمتلك قدرات جسدية متدنية، بل تمتلك عقلًا فائق الذكاء. لا أحد منَّا يمكنه التفكير في حيلة كهذه.»

وضغطت بو بلطف على ذراع إينيس التي كانت تمسك بها لطمأنتها. كانت هي الأخرى ترتدي ملابس صبيان، وبدت سعيدة. ولم يقلل خفوتُ شعرها اللامع من إشراق وحيوية جمالها.

«كان هذا آخر عروض طالبات السنوات الأولى … ألا تبدو الفتيات مبتهجات وسط المساحات الخضراء؟ والآن فأنا وإينيس وبقية المجموعة المتفانية سوف نسعدكم ببعض العروض الإنجليزية التقليدية، وبعد ذلك يمكنكم تناول بعض الشاي للاستعداد لمشاهدة الرقص الحقيقي الذي سيتبعه.»

وغادرت الفتاتان.

قالت السيدة ناش، وهي تشاهد ابنتها تغادر: «حسنًا، أعتقد أن ذلك أفضل من رغبتِها في تحسين حياة السكان الأصليين في أعماق أفريقيا، أو شيء من هذا القبيل. لكنني كنت أتمنى لو أنها بقيت في المنزل وكانت مجرد ابنتنا.»

أُعجبت لوسي بالسيدة ناش لأنها أرادت أن تكون ابنتها معها في المنزل، مع أنها كانت تبدو في مقتبل شبابها.

وأضاف السيد ناش: «لطالما كانت بام مهووسة بالجمباز والرياضة. ولم نتمكن من منعها من ذلك. صراحةً، لا يستطيع أحد البتة منعها من شيء.»

قالت فطيرة المكسرات وهي تقترب من لوسي: «آنسة بيم، هل تمانعين أن يجلس ريك معك وأنا أؤدي بعضَ الأشياء الروتينية مع طالبات السنة النهائية؟» وأشارت نحو جيليسبي، الذي كان يقف خلفها، ممسكًا بكرسي، وعلى وجهه تعبير الاستمتاع الجاد المعتاد.

كانت قبَّعتها العريضة المسطَّحة مائلة قليلًا نحو مؤخرة رأسها — تُذكرنا بزوجة باث — مما منح وجهها تعبيرًا عن الاندهاش البريء الساحر. وتبادلت لوسي وريك نظرةَ تقدير مشترك، وابتسم لها ابتسامةً ودية وهو يجلس بجانبها.

قال ريك: «ألا تبدو جميلة في هذا الزي؟» وهو يشاهد ديستيرو تختفي وراء الرودودندرون.

«أعتقد أن الروتين لا يُعتبر رقصًا.»

«هل هي موهوبة؟»

«لستُ متأكدًا. فأنا لم أرَها ترقص قط، لكنني سمِعت أنها كذلك.»

«لم أقُم حتى بالرقص معها في قاعات الرقص. إنه أمر غريب، أليس كذلك؟ لم أكن أعرف حتى بوجودها حتى عيد الفصح الماضي. ويُحبِطني أنها قضت عامًا كاملًا في إنجلترا ولم أكن أعلم بذلك. ثلاثة أشهر من اللقاءات العرضية ليس وقتًا كافيًا لترك انطباع لدى شخص مثل تيريزا.»

«وهل تريد أن تترك انطباعًا؟»

«نعم.» وقد قالت إجابته الموجزة كلَّ شيء.

جرَت طالبات السنة النهائية، اللاتي كن يرتدين ملابس العصور الوسطى الإنجليزية، إلى الحشائش، وتلاشت المحادثات. حاولت لوسي صرْف انتباهها عن طريق التعرف بالفتيات من خلال سيقانهن والإعجاب بمدى نشاط هذه السيقان بعد ساعة من التمارين المضنية. قالت لوسي لنفسها: «اسمعي، عليكِ بتسليم الوردة الصغيرة إلى هنرييتا الليلة. حسنًا. هذا كل شيء. ليس هناك ما يمكنك فعله حيال ذلك، لا فيما يتعلق بتسليم الوردة ولا بنتيجة ذلك. لذا، اطردي هذا الأمر من عقلك. هذه هي الظهيرة التي كنتِ تنتظرينها بشغف. إنه يوم مُشمس جميل، والجميع سعداء بوجودك هنا؛ لذا يجب أن تستمتعي بوقتك. لذا استرخي. حتى لو … حسنًا، لو حدث أي شيء فظيع بخصوص الوردة، فهذا ليس من شأنك. منذ أسبوعين، لم تكوني تعرفين أيًّا من هؤلاء الأشخاص، وبعد مغادرتك، لن ترَيهن مجددًا أبدًا. لا ينبغي أن يهمك ما يحدث أو ما لا يحدث لهن.»

وعلى الرغم من هذه النصيحة الجيدة، وجدَت لوسي نفسها في الحالة نفسها التي كانت عليها من قبل. وعندما لمحت الآنسة جوليف والخادمات يجهزن طاولةَ الشاي في الخلف، رحَّبت بفرصة النهوض من الكرسي وتقديم المساعدة لهن، وإشغال عقلها ببعض الأنشطة المفيدة.

فاجأها ريك بالانضمام إليها. وقال مازحًا: «أنا أقتنع بسهولة بالمساعدة في الأطباق. لا بد أن يكون هذا هو الراقص المستأجَر بداخلي.»

قالت له لوسي إن عليه أن يشاهد أداء حبيبته.

«إنها الرقصة الأخيرة. وإذا كنتُ قد علِمت أيَّ شيء عن تيريزا، فإن إشباع جوعها أهمُّ من مداعبة غرورها، رغم أهميته.»

بدا للوسي أنه يعرف تيريزا جيدًا.

«هل هناك شيء يدور بذهنك يا آنسة بيم؟»

فوجئت لوسي بالسؤال.

«لماذا تعتقد هذا؟»

«لا أعرف. إنه مجرد شعور انتابني. هل هناك أيُّ شيء يمكنني فعله لمساعدتك؟»

تذكَّرت لوسي كيف أنه في مساء يوم الأحد في بيدلينجتون، عندما كادت لوسي تبكي، لفت ريك الانتباه إلى أن أقراص الجبن ستبرُد إذ شعر باستيائها، مقدِّمًا لها الدعم في صمت. وتمنَّت لو أنها كانت قابلت شخصًا متفهمًا وشابًّا وسيمًا مثل صديق فطيرة المكسرات عندما كانت في العشرين من عمرها، بدلًا من آلان وتفاحة آدم وجواربه المثقَّبة.

قالت ببطء: «يجب أن أفعل شيئًا صحيحًا، ولكني أخشى العواقب.»

«عواقبه عليكِ؟»

«لا. على أشخاص آخرين.»

«لا تقلقي؛ فقط افعلي الشيء الصحيح.»

رتَّبت الآنسة بيم أطباق الكعك على صينية. وقالت: «كما ترى، الشيء المناسب ليس بالضرورة هو الشيء الصحيح. أم إنني أعني العكس؟»

«لست متأكدًا تمامًا مما تقصدينه.»

«حسنًا … ثمة معضلات صعبة يتعين عليك فيها أن تقرر مَن تنقذ. إذا عرفت أن إنقاذ شخصٍ ما من أعلى انهيار ثلجي سيؤدي إلى انهيار جليدي وتدمير قرية بأكملها، فهل ستنقذ الشخص؟ معضلات كهذه.»

«بالطبع سأنقذه.»

«حقًّا؟»

«قد يؤدي الانهيار الجليدي إلى تدمير القرية دون إلحاق الأذى بأي شخص — هل أضع بعض الشطائر على تلك الصينية؟ — لذا سأكون قد أنقذت حياةَ شخص.»

«ستفعل دائمًا ما هو صحيح وتترك العواقب تتكشَّف؟»

«بالضبط.»

«هذا هو الطريق الأبسط بالتأكيد. في الحقيقة، أعتقد أن الأمر بسيط للغاية.»

«ما لم يكن هدفكِ هو القيام بدور الإله، فمن الأفضل أن تسلكي الطريق الأبسط.»

«القيام بدور الإله؟ لديك حصتان من شطائر اللسان، هل لاحظت ذلك؟»

«ما لم تكوني تمتلكين ذكاءً يُمكِّنك من رؤية الماضي والمستقبل مثل الإله، فمن الأفضل الالتزام بالقواعد. واو! توقَّفت الموسيقى، وها هي ذي سيدتي تأتي، وهي تتحرك مثل النمر الصياد.» ونظر إلى ديستيرو وهي قادمة وفي عينيه ابتسامة. وأردف: «أليست هذه القبعة لافتة للنظر بدرجة لا تصدَّق!» ثم ألقى نظرةً سريعة على لوسي. وقال لها: «افعلي الشيء الصحيح الواضح يا آنسة بيم، ودَعي الله يقرِّر النتيجة.»

سمِعت ديستيرو تسأل ريك قائلة: «ألم تشاهد العرض يا ريك؟» وبعد ذلك وجد لوسي وريك وفطيرة المكسرات أنفسهم مُحاطين بحشدٍ من طالبات السنوات الأولى اللاتي جئن للمساعدة في تقديم الشاي. تمكَّنت لوسي من تحرير نفسها من مجموعة الفتيات اللاتي يرتدين قبَّعات بيضاء وثيابًا سويدية مُطرَّزة، وذلك عندما وجدت نفسها وجهًا لوجه مع إدوارد أدريان الذي كان بمفرده وبدا عليه الحزن.

«آنسة بيم! أنتِ الشخص الذي أردتُ رؤيته. هل علمتِ أن …»

أعطته إحدى طالبات السنوات الأولى كوبًا من الشاي، فابتسم لها إحدى ابتساماته الساحرة، مع أن الفتاة مشت ولم تنتظر أن ترى الابتسامة. في الوقت نفسه، اقتربت الآنسة موريس الصغيرة، التي ظلَّت مواظبة على أداء مهمتها حتى بعد انتهاء العرض، من لوسي ومعها الشاي وصينية من الكعك.

قالت لوسي: «لنجلسْ.»

«هل سمعتِ عن الحادث المروِّع الذي وقع؟»

«نعم. لكني أعرف أن مثل هذه الحوادث الخطيرة نادرة الحدوث. من المؤسف فقط أنه وقع في يوم العرض.»

«أوه، الحادث، نعم. لكن هل تعلمين أن كاثرين تقول إنها لن تستطيع القدوم إلى لاربورو الليلة؟ تقول إن أحداثًا مؤسفة قد وقعت. وعليها أن تبقى هنا. هذا غير معقول. هل سمِعت بشيء كهذا من قبل؟ فإن كان هناك بالفعل أحداثٌ مؤسفة، فهذا يستدعي أكثر أن تأخذ راحة منها بعضَ الوقت. لقد قمت بجميع الترتيبات. حتى إنني اشتريت زهورًا خاصة لطاولتنا الليلة. واشتريت كعكة عيد ميلاد أيضًا. فعيد ميلادها الأربعاء المقبل.»

تساءلت لوسي في نفسها عما إذا كان أيُّ شخص آخر في لايز يعرف يوم ميلاد كاثرين لوكس.

حاولت لوسي إبداء بعض التعاطف، لكنها قالت برفقٍ إنها تتفهَّم وجهةَ نظر الآنسة لوكس. ففي النهاية، قد أصيبت الفتاة بجروح خطيرة، وأصبح الوضع مقلقًا، ويبدو، بلا شك، ذهاب كاثرين إلى لاربورو للاحتفال في مثل هذه الظروف أمرًا قاسيًا.

«لكنه ليس احتفالًا! إنه مجرَّد عشاء هادئ مع صديق قديم. لا أفهم حقًّا لماذا يجب أن تتخلى عن صديق قديم لمجرد تعرُّض إحدى الطالبات لحادث. من فضلك يا آنسة بيم، تحدَّثي معها. حاولي إقناعها بالشيء المنطقي.»

أكَّدت لوسي لإدوارد أدريان أنها ستبذل قصارى جهدها لإقناع كاثرين، لكنها لا تستطيع وعده بشيء؛ لأنها توافق كاثرين الرأي.

«أنتِ أيضًا! يا إلهي!»

«أعلم أنه غير معقول. إنه حتى أمرٌ سخيف. لكن لن يكون أيٌّ منا سعيدًا، وستكون الأمسية مخيبةً للآمال، وأنت لن ترغب أن يحدث هذا، أليس كذلك؟ ألا يمكنك أن تستضيفنا ليلة غد بدلًا من الليلة؟»

«لا، فأنا سأستقل القطار مباشرةً بعد عرض المسرحية مساء اليوم. وبالطبع، بما أن غدًا السبت، فسيكون لديَّ حفل صباحي. وعلى أي حال، سأؤدي غدًا دور روميو في المساء، وهذا لن يعجب كاثرين على الإطلاق. وهي التي يصعب عليها تحمُّلي في دور ريتشارد الثالث. أوه، يا إلهي، الأمر برُمته سخيف.»

قالت لوسي: «لا تحزن. إنها ليست مأساة. فسوف تأتي إلى لاربورو مجددًا، والآن بعد أن عرفت أن كاثرين هنا، يمكنك مقابلتها وقتما تشاء.»

«لن أجعل كاثرين في هذه الحالة من الإذعان مجددًا. أبدًا. فقد كان أحد أسباب هذا التغيير في تعامُلها هو وجودك. فلم تشأ أن تبدوَ مخيفة أمامك. حتى إنها كانت تفكر في حضور أحد عروضي المسرحية. وهو أمرٌ غير معتَاد منها. ولن أتمكن أبدًا من جعلها منفتحة على اقتراحاتي بعد ذلك إذا لم تأتِ الليلة. حاولي إقناعها يا آنسة بيم.»

فوعدته لوسي أنها ستحاول. وقالت له: «كيف تستمتع بفترة الظهيرة، بصرف النظر عن المواعيد الملغاة؟»

يبدو أن السيد أدريان كان مستمتعًا تمامًا بوقته. فلم يستطِع أن يقرِّر إن كان معجبًا بمظهر الطالبات الأنيق أكثر أم بكفاءتهن.

«لديهن أخلاق كريمة أيضًا. فلم يُطلب مني توقيعٌ واحد طوال فترة الظهيرة.»

نظرت لوسي إلى إدوارد بعناية لمعرفةِ إن كان قد قال هذا على سبيل السخرية. ولكن لا؛ كان يقصد ما قاله. إنه حقًّا لا يستطيع التفكير في أي سبب يجعل الفتيات لا يطلبن توقيعه سوى أن أخلاقهن كريمة. ودار بخَلَد لوسي كيف أنه رجل ساذَج؛ فهو يعيش في عالم لا يعرف عنه شيئًا. وتساءلت في نفسها عما إذا كان جميع الممثلين مثله. يتحركون في الوجود وكأن فقاعات أثيرية تحميهم داخلها. كم هو مريح أن يعيش المرء في مأمن من قسوة الحياة. فهم لم يولدوا أصلًا؛ إنهم لا يزالون يسبحون في سوائل داخل أرحام أمهاتهم.

«مَن هي الفتاة التي ارتكبت خطأً أثناء تمرين التوازن؟»

أما لها أن تستريح من الحديث عن إينيس ولو دقيقتين كاملتين؟

«اسمها ماري إينيس. لماذا؟»

«يا له من وجه رائع. وكأنها من عائلة بورجيا.»

قالت لوسي بحدة: «أوه، لا!»

«لقد ظللت أفكِّر طوال فترة ما بعد الظهيرة في مَن تذكِّرني به هذه الفتاة. أعتقد أنها تشبه أحدَ الشباب الصغار في لوحة للرسام جورجوني، لكن لا يمكنني تحديدُ أيٍّ من الشباب الذين رسمهم بدقة. سأحتاج إلى رؤية لوحاته مرةً أخرى للتأكد. ومع ذلك، هي تمتلك وجهًا رائعًا، يجمع بين الضَّعف والقوة، والخير والشر. جميلة لدرجةٍ لا تُصدق. لا أستطيع أن أفهم سبب وجود مثل هذا الجمال في كليةٍ للتدريب البدني للفتيات في القرن العشرين.»

حسنًا، على الأقل وجدَت الراحة في معرفة أن شخصًا آخر ينظر إلى إينيس نفس نظرتها: استثنائية، رائعة، ليست من هذا الزمان، وربما مأساوية. وتذكَّرت أن هنرييتا لم تكن تنظر إلى إينيس إلا على أنها مجرد فتاة مزعِجة تنظر بازدراء إلى أولئك الأقل ذكاءً منها.

فكَّرت لوسي فيما يمكن أن تفعله لإلهاء إدوارد أدريان. فرأت السيد روب، أستاذ الإلقاء، الذي يمكن معرفتُه من خلال ربطة عنقه المرنة المصنوعة من الساتان وياقته الرائعة؛ وهو العضو الوحيد من بين عضوات هيئة التدريس الزائرات، إلى جانب الدكتورة نايت، التي تعرفها. عرفت لوسي أن السيد روب كان ممثلًا شابًّا يتمتع بشخصية كاريزمية منذ أربعة عقود، وكان مشهورًا بكونه أفضل مَن قدَّم دور لانسلوت جوبو في عصره، ففكَّرت لوسي في أن إيقاع إدوارد أدريان في شر أعماله سيكون أمرًا مسليًا. لكنَّ قلبَ لوسي رقَّ كعادتها عند تذكُّر الجهد الذي أهدره إدوارد في استعداداته — الزهور، والكعكة، وخطط التباهي بنفسه — وقرَّرت أن ترأَف بحاله. فرأت أودونيل التي كانت تحدق إلى بطلِها من مسافة بعيدة، فأشارت إليها. يجب أن يقابل إدوارد أدريان معجبةً حقيقية مخلصةً له لتزيل الحزن من قلبه، ويجب ألا يعرف أنها المعجبة الوحيدة له في الكلية.

قالت: «سيد أدريان، هذه إيلين أودونيل، واحدة من أشد معجباتك.»

سمِعت أودونيل تقول له: «أوه، السيد أدريان …»

فتركتهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤