الفصل الثالث

المنظر الأوَّل

(أورست – بيلاد)
بيلاد : هدِّئ إذن يا مولاي من هذه الثورة الجامحة، فلم أعُد أعرفك، ولم تَعُد أنت إيَّاكَ، ايذن …
أورست : كلا! لم يبقَ معنى لنصائحك، أي بيلاد، إني لمتعبٌ من الاستماع للعقل، إنما ذلك إطالة لحياتي وعذابي أكثر ممَّا ينبغي، يجبُ أن أخطفها أو أن أهلك، لقد هيأتُ ذلك وأريدُ أن أُتمَّه، نعم أريد.
بيلاد : حسن، يجب أن تخطفها، إنِّي أوافقُ، ولكن فكِّر مع ذلك أين أنت، أخفِ، هدِّئ هذا الهيام، مُرْ عينيك أن تحتفظا بالسرِّ، هذا الحرس، هذا القصر، هذا الهواء الذي يُحيطُ بكَ، كل ذلك يتبع بيروس ويتبع هرميون خاصة، أخفِ على عينيها غضبك. يا للآلهة! لِمَ تبحث عنها وأنت في هذه الحال؟
أورست : وهل أدري؟ وهل كنت مالك أمري حينئذٍ؟ لقد كان الغضب يملكني ولعلِّي إنما جئت منذرًا للجاحدة.
بيلاد : وماذا كانت ثمرة هذه الثورة؟
أورست : وأي نفس — حدِّثني — لا تفقدُ صوابها أمام هذه الصدمة التي اختلط لها عقلي؟ يقولُ إنَّه سيتزوَّجُ هرميون غدًا، ويريدُ، تشريفًا لي، أن يأخذها من يدي، بل هذه اليد في دمِ الأجنبي …
بيلاد : تتهمه يا مولاي بهذا القضاء الغريب، ومع ذلك فإنَّ أمانيه تعذبه ولعلَّهُ خليقٌ مثلك بالرِّثاءِ.
أورست : كلا! كلا! إنِّي لأعرفه، إنَّ يأسي ليملأه عجبًا، ولولا أنا، ولولا حبِّي لازدرى هذه الجاحدة، لقد عجز سحرها إلى الآن عن أن يؤثِّرَ فيهِ، يا له من قاسٍ! لا يأخذها إلَّا رغبةً في أن ينتزعها منِّي، يا للآلهة! كان كل شيءٍ قد انقضى، وكانت هرميون وقد ربحتها تبعُدُ عنه أبد الدهر، وكان قلبها المضطرب بين الحبِّ والغيظ لا ينتظر، ليسلِّم نفسه إليَّ، إلَّا الرَّفض، لقد كانت عيناها تُفتحان يا بيلاد، لقد كانت تسمع لأورست، لقد كانت تكلمه، لقد كانت ترثي له، وكلمة واحدة لو قِيلت لأتمَّت كلَّ شيءٍ.
بيلاد : أتظنُّ ذلكَ؟
أورست : ماذا؟ هذا الغضب المضطرم على رجلٍ جاحدٍ …
بيلاد : ما أحبته قطُّ كما أحبته الآن، أترى لو أنَّ بيروس منحكَ إيَّاها، ألم يكن لديها من العلل الغريبة ما يؤخِّرُ ذلك؟ أتصدِّقني؟ لقد أتعبتك محاسنها الخادعة، فلا تخطفها ولكن فرَّ منها آخر الدهر. ماذا؟ أيريد حبك أن يثقل نفسه بهذه الساخطة الجامحة التي ستبغضك، والتي ستندب طول حياتك زواجًا كاد يتم، وستريد …
أورست : لهذا أريدُ أن أخطفها، أَكُلُّ شيءٍ يضحك لها يا بيلاد، وأنا لا يكونُ حظِّي إلَّا سخطًا لا غَناء فيه؟! أأبعد عنها جاهدًا في نسيانها؟ كلا! كلا! إنَّما أريدُ أن أشركها في الأسى، لقد أسرفتُ في الأنينِ وحدي، ولقد أتعبني الرثاء لي، وأنا أزعم أن قد آن للطاغية أن تخشاني، ولعينيها القاسيتين — وقد قضي عليهما بالبكاء — أن تردَّا إليَّ كل ما أعطيتهما من الأسماء.
بيلاد : وإذن فهذا هو نجاح سفارتك؟ سيقولُ النَّاسُ أصبح أورست خاطفًا …
أورست : وما يعنيني يا بيلاد إذا انتقمتُ لبلادنا فأرضاها بلائي؟ أيقلُّ ابتهاج الجاحدة لبكائي؟ وما ينفعني أن يُعجب بي اليونان بينما أكونُ أحدوثة أبير؟ ماذا تريد؟ وإذا كان يجب ألَّا أخفي عنك شيئًا، فقد أخذت طهارتي تثقل عليَّ، لستُ أدري أيُّ قوَّةٍ جائرةٍ دأبت على أن تمهل الإثم وتتبع البراءة بسخطها؟! ومهما أُجِلُّ النظر في أمري فلست أرى إلَّا شرًّا قضى به الآلهة، فلنستأهل غضبهم، ولنجعل بغضهم عدلًا، ولتكن ثمرة الجريمة سابقة لعقابها، ولكن أنت بأيِّ خطأٍ تريدُ دائمًا أن تديرَ إلى نفسك سخطًا لا يبحث إلَّا عنِّي؟ لقد أثقلتك مودَّتي أكثر ممَّا ينبغي، فاجتنب شقيًّا ودع مُجرمًا، أيُّها العزيزُ بيلاد، صدِّقني إنَّ إشفاقك ليسحرك، دع لي هذه الأخطار التي أنتظرُ كل ثمراتها، احملْ إلى اليونان هذا الطفل الذي يسلمه إليهم بيروس، امضِ.
بيلاد : هلمَّ يا مولاي، لنخطف هرميون، إنما يَظهَرُ القلبُ الكبيرُ عند اقتحامِ الأخطارِ، وأيُّ شيءٍ يُعجز المودَّة التي يقودها الحب؟ هلم أَثِر همة أتباعك من اليونان، إنَّ سفننا لقريبة وإنَّ الريح لتدعونا، وإنِّي لأعرفُ من هذا القصرِ كل مسالكه المُظلمة، انظر، إنَّ البحر ليلطم أسواره، وفي هذه الليلة من غير مشقَّةٍ ستقودُ في طريق خفية فريستك إلى سفينتك.
أورست : إنِّي لأشطُّ أيُّها الصديقُ العزيزُ على إسرافك في المودة، ولكن اعفُ عن آثامٍ أنت وحدك تُشفِقُ عليَّ منها، اعذر شقيًّا يُهلك كلَّ من يحب، يبغضه كل إنسان ويبغض نفسه، ليتني أستطيع في فرصة أسعد من هذه …
بيلاد : الكتمان يا مولاي، هذا كلُّ ما أريدُ، احذر أن يظهر تدبيرك قبل إبانه! انسَ إلى ذلك الوقت أنَّ هرميون جاحدة، انسَ حبك، إنها مُقبِلَةٌ، إنِّي أراها.
أورست : امضِ، استوثق لي منها، أستوثق لك من نفسي.

المنظر الثاني

(هرميون – أورست – كليون)
أورست : إذن فهذه عنايتي قد ردَّت إليك غنيمتك، لقد رأيت بيروس يا سيدتي، وهذا زواجك يهيَّأُ له.
هرميون : يُقالُ ذلك، وقد أُكِّدَ لي أنَّكَ لا تبحثُ عنِّي إلَّا لتعدَّني لهذا الزواج.
أورست : ولن تمتنع نفسك على هذا الحب؟
هرميون : من كان يصدِّق أنَّ بيروس لم يكن خائنًا، وأنَّ جذوته تنتظرُ كلَّ هذا الوقت لتضطرم، وأنه سيثوبُ إليَّ في الوقت الذي كنتُ أريدُ أن أتركه فيه، أريدُ أن أعتقد معك أنَّه يخافُ اليونان، وأنَّه يتبعُ منفعته أكثر ممَّا يتبع حبه، وأنَّ عينيَّ كانتا على نفسك أشد سلطانًا.
أورست : لا يا سيدتي، إنه يحبك، وما أشكُّ في ذلك منذ الآن، ألا تبلغ عيناكِ كل ما تريدان؟! وما أرى أنك أردت أن تسوئيه.
هرميون : وماذا أستطيع يا سيدي؟ لقد وعدوه حبِّي، ألِي أن أختلس منه حقًّا لم أعطِهِ أنا إيَّاه؟ ليس الحب هو الذي يدبِّرُ حياة الأميرات، إنما يُتركُ لنا مجد الطاعة، ومع ذلك فقد هممتُ بالرَّحيلِ، وقد رأيتُ إلى أيِّ حدٍّ كنت أُقصِّرُ في واجبي من أجلك.
أورست : آه! لقد كنت تحسنين أيتها القاسية … ولكن يا سيدتي لكل امرئٍ أن يقضي في أمره بما يريد، لقد كان أمرك إليك، لقد كنت آمل، ولكنك ملَّكته غيري دُونَ أن تختلسي منِّي شيئًا، وإنِّي لأتهمك بقدرِ ما أتهمُ الحظَّ، وفيمَ أُتعبك بشكاة ثقيلة؟! هذا واجبك، أعرف ذلك، وواجبي أن أعفيك من حديث محزن.

المنظر الثالث

(هرميون – كليون)
هرميون : أكنتِ تنتظرين يا كليون غضبًا يسيرًا إلى هذا الحد؟
كليون : إنَّ الألم الصامت أشد الآلام شرًّا، إنِّي لأرثي له ولا سيما وهو مصدر الألم لنفسه؛ فإنَّ الضربة التي قضت عليه لم تصدر إلَّا عنه. فكِّري منذُ كم من الوقت كان يُهيئ لزواجك؟ لقد تكلَّم أورست يا سيدتي، فأعلن بيروس حبَّه.
هرميون : تظنين أنَّ بيروس يخشى؟ وماذا يخشى؟ أيخشى شُعوبًا ظلَّت عشر سنين مُنهزمة أمام هكتور، وملأ قلبها الرعب مائة مرَّة لغيبةِ أخيل، فآوت إلى سُفُنِها المُحترقة تلتمس الملجأ، وكانت خليقةً أن تظلَّ إلى الآن تطلب هيلانة إلى الطرواديين لم ينلهم العقاب؟ كلا يا كليون، ليس هو عدوًّا لنفسه، إنه يريدُ كل ما يفعل، وإذا أراد أن يتزوجني فهو يحبني، ولكن ليتهمني أورست بآلامه كما يشاء، أليس لنا موضوعٌ للحديثِ إلَّا بكاءه؟ إنَّ بيروس ليثوبُ إلينا، وإذن يا أيتها العزيزة كليون أتقدِّرين ابتهاج السعيدة هرميون؟ أتعلمين من بيروس؟ أسمعت عدد المواطن التي أبلى فيها؟! … ولكن من يستطيع أن يحصيها؟! جريءٌ، يتبعه النصر حيثما كان، ساحر، أمين آخر الأمر، لا ينقص مجده شيء. فكِّري …
كليون : الكتمان، إنَّ خصمك باكية تقبل لتطرح آلامها على قدميك.
هرميون : يا للآلهة! ألا أستطيع أن أستسلم للسرور؟ لنمضِ. ماذا أقول لها؟

المنظر الرابع

(أندروماك – هرميون – كليون – سفيز)
أندروماك : أين تذهبين يا سيدتي؟ أليس منظرًا حلوًا لعينيك أن تري أرملة هكتور تبكي على قدميك؟ لم آتِ هنا لأحسدك بدموعٍ تبعثها الغيرة على قلبٍ يُذعن لسحرك، لقد رأيت يدًا قاسية، وا حسرتاه! تخترقُ صدر الذي كنت أستطيع أن أوجِّهَ إليه وحده نظراتي، لقد ألهب هكتور حبِّي قديمًا، ولقد حبس هذا الحبَّ معه في القبر، ولكن بقي لي ابن، وستعلمين يومًا يا سيدتي إلى أي حدٍّ يمضي بنا حب الأبناء، ولكنك لن تعلمي، وأنا أتمنَّى لكِ ذلك على أقل تقدير، في أي اضطرابٍ مميتٍ تلقينا العناية به حينما يكون هو الشيء الوحيد الذي يبقى لنا من أشياءٍ كثيرةٍ كانت تُرضينا ثم يُرادُ أن ينتزع منَّا؟ وا حسرتاه! لقد جهد الطرواديون عشرة أعوام من الشقاء، فأخذهم الغضب واضطرهم إلى أن ينذروا أُمك، هنالك عرفتُ كيف أكفل لها معونة هكتور، وإنك لتقدرين عند بيروس على مثل ما قدرت عليه عند هكتور، ماذا يُخشى من صبيٍّ قد أفلت من الموت؟ دعيني أخبئه في جزيرةٍ مُقفرةٌ، هنالك يمكنُ أن يعتمدَ على أُمِّه في اتِّقاءِ شرِّه، ولن يتعلَّمَ معي إلَّا البكاء.
هرميون : إنِّي لأقدِّرُ آلامك، ولكن واجبًا صارمًا يأمرني بالصمت إذا تكلَّمَ أبي، هو الذي أثار غضب بيروس، فإذ لم يكن بُدٌّ من استعطافِ بيروس، فأيُّ النَّاس أقدر على ذلك منك؟ لقد تسلطت عيناك على نفسه دهرًا طويلًا، دعيه ينطقُ وأنا مُذعنة يا سيدتي.

المنظر الخامس

(أندروماك – سفيز)
أندروماك : أي احتقارٍ تُضيفُ القاسية إلى رفضها؟
سفيز : أمَّا أنا فأقبلُ نصحها وأرى بيروس، إنَّ نظرة لتفحم هرميون واليونان … ولكن ها هو ذا نفسه يبحث عنك.

المنظر السادس

(بيروس – أندروماك – فنيكس – سفيز)
بيروس (لفنيكس) : أين الأميرة؟ ألم تقل لي إنها هنا؟
فنيكس : كنتُ أظنُّ ذلك.
أندروماك (لسفيز) : أترين سُلطان عيني؟
بيروس : ماذا تقول يا فنيكس؟
أندروماك : وا حسرتاه! كلُّ شيءٍ يتركني.
فنيكس : هلم يا مولاي لنتبع خطى هرميون.
سفيز : ماذا تنتظرين؟ اقطعي هذا الصمت الذي ألححت فيه.
أندروماك : لقد وعد بأن يسلِّمَ ابني.
سفيز : ولكنه لم يسلِّمه.
أندروماك : كلا، كلا، مهما أبكِ فقد قضى موته.
بيروس : أتنزلُ على الأقلِّ عن كبريائها فتنظرُ إلينا؟ يا لها من كبرياء!
أندروماك : لا أزيدُ على أن أحفظه، فلنمضِ.
بيروس : لنسلِّم ابن هكتور إلى اليونان.
أندروماك : آه مولاي! قف، ماذا تريدُ أن تصنع؟! إن أسلمت الابن فأسلم الأم … لقد أكدت لي أيمانك منذ حين مودة ثابتة، يا للآلهة! ألا أستطيعُ أن أُثيرَ في قلبك الرَّحمةَ على أقلِّ تقدير؟ أقضيتَ عليَّ دُون أن تترك لي أملًا في العفوِ؟
بيروس : سينبئك فنيكس بأنِّي قد وعدت.
أندروماك : أنتَ الذي تَعرَّضَ من أجلي لأخطارٍ كثيرةٍ مُختلفة.
بيروس : لقد كنتُ أعمى حينئذٍ، فقد رُفِعَ عن عيني الغطاء، لقد كان العفو عنه ميسورًا لو أردتِ، ولكنكِ أبيتِ حتَّى أن تطلبي هذا العفو، لقد قُضي الأمر.
أندروماك : آه مولاي! إنك لتسمع زفراتٍ كانت تخافُ أن ترد، اعفُ لهذا الجد الرفيع عمَّا بقي له من كبرياء تخشى أن تكون ثقيلة، إنك لتعلم أنَّ أندروماك لولاك ما كانت لتجثو بين يدي سيد.
بيروس : كلا، إنك تبغضينني وتخشين في أعماق نفسك أن تكوني مدينة بشيءٍ لحبِّي، هذا الابن نفسه الذي تعنين به هذه العناية لو أنِّي أنقذته لضعف حبك له، إن البغض والازدراء ليتألَّبَان عليَّ في نفسك، وإنك لتبغضينني أكثر ممَّا تُبغضين اليونان جميعًا، استمتعي على مهل بهذا الغضبِ الشريف. هلم يا فنيكس.
أندروماك : هلم، فلألحق بزوجي.
سفيز : مولاتي …
أندروماك (لسفيز) : وماذا تريدين أن أقول له بعد هذا؟ هو مصدر آلامي، أتظنِّينَ أنَّه يجهلها؟ (لبيروس): مولاي، انظر إلى الحال التي تضطرني إليها، لقد رأيتُ أبي قتيلًا وأسوارنا مُضطرمة، ورأيتُ أيَّام أُسرتي كلها تُقطَّعُ قطعًا، ورأيتُ زوجي داميًا يُسحَبُ على التُّرابِ، ورأيتُ ابني وحده قد احتُفظ به للأغلال، ولكن أي شيء يستطيعه الابن؟ إنِّي أتنفس، إني أنفع، بل إني أعمل أكثر من هذا، لقد تعزَّيتُ أحيانًا بأني قد نُفيتُ إلى هذا المكانِ دُون غيره، وبأنَّ هذا الطفل سلالة هذا العدد الضخم من الملوك سعيدٌ في شقائه؛ لأنه قد وقع في إسارك أنت، اعتقدتُ أنَّ سجنه سيصبح مأمنًا له، لقد عرف أخيل لبريام حُرمته حين أذلَّه القَدَرُ له، وكنتُ أرجو أن يكون ابن أخيل أكرم من أبيه. اعفُ أيها العزيز هكتور عن سذاجتي؛ فإنِّي لم أستطع أن أتهم عدوك بالإجرام، لقد حسبته على كرهٍ كريمًا، آهٍ! ليته كان كريمًا فتركنا على أقل تقدير في القبر الذي أقامته عنايتي بما بقي من رفاتك.
بيروس : اذهب فانتظرني يا فنيكس.

المنظر السابع

(بيروس – أندروماك – سفيز)
بيروس (يستمر) : أقيمي يا سيدتي، من اليسير أن يُردَّ لكِ هذا الابن الذي تبكينه. نعم، إنِّي لأشعرُ آسفًا بأنِّي حين أستثيرُ دموعك لا أزيدُ على أن أُسلحك على نفسي، لقد كنتُ أظنُّ أنِّي أحملُ لكِ من البغض أكثر من هذا، ولكن، سيدتي أديري إليَّ طرفك على أقل تقدير، انظري، أترين لحظاتي تمثل قاضيًا قاسيًا أو تمثل عدوًّا حريصًا على أن يسوءك؟ لِمَ تُكرهينني أنتِ على أن أخونك؟ إنِّي لأقسم عليك بابنك أن تُزيلي ما بيننا من البغض! وبعد فأنا الذي يدعوك إلى استنقاذ هذا الصبي، أيجبُ أن تلتمس زفراتي إليكِ حياته؟ أيجبُ أن أُقبِّل قدميك إيثارًا لمنفعته؟ وأخيرًا، أنقذيه، أنقذينا، إنِّي لأعلمُ بأي يمين أحنثُ من أجلك، وأيُّ سخطٍ سأثيرُ على نفسي. لأردنَّ هرميون ولأكللنَّ جبينها بالإهانة مكان التاج، لأقودنَّكِ إلى المعبدِ حيثُ يُهيَّأُ زواجها، لأتوجنك بهذا التاج الذي أُعدَّ لرأسها، ولكن العرض يا سيدتي ليس شيئًا يُزدرى، الحق أقول لكِ: اختاري بين الهلك والملك! إن هذا القلب الذي أيأسه عامٌ كاملٌ ملؤه الجحود لا يستطيع منذُ الآن أن يحتمل الشك، لقد طالما خِفت وأنذرت وشكوت … إنَّ فقدك ليُميتُني ولكن انتظارك يميتني أيضًا، فكِّري في ذلك، سأدعك وسأعودُ لأقودك إلى المعبدِ حيث ينتظرني ابنك هنالك، ترينني مُذعنًا أو ثائرًا، هنالك أتوجك أو أُهلكه بين يديك.

المنظر الثامن

(أندروماك – سفيز)
سفيز : لقد أنبأتك بأنَّكِ ستظلين برغم اليونان مُسيطرة على القضاء في أمرك.
أندروماك : وا حسرتاه! ماذا أحدثت نصائحك من أثر؟ لم يبقَ لي إلَّا أن أقضي على ابني.
سفيز : مولاتي، لقد وفيتِ لزوجك إلى الآن حقَّ الوفاءِ، وإنَّ الإسراف في الفضيلة قد ينتهي بكِ إلى الإجرام، ولو استطاع هو لحملك على اللين.
أندروماك : ماذا؟ أجعل بيروس له خَلَفًا؟!
سفيز : كذلك يريدُ ابنه الذي يغصبه منك اليونان، أتظنينَ آخرَ الأمر أنَّ روحه يخجلُ لذلك؟ أو أنَّه يزدري يا مولاتي ملكًا مُنتصرًا يريدُ أن يرفعك إلى منزلةِ أجدادك ويطأُ بقدميه من أجلك المنتصرين عليكِ يملؤهم السخط، ولا يذكر أَنَّ أخيل كان له أبًا، يُكذِّب مشاهده في الحرب ويسلبها قيمتها؟
أندروماك : أفيجب عليَّ أن أنسى هذه المشاهد إن لم يذكرها هو؟! أيجبُ أن أنسى هكتور وقد حُرِمَ الجنازة وسُحِبَ في غيرِ شرفٍ حول أسوارنا؟! أيجبُ أن أنسى أباهُ طريحًا على قدميَّ وقد أدمى المذبح الذي لاذ به؟! فكِّري، فكري يا سفيز في تلك الليلة القاسية التي كانت على شعبٍ بأسره ليلة سرمدية، تصوَّري بيروس يتطايرُ الشررُ من عينيه، وقد دخل مُستضيئًا بقصورنا المضطرمة، يمشي على إخوتي جميعًا صرعى، قد غمرته الدماء وهو يحرصُ على القتل. فكري في صيحة المنتصرين، فكري في صيحة المحتضرين تخنقهم النار أو يقتلهم الحديد، تصوَّري في هذه الفظائع أندروماك ذاهلة، ثمَّ انظري إلى بيروس ماثلًا أمام عيني، انظري بأي نوعٍ من المجدِ قد توَّج نفسه، ثم انظري إلى هذا الزوج الذي تقدِّمينَ إليَّ. كلا! لن أُشاركه في هذه الجرائم، ليجعلنا إن أراد آخر ضحاياه، إذن تذعن له كل أحقادي.
سفيز : إذن هلمَّ ننظر إلى ابنك وهو يموت، فهم لا ينتظرون إلَّا إيَّاكِ … إنَّكِ ترتعدين يا مولاتي!
أندروماك : آهٍ! بأي ذكرى تصدعين نفسي! ماذا يا سفيز؟! أأذهب لأرى موت هذا الابن الذي يمثِّلُ ما بقي لي من سرور، والذي هو صورة هكتور؟ هذا الابن الذي تركه لي هكتور آية على حبه! وا حسرتاه! إنِّي لأذكر ذلك اليوم الذي دفعته شجاعته فيه إلى أن يلتمس أَخيل، بل إلى أن يلتمس الموت، لقد دعا بابنه وحمله بين ذراعيه وقال لي ماسحًا دموعي: «أيتها الزوج العزيزة، إني لأجهلُ ما يُدخر لسلاحي من فوز، وإني لأترك لكِ ابني آية حبِّي لكِ؛ فإن يفقدني فأنا أزعم أنه سيجدني فيكِ، وإن تكن ذكرى زواجنا السعيد عزيزة عليكِ، فأظهري للابن إلى أيِّ حدٍّ كان الأب عليكِ عزيزًا.» أفأستطيع أن أرى هذا الدم الغالي يُراقُ ويهلك معه أجداده جميعًا؟ أيها الملك الوحشي: أيجبُ أن تحمل جريمتي عليه؟ أفإن أبغضتك كان مأخوذًا ببغضي إيَّاكَ؟ أَلَامَكَ على مَوتَى أَهلِهِ جَميعًا؟ أشكا إليكَ آلامًا لا يحسها؟ ومع ذلك يا بني إنك لميتٌ إن لم أمسك هذا السيف الذي يعلقه القاسي على رأسك، إنِّي أستطيعُ أن أحوله عنك، ومع ذلك فأنا أقدمك إليه! كلا لن تموتَ، لن أستطيع أن أحتمل ذلك، هلمَّ نلقَ بيروس، ولكن لا أيتها العزيزة سفيز، اذهبي فالقيه مكاني.
سفيز : ماذا يجب أن أقول؟
أندروماك : قولي له إنَّ لحبِّ ابني على نفسي سلطانًا قويًّا … أتظنين أنه أزمع موته فيما بينه وبين نفسه؟ أيستطيع الحب أن يسرف في القسوة إلى هذا الحد؟
سفيز : كأنك به وقد عاد يملكه الغضب.
أندروماك : إذن فاذهبي وطمئنيه …
سفيز : علامَ؟ على حبك؟
أندروماك : وا حسرتاه! أأملك هذا الحب لأستطيع أن أَعِد به؟ يا لرماد الزوج! يا للطرواديين! وا أبتاه! أي بني، إنَّ حياتك لتكلِّفُ أُمَّكَ ثمنًا غاليًا. هلمَّ …
سفيز : إلى أين يا مولاتي؟ وبِمَ تقضين؟
أندروماك : هلمَّ إلى قبرِ زوجي لنستشيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤